فصل الخطاب

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي

فصل الخطاب

المؤلف:

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٧٦

وفي الصحيحين (١) أيضاً ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال وهو مستقبل المشرق ـ : إنّ الفتنة هاهنا.

وللبخاريّ (٢) عنه مرفوعاً : اللهمّ بارك لنا في شأمنا ويمننا ، اللهمّ بارك لنا في شأمنا ويمننا ، قالوا : وفي نجدنا ، قال الثالثة : هناك الزلازل ، والفتن ، ومنها يطلع قرن الشيطان.

ولأحمد (٣) من حديث ابن عمر مرفوعاً : اللهمّ بارك لنا في مدينتنا ، وفي صَاعِنا ، وفي مُدّنا ، ويَمَننا ، وشأمنا ، ثمّ استقبل مطلع الشمس ، فقال : هاهنا يطلع قرن الشيطان ، وقال : من هاهنا الزلازل والفتن. انتهى.

أقول : أشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لَصادقٌ ، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، لقد أدّى الأمانة ، وبلّغ الرسالة.

قال الشيخ تقيّ الدين : فالمشرق عن مدينته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرقاً ، ومنها خرج مسيلمة الكذّاب الذي ادّعى النبوّة ، وهو أوّل حادث حدث بعده ، واتّبعه خلائق ، وقاتلهم خليفته الصدّيق ، انتهى.

وجه الدلالة من هذا الحديث من وجوهٍ كثيرةٍ نذكر بعضها :

منها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر أنّ الإيمان يمانيّ ، والفتنة تخرج من المشرق ، ذكرها مراراً.

ومنها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا للحجاز وأهله مراراً ، وأبى أن يدعو لأهل المشرق ، لمِا فيهم من الفتن خصوصاً نجد.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ٤٢٣ ح ٤٧ كتاب الفتن.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٣٥١ ح ٩٩٠ كتاب الاستسقاء.

(٣) مسند أحمد بن حنبل : ٢ / ١٢٦.

١٠١

ومنها : أنّ أوّل فتنةٍ وقعت بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقعت بأرضنا هذه (١).

فنقول : هذه الأمور التي تجعلون المسلم بها كافراً ، بل تكفّرون من لم يكفّره ملأت مكّة ، والمدينة ، واليمن من سنين متطاولة ، بل بلغنا أنّ ما في الأرض أكثر من هذه الأمور في اليمن ، والحرمين.

وبلدنا هذه هي أوّل ما ظهر فيها الفتن ، ولا نعلم في بلاد المسلمين أكثر من فتنها قديماً وحديثاً.

وأنتم الآن مذهبكم : أنّه يجب على العامّة اتّباع مذهبكم ، وأنّ من اتّبعه ـ ولم يقدر على إظهاره في بلده وتكفير أهل بلده ـ وجب عليه الهجرة إليكم ، وأنّكم الطائفة المنصورة.

وهذا خلاف هذا الحديث.

فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره الله بما هو كائنٌ على أمّته إلى يوم القيامة.

وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بما يجري عليهم ومنهم.

فلو علم أنّ بلاد المشرق ـ خصوصاً نجد بلاد مُسَيْلمة! ـ أنّها تصير دار الإيمان! وأنّ الطائفة المنصورة تكون بها! وأنّها بلادٌ يظهر فيها الإيمان ويخفى في غيرها! وأنّ الحرمين الشريفين واليمن تكون بلاد كفرٍ تُعبد فيها الأوثان! وتجب الهجرة منها!

لأخبر بذلك ، ولدعا لأهل المشرق ـ خصوصاً نجد ـ ولدعا على الحرمين واليمن ، وأخبر أنّهم يعبدون الأصنام ، وتبرّأ منهم.

إذ لم يكن إلّا ضدّ ذلك ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّ المشرق ، وخصّ نجد بأنّ منها يطلع قرن الشيطان ، وأنّ منها وفيها الفتن ، وامتنع من الدعاء لها.

__________________

(١) لأن المؤلّف من أهل نجد وهو أخ محمّد بن عبد الوهاب «وشهد شاهدٌ من أهلها» على تطبيق الحديث على أرضهم.

١٠٢

وهذا خلاف زعمكم.

وإنّ اليوم ـ عندكم ـ الذين دعا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّار!

والذين أبى أن يدعو لهم ، وأخبر أنّ منها يطلع قرن الشيطان ، وأنّ منها الفتن هي بلاد الإيمان ، تجب الهجرة إليها.

وهذا بيّنٌ واضحٌ من الأحاديث إن شاء الله.

