نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

القسم الآخر الذي يعبر عنه بالعلم الحضوري ، فلا يشمله. ويظهر ذلك بتعريف كلا القسمين وبيانه.

امّا العلم الحصولي فهو عبارة عن حصول صورة من الشيء بإحدى الحواس الظاهرية ، في النفس. فإنّا إذا أطللنا بنظرنا إلى الكون ورأينا فيه جبالاً ونباتات وحيوانات ، تأخذ أعيننا صوراً من هذه الأشياء ، تنتقل بعد عمليات فيزيائية وكيميائية إلى الذهن ، ليتحقق عندها الإبصار.

وحَظُّ الإنسان عندئذٍ من إدراك الواقع ، هو إدراك صورة علمية منه ، لا الواقع نفسه، إذ من الضروري أنّ الواقع له آثار حقيقية كالحرارة والبرودة ، والإنسان عند ما يشاهد النار والثلج ، لا ينال منهما إلّا الصورة العلمية ، لا الآثار الواقعية الموجودة فيها. وهذا ما يُعنى من أَنّ العلم الحصولي هو الصورة الحاصلة في النفس من الشيء.

وعلى ضوء ما ذكرنا ، فالعلم الحصولي يتقوم بأمور ثلاثة :

١ ـ الإنسان المدرِك (بالكسر).

٢ ـ الشيء المدرَك (بالفتح) الموجود في الخارج ، الذي يقال له في مصطلح الفلسفة «المعلوم بالعرض».

٣ ـ الصورة الذهنية الحاصلة من الشيء ، في النفس ، التي يطلق عليها في ذلك الاصطلاح «المعلوم بالذات».

وليست تسمية الشيء بكونه «معلوماً بالعرض» ، والصورة العلمية بكونها «معلوماً بالذات» ، اعترافاً بأصالة الذهن والذهنيات ، وفرعية الخارج ، حتى نتهم بالمثالية ، وإنّما ذلك الأجل أنّ ما يناله الانسان في حقل ذهنه ومدارك معرفته هو الصورة العلمية لا غير. وأمّا الخارج ، فانه انما يناله عن طريق هذه الصورة بما لها من الطريقية والكاشفية عن الخارج ، ولذا استحق ما يناله الانسان أوّلاً تسمية «المعلوم بالذات» وما يناله ثانياً بفضل هذه الصورة ـ تسمية «المعلوم بالعرض».

هذه حقيقة العلم الحصولي.

٢١

وأمّا العلم الحضوري فهو عبارة عن كون المعلوم حاضراً لدى النفس من دون توسّط شيء. وهو على هذا ، يعتمد على ركنين فقط :

١. الإنسان المدرِك (بالكسر).

٢. المدرَك للنفس بلا واسطة.

والعلم الحضوري على قسمين : أولهما ما يكون المدرِك فيه مغايراً للمدرَك. كما في العلم بالصور الذهنية الحاصلة في النفس من اتّصالها بالخارج عن طريق الحواس الظاهرية. فإنّ هذه الصور ـ مع قطع النظر عن كونها حاكية عن الخارج ـ معلومة للنفس بلا توسط شيء ، بل تنالها النفس ابتداءً وبالذات.

نعم ، لو نظرنا إلى هذه الصور بما أنّها كاشفة عن الخارج ، يتحقق هناك علم حصولي لكن لا بالنسبة إلى الحاكي ، بل بالنسبة إلى المحكي.

وبذلك يظهر أنّه كلما تحقق علم حصولي تحقق علم حضوري أيضاً ، فعلم النفس بنفس الصور ، حضوريٌ ، وبالخارج الّذي تحكي عنه الصور ، حصوليٌّ.

والقسم الآخر للعلم الحضوري أعلى وأنبل من الأوّل ، وهو ما يكون فيه المدرِك والمدرَك متحديْن خارجاً ، ومختلفَين اعتباراً ولحاظاً. وهذا كعلم الإنسان بذاته ، فكل إنسان يجد ذاته حاضرة لدى ذاته ، وواقِعَه غيرَ مغفول عن نفسِه. فتكون ذاته عالمة ومعلومة ، فيتحد العالم والمعلوم. وهما مع ذلك مختلفان في الاعتبار ، فإنَّ النفس بما أنّها واقفةٌ على واقعها ، وشاهدةٌ عليه ، تسمى عالمة. وبما أنّ ذاتها مكشوفةٌ ومعلومةٌ لها ، تسمى معلومة.

