نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

٤ ـ البراهين العقلية

إنّ التعرّف على الموضوعات الغيبية ، كما يحصل بما ذكرنا من التقريبات ، يحصل بالبراهين العقلية القطعية التي تكشف عن وجود عَيْب مسلط على عالم الحضور والشهادة.

إنّ الشاك في عالم الغيب أو المنكر له ، لو فتح آذان عقله ، وأصغى إليها ، لأدرك أنّ عالم الغيب ليس بعيداً عن مرمى المعرفة. ولكنه لمّا ركز جهوده على التجربة ـ كما سيأتي ـ وأهمل الإمعان في هذه البراهين العقلية ، أنكر الغيب ، أو شكّ فيه ، أو حكم بتعذّر معرفة موضوعاته على فرض وجوده.

ونحن نذكر هنا رءوس بعضٍ من الأدلة التي استند إليها الإلهيون في الاستدلال على وجود عالم غيبي ، وسنفصل بعضها في بحث إثبات الصانع :

أ ـ برهان النظم

يبتني هذا البرهان أساساً على دلالة النظام الدقيق الموجود في الكون ، على وجود مبدع عظيم أبدعه ، بحكم عقلي بوجود رابطة منطقية بين النظم ودخالة الشعور ، وأنّ من الممتنع أن يكون النظم البديع وليد الصدفة أو خصوصيةٍ في المادة.

__________________

ـ ذكر سببها مبني على ذكر مقدّمتين :

إحداهما أنّ جميع الأُمور الكائنة في العالم ممّا كان وممّا سيكون وممّا هو كائن ، موجود في علم الباري ، والملائكة العقلية ، والنفوس السماوية.

وثانيتهما أنّ النفوس الناطقة من شأنها أن تتصل بتلك المبادئ وتنتقش فيها الصور المنتقشة في تلك المبادئ ، وإنّ عدم حصول تلك الصور ليس للبخل من جهة تلك المبادئ ، أو لعدم كون النفس قابلة لتلك الصور ، بل لأجل أن انغماس النفس في البدن ، صار مانعاً من ذلك الاتّصال التام. إنّ النفس إذا حصل لها أدنى فراغ من تدبير البدن ، اتّصلت بطباعها بالمبادئ ، فينطبع فيها من الصور الحاصلة عند تلك المبادئ ما هو أليق بتلك الأنفس وأولى الأمور بها ، ما يتصل بذلك الإنسان أو بأصحابه وأهل بلده وإقليمه. فإن كان الإنسان منجذب الهمّة إلى المعقولات ، لاحت له أشياء ، وما كانت همته في مصالح الناس رآها.

ثمّ أخذ بالكلام في التصرفات الّتي تطرأ على المنامات من جانب القوة المتخيلة.

لاحظ : المباحث المشرقية : ٢ / ٤٢١.

٢٦١

وهذا البرهان من قبيل الاستدلال بالأثر على المؤثر ، وهو استدلال رائج في العلوم ، وعليه ارتفع صرح العلم في الحضارة الحديثة.

في حين أنّ العلماء الطبيعيين يقصرون جهودهم على الطبيعة نفسها ، من دون تعد إلى سواها ، ترى الأنبياء والإلهيين ينتقلون من مطالعة عالم الظاهر بأسره ، والآيات الطبيعية والكونية بمجموعها ، إلى عالم الباطن وما وراء الطبيعة ، مستدلّين بالآيات على ذيها ، وبالآثار على مؤثّرها ، وبالنظم السائد عليها ، على دخالة علة شاعرة عالمة ليخلُصوا من ذلك إلى وجود قوّة غيبية أوجدت العالم ودبّرته بالسنن والنواميس.

فعالم الوجود متشكل من عالمي شهود وغيب ، وقد تبيّن للإنسان جزء من ذلك العالم المشهود عن طريق التجربة وغيرها ، وأمّا العوالم الغيبية ، فهي مغمورة تحت عالم الشهود ، والطريق إليها هو بالتدبر في الظاهر المشهود والعبور منه إلى الباطن : الإمعان في الجسم والتجاوز منه إلى الروح ، ومطالعة مجموع الكون والانتقال منه إلى وجود خالق مدبر ...

ب ـ برهان الإمكان

يبتني هذا البرهان على تقسيم المعقول إلى الواجب والممكن والممتنع ، وهو من التقسيمات العقلية الواضحة.

والممكن هو ما يحتاج في وجوده إلى علّة تخرجه من العدم إلى الوجود ، فهذا العالم الإمكاني يكشف عن وجود علّة أوجدته.

ثمّ يدور أمر تعيين هذه العلة بين عدّة فروض أكثرها باطل لأدائه إمّا إلى الدور أو إلى التسلسل الباطلين ، ويتعيّن منها انتهاء عالم الإمكان إلى علة فوقه ، واجبة الوجود ، هي الّتي أوجدته.

ج ـ حدوث المادة

أثبتت العلوم الطبيعية والبراهين الفلسفية أنّ وجود المادة حادث غير قديم ،

٢٦٢

وأنّ للمادة بداية كما لها نهاية. ومن المعلوم أنّ الحدوث لا ينفك عن محدث ، تبعاً لقانون العلية والمعلولية ، فما هو المحدث للمادة؟ إنّه شيء غير المادة قطعاً ، فهو شيء غيبي محيط بالمادة ، وخصوصياتها(١).