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :

ما في الصحيحين (١) عن عقبة بن عامر ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صعد المنبر فقال : إنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ، فتقتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم.

قال عقبة : فكان آخر ما رأيتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر ، انتهى.

وجه الدلالة منه : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بجميع ما يقع على أمّته ومنهم إلى يوم القيامة ، كما كرّر في أحاديث أُخر ، ليس هذا موضعها.

وممّا أخبر به هذا الحديثُ الصحيحُ : أنّه أمن أنّ أمّته تعبد الأوثان ، ولم يخافه عليهم ، وأخبرهم بذلك.

وأمّا الذي يخافه عليهم ، فأخبرهم به ، وحذّرهم منه ، ومع هذا فوقع ما خافه عليهم.

وهذا خلاف مذهبكم.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ١٤٨٦ ح ٣٨١٦ كتاب المغازي ، ٥ / ٢٤٠٨ ح ٦٢١٨ كتاب الرقاق ، السنن الكبرى للبيهقي : ٤ / ١٤.

١٠٣

فإنّ أمّته ـ على قولكم ـ عبدوا الأصنام كلّهم ، وملأت الأوثان بلادهم.

إلّا إن كان أحدٌ في أطراف الأرض ما يلحق له خبرٌ.

وإلّا ، فمن أطراف الشرق إلى أطراف الغرب إلى الروم إلى اليمن ، كلّ هذا ممتلئ مما زعمتم أنّه الأصنام.

وقلتم : من لم يكفّر مَن فعل هذه الأمور والأفعال فهو كافر.

ومعلومٌ أنّ المسلمين كلّهم أجرَوا الإسلام على من انتسب إليه ، ولم يكفّروا من فعل هذا.

فعلى قولكم جميع بلاد الإسلام كفّار إلّا بلدكم!

والعجب أنّ هذا ما حدث في بلدكم إلّا من قريب عشر سنين!

فبان بهذا الحديث خطؤكم ، والحمد لله ربّ العالمين.

فإن قلت : ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال (١) :

أخوف ما أخاف على امتي الشرك (٢).

قلت : هذا حقٌّ ، وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تتعارض ، ولكن كلّ حديث ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) أنّه يخاف على أمّته الشرك ، قيّده بالشرك الأصغر ، كحديث شدّاد ابن أوس ، وحديث أبي هريرة ، وحديث محمود ابن لبيدٍ ، فكلّها مقيّدةٌ ومبيّنة أنّ ما خاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه على أمّته الشرك الأصغر.

وكذلك وقع ، فإنّه ملأ الأرض ، كما أنّه خاف عليهم الافتتان والقتال على

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٣ / ٢٠١.

(٢) ظاهر الحديث أن ما خافَه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الشرك الموجود عند غيرهم أن يفتنهم أو يجتاحهم ، فالمخوف منه هو المشركون المعادون لله ولرسوله وللمسلمين ، وهم الذين يحاربون الله ورسوله ، ولو كانوا يتلبّسون باسم الإسلام ، فليلاحظ.

(٣) مجمع الزوائد : ٣ / ٢٠١.

١٠٤

الدنيا فوقع.

وهو ـ أي الشرك الأصغر ـ هو الذي تسمّونه الآن الشرك الأكبر ، وتكفّرون المسلمين به ، بل تكفّرون من لم يكفّرهم.

فاتّفقت الأحاديث ، وبانَ الحقّ ووضح ، والحمد لله.

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :

ما روى مسلم (١) في صحيحه عن جابر بن عبد الله ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم.

وروى الحاكم (٢) ـ وصحّحه ـ وأبو يعلى ، والبيهقيّ عن ابن مسعودٍ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الشيطان قد يئس أن تُعبد الأصنام بأرض العرب ، ولكن رضي منهم بما دون ذلك ، بالمحقّرات ، وهي الموبقات.

وروى الإمام (٣) أحمد ، والحاكم ـ وصحّحه ـ وابن ماجة عن شدّاد بن أوس ، قال سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أتخوّف على أمّتي الشرك.

قلت : يا رسول الله ، أتشرك أمّتك بعدك؟ قال : نعم ، أما إنّهم لا يعبدون شمساً ، ولا قمراً ، ولا وثناً ، ولكن يراءون بأعمالهم ، انتهى.

أقول : وجه الدلالة منه ـ كما تقدّم ـ أنّ الله سبحانه أعلم نبيّه من غيبه بما شاء ،

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ٣٥٤ كتاب صفة القيامة والجنة والنار.

(٢) مسند أبي يعلى : ٩ / ٥٧ ح ١٥٦ ، شعب الإيمان للبيهقي : ٥ / ٤٥٥ ح ٧٢٦٣.