إذا وقفت على ما ذكرنا ، يظهر لك أنّ تعريف العلم على النحو المذكور لا يشمل العلم الحضوري بكلا قسميه.

أمّا القسم الأوّل ، أعني علم النفس بنفس الصورة وحضورها لديها ، فنقول إنّ تلك الصورة الحاصلة من الشيء عند النفس تلاحظ بنحوين :

تارة بما أنَّها صورة مأخوذة من الخارج في ظلّ أدوات حسيّة تكشف عن

٢٢

الواقع الخارجي ، فهي في هذه الحالة غير ملتفت إليها ، وإنّما الالتفات إلى الواقع. وهذا هو العلم الحصولي.

وأُخرى تلاحظ بما أنّها ظاهرة نفسانية كسائر الظواهر والحالات النفسانية والوجدانية ، كالسرور والحزن ، فهي في هذه الحالة غير مغفول عنها ، بل ملتفت إليها على نحو تفصيليّ. وهي ، وإن كانت ربما تكون مأخوذة من الخارج ، إلَّا أنّ هذه الحيثية ملغاة في هذا النحو من اللحاظ. وإنّما المقوّم حينئذٍ ، كونها ظاهرة نفسانية في الضمير كسائر الظواهر النفسانية. فكما أنّ الحزن والسرور ، والبخل والحسد وغيرها ، ظواهر نفسانية غير متقيّدة بكونها مأخوذة من الخارج ، فهكذا الصور العلمية في هذا اللحاظ.

وبذلك يُعلم أنّ تعريف العلم على النحو الماضي ينطبق على الوجه الأوّل الّذي قوامه بالطريقيّة والكاشفيّة عن الخارج. وأمّا الوجه الثاني الّذي قوامه بكون الصورة ظاهرة نفسانية ، وحالة وجدانية ، فخارج عن التعريف ، لأنّ كونها مأخوذة من الخارج ، ليس إلّا كالحجر في جنب الإنسان ، لا دخل له في واقعه وحقيقته.

وأمّا القسم الثاني ، وهو علم الإنسان بذاته ، فعدم انطباق التعريف عليه ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

* * *

الجهة الثانية ـ التعريف لا يشمل المعقولات الثانوية المنطقية

إنّ هذا التعريف كما لا يعمّ العلم الحضوريّ بكلا قسميه ، لا يشمل كذلك المعقولات الثانوية المنطقية. بيان ذلك :

إنّ المعقولات عند المنطقيين تنقسم إلى قسمين ، معقولات أوليّة وثانوية.

أمّا الأولى ، فهي عبارة عن الصور العلمية الّتي تحصل للمدرك عند اتّصاله بالخارج وارتباطه به ارتباطاً مباشراً. وهذا القسم من أوضح مصاديق انعكاس الخارج في الذهن. وهذا كالألوان والأشكال التي يقف عليها الإنسان في ظل أدوات المعرفة الحسيّة.

٢٣

وأمّا الثانية فهي عبارة عمّا يقف عليه الإنسان نتيجة عمليات ذهنية وجهود فكرية ، من دون أن يكون لصلته بالخارج تأثير مباشر في ما وقف عليه. ولهذا أمثلة كثيرة ، نذكر منها :

أ ـ المفاهيم الكلية. إنّ من المفاهيم ما له قابلية الانطباق على مصاديق كثيرة ، كمفهوم الإنسان ، والحيوان. فإنّ من المعلوم أنّ مفهوم الإنسان ، بوصف أنّه كلّي ، غير مأخوذ من الخارج ، ولا وارد إلى محيط الذهن منه. فإنّ الإنسان الخارجي ، أعني مصاديقه وأفراده ، كلّها جزئيات متعينة لا تصدق إلّا على نفسها ، ولا تنطبق على غيرها. بخلاف مفهوم الإنسان المجرّد عن كل خصوصيّة ، فإنّه مفهوم عام ، ينطبق على جميع الأفراد.

