نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

٧. الوضع : وهي هيئة حاصلة للشيء من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض ، والكل إلى الخارج. فالقيام ـ مثلاً ـ هيئة في الإنسان بحسب نسبةٍ فيما بين أجزائه وبحسب كون رأسه من فوق ورجله من تحت ، والمجموع إلى الخارج المحيط ، ككونه مستقبلاً أو مستدبراً.

٨. الفعل : وهو هيئة غير قارة ، حاصلة في الشيء المؤثر ، من تأثيره ، ما دام يؤثّر. كتسخين المسخِّن ما دام يُسَخِّن ، وتبريد المبرِّد ما دام يُبرِّد.

٩. الانفعال : وهو هيئة غير قارة ، حاصلة في المتأثر ، ما دام يتأثر ، كتسخُّن المتسخِّن ما دام يَتسَخَّن ، وتَبَرُّد المتبرِّد ما دام يَتَبرَّد.

١٠. الإضافة : وهي النسبة المتكررة بين شيئين. وبعبارة أُخرى : هي ماهية معقولة بالقياس إلى ماهية معقولة بالقياس إلى الأُولى. فالأُبوّة إضافة ، لأنّها نسبة معقولة بالقياس إلى النسبة الأُخرى وهي البنوة ، الّتي هي على خلاف النسبة (١).

الأمر الثاني : اتّحاد الصور الذهنية مع الحقائق الخارجية في الماهية

قد عرفت أنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم بنفسه لدى الذهن. وهذا يستلزم بالضرورة اتّحاد ما في الذهن مع ما في الخارج ، اتّحاداً ماهويّاً لا وجودياً. فالصور الذهنية عين الحقيقة الخارجية ، في الماهيات والأشكال والحدود ، وغيرها في سنخ الوجود.

فما تلبّس بالوجود في النشأتين (الذهن والخارج) أمر واحد من حيث الماهية ، غير أنّه تحقق في النشأة الخارجية بوجود عيني ، وفي النشأة العقلية بوجود ذهني ، ولأجل ذلك لا يترتب على كلٍّ من الوجودَيْن ما يترتب على نظيره وعديله.

يقول الحكيم السَّبْزَوَاري :

للشيء غيرُ الكوْنِ في الأعيانِ

كونٌ ، بِنَفْسِهِ ، لدى الأذهانِ (٢)

__________________

(١) والإضافة على قسمين : مختلفة الأطراف : كالأُبوّة والبنوّة ، والعلية والمعلولية.

ـ متشابهة الأطراف : كالأُخوّة.

(٢) المنظومة : ٢٣

٣٠١

والموضوعية في «المعرفة» قائمة على أساس أنّ الصور الذهنية لا تختلف عن الموجودات الخارجية في الماهية ، وإنّما تختلف في الوجود فحسب. فالذاتي ـ يعني الماهية ـ محفوظ في كلتا النشأتين ، وإلى هذا يشير الحكماء بقولهم : «الذاتيات محفوظة في جميع أنحاء الوجود».

وعلى هذا الأساس ، فإذا تعلق العلم بمقولة من المقولات الّتي تقدّم بيانها ، لا بدّ أن تكون تلك المقولة الخارجية محفوظة بعين حقيقتها في الذهن. فإذا رأينا شكلاً هندسياً مثلثاً ـ والمثلث من مقولة الكم ـ تكون صورته الذهنية ـ بحكم الضابطة المتقدمة ـ من مقولة الكم أيضاً ، وإلّا لما كانت الذاتيات محفوظة فيه ولما كان العلم حاكياً عن الواقع وكاشفاً له. فالمثلث ، بكلا وجودَيْه الخارجي والذهني ، من مقولة الكم وقس عليه غيره من أفراد سائر المقولات.

الأمر الثالث : المقولات هي الأجناس العليا للموجودات

ذهب الفلاسفة إلى أنّ المقولات العشر ، هي المقولات العليا ، وليس فوقها مقولات وإن كان تحتها أنواع أو أجناس متوسطة. فالجوهر جنسٌ عالٍ ليس فوقه جنس وإن كان تحته أجناس متوسطة (١). والكيف جنسٌ عالٍ ليس فوقه جنس ، وإن كان تحته أجناس متوسطة(٢).

وهذه الأجناس العليا ، متباينة بالذات ، ليس بينها جهة جامعة ذاتية. نعم ، الأعراض التسعة وإن كانت داخلة تحت عنوان «العَرَض» ، لكن العَرَضية ليست عنواناً ذاتياً لها ، بل هي مفهوم انتزاعي ينتزع من مقام وجودها ، فإنّ الأعراض التسعة ـ نسبية كانت أو غيرها (٣) ـ لمّا كانت عارضة في مقام الوجود على موضوعاتها ، يطلق عليها عنوان العَرَض ، ولأجل ذلك لم يكن «العَرَض» جنساً عالياً ، بل الأجناس العالية هي ما وقع تحت عنوان «العَرَض».

__________________

(١) هي : العقل ، والنفس ، والصورة ، والهيولى ، والجسم المركب منهما.

(٢) تقدمت أقسام الكيف في الأمر الأول.

(٣) الأعراض غير النسبية هي الكم والكيف. وما سواهما ـ أعني السبعة الباقية ـ أعراض نسبية.