(٣) مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ١٢٤.

١٠٥

وبما هو كائنٌ إلى يوم القيامة ، وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب.

وفي حديث ابن مسعودٍ : أيس الشيطان أن تُعبد الأصنام بأرض العرب.

وفي حديث شدّاد : أنّهم لا يعبدون وثناً.

وهذا بخلاف مذهبكم.

فإنّ البصرة وما حولها ، والعراق من دون دجلة ـ الموضع الذي فيه قبر عليّ وقبر الحسين رضي الله تعالى عنهما ـ.

وكذلك اليمن كلّها.

والحجاز كلّ ذلك من أرض العرب.

ومذهبكم أنّ المواضع كلّها عُبد الشيطان فيها ، وعُبدت الأصنام ، وكلّهم كفّار ، ومن لم يكفّرهم فهو عندكم كافر.

وهذه الأحاديث تردّ مذهبكم.

هذا ، ولا يقال : إنّه قد وُجد بعض الشرك بأرض العرب زمن الردّة.

فإنّ ذلك زال في آنٍ يسير ، فهو كالأمر الذي عَرَض ، لا يعتدّ به ، كما [لو] أنّ رجلاً أو أكثر من أهل الكفر دخل أرض العرب ، وعَبَد غير الله في موضعٍ خالٍ ، أو خُفْيةً.

فأمّا هذه الأمور التي تجعلونها شركاً أكبر وعبادة الأصنام! فهي ملأت بلاد العرب من قرونٍ متداولة.

فتبيّن بهذه الأحاديث فساد قولكم : إنّ هذه الأمور هي عبادة الأوثان الكبرى.

وتبيّن أيضاً بطلان قولكم : إنّ الفرقة الناجية قد تكون في بعض أطراف الأرض ، ولا يأتي لها خبرٌ.

١٠٦

فلو كانت هذه عبادة الأصنام ، والشرك الأكبر لقاتل أهلَه الفرقةُ الناجيةُ المنصورون الظاهرون إلى قيام الساعة.

وهذا الذي ذكرناه واضحٌ جليٌّ ، والحمد لله ربّ العالمين.

ومن العجب أنّكم تزعمون : أنّ هذه الأمور ـ أي القبور ، وما يعمل عندها ، والنذور ـ هي عبادة الأصنام الكبرى.

وتقولون : إنّ هذا أمر واضحٌ جليٌّ ، يُعرف بالضرورة حتّى اليهود والنصارى يعرفونه!

فأقول ـ جواباً لكم عن هذا الزعم الفاسد ـ : سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.

قد تقدّم ـ مراراً عديدةً ـ أنّ الأمّة بأجمعها على طبقاتها من قُرب ثمانمائة سنةٍ ملأت هذه القبورُ بلادَها ، ولم يقولوا : هذه عبادة الأصنام الكبرى.

ولم يقولوا : إنّ من فعل شيئاً من هذه الأمور فقد جعل مع الله إلهاً آخر.

ولم يجروا على أهلها حكم عُبّاد الأصنام ، ولا حكم المرتدّين أيّ رِدّة كانت.

فلو أنّكم قلتم : إنّ اليهود ـ لأنّهم قومٌ بُهت ، وكذلك النصارى ، ومن ضاهاهم في بَهت هذه الأمّة من مبتدعة الأمّةِ ـ يقولون : إنّ هذه عبادة الأصنام الكبرى.

لقلنا : صدقتم ، فما ذلك من بهتهم ، وحسدهم ، وغلوّهم ، ورميهم الأمّة بالعظائم بكثيرٍ.

ولكنّ الله سبحانه وتعالى مُخزيهم ، ومظهر دينه على جميع الأديان بوعده : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١).

ولكن أقول : صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دعا للمدينة وما حولها ، ولليمن ،

__________________

(١) التوبة : ٣٣.

١٠٧

وقال له من حَضَره : ونجد ، فقال : هناك الزلازل والفتن.

أما والله ، لفتنة الشهوات فتنةٌ ، والظلمة التي يعرف كلّ خاصٍّ وعامٍّ من أهلها أنّها من الظلم والتعدّي ، وإنّها خلاف دين الإسلام ، وأنّه يجب التوبة منها ، أنّها أخفّ بكثيرٍ من فتنة الشبهات التي تضلّ عن دين الإسلام ، ويكون صاحبها من الأخسرين (أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١).

وفي الحديث الصحيح (٢) : هلك المتنطعون ـ قالها ثلاثاً ـ.

فإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.

أنقذنا الله وإياكم من الهلكة ، إنّه رحيمٌ.