د ـ برهان الصدّيقين

هذا البرهان يختلف عمّا تقدم من البراهين اختلافاً جوهرياً. فإنّ ما سبق من البراهين، يشترك في توسيط الخلق بين الإنسان والغيب. ولكن هذا البرهان لا واسطة فيه ، وإنّما يتوجه مباشرة إلى مطالعة الوجود ـ بما هو وجود ـ ليصل في النتيجة إلى أن هناك وجوداً واجباً ، ينبع وجوده من ذاته.

وإنّما اختصّ العرفاء به ، من بين سائر البراهين ، لأنّهم قالوا : إنّ وجوده سبحانه أجلى من أن يستدلّ عليه بشيء من الممكنات والمخلوقات ، فلا حاجة إلى شيء من هذه الوسائط ، وقد قرروه بوجوه مختلفة تلاحظ في محلّها(٢).

وفي بعض كلمات أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أشار إلى هذا النوع من الاستدلال :

ـ يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في دعاء الصباح : «يا من دلّ على ذاته بذاته» (٣).

ـ يقول الإمام الشهيد الحسين بن علي عليهما‌السلام في مناجاته يوم عرفة :

«كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!

__________________

(١) سيأتي في البحث في هذه البراهين الثلاثة بإسهاب في «الإلهيات» ، فصل إثبات الصانع.

(٢) قد قرر هذا البرهان بوجوه : الأوّل ـ ما أشار إليه الشيخ الرئيس وهو معروف بالتقرير السينوي ، لاحظ شرح الإشارات : ٣ / ١٨ و ٦٦. الثاني ـ ما أشار إليه صدر المتألهين والمعروف بالتقرير الصدرائي ، لاحظ الأسفار : ٦ / ١٣ ـ ١٦. الثالث ـ ما ذكره الحكيم السبزواري في تعاليقه على الأسفار ، لاحظ الموضع المذكور. الرابع ـ ما اعتمد عليه المؤسس العلامة الطباطبائي في تعاليقه على الأسفار (الموضع السابق) وأصول الفلسفة ، ج ٥.

(٣) بحار الأنوار : ١٨ / ٤٨٦ الباب ٦٦ ، الطبعة الحجرية.

٢٦٣

أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاجَ إلى دليل يدلّ عليك؟!

ومتى بَعُدتَ حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك؟!».

ثمّ يقول عليه‌السلام في آخر هذه المناجاة الشريفة الجليلة :

«يا من تجلّى بكمال بهائه ... كيف تخفى وأنت الظاهر؟!

أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر؟!» (١).

هذه البراهين العقلية ـ وغيرها ـ تأخذ يد المتحرّي للحقيقة وتوصله إلى عالم الغيب إيصالاً عقليّاً وعلمياً ، إلى حدٍّ يصير ذهن الحكيم المتأله ، عالماً علمياً مضاهياً للعالم الواقعي. فمن قَصَّر النظر عن هذه الأدلة ، وخصّه بالتجربة ونحوها ، فلا يلومَنّ إلّا نفسه.

وها قد آن الأوان لنميط اللثام عمّا أردناه ، فنقول :

إنّ العقل الباطن الّذي اكتشفه فرويد ونظراؤه ، من العقل الظاهر ، وبنوا عليه نظريات علم النفس الحديث ، هل يمكن أن يقع في إطار التجربة مباشرة ، وهل يمكن رؤيته تحت المجهر أو إدخاله في أنابيب الاختبار ، أو طرحه على مناضد التشريح؟ ، قطعاً لا. فلما ذا إذن لا ينكرون على فرويد وأمثاله هذا النوع من الأبحاث ، وينكرون علينا استكشافنا عالم الغيب من عالم الشهود؟!.

ومثل ذلك يقال في ما ذكرنا من أنّ الإنسان يستكشف من توارد النسب على شيء واحد ، ونسبة كل شيء إليه حتّى عمليات الأعضاء : جوارحها وجوانحها ، يستكشف وجود جوهر مجرّد ، عالٍ عن المادة وشوائبها.

وكذلك الرؤى الصادقة الّتي تنبئ عن الحوادث قبل وقوعها.

وكذلك غيره ممّا هو شائع في العلوم الطبيعية ، مثل ما حصل في اكتشاف الكوكب السيّار «نبتون» (٢) ، فإنّ جميع ذلك يدلّ على أنّ الاطّلاع على الغيب ،

__________________

(١) الإقبال ، لابن طاوس (المتوفّى عام ٦٦٤ ه‍) : ٣٣٩.

(٢) سنستعرض هذه الواقعة وواقعة أُخرى في ملحق خاص آخر الكتاب ، لاحظ الملحق رقم (٢).

٢٦٤

أي الخارج عن الحسّ ، ليس أمراً محالاً ، بل أمر واقعي موضوعي ، معتَمَدٌ في جميع أبواب العلوم.

وقد حان الآن وقت البحث عن الحوافز الّتي دفعت بعض العلماء الطبيعيين إلى تخصيص المعرفة بالأُمور المحسوسة أو المادية ، وإخراج ما وراء الطبيعة من جدول موضوعات المعرفة.

* * *

دوافع إخراج العوالم الغيبية عن إطار المعرفة

كانت النظرية السائدة بين العلماء الواقعيين الموضوعيين ، أنّ حدود المعرفة لا تنحصر بالمحسوسات والماديات ، بل تعمّها وغيرها ، وأنَّ الإنسان بما أُوتي من أدوات كثيرة للمعرفة ، يستطيع أن يتعرّف على عالم الغيب من طرق علمية أو فلسفية أو عن طريق الكشف والشهود ، كلٌّ بما أعطي من موهبة.