٣٠٢

الأمر الرابع : عُقْدة الوجود الذهني

لقد جوبه القائلون بالوجود الذهني للأشياء الخارجية ، بإشكال عويص ، وصفه صدر المتألهين (١) والحكيم السبزواري بأنّه «جَعَلَ العقول حيارى والأفهام صرعى». وهذا الإشكال مبني على أمرين مُسَلّميْن :

الأوّل : أنّ العلم كيفية نفسانية ، فهو من مقولة الكيف النفساني.

والثاني : أنّ الصورة الذهنية متحدة مع محكيّها في الماهية ، وإن اختلفا وجوداً وتحقُّقاً ، لما تقدّم من أنّ كاشفية الصور الذهنية ، رهنُ كونها متحدة مع الخارج ماهية ، فيجب أن يكن العلم بالجوهر جوهراً ، والعلم بالكيف كيفاً ، والعلم بالكم كمّاً ، وهكذا.

وعند ذلك يتوجه الإشكال ، وهو أنّه إذا تعلّق العلم بالجوهر ـ كالإنسان ـ وجب أن تكون الصورة الذهنية الواحدة داخلة تحت جنسين عاليين متباينين. إذ من جانب ، إنّ العلم من مقولة الكيف ، فالصورة الذهنية كيفٌ. ومن جانب آخر ، إنّ الصورة الذهنية متحدة مع الواقعية الخارجية في الماهية ، وهي هنا جوهر ، فيجب أن تكون الصورة جوهراً. فكيف يمكن أن يكون شيء واحد (الصورة الذهنية) مُجَنّساً بجنسين عاليين ، أعني أن يكون كيفاً ، وفي الوقت نفسه جوهراً. هذا محال ، لأنّ لازمه اجتماع المتباينين في شيء واحد ، أو تحت أمرين متباينين.

ولا يختص الإشكال بالعلم بالجواهر ، بل يطّرد في العلم بالأعراض في غير الكيف ، كما في الكمّ والوضع ، مثل السطح والانتصاب ، فيلزم أن يكون العلم بالكم ـ كالمثلث ـ كيفاً من جهة ، وكمّاً من جهة أُخرى.

بل يمكن تقرير الإشكال في العلم بالكيف نفسه أيضاً ، إذا تعلّق بالكيف المحسوس ، كالسواد ، فيلزم أن يكون شيء واحد (الصورة الذهنية) كيفاً نفسانياً من جهة ، وكيفاً محسوساً من جهة أُخرى.

__________________

(١) الأسفار : ١ / ٢٩٨.

٣٠٣

وإلى هذا الإشكال يشير صدر المتألهين بقوله : «إنَّ العلم ، بما أنّه من صفات النفس ، يجب أن يكون من مقولة الكيف ، ومن حيث إنّ حقيقة المعلوم وجدت في الذهن، وجب أن يكون من مقولة المعلوم ، فيلزم أن تكون حقيقة واحدة من مقولتين» (١).

ويقول أيضاً في الفصل الّذي عقده لحلّ إشكالات الوجود الذهني : «إنّ الحقائق الجوهرية ، بناءً على أنّ الجوهر ذاتي لها ـ وقد تقرر عندهم انخفاظ الذاتيات في أنحاء الوجودات ، كما تسوق إليه أدلّة الوجود الذهني ـ يجب أن تكون جوهراً أينما وجدت ، وغير حالّة في موضوع ، فكيف يجوز أن تكون الحقائق الجوهرية موجودة في الذهن ، أعراضاً قائمة به؟

ثمّ إنّكم قد جعلتم جميع الصور الذهنية كيفيات ، فيلزم اندراج حقائق جميع المقولات المتباينة بالنظر إلى ذواتها ، مع الكيف ، في الكيف» (٢).

وإليه يشير الحكيم السبزواري بقوله :

والذاتُ في أنحاء الوُجوداتِ حُفِظ

جَمْعُ المُقابِلَيْنِ فيه لُحظْ

فَجَوْهَرٌ مع عَرَضٍ كَيْفَ اجتَمَعْ

أمْ كَيْفَ تَحْتَ الكَيْفِ كلّ قَدْ وَقَعْ

وقد مال القوم يميناً ويساراً في حلّ الإشكال ، ونكتفي نحن في المقام بذكر أقرب الأجوبة إلى الصواب(٣).

__________________

(١) الأسفار الأربعة : ١ / ٣٢٥.

(٢) الأسفار الأربعة : ج ١ المنهج الثالث في الإشارة إلى نشأة أخرى للوجود غير هذا المشهود ، الفصل الثالث : ٢٧٧.

(٣) وأمّا الأجوبة الّتي لم يتعرض لها الأُستاذ ـ دام ظله ـ فإليك بيان رءوسها :

١. إنكار الوجود الذهني من أساس.

٢. التفريق بين القيام بالذهن والحصول فيه ، ذهب إليه المحقق القوشجي (لاحظ الأسفار : ١ / ٢٨٢).

٣. القول بالأشباح ، أي أنّ الموجود في الذهن شبح الخارج ، لا نفسه (لاحظ الأسفار : ١ / ٣١٤ ـ ٣١٥).

٤. القول بالانقلاب وأنّ الجوهر الخارجي إذا وجد في الذهن ينقلب كيفاً (لاحظ الأسفار : ١ / ٣١٦ ـ ٣١٨) ولاحظ شرح المنظومة لناظمها : ٢٥ ـ ٢٨ ، تجد تفصيل ذلك كلّه.