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :

ما أخرجه الإمام أحمد (٣) ، والترمذيّ ـ وصحّحه ـ والنسائي ، وابن ماجة من حديث عمرو بن الأحوص ، قال سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في حجّة الوداع : ألا إنّ الشيطان قد أيس أن يُعبد في بلدكم هذا أبداً ، ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تحقّرون من أعمالكم ، فيرضى بها.

وفي صحيح الحاكم (٤) عن ابن عبّاسٍ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب في حجّة الوداع ،

__________________

(١) الكهف : ١٠٤.

(٢) إتحاف السادة المتقين للزبيدي : ٢ / ٥٠.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٣٦٨ ، سنن الترمذي : ٤ / ٤٠١ ح ٢١٥٩ ، سنن النسائي : ٦ / ٣٥٣ ح ١١٢١٣ ، سنن ابن ماجة د ٢ / ١٠١٥ ح ١٠٥٥.

(٤) المستدرك على الصحيحين ١ / ٩٣ كتاب العلم أوله : ألا أن الشيطان ....

١٠٨

فقال : الشيطان قد أيس أن يُعبد في أرضكم ، ولكن يرضى أن يُطاع فيما سوى ذلك ، فيما تحقّرون من أعمالكم ، فاحذروا أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لم تضلّوا أبداً ، كتاب الله وسُنّة نبيّه ، انتهى.

وجه الدلالة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر في هذا الحديث الصحيح أنّ الشيطان يئس أن يُعبد في بلد مكّة ، وأكّد ذلك بقوله : (أبداً) لئلّا يتوهّم متوهّمٌ أنّه حدث ثمّ يزول.

وهذا خبرٌ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو لا يخبر بخلاف ما يقع.

وأيضاً بُشرى منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمّته ، وهو لا يبشّرهم إلّا بالصدق.

ولكنّه حذّرهم ما سوى عبادة الأصنام ، لا ما يحتقرون.

وهذا بيّن واضحٌ من الحديث.

وهذه الأمور التي تجعلونها الشرك الأكبر وتسمّون أهلها عُبّاد الأصنام أكثر ما تكون بمكّة المشرّفة.

وأهل مكّة المشرّفة ـ أُمراؤها ، وعلماؤها ، وعامّتها ـ على هذا من مدّة طويلة أكثر من ستمائة عامٍ.

ومع هذا هم الآن أعداؤكم ، يسبّونكم ويلعنونكم لأجل مذهبكم هذا! وأحكامهم وحُكّامهم جارية ، وعلماؤها وأمراؤها على إجراء أحكام الإسلام على أهل هذه الأمور التي تجعلونها الشرك الأكبر!

فإن كان ما زعمتم حقّاً فهم كفّار كفراً ظاهراً.

وهذه الأحاديث تردّ زعمكم ، وتبيّن بطلان مذهبكم هذا.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث التي في الصحيحين (١) وغيرها بعد فتح مكّة وهو بها ـ «لا هجرة بعد اليوم».

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٠٤٠ ح ٢٦٧٠ كتاب الجهاد ، صحيح مسلم : ٤ / ١٣٦ ح ٨٦ كتاب الإمارة.

١٠٩

وقد بيّن أهل العلم أنّ المراد لا هجرة من مكّة.

وبيّنوا أيضاً أنّ هذا الكلام منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّ على أنّ مكّة لا تزال دار إيمان.

بخلاف مذهبكم ، فإنّكم توجبون الهجرة منها إلى بلاد الإيمان ـ بزعمكم ـ التي سمّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلاد الفتن.

وهذا واضحٌ جليٌّ صريحٌ لمن وفّقه الله ، وترك التعصّب والتمادي على الباطل ، والله المستعان ، وعليه التكلان.

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :

ما روى مسلم في (صحيحه) (١) عن سعدٍ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، لا يدَعها أحدٌ رغبةً عنها إلّا أبدله الله فيها مَن هو خيرٌ منه ، ولا يثبت أحدٌ على لأوائها وجهدها إلّا كنت له شفيعاً ـ أو شهيداً ـ يوم القيامة.

وروى أيضاً مسلم في (صحيحه) (٢) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحدٌ من أمّتي إلّا كنت له شفيعاً يوم القيامة.

وفي الصحيحين (٣) من حديث جابرٍ مرفوعاً : إنّما المدينة كالكير تنفي خَبَثَها ، وتُنصِّعُ طيِّبَها.

وفي (الصحيحين) (٤) أيضاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أنقاب المدينة ملائكةٌ ، لا

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ١٦٥ ح ٤٥٩ كتاب الحج.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ١٧٤ ح ٤٨٤ كتاب الحج.

