نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

أنّ للأشياء كلها حقيقة وواقعية ، وإن اختلفت الآراء والأفكار في إدراكها ، وأنّ الفلسفة هي العلم بأحوال الأعيان الخارجية على ما هي عليه ، ولو أنّ الإنسان سعى في تحصيل ضالّته على نظام صحيح ، لظفر بها. وتحقيقاً لهذه الغاية ، قام المعلم الأول بتدوين المنطق وتبويبه ، واستطاع بذلك أن يقضي على شبهات القوم.

طوائف المنكرين

ثمّ إنّ المنكرين للواقعيات على طوائف :

١. من أنكر الواقعيات بقول مطلق ، فلم يعترف بواقعية شيء من الأشياء.

٢. من وقف على أنّ إنكار الواقعيات على الإطلاق يتضمن الاعتراف بعدّة حقائق من حيث لا يشعر. ولأجل ذلك أخذوا منحًى آخر ، فقالوا : لا علم لنا بأيِّ واقع من الوقائع ، أو أيّة حقيقة من الحقائق.

وقد عزب عن الطائفتين أن ما تبنتاه يتضمن الاعتراف بواقعية أنفسهم وذواتهم. وأنّ لهم علماً وتفكيراً.

٣. من وقفوا على المؤاخذة السابقة ، فقالوا ليس لنا علم بشيء عدا ذاتنا وتفكيرنا ، فاعترفوا بواقعيتين : واقعية ذات الإنسان وعلمه.

ومجمل القول في هذا المنهج ، أنّ الإنكار ، بقول مطلق أو على وجه نسبي ، داءٌ فكري تجب معالجته بالطرق السلمية المنطقية أوّلاً ، كما قام بذلك المعلم الأول وتلامذته. فإن لم ينجع هذا التداوي ، فآخر الدواء الكي. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الرئيس :

«يسألون : هل أنكم تعلمون أنّ إنكاركم حقّ أو باطل ، أو تشكّون. فإن حكموا بعلمهم بشيء من هذه الأمور ، فقد اعترفوا بحقيّة اعتقادٍ ما ، سواء أكان ذلك الاعتقاد اعتقاد الحقيّة في قولهم بإنكار القول الحق ، أو اعتقاد البطلان ، أو الشك فيه. فسقط إنكارهم الحق مطلقاً وإن قالوا : إنّا شككنا ، فيقال لهم :

٦١

هل تعلمون أنّكم شككتم أو أنّكم أنكرتم ، وهل تعلمون من الأقاويل شيئاً معيناً؟ فإن اعترفوا بأنّهم شاكون أو منكرون ، وأنّهم يعلمون شيئاً معيناً من الأشياء ، فقد اعترفوا بعلمٍ ما وحقٍّ ما. وإن قالوا : إنّا لا نفهم شيئاً أبداً ، وننكر الأشياء جميعاً حتّى إنكارنا لها أيضاً ، ولعلّ هذا ما يتلفظ به لسانهم معاندين ؛ فسقط الاحتجاج معهم ، ولا يُرجى منهم الاسترشاد ، فليس علاجهم إلّا أن يكلفوا بدخول النار ، إذ النار واللانار واحد ؛ ويضربوا ، فإنّ الألم واللاألم واحد» (١).

وقال الإمام فخر الدين الرازي : «اتّفق أهل التحقيق على أنّ المنازع للأوائل (البديهيات) في التصديقات ، لا يستحق المكالمة والمناظرة ، إذ لا يمكن إقامة البرهان على حقيقة هذه القضية ، والّذي ينازع فيها ، إمّا ينازع لأنّه لم يحصل له تصوّر أجزاء هذه القضية ، وإمّا لكونه معانداً ، وإمّا لأجل أنّه تعادلت عنده الأقيسة المنتجة للنتائج المتناقضة المتقابلة ، ولم يقدر على ترجيح بعضها على بعض.

فإن كان المنازع من القسم الأول ، فعلاجه تفهيم ماهيات تلك القضية.

وإن كان من القسم الثاني ، فعلاجه الضرب والحرق ، وأن يقال له : الضرب واللاضرب ، والحرق واللاحرق واحد.

وإن كان من القسم الثالث ، فعلاجه حلّ شكوكه» (٢).

* * *

__________________

(١) إلهيات الشفاء : ١١ ، ط طهران.

(٢) المباحث المشرقية ، الرازي : ١ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠. ولاحظ أُصول الدين ، للبغدادي ، : ٦ ، فقد ذَكر مضمون هذا الكلام بعبارة أُخرى.

وما نقلناه وغيره يدلّ على أنّ المتكلمين والفلاسفة الإسلاميين كانوا في القمة من الموضوعيين ، كما كانوا مهتمين بدفع شبهات السوفسطائيين.

٦٢

مناهج تقييم المعرفة

(٢)

منهج الشك (١)

بين منهج الإنكار المبنيِّ على إنكار الواقعيات والحقائق ، ومنهج اليقين الّذي يتبنّى واقعية جميع المدركات ، نهجٌ يتوسطهما ، حاول التوفيق بينهما ، فلم ينكر الواقعيات على وجه القطع ولم يثبتها كذلك ، بل التزم موقف الشك منها.

توضيحه : لما قام المعلم الأول بتدوين المنطق وتبويبه ، واستطاع بذلك أن يقضي على شبهات المنكرين ، ظهرت عند ذلك السفسطة بصورة أخرى ، هي صورة الشك والترديد ، وزعم المبشرون بها أمثال «پيرون» (٢) ، أنّها الطريقة

__________________

(١)MSICITPECS.

(٢) پيرون أو فيرون (nohrryP (اليوناني ولد حوالي (٣٦٠ ق. م) ، ويُعَدّ أول من قَدّم نزعة شكيّة شاملة. لم يترك أيّة كتابات ولكن معرفتنا بأفكاره تعتمد أساساً على ما ذكره تلميذه «تيمون» (nomiT).

ويرى پيرون أنّ على الحكيم أن يسأل نفسه ثلاثة أسئلة :

أولاً : ما هي الأشياء وكيف تتكون؟

ثانياً : كيف نرتبط بهذه الأشياء؟

ثالثاً : ما يجب أن يكون موقفنا إزاءها.