٣٠٤

الجواب الأول : للمحقق الدواني (م ٩٠٨ ه‍)

قال إنّ إطلاق الكيف على الصور العلمية للجوهر وسائر المقولات ، إطلاق على المسامحة ، تشبيهاً للأُمور الذهنية بالحقائق الكيفية الخارجية ، وإنّما العلم كيف في مورد واحد ، وهو ما إذا تعلّق بالكيف. وأمّا إذا تعلّق بسائر المقولات ، فبما أنّ العلم متّحد بالذات مع المعلوم ، يكون من مقولة المعلوم فحسب ، فإن كان جوهراً فجوهر ، وإن كان كمّاً فكمٌّ ، وإن كان كيفاً فمن مقولة الكيف. وعلى هذا ، فلا يلزم اندراج شيء واحد تحت مقولتين.

وإلى هذا المذهب يشير صدر المتألهين ناسباً إيّاه إلى بعض معاصري السيد الصدر (١) بقوله : إنّ إطلاق الكيف على العلم والصور النفسانية من باب المجاز والتشبيه(٢).

ويقول عنه الحكيم السّبْزَواري :

وقيل بالتشبيهِ والمسامَحَهْ

تَسْمِيَةٌ بالكيفِ عنهم مُفْصَحَهْ (٣)

وهذا الجواب قابل للتصديق ، ولكن ببيان سيوافيك آخر البحث.

الجواب الثاني : لصدر المتألهين الشيرازي (٩٧٩ ـ ١٠٥٠ ه‍)

إنّ الجوهر الذهني جوهرٌ بحسب ماهيته (٤) ، والكمُّ الذهني كمٌّ كذلك ، ومثلهما سائر المقولات ، ولكنه عَرَض (كيف) بحسب وجوده في الذهن ، فلا منافاة بينهما.

وقد فصَّل قدس‌سره في تقرير مذهبه ، تفصيلاً بالغاً (٥) ، لا يسعنا نقله ، وإنّما نوضحه أولاً ، ثمّ نورد كلام بعض شراح نظريته ثانياً :

__________________

(١) السيد السند صدر الدين الدشتكي ، المتوفى عام ٩٣٠ ه‍.

(٢) الأسفار : ١ / ٣٢٤.

(٣) شرح المنظومة : ٢٨

(٤) أي بالحمل الأَولي ، ومثله الكم الذهني ، وهكذا.

(٥) لاحظ الأسفار : ١ / ٢٧٧ ـ ٢٨٢.

٣٠٥

إنّ الجواب الّذي ذكره صدر المتألهين ، مبني على التفريق بين الحمل الأولي ، والحمل الشائع الصناعي.

والمراد من الأوّل ، وحدة المحمول مع الموضوع مفهوماً ، كالإنسان إنسانٌ ، أو الإنسان حيوان ناطق. فالمقصود أنّ الموضوع نفس المحمول مفهوماً ، ولا نظر إلى خارج المفهوم.

والمراد من الثاني ، هو وحدتهما مصداقاً وخارجاً ، عيناً وتحققاً ، كقولنا : زيد إنسان ، فالوحدة هنا لا تعني الوحدة في المفهوم ، لوضوح مغايرتهما ، بل تعني الوحدة تحققاً ، وأنّ زيداً ، والإنسان ، متحققان بوجود واحد. ومثله : زيد قائم وآكل.

ولأجل اختلاف الحَمْلَين حقيقةً ، يشترط في تحقق التناقض بين قضيتين ، وحدة الحمل فيهما ، ولولاها ربما يجتمع الإيجاب والسلب بلا تناقض (١) ، فيصح أن يقال :

«زيد إنسان».

و «زيد ليس بإنسان».

أما الأوّل ، فبالحمل الشائع الصناعي.

وأمّا الثاني ، فبالحمل الأولي.

إذا اتّضح ذلك ، فعلينا أن نقف على المراد من كون الإنسان الذهني جوهراً ، هل هو جوهر بالحمل الأولي ، أو جوهر بالحمل الشائع الصناعي.

والحق هو الأوّل ، إذ ليس للإنسان الذهني من الجوهرية نصيب إلّا مفهومها ، فإذا قيل بأنّ الإنسان : جوهر ، جسم ، نام ، حساس ... فالمراد أنّ الإنسان الكلّي ، في مقام التحليل ، ينحل إلى تلك المفاهيم ، ولكنه لا يمتلك سوى المفهوم لا الواقعية والعينية. وما له الواقعية والعينية من ذلك الجوهر ، فإنّما هو المصداق الخارجي لذلك الإنسان الكلي ، وهو زيد الفرد الخارجي ، فإنّه هو الجوهر حقيقةً.

__________________

(١) ولذلك أضيفت وحدة الحمل على الوحدات الثمان المشتَرَطَة في تحقق التناقض.

٣٠٦

وإنّما قلنا إنّ الإنسان الكلّي ليس له نصيب من الجوهرية إلّا مفهومها ، لأنّ للجوهر الواقعي الخارجي ، آثاراً ، منها كونه موجوداً لا في موضوع ، والحال أنّ الإنسان الكلّي موجود في الذهن وقائم به ، فكيف يمكن أن يكون مصداقاً للجوهر مع عدم ترتب الأثر عليه؟ وهذا يجرّنا إلى القول بأنّه جوهر من حيث المفهوم فحسب ، أي إذا حلّلناه ينحل إلى مجموعة مفاهيم هي : مفهوم الجوهر ، ومفهوم الجسم ، ومفهوم النامي ... الخ.

ومثل الإنسان الكليّ ، «السواد» الموجود في الذهن ، والسطح الذهني ، فلا حَظَّ للأول من الكيفية إلّا مفهوم الكيف ، ولا حظّ للثاني من الكمية إلّا مفهوم الكم ، بنفس البيان السابق ، فإنّ للكيف والكم الخارجيين آثاراً مفقودة في الذهن.