(٣) صحيح البخاري : ٢ / ٦٦٦ ح ١٧٨٤ فضائل المدينة ، صحيح مسلم : ٣ / ١٧٥ ح ٤٨٩.

(٤) صحيح البخاري : ٢ / ٦٦٥ ح ١٧٨١ ، وصحيح مسلم : ٣ / ١٧٤ ح ٤٨٥.

١١٠

يدخلها الطاعون ، ولا الدجّال.

وفي (الصحيحين) (١) أيضاً من حديث أنسٍ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من بلدٍ إلّا سيطؤه الدجّال ، إلّا مكّة والمدينة ، ليس نقبٌ من أنقابها إلّا عليه ملائكة حافّين ـ الحديث.

وفي الصحيحين (٢) من حديث أبي سعيدٍ مرفوعاً : لا يكيد المدينة أحدٌ إلّا انماع كما ينماع الملح في الماء.

وفي الترمذيّ (٣) من حديث أبي هريرة يرفعه : آخر قريةٍ من قرى الإسلام خراباً المدينة.

وجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه كثيرة ، نذكر بعضها :

أحدها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثّ على سكنى المدينة ، وأخبر أنّها خيرٌ من غيرها ، وأنّ أحَداً لا يدعها رغبةً عنها إلّا أبدلها الله بخيرٍ منه ، وأخبر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفيعٌ لمن سكنها ، وشهيدٌ له يوم القيامة ، وذكر أنّ ذلك لأمّته ، ليس لقرنٍ دون قرنٍ ، وأنّ أحداً لا يدعها إلّا لعدم علمه ، وأنّها كالكير تنفي خبثها ، وأنّها محروسةٌ بالملائكة ، لا يدخلها الطاعون ، ولا الدجّال آخر الدهر ، وأنّ أحداً لا يكيدها إلّا انماع كالملح في الماء.

وقال : من استطاع أن يموت فيها فليمت ، وأخبر أنّها آخر قرية من قرى الإسلام خراباً.

وكلّ لفظ من هذه الألفاظ يدلّ على خلاف قولكم.

إنّ هذه الأمور التي تكفّرون بها ، وتسمّونها أصناماً ، ومن فعل شيئاً منها فهو

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٦٦٥ ح ١٧٨٢.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٦٦٤ ح ١٧٧٨.

(٣) سنن الترمذي : ٥ / ٦٧٦ ح ٣٩١٩ كتاب المناقب.

١١١

مشركٌ الشرك الأكبر ، عابد وثنٍ ، ومن لم يكفّره فهو ـ عندكم ـ كافر.

معلومٌ عند كلّ من عرف المدينة وأهلها أنّ هذه الأمور فيها كثيرة.

وأكثر منها في الزُبير وفي جميع قرى الإسلام ، وذلك فيها من قرونٍ متطاولة ، تزيد على أكثر من ستمائة سنةٍ.

وأنّ جميع أهلها ـ رؤساؤها ، وعلماؤها ، وأمراؤها ـ يجرون على أهلها أحكام الإسلام.

وأنّهم أعداؤكم ، يسبّونكم ويسبّون مذهبكم الذي هو التكفير ، وتسميته هذه أصناماً وآلهةً مع الله.

فعلى مذهبكم : إنّهم كفّار ، فهذه الأحاديث تردّ مذهبكم.

وعلى مذهبكم : إنّه يجب على المسلم الخروج منها.

وهذه الأحاديث تردّ مذهبكم.

وعلى زعمكم : إنّها تُعبد فيها الأصنام الكبرى.

وهذه الأحاديث تردّ زعمكم.

وعلى مذهبكم : إنّ الخروج إليكم خيرٌ لهم.

وهذه الأحاديث تردّ زعمكم.

وعلى مذهبكم : إنّ أهلها لا يشفع لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّهم ممّن جعل مع الله إلهاً آخر ، فبالإجماع هو شفيعٌ يطاع.

وهذه الأحاديث تردّ زعمكم.

وممّا يزيد الأمر وضوحاً : أنّ ممّا بشّر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الدجّال الذي يأتي آخر الزمان لا يدخلها ، والدجّال لا فتنة أكبر من فتنته ، وغاية ما يَطلب من الناس عبادة غير الله.

فإذا كانت هذه الأمور ـ التي تسمّون مَنْ فعلها جاعلاً مع الله إلهاً آخر ، عابدَ

١١٢

صنمٍ ، مشركاً بالله الشرك الأكبر ـ ملأت المدينة من ستمائة سنةٍ أو أكثر أو أقلّ ـ حتّى أنّ جميع أهلها يعادون وينكرون على من أنكرها ـ.