ولما جاءت الحضارة الصناعية ، وأوجدت ما أوجدت من رجّةٍ كبرى في المحافل العلمية ، صار بعض المتقولين في العلوم المادية إلى تبنّي نظرية أُخرى ، وهي أنّ ما وراء الطبيعة خارج عن حدود المعرفة ، لا يتعلق به العلم. بل ربما تجاوزوا هذا الحدّ وقالوا إنّ المعرفة إنّما تتعلّق بظواهر المادة فحسب ، لا بها نفسها.

وقد كانت الدوافع النفسية إلى تبنّي هذه النظرية أُموراً نذكر منها ما يلي :

الدافع الأوّل : تخصيص أداة المعرفة بالتجربة وما يضاهيها

تطرّف بعض الطبيعيين ـ من عصر بيكون فما بعده ـ في التجربة ، فزعموا أنّها الأداة الوحيدة للتعرّف على الحقائق ، وأنّ ما لا يقع في إطار التجربة ، فهو إمّا معدوم ليس بموجود ، أو يستحيل التعرّف عليه. ولأجل ذلك شطبوا على جملة المعارف الإلهية ، والعوالم الغيبية ـ حتّى عالم الأرواح ـ بخطّ عريض قائلين بأنّا لا نرى أثراً لتلك الموجودات تحت أجهزة الاختبار.

٢٦٥

وكانت النتيجة أن نحا بعض الغربيين منحى مأساوياً ، إذ اعتقدوا مساواة الوجود للمادة في مقام الإثبات ، فكل موصوف بالوجود معناه أنّه موجود مادي ، ولا شيء سوى ذلك.

التحليل : إنّا لا ننكر على التجربة فضلها العظيم على الإنسانية ، ومدى خدمتها في ميادين العلم ، وإنّما نريد أنْ يَفْهَمَ هؤلاء التجربيون أنّ التجربة ليست هي المقياس المنحصر للأفكار والمعارف أولاً ، وأنّ التجربة بذاتها محتاجة إلى مقياس عقلي حتّى يتوسع حكمها على ما لم يجرّب ثانياً ، وإليك البيان :

أ ـ إنّ لجهاز التجربة حقّ الإثبات لا حقّ النفي. فلو رأينا بالتجربة أثراً من الشيء ، نستكشف أنّه موجود. وأمّا إذا لم نر منه أثراً ، فليس لنا حقّ نفي وجوده ، وذلك لأنّ التجربة إنّما يصحّ لها أن تحكم بالنفي والإثبات في موضوع يناسبها ويقع في إطارها. وأمّا الأشياء الروحانية ، الخارجة عن إطار المادة ـ على الفرض ـ فليس لجهاز التجربة نفيها ، إذ لو كانت موجودة لما أمكنها الدخول تحت أجهزة التجربة المخبرية.

فهذه الأجهزة المادية الضيقة ، إنّما يمكنها القضاء في الأمور المادية ، دون الخارج عنها ، فإنّها عاجزة عنها.

ب ـ إنّ التجربة بنفسها ، لا تعطي اليقين والجزم ، فإنّها لا تزيد عن إجراء عملية على موضوعات خاصة ، فمن أين لها إسراء الحكم على جميع أفراد طبيعة واحدة؟ ، ولا مناص في ذلك ، من ضم حكم عقلي إلى هذه العملية حتّى يستنتج المجرّب حكماً عاماً ، دائماً ، سائداً على ما سبق ، وظرفِ الحكم ، وما يأتي. ولذلك عند ما وقف «جان استوارت ميل» على هذا الإشكال ، ذهب إلى أنّ التجربة والاستقراء مبنيان على أصل مسلّم عند جميع العلماء ، وهو أنّ الطبيعة ـ في كل زمان ومكان ـ متحدة الحقيقة والوظيفة والأثر. ولأجل ذلك إذا أجرينا التجربة في مكان وزمان خاصّين ، صحّ تطبيق الحكم المستنتج على ما لم نره من مصاديق الطبيعة (١).

__________________

(١) الفلسفة العلمية : ١١٠.

٢٦٦

ولكن لسائل أن يسأل : من أين وقف هؤلاء الأقطاب على أنّ الطبيعة متحدة الحقيقة والوظيفة. فالمعدن الخاص إذا انبسط في ظروف خاصة ، وجب أن نحكم على جميع أفراد نوعه الأُخرى بالانبساط في مثل تلك الظروف؟

وقد سبق أنْ ذكرنا أنّ هذا حكم عقلي اعتمد عليه هؤلاء ، وهو أنّ المتماثلين يمتنع أن يختلفا حكماً ، وبعبارة أُخرى : حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

كما ذكرنا أنّ كثيراً من المعارف الحسيّة ممتزجة بمعرفة عقلية ، غير أنّ الإنسان المتسامح يتوجه إلى الجوانب الحسيّة ويغفل عن الجانب العقلي ، فلاحظ.

الدافع الثاني ـ تأثير الفلسفة الوضعية

لقد كان للفلسفة الوضعية ، الّتي أَسّسها أُوغست كانت (١) (١٧٩٨ ـ ١٨٥٧ م) ، تأثير كبير في إخراج العوالم الغيبية عن إطار المعرفة ، فإنّها تتبنى أصلاً خاصاً لا يضفي الواقعية إلّا على ما له صورة ومعطيات حسيّة في الخارج ، وإليك فيما يلي تقريره.

إنّ الفلسفة الوضعية ترفض النظر في أصل الأشياء بحجة أنّ هذا الأمر يتجاوز نطاق المشاهدة والتجربة ، ولأجل ذلك أُتهمت بالإلحاد والمادية.