وعلى ذلك ، فالتعرف على المفهوم الكلي ، معرفةٌ إنسانية غير حاصلة في النفس من الخارج ، مع أنّها من أقسام العلوم.

ب ـ مفهوم النوع والجنس. النوع عبارة عن المفهوم الصادق على أفراد متفقة الحقيقة ، كما أنّ الجنس عبارة عن مفهوم صادق على أفراد مختلفة الحقيقة. ومن المعلوم أنّ مفهومي النوع والجنس بهذا المعنى ، من مخترعات الذهن ، وليسا وليدَيْ اتّصاله بالخارج ، إذ ليس في الخارج شيء نسمّيه نوعاً أو نسميه جنساً.

فهذه المفاهيم ، كموصوفاتها ، كلُّها علوم تحصل للإنسان بجهود ذهنية جبّارة ، وعمليات فكرية عميقة ، فيقال : الإنسان نوع ، والحيوان جنس.

ج ـ المعرِّف والحجة. هما من المصطلحات الفلسفية ، والغاية منهما رفع الإبهام عن المفاهيم التصورية والتصديقيّة. فالحيوان الناطق بالنسبة إلى الإنسان معرِّف ، كما أنّ الصغرى والكبرى بالنسبة إلى النتيجة حجّة. وبما أنّ المطلوب منهما هو التعرّف على التصورات والقضايا الكليّة ، فالمعرِّف يجب أن يكون ـ مثل الحجة ـ قضية كليّة. ومثل هذا لا يوجد إلّا في محيط الذهن دون الخارج ، لأنّ الخارج مقرّ الجزئيات ، ومصدر المتشخصات. فالتعبير المزبور لا يشمل المعرِّف والحجّة.

د ـ المسائل الرياضية والهندسية. إنّ المسائل الرياضية والهندسية مسائل

٢٤

كليّة ، لا تختص بزمان دون زمان ، أو بموضع دون آخر لأنّ براهينها تقتضي أن تكون كلية. وهي (البراهين) في الوقت نفسه كلّية لا تختص بظرف دون آخر. ومن أمثلة تلك المسائل : «الخطان المتوازيان لا يلتقيان» ، «الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين» ، «مساحة المثلث تساوي قاعدته مضروبة في ارتفاعه مقسوم على اثنين» ...

فالعلم بجميع القضايا غير الجزئية ، رهن جهد الذهن ، لا الأدوات الظاهرية الّتي تلتقط المعلومات من الخارج وتوصلها إلى الذهن.

نعم ، إنّ اتّصال الإنسان بالخارج ، يعطي النفس القوة والاقتدار على خلق هذه المفاهيم ، تصوريةً كانت أم تصديقيّة ، في محيط الذهن. ولو انعدمت صلة الإنسان بالخارج ، أو فَقَد جميع أدوات الحس ، لما قدر على خلق تلك المفاهيم والمعاني في الذهن ، ولكن هذا لا يجرّ إلى القول بأنّ جميع المعقولات الثانوية المنطقية نتيجة انعكاس الخارج في الذهن ، كانعكاس اللون والشكل فيه.

وبعبارة أخرى : إنّ اتّصال الإنسان بالخارج يعطيه أرضيّة صالحة لنيل تلك المفاهيم وإبداعها في الذهن ، ولذلك قالوا : من فَقَدَ حسّاً فَقَدْ فَقَدَ علماً. ولكن مع ذلك ، ليست هذه المعارف من قبيل انعكاس الخارج في الذهن ، كانعكاس اللون والشكل فيه.

وبعبارة أُخرى : إنّ اتّصال الإنسان بالخارج يعطيه أرضيّة صالحة لنيل تلك المفاهيم وإبداعها في الذهن ، ولذلك قالوا : من فَقَدَ حسّاً فَقَدْ فَقَدَ علماً. ولكن مع ذلك ، ليست هذه المعارف من قبيل انعكاس الخارج في الذهن كما في المعقولات الأوليّة.