وأجاب عن الأول بأنّنا لا نعرف شيئاً. وعن الثالث بأنّ موقفنا يجب أن يكون التوقف التام عن الحكم لأنّنا لا نستطيع أن نتيقن في أي شيء. وعن الثاني : اللامبالاة والسكينة التامة والهرب من الحياة. (لاحظ تاريخ الفلسفة اليونانية ، وولترستيس : ٢٩٤ ـ ٢٩٥. بتصرف).

وبإمكان الباحث الكريم الرجوع في آراء «پيرون» و «تيمون» وسائر الشكّاكين اليونان إلى كتاب :«serg euqitpecs seL­ تأليف «drahcorB­.

٦٣

الوسطى بين السفسطة الّتي تريد أن تضرب على الحقائق بقلم عريض وعلى كل ما في الكون من وجود وثبوت ، على الإطلاق ، او باستثناء نفس الإنسان وذهنه وتفكيره ؛ والفلسفة ومذهب اليقين الّذي مشى عليه سقراط وأساتذته وتلامذته ، وتبنوا وجود الحقائق وإمكان الوصول إليها بالمنطق السليم.

قالوا : إنّ الطرق الّتي اتّخذها الإنسان لنفسه للوصول إلى الواقع ، لا تعطيه يقيناً ولا اطمئناناً ، إذ الحسّ والعقل خاطئان في إدراكها ـ بلا شك ـ في موارد شتّى ، وإن المنطق الأرسطي لا يعصم فكر الإنسان عن الخطأ. فالأوْلى ، تحفّظاً على كرامة الواقع ، هو التوقف في الرأي ، والسكوت دون الواقع ، بلا فرق في ذلك بين المسائل الطبيعية وغيرها(١).

ولكن هذا المذهب لم يعمّر طويلاً ، فخمدت جذْوته إلى القرن السادس عشر ، عند ما قام الغرب بحضارته الصناعية ، ونشطت العلوم الطبيعية ، واكتشفت النواميس الماديّة. عند ذلك أُحيي مذهب الشك من جديد ، واستأنف نشاطه بأساليب مختلفة ، وغدا ما أفناه الدهر من أفكار الشكاكين اليونانيين غضّاً طرياً نابضاً بالحياة الّتي بعثها فيه رجال نظراء «باركلي» و «شوبنهاور». فصار الشك في إمكان الوصول إلى الواقع الموضوعي في الغرب شعاراً للمنكرين.

وقد احتج منهج الشك الحديث ـ الّذي ورث أُصوله من «پيرون» ـ بجملة من الشبهات نذكرها فيما يلي.

__________________

(١) وقد نقل عن پيرون بطل منهج الشك أنّه أثبت بحجج عشر ضرورة الشك المطلق ، وأن كل قضية من القضايا تحتمل وجهين : الإيجاب والسلب. وأهمّ تلك الأدلّة أنّ العلوم الإنسانية تخضع لعوامل خارجية وداخلية ، لها دور في تبلور الخارج في ذهن الإنسان. ولأجل ذلك لو تبدلت تلك الشروط والعوامل ، لتبلور الخارج على المَدارك بشكلٍ آخر. وأمّا الحقيقة الواقعية الموضوعية ، فهي خفيّة على الإنسان.

وبعبارة أخرى : كان رئيس الشكّاكين الأغارقة يردد هذه المقولة : إنّ من الممكن أن يكون للأشياء كيفية خاصة ، غير أنّا لا ندركها على ما هي عليه ، بل ندركها حسب الدور الّذي تلعبه الظروف والشرائط الزمانية والمكانية في وقوفنا عليها. وعلى ذلك فلا يمكننا الحكم على معرفة بالخطإ والصواب ، لأنّنا نفقد الميزان الّذي يعيّن حدودهما.

وهذا عين ما تمسَّك به النسبيون من الفلاسفة الغربيين في إثبات نسبيّة المعرفة ، كما سيوافيك.

٦٤

شبهات الشكّاكين

الشبهة الأولى ـ خطأ الحواس

إنّ الأدوات الّتي يتوصل بها الإنسان إلى درك الواقعيات ، لا تتجاوز الحسّ والعقل ، وهما خاطئان ، وليس هناك شيء يميّز به خطأ الحسّ والعقل عن صوابهما. ولهما في شئون حياتنا الكثير من الأخطاء نذكر بعضها :

أمّا الأخطاء الراجعة إلى أدوات الحسّ ، فمنها :

١. إنّا نرى شكل الجسم الواحد في الماء مغايراً لشكله خارج الماء. فإنّ القلم أو القضيب يظهران في الماء منكسرين مع أنّهما ليسا كذلك خارجه.

٢. إنّ عنق الحمام يتجلّى في الماء بألوان مختلفة ، مع أنّه خارجها فاقد لها.

٣. إنّ الواقف في قاعة كبيرة يرى الموضع الذي يقف عليه أعلى من منتهى القاعة ، ويرى السقف الّذي يحاذي رأسه على عكس ذلك. مع أنّها في المقاييس على مستوى واحد.

٤. إنّ الخطَّيْن المتوازيَيْن يظهران متمايليْن ، إذا وقف الإنسان بينهما.

٥. إنّ القطرة النازلة من السماء تتراءى كأنّها خطٌّ ممتد ، مع أنّها ليست إلّا نقطة.

٦. إنّ الشعلة الجوّالة تبدو كأنّها دائرة تدور على مركزها.

هذا كلّه في خطأ الباصرة ، وليس خطأ اللامسة بأقلّ منه ، فمثلاً :

٧. لو وضع أحدنا إحدى يديه في ماء ساخن والأُخرى في ماء بارد ، ثمّ أدخلهما معاً بعد ذلك في إناء ثالث يحتوي على ماء دافئ ، فإنّه يجد أنّ كلًّا من يديه تخبره بحرارة تغاير ما تخبر به الأُخرى ، فإنّه يحس في إحداهما بأنّ الماء حار ، وفي الأُخرى بأنّه بارد ، مع أنّ الماء واحد وهو دافئ.

ومثل ذلك خطأ سائر الحواس ، كالذائقة. مثلاً :

٨. لو أكل الإنسان عسلاً ، ثمّ أكل بعده بطيخاً ، فإنّه لن يحسّ

٦٥

بحلاوته ، في حين أنّه لو تناول ملحاً ثمّ أكل بعده البطيخ ، يشعر بحلاوته.