وعلى ضوء ذلك ينحل الإشكال ، إذ لا مانع من أن يكون الإنسان الذهني جوهراً وكيفاً في الوقت نفسه ، والسطح الذهني كما وكيفاً في الوقت نفسه ، والسواد الذهني كيفاً محسوساً وكيفاً نفسانياً في الوقت نفسه ، وذلك باعتبارين.

فهو بالحمل الأولي من نفس مقولته الخارجية.

وبالحمل الشائع الصناعي كيف نفساني قائم بصقع الذهن.

فلا تناقض في قولنا : الإنسان الذهني جوهر وكيف ، إذ هو جوهر بالحمل الأولي ، وكيف بالحمل الشائع الصناعي.

وبعد أن أوضحنا هذه النظرية ، نذكر كلام بعض من لخّصها من الحكماء :

قال الحكيم السبزواري : إنّ الطبائع الكلية العقلية (كالإنسان) من حيث كليتها ومعقوليتها ، لا تدخل تحت مقولة من المقولات (بالحمل الشائع لا بالحمل الأَولي) ومن حيث وجودها في النفس تدخل تحت مقولة الكيف (١).

إنّ الجوهر ، وإن أُخذ في طبيعة نوعه ، كالإنسان ، وكذا الكم في طبيعة

__________________

(١) فهو جوهر بالحمل الأولي ، وكيف بالحمل الشائع. وفي الحقيقة جوهر مسامحةً ، كيف بالحقيقةِ ، لأنّ الجوهر الحقيقي هو ما تترتب عليه آثاره الخارجية.

٣٠٧

نوعه ، كالسطح ، فقد حدّدا بما اشتمل عليه. وكذلك في بواقي الأجناس والأنواع ، كيفٌ. ولو لم تؤخذ فيها ، لم تكن الأشخاص أيضاً جواهر أو كميات أو غيرهما بالحقيقة وبالحمل الشائع مع أنّها كذلك ، لكنه غير مُجْدٍ ، لأنّ مجرّد أخذ مفهوم جنسيٍّ (الجوهر) في مفهوم نوعي (الإنسان) ، لا يوجب اندراج ذلك النوع في ذلك الجنس ، كاندراج الشخص تحت الطبيعة (زيد إنسان) ، ولا حمله شائعاً عليه ، إذا لم يكن أزيد من صدق ذلك الجنس على نفسه (الجوهر جوهر) ، حيث لا يوجب كونه فرداً من نفسه ، بل الاندراج الموجب لذلك أَنْ يترتب على المندرج آثار تلك الطبيعة المندرج فيها ، كما يقال : السطح كمّ ، متصل ، قارّ ، منقسم في الجهتين. فيكون السطح باعتبار كميته ، بلا انقسام ، وباعتبار اتّصاله ، ذا حدّ مشترك ، وباعتبار قراره ، ذا أجزاء مجتمعة في الوجود. ولكن ترتب الآثار ، مشروط بالوجود العيني ، كما في الشخص الخارجي من السطح. وأمّا طبيعة السطح المعقولة ، فلا تترتب عليها تلك الآثار ، كما لا يخفى. نعم ، مفاهيمها لا تنفك عنها» (١).

وقال العلّامة الطباطبائي في بيان هذه النظرية : «إنّ مجرّد أخذ مفهوم جنسي أو نوعي في حدِّ شيء ، وصدقه عليه ، لا يوجب اندراج ذلك الشيء تحت ذلك الجنس أو النوع ، بل يتوقف الاندراج على ترتب آثار ذلك الجنس أو النوع ، الخارجية ، على ذلك الشيء.

فمجرّد أخذ الجوهر والجسم مثلاً في حدّ الإنسان ـ حيث يقال ؛ الإنسان جوهر جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق ـ لا يوجب اندراجه تحت مقولة الجوهر أو جنس الجسم حتّى يكون موجوداً لا في موضوع ، باعتبار كونه جوهراً ، ويكون بحيث يصحّ أن تفرض فيه الأبعاد الثلاثة باعتبار كونه جسماً ، وهكذا. وكذا مجرّد أخذ الكم والاتّصال في حدّ السطح حيث يقال : السطح كم متصل قار منقسم في جهتين ، لا يوجب اندراجه تحت الكم والمتصل ، مثلاً ، حتّى يكون

__________________

(١) شرح المنظومة ، لناظمها : ٢٩ ، تلخيصاً لكلام صدر المتألهين في الأسفار : ١ / ٢٩٤ ـ ٢٩٨.

٣٠٨

قابلاً للانقسام بذاته ، من جهة أنّه كمّ ، ومشتملاً على الفصل المشترك ، من جهة أنّه متصل ، وهكذا.

ولو كان مجرّد صدق مفهوم على شيء موجباً للاندراج ، لكان كل مفهوم كلّي فرداً لنفسه ، لصدقه بالحمل الأولي على نفسه. فالاندراج يتوقف على ترتّب الآثار ، ومعلوم أنّ ترتب الآثار إنّما يكون في الوجود الخارجي دون الذهني.