إنّ الخاصية الأساسية للفلسفة الوضعية هي النظر إلى كل الظواهر على أنّها خاضعة لقوانين طبيعية ثابتة ، في الوقت الّذي تعتبر البحث عمّا يسمى بالعلل (٢)

__________________

(١)etnoC etsuguA. مؤسس الفلسفة الوضعية ، والمؤسس الحديث لعلم الاجتماع. ولد عام ١٧٩٨ في مونبيليه (جنوب فرنسا) ، تخصص في الهندسة. وفي سنة ١٨٢٦ بدأ بإلقاء محاضرات في كلية الهندسة ، عرض فيها مذهبه الوضعي ، كان يحضرها عدد كبير من رجال العلم. وفي أثنائها كان يطبع ما يفرغ من تأليفه منها ، فظهرت في المدة من سنة ١٨٣٠ إلى ١٨٤٢ تحت عنوان «محاضرات في الفلسفة الوضعية» ، وهي أعظم أعماله العلمية. عشق امرأة متزوجة وهام فيها هياماً بالغاً. أثر على نفسياته وآرائه الفلسفية والاجتماعية!! (وهكذا شأن كثير من الفلاسفة الغربيين ، كما يقف عليه المتتبع لسيرهم) وأحدثت فيه لوناً من الاختلال النفسي. توفي في ٥ أيلول سنة ١٨٥٧ ودفن في باريس.

(٢)sesuaC.

٢٦٧

الأُولى أو النهائية ، أمراً غير مقبول ، وخال من كل معنى.

وقد سعت هذه الفلسفة لردّ ما أُلصق بها من إلحاد ومادية ، ولكن سعيها كان فاشلاً ، لأنّها ترى أنّه لا يمكن إثبات أحد المذهبين : المادية والميتافيزيقية ، عن طريق المشاهدة ، وأقصى ما عندها أنّ افتراض إرادة عاقلة (الله) هو أمر أكثر معقولية من الإلحاد ، لكن ليس لديها دليل على كلا الموقفين الديني والإلحادي (١).

وعلى ضوء هذه المعاني الفلسفية ، يقول الوضعيون : إنّ القضايا المتصوّرة على قسمين :

قضايا لها معطيات حسيّة في الخارج ، تمكّن من الحكم بصدقها أو كذبها. فلو قيل : «الفلز يتمدد بالحرارة» ، أو قيل : «لا يتمدد» ، فإنّ هناك واقعية خارجية يمكن أن تكون ملاكاً للقضاء على القضية بالصدق أو الكذب. ومثل هذه القضايا يقع في إطار المعرفة ، إذ هناك شيء يمكن أن يكون مقياساً لصدق كل قضية أو كذبها.

وقضايا فاقدة لأيّة صورة في العالم الخارجي تحدد صدقها أو كذبها. «وهذا كما إذا قلنا : (إنّ للتفاحة جوهراً هو التفاحة في ذاتها ، وهو فوق ما نحسّه منها بالبصر واللمس والذوق). فإنّك لن تجد فرقاً في الواقع الخارجي بين أن تصدق هذه العبارة أو تكذب ، بدليل أنّك إذا تصورت التفاحة مذعناً بوجود جوهر لها غير ما تدركه منها بحواسك. ثمّ تصورتها في حال عدم وجود هذا الجوهر ، لم تر فرقاً بين الصورتين ، لأنّك لا تجد في كلتا الصورتين إلّا المعطيات الحسيّة من اللون والرائحة والنعومة.

وما دمنا لم نجد ـ في الصورة الّتي رسمناها لحال الصدق ـ شيئاً يميزها عن الصورة الّتي رسمناها لحال الكذب ، فالقضية الفلسفية كلام فارغ ، لا يفيد خبراً عن العالم» (٢).

__________________

(١) وقد حاول أوغست كانت تطبيق منهج هذه الفلسفة على علم الاجتماع في عصره وقد كانت العلوم الاجتماعية في أيامه في عهد طفولتها. ومن أراد البسط فليرجع إلى «محاضرات في الفلسفة الوضعية» : ٤ / ٢١٣ ـ ٢١٦. لاحظ الموسوعة الفلسفية : ٢ / ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٢) فلسفتنا : ٩٧.

٢٦٨

وإذا كان الجوهر في التفاحة بهذه المنزلة ، فالقضايا الفلسفية الّتي تعالج موضوعات ميتافيزيقيّة ، ليست كلاماً مفهوماً ، لعدم توفّر الشرط الأساسي للكلام المفهوم فيها ، وهو إمكان وصف الظروف الّتي يعرف فيها صدق القضية أو كذبها. ولذلك لا يصحّ أن توصف القضية الفلسفية بصدق أو كذب.

يلاحظ عليه :

أولاً ـ إنّهم قد أخذوا موقفاً مسبقاً في معنى الواقعية ، حيث فسّروها بعالم الحسّ والمادة ، وزعموا أنّ كل ما له صورة في عالم الحسّ ، فله واقعية يتمكن بها الإنسان من توصيف القضية بالصدق أو الكذب. وبعبارة أُخرى : له معطيات في حالة الصدق ومعطيات حالة الكذب.

وأمّا ما ليس له معطيات حسيّة ، فلا يملك واقعية يتمكن بها الإنسان من الإذعان بصدقها أو كذبها.