وعلى ضوء جميع ذلك ، كيف يطمئنُّ الإنسان إلى ما يقف عليه من طريق الحس؟.

وقد ذكر القاضي الإيجي كثيراً من الأمثلة الّتي يغلط فيها الحسّ ، قال : «إنّا نرى الصغير كبيراً ، كالنار البعيدة في الظلمة ، وكالعنب في الماء تُرى كالإجاصة ، والخاتم المُقَرَّب من العين يرى كالحلقة الكبيرة. وبالعكس كالأشياء البعيدة. والواحد كثيراً كالقمر إذا نظرنا إليه مع غمض إحدى العينين ، أو إلى الماء عند طلوعه ، فإنّا نراه قمرين ، وكالأحول ، فإنّه يرى الواحد اثنين. وبالعكس ، كالرّحى إذا أُخرج من مركزها إلى محيطها خطوط متقاربة بألوان مختلفة ، بأنّها إذا دارت رؤيت كاللون الواحد الممتزج منها. والمعدوم موجوداً ، كالسراب ، وما يريه صاحب خفة اليد والشعبذة ، وكالخط لنزول القطرة ، والدائرة لإدارة الشعلة بسرعة. والمتحرك ساكناً ، وبالعكس ، كالظل يرى ساكناً وهو متحرّك ، وكراكب السفينة يراها ساكنة والشط متحركاً. والمتحرك إلى جهة ، متحركاً إلى خلافها ، كالقمر سائر إلى الغيم حين يسير الغيم إليه ، وإذا تحرّكنا إلى جهة ، رأيناه متحركاً إليها ، وإن تحرّك إلى خلافها. والشجر على الشط متنكّساً. والوجه طويلاً وعريضاً ومُعْوَجّاً بحسب اختلاف شكل المرآة» (١).

__________________

(١) وقد حاول تصحيح كلامهم بعد ذلك ، فقال : ولعلّهم أرادوا أنّ جزم العقل ليس بمجرّد الحسّ ، بل مع أُمور تنضم إليه ، فتضطره إلى الجزم ، لا نعلم ما هي؟ ومتى حصلت؟ وكيف حصلت؟ وإلّا (أي إن لم يريدوا بالقدح في الحسيّات ما ذكرناه من التأويل) فإليها (أي إلى الحسيّات) تنتهي علومهم (المواقف : ١٥ ، ط عالم الكتب ـ بيروت).

يقول الشريف في شرح هذه العبارة : فيكون القدح الحقيقي فيها ، قدحٌ في علومهم الّتي يفتخرون بها ، وذلك لا يُتصوّر ممن له أدنى مِسْكة ، فكيف مِنْ هؤلاء الأذكياء الأجلاء.

ثمّ بَيّن كيف تنتهي علومنا إلى الحسيّات ، وأضاف بأنّ القدح في الحسيّات يؤول إلى القدح في البديهيّات. (شرح المواقف : ١ / ١٢٦).

وقد ذكر في المواقف شبهات أُخرى للقادحين في البديهيات ، فمن أراد الاطّلاع فليلاحظ : ١٦ ، ١٩.

٦٦

والجواب عن هذه الشبهة من وجهين :

أولاً ـ إنّ القائلين بمنهج اليقين لا يدّعون أنّ الإنسان خُلِقَ مصوناً عن الخطأ والسهو ، وأنّ الحواس الإنسانية لا تحيد عن الحقيقة ، بل كلُّ ذي لبٍّ يعترف بأنّ له أخطاءً جمّة ربما تحيط به وهو غافل عنها ، بل ربما يقضي حياته على غفلات واشتباهات ، وإنّما غرضهم أنّ وراء ذاتنا وتفكيرنا واقعيات وحقائق نصل إليها بالحواس ، يرشدنا إلى ذلك الإمكان ، نفس أفعالنا في الضروريات اليومية الّتي تصدر منّا على نظام واحد ، فإنّ أبناء البشر يأكلون إذا جاعوا ، ويشربون إذا ظمئوا ، ويفرون من الضواري إذا واجهتهم. ولو كان ذلك من مواليد أوهامهم ، فأي معنى لهذا النظام السائد؟. ولما ذا لا يأكلون عند الظمأ ولا يفرون عند الجوع؟. كل ذلك يرشدنا إلى التفريق بين التفكير الّذي ليس وراءه واقع موضوعي ، والتفكير الّذي وراءه ذلك الواقع.

فما يرومه الشكاك من إثبات الخطأ في بعض الحواس ، لا ينفي ما يرومه المؤمن بالحقائق ، القائل بأنّ وراء المعرفة الإنسانية حقائق وواقعيات يمكن أن يصل إليها الإنسان في الجملة.

وثانياً ـ إنَّ الاهتداء إلى وقوع الخطأ فيما ذكر من الأمثلة ، دليل على أنّ هناك حقائق مسلّمة لا يشوبها ريبُ الشك ، وقد اهتدينا ببركتها إلى وجود بعض الأخطاء.

ففي الأمثلة الّتي استدل بها الشكاك على منهجه دليل واضح على أنّ له علوماً قطعية يعتمد عليها في القضاء بالخطإ في إدراك القلم منكسراً في الماء ، والقطرة النازلة من السماء خطأ ممتداً ، وهو علمه بأنّ للقلم شكلاً ثابتاً في الماء وخارجه ، وأنّه ليس في الهواء أيُّ خطٍّ ، فيرجع ـ عند ذاك ـ إلى تخطئة ما يدركه الحسّ. فلو لم يكن هناك ما يتصف بالصحة على وجه الجزم ، لما اهتدينا إلى وجود هذه الأخطاء ، فإنّ الخطأ أمر نسبي وقياسي ، فلا يمكن الحكم بكون النسبة غلطاً إلّا بقياسها على أمر آخر يكون الحكم فيه مسلَّماً ، ليحكم بالصحة عند التطابق ، والخطأ عند التخالف. والغلط لا يستنتج من مثله ، ولا يجوز الحكم ببطلان أمر إذا قيس بباطل آخر. هذا.