فتبيّن أنّ الصورة الذهنية غير مندرجة تحت ما يصدق عليها من المقولات ، لعدم ترتب آثارها عليها. لكن الصورة الذهنية ، إنّما لا تترتب عليها آثار المعلوم الخارجي ، من حيث هي وجود مقيس إلى ما بحذائها من الوجود الخارجي. وأمّا من حيث هي حاصلة للنفس حالاً ، أو ملكةً تطرد عنها الجهل ، فهي وجود خارجي ، موجود للنفس ، ناعت لها ، يصدق عليه حدّ الكيف بالحمل الشائع ، وهو أنّه عرض لا يقبل قسمة ، ولا نسبةً ، لذاته ، فهو مندرج بالذات تحت مقولة الكيف ، وإن لم يكن من جهة كونه وجوداً ، ذهنياً مقيساً إلى الخارج ، داخلاً تحت شيء من المقولات ، لعدم ترتب الآثار ، اللهم إلّا تحت مقولة الكيف بالعرض» (١).

* * *

الجواب الثالث ـ للمحقق السبزواري (١٢١٤ ـ ١٢٨٩ ه‍)

إنّ كلَّ متصوَّر في الذهن ، داخلٌ بالحمل الأولي تحت مقولته ، وإن لم يكن فرداً منه ، ومحمولاً عليه بالحمل الشائع الصناعي. ولكن ليس المتصوَّر فرداً حقيقياً للكيف.

فله ادّعاءان :

الأوّل : إنّ كل متصوَّر داخل تحت مقولته بالحمل الأوّلي. وفي هذا

__________________

(١) بداية الحكمة : ٣١ ـ ٣٢ ، ط المطبعة العلمية. وقد قصدنا اختيار أبسط تعابيره. ولاحظ نهاية الحكمة : ٣٥ ـ ٣٧ ، ط جامعة المدرسين. وقد تبع في توصيف الكيف بالعرض كلام صاحب النظرية في الأسفار : ١ / ٢٩٨. وسيوافيك توضيحه عند بيان الجواب الثالث.

٣٠٩

الادّعاء يوافق صدر المتألهين ، ويخالف المحقق الدواني ، فإنّه كان يُصِرُّ على أنّ الإنسان المتصوَّر جوهر بالذات ، والسطح المتصوَّر ، كمٌّ حقيقيٌّ.

الثاني : إنّ تصور الإنسان في الذهن ، لا يُدخله تحت الكيف ، وتسميته كيفاً ، بالمجاز والمسامحة. وهو في هذا الادّعاء يوافق المحقق الدواني ويفارق صدر المتألهين.

وبما أنّ الادّعاء الأوّل قد ثبت بوضوح ، فلا نكرره. وإنّما الكلام في الثاني ، حيث لا يرضى بتوصيف الوجود الذهني لكل مقولة ، بالكيف. وإليك توضيح نظريته :

إنّ المتصوَّر الذهني ـ عند التحليل ـ ينحل إلى أمرين :

ـ ماهيةٌ من الماهيات ، كالإنسان والسطح.

ـ ظهور هذه الماهية في صقع الذهن وتحققها فيه.

فبما أنّه ماهية ومفهوم ، فهو داخل تحت مقولته بالحمل الأولي ، كما مرّ. وبعبارة ثانية : هو غير داخل في الواقع تحت أيّة مقولة من المقولات ، لأنّ دخول الماهية تحت مقولة حقيقية بمعنى ترتب الأثر عليها ، وما لا يترتب عليه الأثر لا يدخل تحت المقولة الحقيقية ، وقد أَوعزنا إلى ذلك فيما تقدم.

وبما أنّه نوع تحقق لهذا المفهوم في صقع الذهن ، فهو من أقسام الوجود. والوجود ـ بما هو هو ـ سواء أكان وجوداً ذهنياً أم وجوداً خارجياً ، لا يقع تحت أيّة مقولة ، كما هو مقرر في محلّه ، لأنّ الوجود ـ على الإطلاق ـ في مقابل الماهية. وفي مقابل المقولات ، وشأن الوجود ـ ذهنياً كان أم خارجياً ـ إيجاد المقولة وتحقيقها ، فيستحيل أن يدخل تحت مقولة من المقولات.

وعلى ذلك ، فالوجود الذهني ـ على التحقيق ـ ظهورٌ للمقولات لدى النفس ، والظهور وجودٌ ، والوجود لا يدخل تحت المقولة. وأمّا متعلَّقه ، أعني الماهية ، كالإنسان والسطح ، فقد عرفت شأنه.

وبعبارة أُخرى : كما أنّ الوجود العيني المنبسط ـ المصطلح عليه في العرفان بفيض الله المقدَّس ـ منبسط على الجوهر والعرض ، ولكنه ليس بجوهر ولا

٣١٠

عَرَض ، فهكذا الوجود الذهني ـ وهو إشراق النفس المنبسط على كل الماهيات المعلومة لها ـ ليس بجوهر ولا عَرَض. فليس هو كيفاً ، ولا الماهيات المنبسط عليها إشراق النفس ، كيفيّات وبالتالي ليس العلم ولا المعلومات ، كيفاً (١).

ونضيف تأييداً لهذا المذهب ، أنَّ كلَّ ما لا يختص بمقولة واحدة ، بل يتعلَّق بأكثر من مقولة ، لا يدخل تحت مقولة. ولذلك يكون الوجود الذهني ، والوجود الخارجي ، والوحدة ـ الّتي هي مساوقة للوجود الصرف ـ أُموراً فوق المقولات ، بل المقولات تكون متحققة بها. هذا.

وإنَّ الوجود ، وإن كان فوق المقولات ، ولكنه ، في كل مقولة ، نفس تلك المقولة. فالوجود الخارجي مع الجوهر جوهرٌ ، ومع الكيف كيف ، ومع الكم كمٌّ.