ولكن هذا مصادرة على المطلوب ، إذ لم يستدلوا بشيء على انحصار الواقعية بعالم الحسّ ، وأنّه لو لا تلك الصورة لما أمكن تصديق ولا تكذيب شيء من القضايا.

ولذلك ، فلو قلنا بأنّ الواقعية ليست منحصرة بعالم الحسّ ، بل هي أعمّ منه ، وأنّ هناك مقاييس ومعايير أُخرى يتمكن بها الإنسان من توصيف القضايا بالصدق أو الكذب ، فتكون محاولتهم فاشلة ، إذ للإنسان أن يدرس القضايا الفلسفية في ضوء تلك المقاييس والمعايير ، ويصفها بالصدق أو الكذب.

أجل ، إنّ العالِم الميتافيزيقي يرى الواقعية أوسع ممّا ذكره الوضعيون ، كما يرى المقاييس الّتي تُزَوِّدُ الإنسان بالمقدرة على وصف القضايا بالصدق أو الكذب ، أعمّ من الحسّ. وقد عرفت فيما مضى أنّ من الطرق الرائجة عند العلماء ـ حتّى التجريبيين ـ الاستدلال بالآية على ذيها ، وأنّ النُّظُم السائدة على الطبيعة بأسرها ، آيات تعرب عن سيطرة قوة هائلة عظيمة على هذا العالم ، من ذرّته إلى مجرّته.

وثانياً ـ لو اقتصرنا في توصيف القضايا ، على ما له معطيات حسيّة ، فيجب أن تخرج القضايا العلمية الّتي لا تعبّر عن معطىً علمي ، عن إطار

٢٦٩

المعرفة ، فإنّا نرى سقوط التفاحة من الشجرة ، فهذا له معطىً حسيٌّ ، وأمّا قانون الجاذبية المسْتَنْتَج من ذلك السقوط ، فليس له معطىً حسيٌّ مباشر.

ولأجل ذلك ، يجب على أصحاب الفلسفة الوضعية القول بأنّ الواقعية أوسع من تحديدها بما له معطى حسيّ ، بل هو على قسمين : ما له معطىً حسيّ إذا كانت نفس الواقعية حسيّة ، وما ليس له معطى حسي ، إذا كانت الواقعية فوق الحسّ.

فليس إثبات واقعية الشيء رهن أن يكون له معطى حسيّ تباشره حواسنا ، بل يكفي في كشف الواقعيات والإذعان بوجودها ، البرهنة عليها من جانب القضايا البديهية ، وكأنّها تكون ذريعة لإثباتها على النحو الّذي ذكرناه.

الدافع الثالث ـ تأثير البرجماتية

لقد كان للفلسفة البرجماتية (١) الّتي كان للفيلسوف الأميركي ويليام جيمس (٢) (١٨٤٢ ـ ١٩١٥ م) مساهمة وافرة في تأسيسها ، تأثيرٌ هامٌّ في إخراج العوالم الغيبية عن إطار تعلّق المعرفة.

لقد بُنيت هذه الفلسفة على أساس أنّ «الحق» هو ما كان مفيداً أو ناجحاً أو نافعاً في الحياة. ويتوسع «جيمس» في فهم ما هو مفيد أو ناجح أو نافع :

أ ـ ففي ميدان التجربة الفيزيائية : المفيد هو ما يمكّن من التنبؤ ، ومن العمل ، ومن التأثير والإنتاج.

ب ـ وفي ميدان التجربة النفسانية والعقلية : المفيد هو ما هو مفيد للفكر ، وما يزودنا الشعور بالمعقولية ، وهو شعور بالراحة والسلام.

ج ـ وفي ميدان التجربة الدينية ، يكون الاعتقاد حقاً إذا نجح روحياً ، أي

__________________

(١)MSITAMGARP.

(٢)semaJ mialliW. ولد في نيويورك عام ١٨٤٢. وهو الابن الأكبر لهنري جيمس الكاتب الساخر ، الّذي كان شديد الاشمئزاز من رجال الدين ، عبّر عنه طوال حياته في كتاباته ، وترك ذلك أثره البالغ في نشأة وتكوين ابنه ويليام. توفي في ٢٦ آب سنة ١٩١٥.

٢٧٠

إذا حقق للنفس الطمأنينة والسلوى ، وأعاننا على تحمل مصاعب الحياة ، وسما بنا فوق أنفسنا (١).

وبعبارة أُخرى : إنّ الأفكار ينبغي أن تعالج على أساس ما «تؤدّيه». وحينما يحكم المرء على فكرةٍ ما بأنّها صادقة ، فإنّه يدّعي بذلك أنّها تقوده في نجاح ، خلال متاهة الخبرة.(٢)

وبعبارة واضحة : إنّ الموضوع الّذي يليق أن يبحث عنه الإنسان ، هو ما تترتب عليه نتائج عملية ، فلو كان هناك موضوع غير مؤثّر في الحياة الإنسانية ، فالبحث عنه إضاعة للوقت.

فكل قضية يكون الاعتقاد بها موجباً للنجاح ، فهي صدق وصواب ، وخلافها كذب وخطأ(٣).

فهذه الفلسفة ـ في الواقع ـ تجعل الاعتبار كلّه للعمل ، دون الفكر ، فكانت فلسفة معبّرة عن أصالة العمل : كل شيء يقع في إطار العمل والفائدة والانتفاع فهو حقّ ؛ وكل حقيقة لا تؤثّر في الواقع ، لا قيمة لها ؛ والعلم إنّما يفيد إذا كان مطلوباً للعمل ، وأمّا طلب العلم للعلم ، فلغو لا طائل فيه.