٦٧

ولا بدّ من إلفات نظر الباحث إلى أنّ بعض الحواسِّ قد تكشف خطأ حاسَّة أُخرى ، ففي مورد القلم الّذي يتراءى في الماء منكسراً ، تلمسه اليد مستقيماً مستوياً ، فتكشف حاسَّةُ اللَّمس خطأَ حاسّة البصر ، وهكذا سائر الحواس (١).

الشبهة الثانية ـ المُدْرَك هو الصور الذهنية لا الواقع

إنّ الإنسان لا يقف عند عملية الإدراك إلّا على الصورة الذهنية ، ولا ينال الواقع الموضوعي. وانطلاقاً من هذا ، لا يصحّ لنا الإذعان بوجود حقائق خارجية ، إذ الحاصل عندنا هو العلم لا المعلوم الخارجي ، فإنّ من المعلوم أنّ للواقع الخارجي آثاراً خاصّة غير موجودة في الفكر عند الإدراك.

وإن شئت قلت : إنّ الوسائل التي تَجَهَّزَ بها الإنسان للوصول إلى الواقع ، لا توصله إلّا إلى الصور العلمية والإدراكات الذهنية القائمة في ذهنه. فالإنسان الّذي يُطِلُّ على العالم بنظره حتّى عن طريق المِجْهَر والتلسكوب ، لا يحصل له ـ رغم ما يتحمله من الجهود ـ إلّا صور ذهنية ، وهي لا تروي غليله.

الجواب :

إنّ المستدلّ نظر إلى العلم بما هو هو ، بالنظر الموضوعي والاستقلالي لا بالنظر الآلي والطريقي ، فألغى جهة كشفه وطريقيّته ، فرتّب عليه ما رتّب. ولكنه غفل عن أنّ العلم والكشف عن معلوم سواه ، متلازمان لا يتفارقان ، وأنّ

__________________

(١) لم يتجاهل الفلاسفة الإسلاميون البحث حول هذه الشكوك. وقد عقد صدر المتألهين في أسفاره فصلاً لذلك ، وممّا قاله : زعم بعضهم أنْ لا حقيقة للكيفيات المحسوسة بل هي مجرد انفعالات تعرض للحواس. وقال : من حججهم أنّ الإنسان الواحد قد يرى جسماً واحداً على لونين مختلفين ، بحسب وضعين منه ، كطوق الحمامة يُرى مرّة أشقر ومرّة على لون الذهب بحسب اختلاف المقامات ، وأيضاً السكَّر في فم الصفراوي مرّ وفي غيره حلو ، فلا حقيقة لهذه الأشياء إلّا انفعال الحواس الخ ... ثمّ أخذ بنقده. (لاحظ الأسفار : ٤ / ٦٥ ـ ٦٦) الفصل السادس عشر.

كما بسط الإمام الرازي الكلام في حلّ هذه الأمثلة الّتي وقعت ذريعة في أيدي الشكّاكين ، لاحظ المباحث المشرقية : ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٢.

٦٨

العلم بالشيء عين الكشف عنه ، فلا يصحّ لنا الاعتراف بالعلم من دون المعلوم ، ولا بالصورة الإدراكية من دون مكشوفها.

والمؤمن بالحقائق لا يدّعي أنّ الإنسان يصل إلى الخارج الموضوعي بوصف كونه موجوداً خارجياً حاضراً بنفسه عند المدرك لا واسطة الصورة الذهنية ، بل كلُّ من سلك منهج اليقين لا يريد إلّا الوصول إلى الواقع عن طريق صُوَرِه الحاضرة لدى مداركنا ، الكاشفة عن الأعيان الخارجية.

الشبهة الثالثة : خطأ الإدراكات العقلية

لو كان العلم كاشفاً عن معلوم سواه ، لكان الكشف خاصيّة لازمة له ، ولكان العلم على نحو الإطلاق ، كاشفاً عن وجود معلومه من غير تخلُّف ، مع أنّه باطل بضرورة العيان ، لكثرة الأغلاط والتناقضات في مختلف العلوم.

وبعبارة أُخرى : إنّ عشاق البراهين الفلسفية ، مع ما تجهّزوا به من الفنون الصائنة عن الخطأ ـ على حدّ زعمهم ـ قد أحاطت بهم الأوهام ، وحاقت بهم الأغلاط في العلوم والمسائل الفلسفية ، وما زال الجدل قائماً بينهم على قدم وساق ، فالمتأخر يناقش براهين المتقدّم ويبطلها ، وهذا يسوق الإشكالات على مقالات ذاك ويفنّدها. ولو تدبّر الإنسان الحرُّ في الوضع السائد بينهم ، لوقف على أنّ ما يسمّيه القوم علوماً وأدلّة ، ليس سوى خيالات وتسويلات.

وعلى ضوء ذلك ، كيف يطمئن الإنسان إلى ما يقف عليه من طريق العقل؟

والجواب

أوّلاً : إنّ الإنسان الواقعي لا ينكر اختلاف الفلاسفة والمفكرين في درك الحقائق ، ولم يدّع أحدٌ أنّه مصون عن الخطأ والاشتباه. غير أنّه يقول إنّ هناك معارف وحقائق لا يختلف فيها اثنان ، هي المعارف البديهية والقضايا الضرورية الّتي اصفق على صحّتها وصدقها عامّة البشر.

وهذه العلوم الضرورية تستوعب قسطاً وافراً من معارف البشر ، فقد

٦٩

عرفت أنّ أصول اليقينيات ستة ، هي : الأوليات ، والمشاهدات ، والتجربيات ، والحدسيات ، والمتواترات ، والفطريات. كما عرفت أنّ كلَّ العلوم الكسبية لا بُدّ أن تنتهي إليها ، وتعتمد عليها ، وإلّا لزم الدور والتسلسل.

وعلى سبيل المثال : لا تجد أحداً من البشر ينكر امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وامتناع اجتماع المتضادين في محلّ واحد. حتّى أنّ السوفسطائي نفسه ، الشاكّ في كل شيء ، لا يشك في امتناع اجتماع النقيضين ، بشهادة أنّه يصرّ على ما يتبنّاه من أنّ «الصور العلمية لا تكشف عن الواقع قطعاً» ، وهو في الوقت نفسه لا يقول بصحة نقيض هذه القضية ، وهو أنّ الصور العلمية تكشف عن الواقع الموضوعي كشفاً تامّاً. وهذا دالّ على اعترافه من حيث لا يشعر بإمكان درك واقع من الواقعيات هو ما يتبنّاه (١). هذا نموذج من باب الحكمة النظرية.