وزيادة في الإيضاح نقول : إنّ انتزاع مفهوم الإنسان الكُلّي أو إبداعه في الذهن ، ليس معرفة واردة إلى محيط الذهن من الخارج. ومع ذلك ، لو لم يكن للإنسان تلك الصلة ، لما قدر على هذا الانتزاع أو الإبداع. فإذا شاهد بأمّ عينه زيداً وعمراً وبكراً ، ثمّ شاهد تماثُلهُم واشتراكَهُم في الحيوانية أولاً ، والتعقّل والتفكّر ثانياً ، تتهيأ النفس لانتزاع مفهوم كلي يُدخل جميع الأفراد تحته باسم مفهوم

٢٥

الإنسان. فالمفاهيم رهن عمليات ذهنية فكرية دون الاتّصال المباشر بالخارج ، وإن كان الذهن عاجزاً عن تلك العمليات لو لا الاتّصال بالخارج.

قال الإمام الرازي : «إنّ الإحساس بالجزئيات ، سبب لاستعداد النفس لقبول تصورات كلّية» (١).

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ تعريف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء عند النفس ، لا يشمل المعقولات الثانوية المنطقية.

* * *

الجهة الثالثة ـ التعريف لا يشمل المعقولات الثانوية الفلسفية.

تنقسم المعقولات الثانوية إلى منطقية وفلسفية ، وقد تقدم بيان الأُولى ، وتتضح الثانية ببيان مقدمة ، وهي انّ عروض شيء على شيء آخر ، على أقسام :

الأوّل : عروض شيء لشيء في الخارج ، ويكون ـ عندئذٍ ـ العارض ، والمعروض ، ونفس العروض والاتّصاف ، كلُّها أُموراً خارجية. كسواد الفحم وريش الغراب ، فإنّ السواد ـ كمعروضه ـ أمران خارجيان ، كما أنّ العروض في الخارج ، كاتّصافهما به ، فيقال : الفحم أسود. وهذا ما يسمى بالمعقولات الأوليّة.

الثاني ـ ما يقابل القسم السابق ، وفيه يكون العارض والمعروض فضلاً عن العروض والاتّصاف ، كلّها في العقل. كالكليّة العارضة على مفهوم الإنسان. وهذا هو المعقول الثانوي بكلا الاصطلاحين : المنطقي والفلسفي.

الثالث ـ ما يكون عروضه في العقل دون الخارج ، ويكون الاتّصاف به في الخارج كعروض الأُبوة على الأب في الذهن. وهي لا تعرض عليه في الخارج ، لأنّ عروض شيء على شيء فرع وجود العارض في الخارج حتّى يتصور عروضه على الشيء ، فيه. والأُبوة بالمعنى الإضافي ، ليس لها شيء يحاذيها في الخارج ، فإنّه يمكن الإشارة إلى الأب وإلى الابن ، ولا يمكن الإشارة إلى الأُبوة. ولذا قالوا

__________________

(١) المباحث المشرقية ، ج ١ ، ص ٣٥٣.

٢٦

عروض في الخارج ، وإن كان الاتّصاف ـ أي اتّصاف زيد بالأُبوة ـ فيه ، فيقال : هذا أب لذاك. وهذا هو المعقول الثانوي باصطلاح الفلسفة(١).

وبذلك يظهر أنّ هاهنا مفاهيم كثيرة من هذا القبيل ليس لها شيء يحاذيها في الخارج، ومع ذلك تتصف الأشياء بها ، وتلك كالشيئية والإمكان. فالشيئية العامة لا يحاذيها شيء ، إذ لا يمكن أن يقال : هذه هي الشيئية. ومع ذلك ، فالأشياء تتصف بها ، فيقال : هذا شيء.

ومثلها الإمكان : فإنّ حقيقة الإمكان هي سلب ضرورة الوجود والعدم عن الماهية. والسلب أمر عدمي ، لا يحاذيه شيء في الخارج ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ هذا الإمكان يعرض الماهية. ومع ذلك تتصف الماهية الموجودة ، به. فيقال : الإنسان الموجود ممكن.