وجاء أتباع «جيمس» بعده يصرّحون بأنّ الذهن المملوءَ بالخرافات والمفيد في الحياة ، خيرٌ من الذهن المملوء بالحقائق غير المنتج في مقام العمل ، والعلم مطلوب ومرغوب به بما أنّه أداة للحياة ، لا بما أنّه كاشف عن الواقع والحقائق الكونية.

إنّ استفحال هذه النظرية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، أوجد في الأذهان نظرة سلبية تجاه المعارف الميتافيزيقية ، بحجة أنّها أمور فكرية محضة ، لا أثر عملي لها في الحياة ، فهي باطلة لا حقيقة لها.

يلاحظ على هذه النظرية :

__________________

(١) موسوعة الفلسفة : ١ / ٤٤٨ ـ ٤٤٩.

(٢) الموسوعة الفلسفية المختصرة : ١٧٩.

(٣) مسيرة الفلسفة في أوروبا : ٣ / ٢٤١.

٢٧١

أولاً : لا شكّ أنّ ما ينفع في الحياة ويعطي الراحة والرفاهية ، وينشر السلام ويبسط الأمن والاستقرار ، أمر مطلوب جداً. غير أنّ الكلام في أنّ الإنسان هل يتمحض في الشئون المادية ، من أمنه وسلامه ، وشَبَعه وارتوائه ، ورَوْحه وريحانه ، بحيث إنّ كل ما لا يمت إلى ذلك بصلة فهو مرفوض ، ويجب أن يشطب عليه بقلم عريض ، ويرمى بأنّه معدوم أو غير قابل للمعرفة؟ أو أنّ للإنسان شئوناً أوسع من تلك ، وتتطلع نفسه إلى ما هو أبعد ، وإن لم يقع في طريق حياته ، أو يؤمن رفاهه ورغد عيشه؟

إنّ تمحيض الإنسان وتلخيصه في المرحلة الأُولى ، نظرة إلى عالم الوجود بمنظارٍ ضيق. وإن التقوّل بأنّ كل ما لا يقع في خدمة «أنا» ، فهو ليس بموجود أو لا يعرف ، فكرة خاطئة ناشئة من أنانية ماديّة ، وتنزيل للإنسان من مقام إنسانيته الشامخ ، إلى درجة البهيمة الّتي لا يهمها إلّا ماؤها وعلفها(١).

وثانياً ـ إنّ تخصيص المعرفة بما يقع في طريق العمل وخدمة الإنسان ، كبح لجماح البعد العلمي الّذي اختمرت به النفس الإنسانية. وقد كشف علماء النفس أنّ للوجود الإنساني أبعاداً روحية مثلى ، هي :

ـ روح الاستطلاع واستكشاف الحقائق.

ـ حب الخير والنزوع إلى البِرّ والمعروف.

ـ عشق الفن والجمال.

ـ الشعور الديني.

فإنّ البعدين الأول والثالث ، يدفعاننا إلى التعرّف على كلّ ما تناله قدرة العقل البشري ، سواء أكان راجعاً إلى الإنسان (أنا) أم لا. كما أنّ الشعور الديني يدفعنا إلى التعرف على ما يتصل بهذا الشعور. فتخصيص المعرفة بما ينفع في حياتنا المادية ، طمسٌ لهذه الأبعاد الفطرية المسلّمة عند علماء النفس.

__________________

(١) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فما خُلِقْتُ لِيَشْغَلَني أَكْلُ الطيّبات ، كالبهيمة المربوطة ، هَمُّهْا علفها ، أو المُرْسَلَةِ شُغْلُها تَقَمُّمُها ، تَكْتَرِشُ من أعلافها ، وتلهو عما يراد بها». (نهج البلاغة ، قسم الكتب ، من كتاب له عليه‌السلام إلى عثمان بن حُنَيْف).

٢٧٢

ونحن نضع أمام هؤلاء ـ برسم التأمل ـ الجهود الجبارة الّتي يبذلها الفلكيون لاستطلاع الكون الهائل ، وكشف أغواره وما يسبح فيها من مجرّات عظيمة ، ونجوم قاصية ، تبعد عن الأرض مسافات هائلة تقدر بملايين بل مليارات السنين الضوئية (١). ولا يزال المحققون يضحون بأعمارهم في سبيل هذه الاكتشافات؟ أترون أيّها البرجماتيون ، هل جهود هؤلاء هباء ، وعلومهم لاغية؟!

وثالثاً ـ إنّ من الوهم رمي الإيمان بالعوالم الغيبية باللغوية ، وسلب كل نفع وفائدة عنها. كيف ، والدين مبدع للعلوم ، ودعامة للقيم الأخلاقية ، والعدالة الاجتماعية ، وحصن الإنسان يحصّنه في خضم متقلبات العالم ، وغير ذلك من الآثار العملية العظيمة الّتي سنأتي على شرحها عند البحث عن دور الدين في الحياة.

هل العمل يصنع الإنسان؟

لقد غالت البرجماتية ومَنْ قَبِلَها من الماديين الديالكتيكيين والوجوديين (٢) ، فذهبوا إلى أنّ العمل هو الّذي يبني للإنسان ملكاته وأفكاره وروحياته. فإنّ الإنسان يولد وذهنه وروحه خاليان من كل فكرة وملكة ، وإنّما يكتسب الصور والملكات في ظل العمل ، وبها يندفع مجدداً إلى العمل عن وعي أو عن لا وعي.