وهكذا في مجال الحكمة العملية ، فإنّ فيها مسائل أُصولية ضرورية أصفق على صحتها عامّة العقلاء ، فلا تجد ذا لُبّ يقبّح الإحسان ويحسّن الظلم ، كما أنّه ليس هناك من ينكر قبح خيانة الأمانة ومجازاة المحسن بالإساءة ، إلى غير ذلك من الأُصول الثابتة في العقل العملي (٢).

وإثبات هذا المقدار من العلوم اليقينية الّتي لا يختلف فيها اثنان كاف في

__________________

(١) قد يقال : إنّ الماركسيين يصححون اجتماع الضدين ، بل اجتماع النقيضين ، فكيف تكون هذه القضية مورد اتّفاق.

ولكن الجواب يظهر ممّا حُقِّق في الفلسفة الإلهية من أنّ لامتناع اجتماع النقيضين والضدين شروطاً ، لو روعيت يكون الحكم بالامتناع بديهياً. والماركسية تارة تلغي الشروط اللازمة للحكم بالامتناع ، فتصحح اجتماعهما ، ولا مانع منه. وأُخرى تضع التضاد الفلسفي مكان التضاد المنطقي ، والمحال هو الثاني لا الأوّل ، فإن التضاد الفلسفي هو اجتماع عناصر طبيعية وتفاعلها فيما بينها لتنتج نوعاً طبيعياً جديداً ، وهذا النوع من التضاد هو عماد بقاء الطبيعة ، ولم يقل أحد بامتناع اجتماع أطرافه ، والممتنع هو التضاد المنطقي الّذي يبحث عنه في باب التقابل. قال الحكيم السبزواري :

وإنّ من غيريّةٍ تقابلُ

عرّفه أصحابنا الأفاضلُ

يمنعِ جمعٍ في محلٍ قد ثبَت

من جهةٍ في زمنٍ توحَّدت

(٢) سنثبت في مباحث الحكمة الإلهية أنّ الصحيح في الحسن والقبح الذاتي لبعض الأفعال ، هو أنّ العقل بنفسه ، يدرك بملاحظة الفعل بما هو هو ، حُسْنَهُ أو قُبْحَهُ. وليس صحيحاً أن حسنها وقبحها من المشهورات ، كما هو المشهور.

٧٠

نقض قول المستدلّ وردّه ، لأنّ المستدلّ ينفي وجود علمٍ كاشف عن الواقع ، نفياً باتّاً ، وعلى نحو السالبة الكليّة ، فكفى في ردّه إثبات نقيضها وهو الموجبة الجزئية وهي أنّ ثمة علوماً ضرورية لا ينكرها أحد.

وعلى ضوء ذلك ، كيف يمكن أن يشطب على جميع ما لدى الإنسان من آراء وأفكار؟!

وثانياً : إنّ ما ذكره هو بحدّ ذاته استدلال عقلي ، يحاول به إثبات ما يتبنّاه. فلو لم يكن للإدراك العقلي وبرهانه قيمة ولا وزن ، فما معنى هذا الاستدلال والبرهنة؟

الشبهة الرابعة ـ معرفة شيء لا تنفك عن معرفة ما لا يتناهى

العلوم الكونية يرتبط بعضها ببعض ، وإنّ التعرُّف على شيء يتوقف على التعرف على ما لا نهاية له ، بحكم الصلة السائدة بين الأُمور المادية.

وبعبارة أُخرى : إنّ التعرف على فرد من أفراد الإنسان ، يتوقف على التعرّف على آبائه وأجداده وكل ما له دخل في تكوّن جسمه وروحه وآرائه وأفكاره. وطروء خطأ طفيف في هذا التعرّف ، يوجب الخلل في معرفة الفرد.

والجواب

أولاً : إنّ المستدلّ قد اعترف في هذا الاستدلال ، من حيث لا يشعر ، بواقعيات متعددة ، منها أنّ الحسّ والعقل من أدوات المعرفة. ومنها أنّ التعرف على شيء يتوقف على معرفة تاريخ وجوده وكل ما كان مؤثّراً في تكوّنه ، حيّاً كان أو جماداً. ومنها أنّ تلك المعرفة ـ لأجل سعتها ـ لا تقع تحت إطار القدرة الإنسانية. ومنها أنّ الخطأ في المقدمات يوجب الخطأ في ذيها. إلى غير ذلك من الواقعيات والحقائق الّتي أقرّ بها المستدلّ في استدلاله. ومع ذلك كيف يمكن أن يصير شكّاكاً غير مذعن بشيء؟

وثانياً : إنّ الاستدلال إنّما يتمّ إذا أريد التعرف على شيء بكماله. وأمّا إذا

٧١

أريد معرفة الوضع السائد عليه ، فليس ذلك رهن التعرف على أُمور غير متناهية.

ولترى صدق ذلك ، أُفرض أنّك أمام منضدتك ، وفوقها كتبك وأدوات التحرير ، وتريد أن تتعرف على المنضدة هل هي من الخشب أو الحديد ، هل هي مستطيلة أو مربعة ، ونحو ذلك. فهل ترى أنّ هذه المعرفة رهن التعرف على ما سبق عليها من الأحوال؟ كلا ، ولا.

وثالثاً : لو صحّ ما ذكره ، فإنّما يصحّ في معرفة الموجودات الجزئية ، وأمّا المفاهيم الكليّة والقوانين العامة السائدة في الطبيعة ، فليست معرفتها كما ذكر.

مثلاً : معرفتنا بأنّ الإنسان حيوان ناطق ، معرفة كليّة لا تتوقف على شيء. وهكذا في القوانين الرياضية والطبيعية ، فإنّ معرفتنا بأنّ مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين ، وأنّ مربع الثلاثة تسعة ، وجذر التسعة ثلاثة ، وأنّ السرعة كلما ازدادت حول المركز ازداد الطَّرد عنه ، وكلّما خفَّت قَلّ الطّرد ، إلى غير ذلك من القوانين السائدة ، إنّ معرفتها لا تتوقف على ما لا نهاية له ، بل لها مقدمات خاصة معينة لا أكثر.