إذا علم هذا التقسيم ، يتضح أنّ التعريف المزبور للعلم ، كما لا يعم المعقولات الثانوية في اصطلاح المنطقيين ، لا يعم المعقولات الثانوية في اصطلاح الفلاسفة ، فإنّ حصول الصورة من الخارج ، فرعُ أن يكون للعارض وجودٌ خارجيٌّ قابلٌ للدَرْك بإحدى الحواس الخمس ، والمفروض خلافه ، فإنّ الإنسان يقف على تلك المفاهيم بعمليات ذهنية خاصة ، لا بانعكاسها من الخارج.

نعم ، لو لم يكن للإنسان صلة بالخارج ، لما أمكنه الوقوف على هذه المفاهيم ، وهناك فرق بين كون صورة الشيء حاصلة من الخارج مباشَرَةً ، وكَوْن الصلة بالخارج شرطاً أو معدّاً ، تعطي النفس ذلك الاستعداد الخاص لانتزاع تلك المفاهيم. فالنفس في هذه المرحلة أشبه بالشجرة المثمرة ، فإنّها تنتج الثمار من صميم ذاتها ، وإن كانت صلتها بالخارج ـ كالشمس والأرض والمياه ـ تعطيها الاستعداد لإنتاج تلك الثمار.

* * *

__________________

(١) أما تسميتها بالثانوية ، فلأنّها لا تعقل إلّا وقد عُقل قبلها شيء آخر هو المعروض ، أعني الذات المتّصفة بالأُبوة في هذا المثال ، أو بالشيئية والإمكان في المثالين الآيتين.

٢٧

الجهة الرابعة ـ التعريف لا يشمل الممتنعات

هناك مفاهيم يدركها الذهن ، ويصفها باستحالة التحقق في الخارج ، كالدور والتسلسل. فإنّ الدور عبارة عن توقف وجود كلِّ واحد من الشيئين على الآخر ، وتحقُّقُه محالٌ ببداهة العقل ، كما إذا توقف إمضاء كل واحد من الشريكين سند الشراكة ، على إمضاء الآخر قبله ، فإنّ هذا السند لن يمضي أبداً ، لاشتراط إمضاء كل منهما بإمضاء الآخر ، وهو غير متحقق.

والتسلسل عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة مترتبة غير متناهية ، بأن يتوقف (أ) على (ب) ، والثاني على (ج) ، والثالث على (د) ، وهكذا دواليك ، تتسلسل من دون أن تنتهي تلك السلسلة إلى حدّ. وتحقق هذا محال ، وذلك لأنّ وجود المعلول الأخير مشروط بوجود علته المتقدمة ، ووجودها مشروط بوجود علّتها أيضاً ، وهكذا تتسلسل هذه القضايا المشروطة إلى غير نهاية. ومن المعلوم أنّ القضايا المشروطة المتسلسلة إلى غير نهاية لا تتحقق أبداً إلّا إذا انتهت إلى قضية مطلقة لا يتوقف تحقُّقها على شيء ، والمفروض عدمه. وعندئذٍ ، بما أنّ تلك السلسلة كلها قضايا مشروطة غير منتهية إلى قضية مطلقة ، فلن تكون موجودة أبداً. وهذا كما إذا كان إمضاء الشخص الأول للسند متوقفاً على إمضاء الثاني ، والثاني على إمضاء الثالث ، وهكذا إلى اللانهاية ، فإنّ ذاك السند لن يرى النور أبداً ، لعدم تحقق إمضاء أحد (١).

* * *

الجهة الخامسة ـ التعريف لا يشمل الأرقام الحسابية

من المعلوم أنّ الأرقام الحسابية لا تنتهي إلى حدّ ، وقد ابتكر البشر الأرقام النجومية للتعبير عن الأرقام الهائلة ، والمسافات الشاسعة بين أجزاء الكون وأجرامه ، وربما يبتكر أرقاماً أُخرى أعظم منها كلما اتّسعت آفاقه.

ومن الواضح أنّ الأرقام لا وجود لها في الخارج حتّى رقم الاثنين والثلاثة ،

__________________

(١) سيأتي إيضاح مستوفٍ لاستحالة التسلسل في بحث إثبات وجود الصانع.