يقول الحكيم السَّبْزَواري ، صاحب هذه النظرية :

ليس الوجود جوهراً ولا عَرَضْ

عند اعتبار ذاته بل بالعَرَضْ (٢)

نعم ، هذا يختصّ بالوجود الخارجي ، فهو الّذي يتصبّغ بصبغة المتعلَّق ، فيكون مع الجوهر جوهراً ، ومع العرض عَرَضاً ، لأنّ الجوهرية والعرضية تتحققان في ظل الوجود الخارجي ، فالوجود يخرج الماهيات من كتم العدم إلى ساحة التحقُّق والعَيْنية ، وبالتالي يَنْصَبغُ بصبغتها ، ويتلوَّن بلونها.

وأمّا الوجود الذهني ، فبما أنّ أيّاً من الجوهريّة والعَرَضية ، بمعناه الحقيقي ، لا يتجسد به ، فلا يكون في متعلقاته جوهراً ولا عرضاً ، بل يبقى وجوداً صرفاً ، وإشراقاً من النفس على المفاهيم ، لإظهارها في تلك النشأة فيصح أن يقال إنّها ليست بكيف فيما إذا تعلقت بالكيف ، ولا بكمّ إذا تعلقت به ، وهكذا. وتسميتها بالكيف ، بالمجاز والمسامحة ، تشبيهاً لقيامها بعلتها (النفس) بقيام الأعراض بموضوعاتها ، ولعلّه لذلك ربما جاء في بعض الكلمات تسميتها ب «الكيف بالعَرَض» (٣).

__________________

(١) شرح المنظومة : لناظمها ـ صاحب النظرية : ٣١ ـ ٣٢ ، بتوضيح منّا.

(٢) المنظومة : ٣٦

(٣) وفي كلام صدر المتألهين نوع إيحاء إلى هذا الجواب ، والله العالم. لاحظ الأسفار : ١ / ٢٩٨.

٣١١
٣١٢

الفصل الحادي عشر

شرائط

المعرفة وموانعها

٣١٣
٣١٤

الفصل الحادي عشر

شرائط المعرفة وموانعها

المعرفة ظاهرة روحية لا تختلف عن سائر الظواهر الروحية. وبما أنّها ظاهرة ممكنة ، فلا بُدّ لها من سبب وشرط ومانع ، شأن سائر الظواهر الإمكانية.

سبب المعرفة

سبب المعرفة هو أدوات المعرفة الّتي تستخدمها النفس الإنسانية ، عبر الاتّصال بالمحيط الخارجي ، ليحصل لها بذلك معرفة الأشياء وإدراك الحقائق.

شرائط المعرفة

من المعلوم أنّ الإدراك لا يتهيّأ للنفس في جميع الظروف ، بل لا بدّ من توفّر شروط في النفس ذاتها ، فضلاً عن أدوات المعرفة ، ليتحقق الإدراك.

أمّا ما ينبغي توفّره في النفس وفي أدوات المعرفة عامةً لإدراك الضروريات ، فضلاً عن النظريات ، فيمكن تلخيصه في الأُمور التالية.

١. الانتباه ، فإنّ الغافل قد تخفى عليه أوضح الواضحات.

٢. سلامة الذهن ، فإنّ كلّ من كان سقيم الذهن قد يشكّ في أظهر الأُمور أو لا يفهمها. وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي ، أو مرض عارض ، أو تربية فاسدة.

٣١٥

٣. سلامة الحواس ، وهذا خاص بالمشاهدات الحسيّة ، فإنّ الأعمى يفقد العلم بالمبصرات ، والأصم بالمسموعات ، وفاقد الذائقة والشامّة واللامسة ، بالمذوقات والمشمومات والملموسات.

وأمّا الأدوات العقلية للمعرفة ، فإنّ حصول المعرفة بها والاستنتاج منها ، يتوقف على شروط.

مثلاً : إنّ كثيراً من الأخطاء الّتي تظهر في المعارف المستندة إلى إعمال الأدوات العقلية ، تستند إلى عدم رعاية شروط الاستنتاج. حتّى التجربة (١) ، فإنّها لا تكون منتجة إلّا إذا بلغت أعداد التجارب حدّاً يذعن معه العقل بأنّ هذا الأثر المتكرر حصوله في جميع التجارب ، مستند إلى ذات الشيء ، بلا مدخلية لزمان التجربة ومكانها ومحيطها ومجرّبها. ومن المعلوم أنّ تحصيل هذه النتيجة القطعية رهن عمليات كثيرة وجهود شاقّة. لكن الكثيرين من البسطاء يكتفون بتجارب محدودة ، ويستنتجون منها أحكاماً عامّة ، ولكنهم ما أسرع ما يفاجئون بخطئها.

فإذا كان هذا هو الحال في التجربة ، المزيجة من حسّ وعقل ، فالأدوات العقلية المحضة أولى برعاية شرائط انتاجها في صورها أولاً ، وموادّها ثانياً.

أمّا الصورة فيراعى فيها الشرائط اللازمة في صحة الإنتاج دائماً ، المذكورة في علم المنطق ، سواء في ذلك الشرائط العامة كتكرر الحدّ الأوسط ، أو الخاصة بكل شكل من الأشكال الأربعة ، كإيجاب الصغرى وكليّة الكبرى في الشكل الأول (٢).

__________________

(١) وقد مرّ عليك أنّ التجربة يتراءى أنّها أداة حسية في حين أنّها لا تكون منتجة ما لم ينضم إليها حكم عقلي.