الشبهة الخامسة : البرهنة على إثبات شيء محال

ما ذكر من الشبهات السابقة كان متوجهاً إلى إثبات الخطأ في الإدراكات التصورية ، والشكّاك يريد في هذه الشبهة الرابعة التشكيك في الإدراكات التصورية. يقول :

إنّ الإدراكات الإنسانية تنقسم إلى تصورية وتصديقية ، فإنّ الإدراك إن كان مجرداً عن الحكم والقضاء كتصور الكتاب وحده ، فهو إدراك تصوّري. وإن كان مقروناً بالقضاء والحكم ، فهو إدراك تصديقي ، كما إذا حكمنا على الكتاب بأنّه كتاب نفيس ومفيد.

وعلى ضوء ذلك فالشكاك يقول : إنّ القضايا المقبولة عبارة عن القضايا الّتي تَثْبُتُ صحتُها بالبرهان ، غير أنّ إثبات قضية بالبرهان ، أمرٌ ممتنع. وما يُتراءى من إقامة البراهين على القضايا لا يخرج عن إطار المغالطة ، وذلك لأنّ مقدمات البرهان

٧٢

إمّا أن تَثْبُتَ ببرهان آخر أو لا. وعلى الأول يلزم احتياج ذلك البرهان إلى برهان آخر ، وهكذا إلى غير النهاية. وعلى الثاني يلزم أن تكون مقدمة البرهان غير برهانية ، فلا تكون القضية بالنتيجة مبرهَنَة.

وما ربما يقال من أنّ مقدمات البرهان ربما تكون غنية عن إقامة البرهان عليها ، فهو ادّعاء محض ، لا يقبل إلّا أن يثبت (١).

الجواب :

أولاً : إنّ هذا الاستدلال من الشكّاك ، جدُّ عجيب ، لأنّه يتمسك بالبرهان العقلي ليُبطل الاستدلال العقلي ، فكأنّه يبطل بالعقل نفس العقل ، وذلك :

لأنّ أساس برهانه في الشق الأول يعتمد على بطلان التسلسل.

وأساس برهانه في الشق الثاني هو أنّ المجهول لا يمكن أن يحلّ مجهولاً آخر.

كما أنّ أساس برهانه في الشق الثالث يبتني على أصل فطري وهو أنّ المدّعى لا يُقبل بلا دليل.

فهذا الاستدلال العقلي من الشكّاك المبني على أُصول عقلية وفطرية يعرب عن أنّه في صميم ذاته واقعيٌّ لا سوفسطائي ، وأنّه يحترم الأُصول الثابتة عند عامة العقلاء.

وثانياً : إنّ القياس الّذي استدلّ به عقيم غير منتج ، وذلك لأنّا نختار الشق الثاني وهو أنّ مقدمات البرهان غنية عن البرهان ، ولكنه لا يترتب عليه ما تصور من امتناع حلّ مجهول بمجهول آخر. وذلك لأنّ مقدمات البرهان يمكن أن تكون أُموراً حسيّة يدركها الإنسان بحسِّه أو بالتجربة ، أو عقلية بديهية لا يحتاج في التصديق بها إلى شيء. ولو أُقيم عليها البرهان ، لا يزداد الإنسان يقيناً.

وبإيجاز : إنّ البرهان يتركّب من مقدمات ، وهي إما بديهية بالذات أو

__________________

(١) الفلسفة العامة (euqisyhpateM (، پول فولكييه ، ص ٦٢ ـ ٦٣ وهو الجزء الثالث من كتابه : eihposolihp ed eriatnemed etiarT.

٧٣

منتهية بالسبر والتقسيم إلى أُصول بديهية لا تحتاج في التعرف عليها ، غير تصور الطرفين والنسبة الموجودة بينهما.

* * *

إلى هنا فرغنا من تبيين المنهجين : إنكار الحقائق والشكّ في الوصول إليها ، وكلا المنهجين سفسطة ، والقائل بهما سوفسطائي ، وليس «السوفسطائي» مختصّاً بمنكر الحقائق والواقعيات ، بل يعمّ الشاكّ فيها ، وفي إمكان نيل الخارج والاتّصال به بأدوات المعرفة.

قال ابن حزم (المتوفّى ٤٥٦ ه‍) : «السوفسطائية مبطلو الحقائق ، وهم ثلاثة أصناف : فصنفٌ منهم ألغوا الحقائق ، وصنف منهم شكّوا فيها ، وصنف منهم قالوا هي حقٌّ عند مَنْ هي حقٌّ عنده وباطل عند من هي باطل عنده» (١).

وهذا القسم الثالث الّذي أخبر عنه ابن حزم قد تجلّى في العصور الأخيرة باسم النسبيين ، فهم يحاولون إثبات أنّه ليس للحق والباطل معيار خاص ، بل تتصف بهما الأشياء باعتبار القائلين بهما ، وستوافيك نظريتهم عند عرض المناهج الغربية في نظرية المعرفة.

__________________

(١) الفِصَل : ٤ / ١٤.

٧٤

مناهج تقييم المعرفة

(٣)

منهج اليقين (١)

يبتني منهج اليقين على أصلَيْن :

الأوّل : إنّ وراء الذهن والذهنيات واقعيات خارجية.

الثاني : إنّ كلَّ إنسان قادر ـ بحسب ما جهّز به من أدوات المعرفة ـ على دركها والتعرف عليها تعرّفاً صحيحاً.

وهذا المنهج هو الأصيل ، والمنهجان الماضيان كانا ردّ فعل وحركة رجعيةً بالنسبة إليه ، نتيجة لشبهات طرأت على القائلين بهما في ظروفهم. ولأجل ذلك نرى عامة الفلاسفة ـ إلّا شُذّاذ الآفاق ـ يهتمون بالفلسفة اليقينية المبنية على الأصلين المتقدمين ، كما أنّ فلاسفة الإسلام أحكموا أركان هذا المنهج بالبحث عن الموضوعين التاليين :

١. البحث عن حقيقة العلم وواقعه وحدّه ورسمه.

٢. تقييم المعرفة الإنسانية ومدى كشفها عن الواقع.

وحصيلة منهج الجزم هو أنّ وراء النفس والنفسانيات ، موضوعات واقعية ، وأنّ في الدار غير الإنسان ديّار ، وأنّ الإنسان قادر ـ حسب ما أعطي من

__________________

(١)MSITAMGOD. وربما أُطلق عليه منهج الجزم ، أو القطعية.