فما فائدة عدم دخول الدجّال ، وهو ما يطلب من الناس إلّا الشرك؟

وما فائدة بُشرى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم دخوله على المشركين؟

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

لو تعرفون لازم مذهبكم ، بل صريح قولكم!؟ لاستحييتم من الناس ـ إن لم تستحيوا من الله ـ.

ومن تأمّل هذه الأحاديث وجد فيها ـ أكثر ممّا ذكرنا ـ [ما] يدلّ على بطلان قولكم هذا.

* ولكن لا حياة لمن تنادي * (١)

أسأل الله لي ولكم العافية والسلامة من الفتن.

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :

ما روى مسلم (٢) في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يذهب الليل والنهار حتّى تُعبد اللّات والعزّى ، فقلتُ يا رسول الله ، إن كنتُ لأظنّ حين أنزل الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أنّ ذلك تامّ.

قال : إنّه سيكون من ذلك ما شاء الله ، ثمّ يبعث الله ريحاً طيّبة فتوفّي كلّ من في

__________________

(١) صدره : * لقد أسمعت لو ناديت حيّاً *

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ٤٢٥ ح ٥٢ كتاب الفتن.

١١٣

قلبه مثقالٌ من خردلٍ من إيمانٍ ، فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم.

وعن عمران بن حصينٍ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (١) : لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ حتّى يقاتل آخرهم المسيح.

وعن جابر بن سمرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة المسلمين حتّى تقوم الساعة ، رواه مسلم (٢).

وعن عقبة بن عامرٍ ، قال : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يزال عصابة من أمّتي يقاتلون على أمر الله ، قاهرين لعدوّهم مَن خالفهم ، حتّى تأتيهم الساعة وهم على ذلك.

فقال : عبد الله بن عمر : أجل ، ثمّ يبعث الله ريحاً كريح المسك مسّها مسّ الحرير ، لا تترك إنساناً في قلبه مثقال حبّةٍ من إيمانٍ إلّا قبضته ، ثمّ يبقى شرار الناس ، عليهم تقوم الساعة ، رواه مسلم (٣).

وروى مسلم (٤) أيضاً عن عبد الله بن عَمْروٍ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخرج الدجّال في أمّتي ، فيمكث أربعين ـ وذكر الحديث.

وفيه ـ : انّ عيسى يقتل الدجّال ، وذكَرَ الريح ، وقبضَ أرواح المؤمنين ، ويبقى شرار الناس.

ـ إلى أن قال ـ : ويتمثّل لهم الشيطان ، فيقول : ألا تستجيبون ، فيقولون : ما ذا تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ـ وذكر الحديث.

أقول : في هذه الأحاديث الصحيحة أبين دلالةٍ على بطلان مذهبكم.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ١٨٥ ح ٢٤٧ كتاب الإيمان.

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ١٧٢ ح ١٧٢ كتاب الإمارة.

(٣) صحيح مسلم : ٤ / ١٧٣ ح ١٧٦ كتاب الإمارة.

(٤) صحيح مسلم : ٥ / ٤٥٣ ح ١١٦ كتاب الفتن.

١١٤

وهي أنّ جميع هذه الأحاديث مصرّحةٌ بأنّ الأصنام لا تُعبد في هذه الأمّة إلّا بعد انخرام أنفس جميع المؤمنين آخر الدهر.

وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر عبادة الأوثان ، وأنّها كائنةٌ.

فعرضت عليه الصدّيقة مفهومها من الآية الكريمة أنّ دين محمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يزال ظاهراً على الدّين كلّه ، وذلك أنّ عبادة الأصنام لا تكون مع ظهور الدين.

فبيّن لها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراده في ذلك ، وأخبرها أنّ مفهومها من الآية حقّ ، وأنّ عبادة الأصنام لا تكون إلّا بعد انخرام أنفس جميع المؤمنين ، وأمّا قبل ذلك فلا.

وهذا بخلاف مذهبكم.

فإنّ اللّات والعزّى عُبدت ـ على قولكم ـ في جميع بلاد المسلمين من قرونٍ متطاولة.

ولم يبق إلّا بلادكم من آنَ ظهر قولكم هذا من قريب ثماني سنين.

فزعمتم : أنّ من وافقكم على جميع قولكم فهو المسلم ، ومن خالفكم فهو الكافر.

وهذا الحديث صحيح ، وهو يبيّن بطلان ما ذهبتم إليه ، لمن له أُذُنٌ واعية!