يلاحظ عليه :

لا شك أنّ للعمل تأثيراً كبيراً في صنع الروحيات والملكات الفاضلة والطالحة. فإنّك ـ مثلاً ـ ترى الإنسان عند أول نطقه ، لا ينطق إلّا بصدق ، حتّى يلجئه عامل ما على الكذب ، فإذا كرّر ذاك العمل الرديء ، انقلب الكذب في نفسه ملكة راسخة تتحكم بلجام بيانه ، حتّى لا يقدر على الصدق إلّا بمشقة. وكذلك الأمر في جانب الملكات الفاضلة. وبالجملة : العمل وتكراره خلّاق للملكات.

__________________

(١) السنة الضوئية هي المسافة الّتي يقطعها النور في مدة سنة واحدة وهي تساوي على التقريب / ٥ ، ٩ تريليون كلم ، أي تسعة آلاف وخمسمائة مليار كيلومتر.

(٢)MSILAITNETSIXE.

٢٧٣

ولكن الروحيات الخبيثة والطيبة ليست حصيلة العمل وحده ، بل للإنسان منذ ولادته إلى أن يدرج في كفنه ، ملكات عامة وفطريات سالمة ، توجد بوجوده ، وتنشأ وتترعرع معه ، وهي تتلخص في تلك الأبعاد العامة الّتي تقدمت إليها الإشارة. فكان غلو هؤلاء في مجال العمل نتيجةً حتمية لإنكارهم الروحيات الفطرية المختمرة في وجود الإنسان.

فالإنسان الفطري هو الإنسان الّذي حافظ على فطرته ، ويمشي في حياته على ضوئها. ومن مشى على خلاف ما تقتضيه فطرته ، فقد مسخ إنسانيته. فالحياة القائمة على الكذب والخداع ، والظلم والإفساد ، بل التجرّد والعزوبية ، حياة مخالفة لما تطلبه الفطرة الإنسانية. وقس على ذلك كل طارئ في حياة الإنسان ، فهو إمّا على خطّ الفطرة أو منحرف عنه.

وأخيراً نقول : إنّ الوجوديين لاحقاً ـ حرصاً على حفظ الحرية ـ أنكروا الفطريات والأبعاد الروحية الثابتة في وجدان الإنسان منذ وجوده على هذه البسيطة. وكأنّهم زعموا أنّ هذه الفطريات سوائق تدفعه إلى جانب خاص ، وهذا ينافي حرية الإنسان وكون شخصيته وذاتياته نتيجة العمل.

ولكن خفي على أولئك أنّ للإنسان ماهيات عامة وخاصة. فالأُولى هي الماهيات المشتركة بين جميع أفراد الإنسان ، سواء أفسرناها بالحيوان الناطق أم بما ينضم إليه من الأبعاد الروحية العامة الّتي كشف عنها علماء النفس وقررها الدين باسم الفطرة ، ولا يشذّ إنسان عنها أبداً ، فإنّ كل فرد مذ يفتح عينيه على الحياة ، يمتلك هذه الصفات العامة ، ولا تزال تتكامل يوماً فيوماً.

وأمّا الماهيات الخاصة فهي الملكات والروحيات الّتي يكتسبها الإنسان عن طريق العمل ، حسب دءوبه وتمرّسه ، فتحصل في نفسه ملكات لم تكن موجودة يوم جاء إلى الحياة.

فالوجوديون الذين يذهبون إلى أنّ وجود الإنسان خالٍ ـ مُذْ ولد ـ من كل حدّ وقيد، وأنّه إنّما يكتسب هذه القيود بالعمل ، خفيت عنهم الماهيات العامة وحسبوا أنّ الإنسان ذو بُعد واحد فحسب ، هو ما يكتسبه من روحيات وملكات ، في حين أنّها تشكل بُعداً واحداً هو الماهيات الخاصة ، ووراءها ماهيات عامّة غير

٢٧٤

مكتسبة كما عرفت (١).

الدافع الرابع ـ الثأر من جَوْر الكنيسة

لقد كان سلوك أرباب الكنائس ومحاكم التفتيش الكنسيّة في القرون الوسطى من العوامل القوية الّتي دفعت بعض المفكرين والمثقفين الغربيين باتجاه المادية ، واتّخاذ موقف سلبي من الدين والميتافيزيقية ككل.

لقد تحولت هذه المحاكم من ملاحقة المرتدين عن العقيدة الكاثوليكية ، إلى مطاردة ومعاقبة العلماء والمفكرين الذين يكتشفون أشياء في الكون والطبيعة ، ويتراءى أنّها حركة ضد الكنيسة.

ولقد آل أمر تلك المحاكم إلى ارتكاب مجازر شنيعة ، بلغ عدد المعدومين والمحروقين فيها أزيد من ثلاثمائة ألف ، أُحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء ، منهم العالم الطبيعي المعروف «برونو» ، الّذي كان جرمه أنّه حاول إحياء نظرية «فيثاغورس» في حركة الأرض والسيارات المناقضة لنظرية «بطليموس». كما صدر حكم الإعدام على العالم الفلكي الكبير «غاليليو» (٢) (١٥٦٤ ـ ١٦٤٢ م) لتأييده نظرية «كوبرنيك» (٣) (١٤٧٣ ـ ١٥٤٣ م) في دوران الأرض على ذاتها وحول الشمس.

لقد تطورت محاكم التفتيش الكَنَسِيّة إلى جهاز جهنمي يعارض كل تقدّم علمي ، وكل شكل من أشكال الحرية الفكرية ، بأعنف الوسائل وأشدّها.