٢٨

وإنّما الموجود هو الواحد المنطبق على الموجود الواحد. وأمّا الاثنان ، فإنّما ينتزعها العقل من ضم واحد إلى واحد آخر ، وهكذا بقية الأعداد. وليس وراء الواحدين مصداق آخر للاثنين، وإلّا لزم أن يكون كلُّ اثنين ثلاثة : اثنان هما الواحدان ، والثالث شيء آخر يسمى باسم الاثنين.

فللإنسان علم بالأرقام ، ومع ذلك ليس علمه بها رهن اتّصاله بالخارج.

ومثل الرقم ، الخط والنقطة والسطح. فالنقطة هي آخر الخط ، والخط هو آخر السطح ، والسطح آخر الجسم ، وهي كلها أُمور ينتزعها الذهن بعملياته الفكرية ، ولا تحقق لها في الخارج. وذلك لأنّ النقطة هي الجزء غير المنقسم من الخط ، والخط هو الجزء غير المنقسم من السطح ، والسطح هو الجزء غير المنقسم من الجسم. والجزء غير المنقسم لا خارجاً ولا عقلاً ، الّذي يعبر عنه بالجزء الّذي لا يتجزأ ، غير موجود في الخارج ، وقد أقاموا براهين على امتناعه أوضحها أنّ هذا الجزء المفروض أنّه غير منقسم إمّا شرقه غير غربه ، وجنوبه غير شماله ، أو لا. فعلى الأول يتجزّأ عقلاً ، وعلى الثاني يلزم عدم كونه موجوداً ، ويساوق كونه معدوماً. وهناك براهين أُخر يرجع إليها في محلها(١).

ونكرر هنا ما تقدم من أنّ هذه المفاهيم الّتي يصنعها الذهن في محيطه ، وإن كانت غير موجودة في الخارج ، ولم يصل إليها الذهن من طريق الحواس الظاهرة ، غير أنّه لو لا صلة الذهن بالخارج ، لما كان قادراً على تصوُّر المعدومات والمحالات ، وقد تقرر في الفلسفة الإسلامية أنّ العلوم الحسية تعطي النفس قدرة وخلّاقيّة لصنع تلك المفاهيم وانتزاعها وإدراكها.

* * *

__________________

(١) بإمكانك أن تلاحظ شرح المنظومة ، لناظمها ، غرر في إبطال الجزء الّذي لا يتجزّأ ، ص ٢٢٢ ـ ٢٢٧ ، من قول الحكيم السبزواري :

تَفَكُّكُ الرَّحى ونَفْيُ الدائرة

وحُجَجٌ أُخرى لديهم دائرة

مُبْطِلَةُ الجواهِر الأَفرادِ

في واجبِ القَبولِ للأبعَادِ

ولاحظ أيضاً : كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد ، للعلّامة الحلي ، الأُمور العامة ، الأصل الخامس ، أدلّة المثبتين والنافين للجوهر الفرد. وهذا الكتاب نقوم بتحقيقه ، فأسأل الله تعالى التوفيق لإتمامه.

٢٩

الجهة السادسة ـ لزوم الوحدة بين الصورة ومُدْرِكها

من الأُمور الّتي تلاحظ على تعريف العلم بانعكاس الخارج في الذهن ، أنّ العلم لا يتحقق بنفس الانعكاس فقط ، وإلّا يلزم تسمية انعكاس الصور الخارجية في المرآة وعلى صفحة الماء ، علماً ، مع أنّه ليس بعلم قطعاً ، وإنّما يتحقق العلم باتّحاد الصورة الحاصلة في النفس مع مدرِكها (بالكسر) ، سواء أقلنا إنّ تلك الصورة أمر مادي ، كما عليه الماديّون ، أو إنَّها أمر مجرّدٌ عن الجسم والجسمانيات. ولو لا تلك الوحدة ، للزم أن لا يتحقق هناك علم ، ولا يتّصف الإنسان بالعالمية ، والخارج بالمعلومية.

وبعبارة أُخرى : لا بُدّ في تحقق العلم من اتحاد بين المدرِك (بالكسر) والمعلوم بالذات ، ويُعَدّ وجود الصورة العقلية ـ عند ذاك ـ من مراتب وجود النفس المُدْرِكة. فمآل اتّحاد العاقل والمعقول إلى اتّحاد وجود الصورة الذهنية مع النفس في مرتبة من مراتب وجودها.