٧٥

المواهب الحسيّة والعقلية ـ على التعرف عليها تعرّفاً كاملاً على حدّ يصحّ أن يقال معه إنّ الموجود في الخارج هو بعينه الحاصل في الذهن ، والتفاوت بين الموجودَيْن هو في كيفية الظهور والوجود. وبعبارة أُخرى : إنّ المعلوم الذهني يتحد ماهية مع المعلوم الخارجي ، وإن كان يختلف عنه في مرتبة الوجود ، فالنار في الذهن نفس النار في الخارج ماهيةً ، غاية ما في الأمر أنّهما يختلفان في كيفية الظهور. ولأجل ذلك تكون النار الخارجية محرقة دون الذهنية.

وعلى هذا الأساس عرّفوا الفلسفة بأنّها العلم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية.

وليس المراد من قولهم «بقدر الطاقة البشرية» ، أنّ كل إنسان ينال من الخارج والواقع حسب استعداده وقابليته ، فالشيخ الرئيس بما كان له من المواهب الكبيرة يدرك النار الخارجية على حسب ما يناسب قابليته ، في حين أنّ الإنسان العادي يدركها بنحو آخر حسب لياقته الذهنية فتختلف كيفية الإدراك باختلاف الاستعدادات ، ويتفاوت تجلّي الأشياء في الذهن حسب تفاوت المواهب الفكريّة.

لا ، ليس ذلك هو المراد ، بل المراد هو تفاوت الأفراد في المعرفة من حيث الكميّة ، لأنّ العالم مليء بالموجودات والسنن الحاكمة عليها ، وليس في وسع كل إنسان أن يحيط بها ، بل كل إنسان يتعرّف على قسم وجانب خاص من الواقعيات حسب إمكاناته وظروفه. فربّ عالم يقف على أشياء لا يقف عليها غيره ، وإن كانا فيما وقفا عليه متّفقيْن من حيث المعرفة ، كما عرفت في حديث النار.

وقد أصرّ فلاسفة الإسلام على وحدة المعلوم الذهني والخارجي ، وعلى كون العلم الصحيح معرباً عن صميم الواقع ، على وجه عرّفوا دور الفلسفة بقولهم : إنّها تُصَيِّرُ الإنسان عالماً (بالفتح) عقلياً مضاهياً للعالَم العيني. بمعنى أنّ ما يقف عليه من المعارف نفس الواقع ، بتفاوتِ أنّ ما عنده وجود عقلي للأشياء ، وما في الخارج وجود عيني لها ، ولا يختلفان وراء ذلك قيد شعرة.

هذا إلمام إجمالي بمنهج اليقين ، وقد تبنّاه عامة فلاسفة الإغريق والإسلام وتبعهم جماعة من الغرب. ولأجل إلمام الباحث بنظرياتهم حول قيمة العلم والمعرفة ومدى كشفه ، نبحث فيما يلي نظريات أبرز فلاسفة هذا المنهج.

٧٦

نظريات فلاسفة منهج اليقين

قد ذكرنا أنّ النظرية الأصيلة في مناهج المعرفة ، هي نظرية اليقين وأنّ العلم يكشف كشفاً تامّاً عن واقع سواه ، غير أنّ لأصحاب هذا المنهج نظريات في المعرفة اليقينية ، نطرحها فيما يلي :

١ ـ سقراط (١) (٤٦٩ ـ ٣٩٩ ق. م)

كان سقراط من تلامذة فيثاغورس ومن كبار فلاسفة اليونان. نبغ في القرن الخامس قبل الميلاد في عصر كثرت فيه ضوضاء السوفسطائية الذين زعموا أنّ الموجودات خيالات لا حقيقة لها واستخدموا أسلحة الجدل في التقرير والتضليل ، فكان سقراط لهم بالمرصاد ، أصلاهم من فلسفته العالية ناراً محرقة. كما أعلن سقراط مخالفته اليونانيين في عبادتهم الأصنام ، وقابل رؤساءهم بالحجاج ، فأثاروا العامة عليه وتوصلوا إلى الوقيعة به لدى الحكومة اليونانية بتهمة أنّه أهان الآلهة وجحدها ، فَزُجّ في السجون حتّى حكم عليه بالإعدام.

كان سقراط قوي الحجّة ، لا يتكلف في تأييد آرائه كثير عناء. وكان له أُسلوب في الجدل ليس لغيره. فإنّه كان يطرح على خصمه أسئلة ليجيب عليها ،

__________________

(١)setarcoS.

٧٧

ولا يزال كذلك حتّى يجد الخصم نفسه أنّه قد وقع في فخّه. وربما يعبّر عنه في الفلسفة الحديثة ب «الطريقة الديالكتيكية».

وحاصل الطريقة الّتي تبناها سقراط في الوصول إلى الحقائق إلقاء الأسئلة السؤال تلو الآخر ، على وجه يكون مجموع الأسئلة وأجوبتها موصلاً إلى الحق.

ولأجل ذلك اشتهر عن سقراط أنّه كان يقول : أنا لست معلّماً ، ولا أُعلّم الشيء الجديد للتلاميذ ، وإنّما دوري في التعليم هو تهيئة أرضية صالحة لأن استثمر فكر المتعلّم ، وأُخرج العلوم والمعارف المكنونة في ذاته ونفسه ، ليقف المتعلم على ما كان يعلمه بالفطرة وعلى وجه الإجمال ، يقف عليه بشكل مبسوط. وما أشبه عملي ودوري في مقام التعليم بعمل ودور القابلة ، فإنّها لا تخلق الطفل في الرحم ، وإنّما توجد الظروف المناسبة لتلد الأُم ما كانت تحمله في بطنها.

وهكذا ، فقد كان سقراط مؤمناً بالحقائق الواقعية كما كان مؤمناً بإمكان الوصول إليها ، ولكن على الطريقة الّتي كان يتبناها. فهو من طلائع أصحاب اليقين ، وهذه هي طريقته في تكميل النفوس وإبلاغها إلى القمة. وله محادثة مع «أريستوديم» بشأن مسألة اللاهوت ، مذكورة في الكتب ، أفحمه فيها على هذه الطريقة ، حيث أخذ يسأله السؤال بعد الآخر وهو يجيب عليها ، حتّى بلغا إلى النتيجة الّتي كان سقراط يتبناها (١).