وقد أحدث كل ذلك ردّة فعل سلبية تجاه الكنيسة ومبادئها ، وأوجد فكرة فصل الدين عن العلم ، بزعم أنّ الدين ـ بأي لون كان ـ يكافح الرُّقي والتقدم والحضارة. وظهرت بالنتيجة ، موجة الشك بالعوالم الغيبية بل إنكارها من أساسها.

__________________

(١) سنطرح شبهة الوجوديين ونجيب عنها مفصلاً عند البحث عن أفعال العباد في دائرة العدل الإلهي.

(٢)oelilaG.

(٣)cinrepoC.

٢٧٥

حدث كل ذلك من المفكرين والفلاسفة الغربيين ، بلا وعي ، بل كان انفعالاً لا شعورياً ، ولم يكن إنكارهم للعوالم الغيبية أو الشك فيها ، وكذا كل موقف سلبي حملوه على الدين والتدين ، إلّا ضلالاً في المنطق ، لا استدلالاً بالبرهان.

ولذا ترى أنّ تلك المجتمعات لما مضت إلى حالتها الأولى ، وتمركز فيها الاستقرار الفكري ، برز جملة كثيرة من العلماء الطبيعيين والمفكرين ، يدعون إلى الإيمان والاعتقاد بالمفاهيم الفلسفية الصحيحة ، في ضوء ما اكتشفوه من قوانين ونواميس وأنظمة في الكون الفسيح (١).

الدافع الخامس ـ انهيار بعض النظريات العلمية القديمة

لقد كان سقوط وانهيار بعض الآراء والنظريات الطبيعية والفلكية القديمة ، إبّان التحول العلمي في الغرب ، من العوامل الجوهرية الّتي دفعت العلماء والمفكرين في عصر النهضة (٢) إلى الشك في كل ما يتصل بالقديم من آراء وأفكار ونظريات ، شأن كل ثورة علمية أو اجتماعية ، فإنّها لا تكتفي باجتياح ما هو باطل فحسب ، بل تجتاح ـ تحت تأثير العامل النفسي السلبي ـ كلَّ شيء يتصل بما قبل الثورة ، حقّاً كان أو باطلاً ، صحيحاً كان أم خاطئاً.

ولم تسلم العقائد الدينية من هذا القانون ، فإنّهم لما رأوا أنّ ما افترضه القدماء حول الأفلاك والعناصر ذهب أدراج الرياح ، عادوا يحدّثون أنفسهم قائلين : لم لا تكون العوالم الغيبية والروحية ، مثل الفروض الفلكية والعنصرية ، والمصدر واحد؟

فصار ـ بالتالي ـ انهيار الفروض العلمية سبباً للتشكيك في صحة المعتقدات

__________________

(١) ولعلّ من أبرز ما كتب في هذا المجال ، كتاب : «الله يتجلّى في عصر العلم» ، الّذي يحتوي على ما يقرب من ثلاثين مقالة تحقيقية حول وجود الله وبعض صفاته ، بقلم علماء واختصاصيين في مختلف أبواب العلوم.

(٢)ecnassianeR.

٢٧٦

الدينية من أساسها ، بل سبباً لإنكارها. وأقصى ما كان لدى المنصفين منهم (!) أنّها لا تقع في إطار المعرفة حتّى يعلم صدقها أو كذبها.

يلاحظ عليه أنّ هذا التحول كان ينبغي أن يكون دافعاً لإعادة التحقيق في العوالم الغيبية لا الإعراض عنها وضرب الكل بسهم واحد. فكما أنّ لتشخيص الحق عن الباطل في العلوم الطبيعية والفلكية معايير صحيحة ، فكذلك للعلوم الإلهية والميتافيزيقية معايير راسخة يتميز بها الحق عن الباطل. غير أنّ الإنسان الثائر على القديم والقدماء والآثار الباقية منه ، يموج في غلوائه ولا يمكنه الإمعان والسماع : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ)(١).

انظر إلى بطرس بيل (المتوفّى عام ١٦٧٤ م) كيف يغتر بمعلوماته الضئيلة الّتي لم يبق منها في عصرنا هذا إلّا صبابة في إناء ، ويقول : «الإلحاد أفضل من التمسك بالأضاليل» ، يريد بها الأديان والمعتقدات السماوية. ومثله في الغرور ، البارون هولباخ الألماني (٢) ، يقول في كتابه «نضال الطبيعة» : «إنّ كل شيء محصور في الطبيعة ، وإن كلّ ما يتخيل وراءها ، وهمٌ في وهم» (٣).

هذه العبارات ونظائرها تعرب عن أنّ المنكرين ركبوا مركب العصبية ، وأدلوا لجامها ، وألقوا حبلها على غاربها ، تذهب بهم إلى مهالك الغواية ، ومساقط الضلالة. ولأجل ذلك ترى أنّ المنصفين من المحققين يحقّرون علومهم ، ويتواضعون بها أمام هذا الكون العظيم ، مصدّقين قوله جلّ وعلا : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٤).

* * *

__________________

(١) هود : ٢٠.

(٢)hcabloH پول هنري هولباخ ، (١٧٢٣ ـ ١٧٨٩ م) يرى أنّ الإنسان خير بطبعه لكنه ينحرف بالتربية. عارض الديانة المسيحية وأيّد وجهة النظر الطبيعية المادية.

(٣) على أطلال المذهب المادي : ١ / ٣٠٢.

(٤) الإسراء : ٨٥.

٢٧٧
٢٧٨

الفصل التاسع

تجرّد المعرفة

٢٧٩
٢٨٠