(٢) للقياس ـ من حيث الصورة ـ شرائط عامة وأخرى خاصة.

أمّا الشرائط العامة فهي : ١. تكرر الحدّ الأوسط.

٢. إيجاب إحدى المقدمتين ، فلا إنتاج من سالبتين.

٣. كلية إحدى المقدمتين ، فلا إنتاج من جزئيتين.

٤. أنْ لا يتألف من صغرى سالبة وكبرى جزئية.

وأمّا الشرائط الخاصة : فيشترط في الشكل الأول : ١. إيجاب الصغرى.

٢. كلية الكبرى.

٣١٦

مثلاً : تقول : «زيد إنسان» ، ثمّ تقول : «والإنسان نوع» ، فتستنتج : «زيد نوع». ولا شكّ أنّ النتيجة خاطئة ، لعُقم صورة القياس لأنّه من الشكل الأَول ، ويشترط فيه كلية كبراه ، ومن المعلوم أنّ القول بأنّ كلَّ إنسان نوع غلط (٣).

وأمّا المادة ، فتراعى فيها أيضاً شروطها الّتي تختلف باختلاف أنواع القياس :

فالقياس البرهاني يجب أن يكون مستمداً من اليقينيات ، لأنّ الهدف منه هو تحصيل الإيمان والإذعان بالواقع ، سواء أكان هناك منكِر أم لا ، ومثل ذلك لا يتألّف إلّا ممّا ذكرنا(١).

والقياس الجَدَلي يجب أن يؤلف من المشهورات والمسلّمات ، بل يمكن تخصيص الجدل بالثاني ، أي ما هو مسلّم عند الخصم ، فإنّ الهدف منه هو إقناع الخصم وإفحامه ، وهو لا يخضع إلّا لما كان مسلّماً عنده وربما يرفض ما تطابقت عليه آراء غيره.

والقياس الخطابي يجب أن يؤلف من المقبولات والمظنونات : والمراد من المقبولات : القضايا الّتي تؤخذ عمن يعتقد بصحة قوله ، كالحكماء والخبراء. والمراد من المظنونات : القضايا الّتي يحكم بها العقل حكماً راجحاً غير جازم. وبما أنّ الهدف من القياس الخطابي إرشاد العامة ، فيستمد الخطيب من التمثيل والاستقراء. مثلاً يقول : الظالمون قصار الأعمار ، أما رأيتم أنّ فلاناً الظالم وفلاناً وفلاناً ، ماتوا في عنفوان شبابهم.

__________________

ويشترط في الشكل الثاني : ١. كلية الكبرى.

٢. اختلاف المقدمتين في السلب والإيجاب.

ويشترط في الشكل الثالث : ١. إيجاب الصغرى.

٢. كلية إحدى المقدمتين.

ويشترط في الشكل الرابع : ١. أن لا تكون إحدى مقدماته سالبة جزئية.

٢. كلية الصغرى إذا كانت المقدمتان موجبتين.

(١) ويمكن أن يقال بأنّ الحدّ الأوسط لم يتكرر بعينه ، فإنّ الإنسان المحمول في الصغرى يراد منه مصداق الإنسان (بالحمل الشائع) والإنسان الموضوع في الكبرى يراد منه مفهوم الإنسان (بالحمل الأولي) فلم يتكرر بعينه.

(٢) عُرّف البرهان بأنّه قياس مؤلف من قضايا ، ينتج يقيناً بالذات اضطراراً.

٣١٧

فلا بدّ إذن من رعاية شرائط مادة كل قياس. وقد مضى أنّ المعرفة ، كما تصدق على المعرفة اليقينية ، تصدق على المعرفة الظنية أيضاً ، على تأملٍ كما سبق. وهذه الأقيسة الثلاثة مشتملة على المعرفة : إمّا يقيناً للمستدلّ ، أو يقيناً عند من يحتج عليه ، أو ظناً عند المخاطب.

وأمّا القياس الشعري ، فلا يفيد معرفة ، لأنّ الغرض من الشعر ليس سوى التأثير على النفوس لإثارة عواطفها ، من سرور وابتهاج أو حزن وتألم ، أو إقدام وشجاعة أو غضب وحقد أو خوف وجبن ، أو تهويل أمر وتعظيمه أو تحقير شيء وتوهينه ، أو نحو ذلك من انفعالات النفس ، باستخدام الأوزان الشعرية لما فيها من نغمة تلهب الشعور وتحفزه.

وهكذا قياس المغالطة ، لا يفيد معرفة ، فإنّ الهدف منها تعمّد تغليط الغير. نعم ، قد تقع عن قصد صحيح لمصلحة محمودة ، مثل اختباره وامتحان معرفته ، فتسمّى امتحاناً أو مدافعةً ؛ أو تعجيزه إذا كان مبطلاً مصرّاً على باطله ، فتسمّى عناداً. ومع ذلك ، فالرجل المغالط يجب أن يراعي شرائط المغالطة حتّى تترتب عليه النتيجة المرجوة.

إلى هنا تمّ بيان شروط المعرفة ، بياناً خاطفاً وعلى وجه الإجمال.

موانع المعرفة

موانع المعرفة على قسمين :

ـ موانع خارجية لا صلة لها بمتون الأقْيِسَة والاستدلالات.

ـ وموانع داخلية مرتبطة بها.