* * *

٢ ـ أفلاطون (٢) (٤٢٨ ـ ٣٤٨ ق م)

هو أشهر فلاسفة اليونان الأقدمين. عَرِفَ فيلسوفَ عصره سقراط ، وتتلمذ عنده ، فلما حُكم على أُستاذه بالقتل ظلماً ، هجر وطنه وأكبّ على العلم.

كانت فلسفته فلسفة أُستاذه سقراط بعينها ، إلّا أنّه بما اكتسب من العلوم الكونية ، ألقاها على الناس في ثوب جديد ، ثمّ أضاف إليها أفكاره الخاصة

__________________

(١) لاحظ هذه المناظرة في دائرة معارف القرن الرابع عشر : ٥ / ١٩١ ـ ١٩٦.

(٢)otolP.

٧٨

المكتسبة ، فجاءت أكمل فلسفة عرفها الناس إلى ذلك الحين. فذاع صيته في البلاد ، وعرف بسمو العقل ، ولُقِّب بالإلهي. وكان عقلاء زمانه على فلسفته وآرائه. وكان له مذهبان ، مذهب عام ظاهر بينه وبين الناس ، ومذهب خاص لا يفاتح به إلّا الأخصاء ممن يثق بعقلهم وثباتهم (١).

بعض آرائه الفلسفية

إنّ لأفلاطون الإلهي ، في طريق المعرفة اليقينية ، آراءً تُميِّز منهجه عن غيره ، نشير إلى أُصولها الرئيسية :

أ ـ أرباب النوع أو المثل الأفلاطونية

قد اشتهر أفلاطون بنظرية المثل وأرباب النوع إلى حدّ انّها صارت تُنسب إليه فيقال لها المثل الأفلاطونية لأنّها وليدة أفكاره ، أو أنَّها من أُستاذه سقراط ، لكنّه قررها بوجه رائق.

خلاصة هذه النظرية : إنّ كلَّ نوع ذي أفراد طبيعية كونيّة ، له فرد مجرّد تامٌّ ، على عاتقه تربية تلك الأفراد ورعايتها وإبلاغها إلى الكمال. وهذه الأفراد الطبيعية يطرأ عليها الفناء والاندثار ، وأمّا ذلك الفرد المجرّد فيبقى ولا يندثر ولا يفسد.

قال أفلاطون : إنّ لكلّ موجودٍ (جوهريٍّ) صورة مجرّدة في عالم الإله (٢) ، وإنّها لا تندثر ولا تفسد ولكنها باقية ، وإن الّذي يندثر ويفسد إنّما هو الموجودات الطبيعيّة الماديّة.

وعلى ذلك ، فالإنسان بما أنّه جوهر ذو أفراد طبيعية مادية ، فله فرد تام مجرّد يعتني بشئون أفراده المادية بإخراجها من القوة إلى الكمال. ومثله جميع أنواع الحيوان والنبات ، فلكل نوع فردٌ قارٌّ ثابتٌ غير مندثر ، كما أنّ له أفراداً مندثرة فانية.

__________________

(١) لاحظ دائرة معارف القرن الرابع عشر ، ج ١ ، مادة «أفل».

(٢) المراد من عالم الإله هو عالم التجرّد عن المادة الّذي يسمى بعالم الحدوث.

٧٩

وهذا الفرد المجرّد يعبّر عنه بالموجود المثالي ورَبّ النوع ، لكون وجوده أمثل وأكمل من الموجودات الماديّة ، كما أنّ له شأناً بتربية أفراده ، فأشبه أن يكون ربّها المدبر.

وقد وقعت هذه النظرية مَثاراً للبحث والنقاش ، فبين قائل بها ، آخذٍ بظاهرها وحرفيّتها من غير تصرف ولا تأويل ، كما عليه الإشراقيون ، فقالوا : يجب أن يكون لكل نوع من الأنواع البسيطة الفلكية (١) والعنصرية ، ومركباتها النباتية والحيوانية ، فرد مجرّد عن المادة ، مُعْتَنٍ في حق أفراد ذلك النوع ، وهو صاحب ذلك النوع وربّه. واستدلّوا على ذلك بوجوه (٢).

وبين مؤول لها كالشيخ الرئيس ، فقال بأنّ المراد من الفرد المجرّد لكل نوع هو المفهوم الكلي الّذي يشترك فيه الأشخاص ويبقى مع بطلانها. وبعبارة أُخرى : الماهية المجرّدة عن اللواحق ، القابلة للمتقابلات.

فأصبح الشيخ وقاطبة المشائيين منكرين للمثل بالمعنى الّذي يثبته الإشراقيون ، ودارت بينهم مناظرات ومساجلات ، إلى أن انتهى الأمر إلى صدر المتألهين ، فأيّد نظرية المُثُل بحرفيتها ، وقال : «الحريّ أن يُحمل كلام الأوائل على أنّ لكل نوع من الأنواع الجسمانية فرداً كاملاً في عالم الإبداع هو الأصل والمبدأ ، وسائر أفراد النوع فروعٌ ومعاليلٍ وآثار له. وذلك الفرد (المثالي) بتمامه وكماله ، لا يفتقر إلى مادة ولا إلى محلّ متعلّق به ، بخلاف هذه ، فإنّها لضعفها ونقصها ، مفتقرةٌ إلى مادة في ذاتها أو في فعلها. وقد تحقق في محله جواز اختلاف أفراد نوع واحد كمالاً ونقصاً».

وأضاف : «وما يُرَدُّ عليه من أنّ الحقيقة الواحدة كيف يقوم بعضها بنفسه وبعضها بغيره ، ولو استغنى بعضها عن المحل لاستغنى الجميع ؛ ليس بصحيح مطلقاً ، فإنّ استغناء بعض الوجودات عن المحلّ إنّما هو بكماله ، وكمالُه

__________________

(١) ذكروا الفلكية لأنّ الأفلاك كانت عندهم ذات حياة ونفس ، فكان لكل فلكٍ فردٌ آخر مجرد له شأن بتدبيره.

(٢) لاحظ للوقوف على تلك الوجوه : الأسفار : ٢ / ٥٣ ـ ٦٢.

٨٠