وإيضاحاً للمقصود نقول : إنّا إذا أردنا أن نتعقل مفهوم شيء من الأشياء ، كالشجرة ، فلا بدّ من وجود أشياء :

١. النفس المدرِكة (بالكسر) العاقلة.

٢. ماهية النفس المدرِكة (بالكسر).

٣. المعقول بالذات ، أعني وجود الشجر المعقول بالقوة العاقلة.

٤. ماهية المعقول بالذات.

٥. المعقول بالعرض ، أعني وجود الشجر الخارجي.

٦. ماهية ذلك المعقول بالعرض.

والمراد من اتّحاد العاقل والمعقول ، بكلمة موجَزَة ، هو اتّحاد الثالث مع الأوّل ، بمعنى أنّ الإنسان المدرك يتكامل بتلك الصُّوَر العلمية ، وتُعَدُّ من مراتب وجوده ، كما أنّ الأعراض كذلك بالنسبة إلى الجواهر الخارجية ، ولا يراد من اتّحادهما ، اتّحاد ماهية العقل ـ أي النفس الإنسانية ـ مع ماهية المعقول بالذات ، إذ من المعلوم أنّا اذا تعقلنا شجرة ، لا تصير ماهية الإنسان المدرِك عينَ ماهية الشجرة ، وإذا تعقلنا حجراً ، لا تصير ماهيتنا عين ماهية الحجر. وإنّما المراد ـ كما

٣٠

قلنا ـ اتحاد وجود العاقل مع وجود المعقول بالذات الّذي لا وجود مستقل له عن النفس ، بل يعد مرتبة من مراتب وجودها.

فاتحاد العاقل والمعقول إذن ، هو اتحاد وجود المعلوم بالذات مع وجود النفس المدرِكة ، وأمّا حكم الاتّحاد في سائر الأُمور ، فظاهر من مسألة اتّحاد ماهية كلّ شيء مع وجوده. فماهية النفس متّحدة مع وجودها ، كما أنّ ماهية المعقول بالذات متحدة مع وجود المعقول بالذات ، وكذلك ماهية الموجود المعقول بالعرض متحدة مع وجود الشجر المعقول بالعرض. غير أنّ هذه الاتحادات خارجة عن بحث اتّحاد العاقل والمعقول.

* * *

الجهة السابعة ـ التعريف غير مانع

إنّ هذا التعريف الّذي ذكر للعلم (حضور صورة الشيء لدى العقل) ، وإن كان يعم التصور والتصديق ، اللّذين هما من أقسام العلم كما مضى ويأتي ، ولكنه يدخل فيه ما ليس من أقسامه كالوهم ، والشك ، والظن ، والجهل المركّب.

إنّ هاهنا أمرين :

الأوّل : كون التعريف شاملاً لكلا قسمي العلم.

الثاني : كونه غير مانع عن دخول ما ليس بعلم ، فيه.

أمّا الأوّل ، فلأنّ حضور صورة الشيء عند العقل تارة تكون على وجه التصور الساذج المجرّد عن أي حكم ، كتصور مثلث () إلى جانبه زاويتان قائمتان () ، من دون أن تتحقق في النفس أية فكرة عن العلاقة بينهما ، وهذا هو التصور.

وأُخرى تكون مقترنة بحكم ما ، كالحكم بأن زوايا هذا المثلث تساوي مجموع هاتين الزاويتين القائمتين ، فهذا هو التصديق.

فشمول التعريف لكلا القسمين ممّا لا غبار عليه.

٣١

وأمّا الثاني ، أعني كونه غير مانع ، فلأنّ صورة الشيء موجودة أيضاً في الأحوال الثلاثة : الظن والشك والوهم ، بل في الجهل المركب أيضاً.

وذلك لأنّ الظن بمضمون خبرٍ ما عبارة عن ترجيح مضمونه على ما يخالفه مع تجويز الطرف الآخر ، كالتساوي في المثال المذكور مع تجويز عدم التساوي.