١ ـ الموانع الخارجية للمعرفة

الموانع الخارجية ، وقد نسميها موانع روحية ، تتلخص بالتحلّي بالفضائل ، والاجتناب عن الرذائل الخلقية الّتي تكون حائلاً بين الإنسان ورؤية الواقع. فإنّ الإنسان العاشق للحقيقة ، المتحري لها ، يتعرف عليها بسهولة ، إذ ليس بينه

٣١٨

وبينها حجاب. ولنذكر بعضاً من أبرز تلك الخصال الصادّة عن معرفة الحقائق ودركها ، وكثير من الخصال الأُخرى تندرج تحتها.

أ ـ الكِبْر : وهي حالة أو مَلَكَة في الإنسان تضفي على صاحبها روح الأنانية والغَطْرَسة ، والشعور بالاستعلاء والتفوّق على الغير : فالحقُّ ما يراه هو حقّاً ، والباطل ما يراه هو باطلاً.

فإذا نظر الإنسان المتكبّر إلى الأقيسة والأدلة ، خصوصاً إذا وجدها في كلام من ينافسه أو يعانده أو يراه أنزل درجة منه ، لا تخضع نفسه لمضامينها ونتائجها ، ويتسرّع في ردّها ونقدها ولو على وجه فاشل.

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر إلّا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك ، قلّ ذلك أو كثر» (١).

ب ـ العصبية ، واتّباع الأَهواء القَبَلية والقومية والعرقية وما شاكل ، فإنّها من أعظم سدود المعرفة وموانعها ، وهي الّتي منعت الأُمم عبر التاريخ من الخضوع لبراهين أنبياء الله ورسله ، الواضحة القاطعة ، كما يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٢).

ج ـ اتّخاذ المواقف والآراء المسبقة بلا دليل وبرهان : فإنّ من بنى لنفسه رأياً مسبقاً ـ أيّاً كان مصدره ـ مهما سيقت أمامه البراهين والحجج ، لن يراها مقنعة ، إلّا إذا كان رجلاً موضوعياً منصفاً ، يحترم الحقَّ أزيد من نفسه وآرائه وعقيدته.

د ـ الغرور العلمي : وهو داء يصيب المجتمعات فيلقي حجاباً على قلوب أبنائها ويصدّهم عن رؤية الواقع والحقيقة ، وقد تفشّى هذا الداء في الغرب في أعقاب نهضته الصناعية وألقى بهم في مهاوي الإلحاد. ونحن نكتفي بنموذج واحد من هذا الغرور العلمي والعاقبة الوخيمة الّتي انجرّ إليها : «وما عشت أراك الدهر عجباً».

__________________

(١) سفينة البحار : ٢ / ٤٦٠ ، مادة كبر.

(٢) الزخرف : ٢٣.

٣١٩

لقد تركت الفلسفة الديالكتيكية الّتي أَسسها «ماركس» وزميله «أنجلز» ، صدى عظيماً في البلاد الغربية (١) ، وتلقفها الجامعيون تلامذة وأساتذة ، وكأنّها وحي أوحي إليهما ، وما كان ذلك إلّا لانغرارهم بما توصّلوا إليه من علوم ، حتّى حسبوا أنّ الحقيقة كلَّها فيما وصلوا إليه ، ولا شيء بعده ، فاستهزءوا بالدين ورجالاته ، ومبادئه وقيمه. وقد ضلّ غِبّ هذه النظرية خَلْق كثير ، وجَمٌّ غفير من شعوب الدنيا.

ولكن الزمان لم يمهلهم ، وإذْ بدائرته تدور عليهم ، وترغم أنوف غطرستهم ، فها قد سقط الحجاب عن وجه الماركسية ، وظهر لناظري أهل الدنيا فشلها الذريع فلسفياً وسياسياً واقتصادياً ، وغدت في متاحف التاريخ ومن مخلّفات الماضي ، بل أضحى أبناؤها يهرولون ذات اليمين وذات الشمال وهم يتبرءون منها ، ويَرْحَضون عن أنفسهم عارها (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢).

فهذا النموذج مثال ساطع لعاقبة الغرور العلمي ، وعاقبة الإلحاد والخروج عن دائرة الربوبية. وعلى طلّاب الحقيقة دراسة هذه الظاهرة ، والتدبّر فيها من كافة جوانبها ، والتأمّل في العاقبة الّتي آلت إليها ، ليتجنّبوا تكررها ثانية في التاريخ.

ه ـ التأثّر بالشخصيات المرموقة : لا شك أنّ للشخصية الاجتماعية

__________________

(١) نريد بها ما وراء العالم الإسلامي.

(٢) الحشر : ٢.

ومن عجائب الأُمور ما قرره البرلمان السوفياتي يوم ١٥ شعبان ١٤١٠ ه‍ ـ يوم ولادة الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ من إلغاء دور الحزب الشيوعي في حكم البلاد ، وإلغاء الملكية العامة للدولة وإطلاق المجال للملكيات الخاصة ، وإقامة نظام رئاسي مكان النظام السابق يكون للشعب فيه حرية انتخاب رئيسه. وقد اعتبره المؤرخون سقوطاً للشيوعية في مهدها ، ونحن تفألنا بذلك في ذلك اليوم : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (الإسراء : ٨١).

ومن جملة اعترافات زعماء الشيوعية بأخطائهم ، اعتراف «غورباتشوف» ، زعيم الحزب الشيوعي السوفياتي ، في لقائه ل «البابا» يوحنا بولس السادس ، أنّ من أكبر أخطاء الشيوعيين كانت مكافحتهم للمذاهب ورجال الدين ، وأنّ عليهم أن يستعينوا بهم من الآن فصاعداً في إعمار البلاد!!.

٣٢٠