وأيضاً في حديث عمران : إنّ الطائفة المنصورة لا تزال تقاتل على الحقّ حتّى يقاتل آخرهم المسيح الدجّال.

وكذلك حديث عقبة : إنّ العصابة يقاتلون على الحقّ ، وإنّهم لا يزالون قاهرين لعدوّهم حتّى تأتيهم الساعة وهم على ذلك.

ومعلومٌ أنّ الدجّال غاية ما يدعوهم إليه عبادة غير الله تعالى.

فإذا كان أنّ عبادة غير الله تعالى ظاهرة في جميع بلاد المسلمين ، فما فائدة فتنة الدجّال التي حذّر منها جميعُ الأنبياء أممهم ، وكذلك نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حذّر من فتنته؟

وأين العصابة ـ الذين يقاتلون على الحقّ ، الذين آخرهم يقاتل الدجّال ـ عن

١١٥

قتال هؤلاء المشركين ـ على زعمكم ـ الذين يجعلون مع الله آلهةً أخرى؟

أتقولون : خفيّون؟

ففي هذه الأحاديث أنّهم ظاهرون.

أتقولون : مستضعفون؟

ففي هذه الأحاديث أنّهم قاهرون لعدّوهم.

أتقولون : يأتون زمن الدجّال؟

ففي هذه الأحاديث أنّهم ما زالوا ولا يزالون.

أتقولون : إنّهم أنتم؟

فأنتم مدّتكم قريبة من ثماني سنين.

أخبرونا مَن قال هذا القول قبلكم حتّى نصدّقكم؟

وإلّا فلستم هم.

ففي هذا ـ والله ـ أعظم الردّ عليكم ، والبيان لفساد قولكم.

فصلوات الله وسلامه على مَن أتى بالشريعة الكاملة التي فيها بيان ضلال كلّ ضالٍّ.

وكذلك في حديث عبد الله بن عمرو : إنّ الشيطان بعد انخرام أنفس المؤمنين يتمثّل للناس ، يدعوهم إلى الاستجابة ، فيقولون له :

فما ذا تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان.

فإذا كان أنّ بلاد المسلمين ـ حجازاً ، ويمناً ، وشاماً ، وشرقاً ، وغرباً ـ امتلأت من الأصنام وعبادتها على زعمكم!

فما فائدة الإخبار بهذه الأحاديث : أنّ الأوثان لا تُعبد إلّا بعد أن يتوفّى الله سبحانه وتعالى كلَّ مَنْ في قلبه حبّة خردلٍ من إيمانٍ؟

وما فائدة قتال الدجّال آخر الزمان؟

١١٦

وفي هذه الأزمان المتطاولة من قريب ستمائة سنة ، أو سبعمائة سنة ما يقاتلون أهل الأوثان والأصنام ـ على زعمكم! ـ.

والله ، كما قال تبارك وتعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١).

وفي هذه الوجوه التي ذكرنا من السُنّة كفاية لمن قَصْدُه اتّباع الحقّ ، وسلوك الصراط المستقيم.

وأمّا من أعماه الهوى ورؤية النفس ، فهو كما قال جلّ وعلا : (وَلَوْ [أَنَّنا] نَزَّلْنا [إِلَيْهِمُ] الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢).

ونحن نَعرض على من خالف الشرع ، ونسأله بالله الذي لا إله إلّا هو أن يعطونا من أنفسهم شرع الله الذي أنزل على رسوله.

وبيننا وبينهم من أرادوا من علماء الأمّة ، ولهم علينا عهد الله وميثاقه إن كان الحقّ معهم لنتّبعنّهم.

[الاستدلال بقتل مستحلّ الخمر بالتأويل]

ولكن من أعجب العُجاب استدلال بعضكم بقصّة قدامة بن مظعون ومَن معه ، حيث استحلّوا الخمر متأوّلين قوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) (٣) ... الآية ، وأنّ عمر مع جميع الصحابة أجمعوا أنّهم إن رجعوا وأقرّوا بالتحريم ، وإلّا قُتلوا.

فأقول : تحريم الخمر معلومٌ بالضرورة من دين الإسلام ، من الكتاب والسنّة

__________________

(١) الحج : ٤٦.

(٢) الأنعام : ١١١.

(٣) المائدة : ٩٣.

١١٧

وجميع علماء الأمّة ، ومع هذا أجمع المهاجرون والأنصار وكلّ مسلمٍ ـ في زمنهم ـ على تحريمه.

والإمام ذلك الوقت لجميع الأمّة إمامٌ واحد ، والدين في نهاية الظهور.

وكلّ هذا ، والذين استحلوا الخمر لم يكفّرهم عمر ، ولا أحدٌ من الصحابة إلّا إن عاندوا ـ بعد أن يدعوهم الإمام ، ويبيّن لهم بياناً واضحاً لا لبْس فيه ـ.

فإن عاندوا بعد إقامة الحجّة من الكتاب ، والسنّة ، وإجماع الأمّة الإجماع القطعيّ ، والإمام العدل الذي أجمعت [على] إمامته جميع الأمّة.

فإن عاندوا بعد ذلك أقيم عليهم حدّ القتل.

ومع هذا كلّه ، تجعلون من خالفكم في مفاهيمكم الفاسدة ـ التي لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتّبعكم عليها ، ويقلّدكم عليها ـ كافراً!

وتحتجّون بهذه القصّة؟! بل ـ والله ـ لو احتجّ بها محتجٌّ عليكم ، وجعل سبيلكم سبيل الذين استحلّوا الخمر لكان أقرب إلى الصواب من احتجاجكم بها على من خالفكم!؟

جعلتم أنفسكم كعمر في جمع المهاجرين والأنصار؟!

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ما أطمَّها من بلية.

[استدلال سخيف]

ومن العجائب أيضاً احتجاجكم بعبارة الشيخ التي في (الإقناع) : أنّ من قال : إنّ عليّاً إله ، وإنّ جبريل غلط فهذا كافر ، ومن لم يكفّره فهو كافر.

فيا عجب العجب ، وهل يشكّ مسلم أنّ من قال مع الله إلهاً آخر ـ لا عليٌّ ولا غيره ـ إنّه مسلم؟

وهل يشكّ مسلم أنّ من قال : إنّ الروح الأمين صَرَف النبوّة عن أحَدٍ إلى

١١٨

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هذا مسلم؟

ولكن ـ أنتم ـ تنقلون «أنّ من قال : عليٌّ إله» إلى «من سمّيتم أنتم أنّه إله» ، ومن فعل كذا وكذا فهو جاعله إلهاً.

فتلبسون على الجهّال ، فلِمَ لم يقل أهل العلم : إنّ من يسأل مخلوقاً شيئاً فقد جعله إلهاً.

أو من نذر له أو من فعل كذا وكذا [فقد جعله إلهاً]؟

ولكن هذه تسميتكم التي اخترعتموها من بين سائر أهل العلم ، وحملتم كلام الله تعالى ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلام أهل العلم ـ رحمهم‌الله ـ على مفاهيمكم الفاسدة ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فصل

[حقيقة الشرك وأسبابه]

ولنذكر شيئاً ممّا ذكره بعض أهل العلم في صفة مذهب المشركين الذين كذّبوا الرّسُل صلوات الله وسلامه عليهم.

قال ابن القيّم : كان الناس على الهُدى ودين الحقّ ، فكان أوّل من كادهم الشيطان بعبادة الأصنام ، وإنكار البعث.

وكان أوّل من كادَهم من جهة العكوف على القبور وتصوير أهلها ، كما قصّه الله عنهم في كتابه بقوله : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (١).

__________________

(١) نوح : ٢٣.

١١٩

قال ابن عبّاسٍ : هذه أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوحٍ ، فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم ـ التي كانوا عليها يجلسون ـ أنصاباً ، وسمّوها بأسمائهم.

ففعلوا ، فلم تعبد حتّى [إذا] هلك أولئك ، ونُسخ العلم عُبِدَت ، انتهى.

فأرسل الله لهم نوحاً بعبادة الله وحده ، فكذّبوه.

واستخرج أصنام قوم نوحٍ من شاطئ البحر ، ودعا العربَ إلى عبادتها ، ففعلوا.

ثمّ إنّ العرب ـ بعد ذلك بمدّةٍ ـ عبدوا ما استحسنوا ، ونسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم عبادة الأوثان ، وبقي فيهم من دين إبراهيم تعظيم البيت ، والحجّ ، وكانت نزار تقول في تلبيتها : لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك.

إلى أن قال : وكان لأهل كلّ وادٍ صنم يعبدونه.

ثمّ بعث الله محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتوحيد ، قالت قريش : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (١).

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجارٍ ، فنظر أحسنها فاتّخذه ربّاً ، وجعل الثلاثة أثافي لقِدْره ، فإذا ارتحل تركه ، فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك.

وروى حنبل عن رجاء العطارديّ ، قال : كُنّا نعبد الحجر في الجاهليّة ، فإذا وجدنا حجراً هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حفنةً من تراب ، ثمّ جئنا بغنمٍ فحلبناها عليه ، ثمّ طفنا به.

__________________

(١) ص : ٥.

١٢٠