والوهم هو حكم الطرف المرجوح.

والشكَّ بالمضمون عبارة عن تساوي الطرفين في النفس.

ففي هذه الأقسام الثلاثة ، صورة الشيء موجودة في النفس وإن لم يكن هناك حكم قطعي ، فيلزم أن يكون الوهم والشك من أقسام العلم ، مع أنّها من أضداده.

بل يمكن أن يقال : إنّ صورة الشيء موجودة في الذهن في حالة الجهل المركب ، وهو أن يجهل شيئاً ولا يلتفت إلى أنّه جاهل به ، بل يعتقد بأنّه عالم به. كما إذا اعتقد بأنّ فيالدار شخصاً ، وكان الواقع على خلافه. فلا شك أنّه تصوّر الدار والشخص والنسبة بينهما ، غاية الأمر أنّ حكمه كان على خلاف الواقع. فحصلت إذن صورة من الشيء عند العقل.

وقد أشار إلى هذا الإشكال القاضي الإيجي (٧٠٠ ـ ٧٥٦ ه‍) ، في المواقف ، وقال شارحه السيد الشريف الجرجاني (٨١٦ ه‍) : «هذا التعريف يتناول الظن ، والجهل المركب ، والتقليد ، بل الشك والوهم. وتسميتها علماً يخالف استعمال اللغة والعرف والشرع» (١).

ثمّ إنّ الشيخ الحجّة المظفر قد جعل الظن من أقسام التصديق قائلاً بأنّه من أدنى قسميه (٢) ، وهو كما ترى ، إذ ليس في الظن حكم ، لأنّ التصديق فعل النفس ، وهو دائر بين الوجود والعدم ، فلو كان هناك حكم ، يكون حكماً باتاً وجازماً ، وإلّا فلا. وأمّا الحكم الظني فمعناه أنّه يحكم تسعين بالمائة ، لا مائة بالمائة ، وهذا يساوق عدم الحكم.

__________________

(١) شرح المواقف : ١ / ٧٦.

(٢) المنطق : ١٨.

٣٢

نعم ، لا بأس بعدّ التقليد من أقسام العلم إذا حصل منه اليقين. كيف ، وكثير من الموحّدين متيقنون بمبادئ التوحيد والرسالات ، تقليداً لآبائهم ، وتبعاً للظروف والمحيط ، من دون أن يختلج في ضمائرهم شك أو ريب (١).

* * *

النتيجة

فتبين أنّ تعريف العلم بكونه صورة حاصلة من الخارج لدى النفس ، تعريف ناقص لا يعم جميع الأقسام ، فإن هناك علوماً لا تقف النفس عليها بالاتّصاف بالخارج ، وإنّما تقف عليها من صميم ذاتها في ظل عمليات ذهنية خاصة(٢).

* * *

سؤال وجواب

السؤال ـ إنّ هذه الجهات أوقفتنا على أنّ للإنسان معرفة تحصل في ذهنه لا من جهة اتّصاله بالخارج عن طريق الحواس. ولو صحّ ذلك ، فما معنى قوله سبحانه : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣). فإنّ معناه أنّ الإنسان عند ما خرج من بطن أُمّه وظهر إلى هذا العالم ، كان جاهلاً محضاً غير واقف على شيء ، وإنّما صار عالماً من طريق اتّصاله بالخارج عبر الأجهزة الحسّية أعني : السمعُ البصر. فما يدركه الإنسان من العلوم ، إنّما يدركه عن طريق الحواس. ومع ذلك ، كيف يصحّ ادّعاء حصول معارف وعلوم في الذهن من غير هذا الطريق؟

__________________

(١) وإن كانوا يتزلزلون عند طروء الشبهات ، ولكن ذلك أمر آخر.

(٢) مضافاً إلى ما عرفت من أن مجرد الانعكاس لا يحقق العلم ، بل لا بد من وجود وحدة بين المدرِك والمدرَك.

(٣) النحل : ٧٨.

٣٣

نعم ، إنّما اكتفى بالسمع والأبصار مع أنّ الطريق لا ينحصر بهما ، لأجل شرافتهما ، وإلّا فإنّ من المعلوم أنّهما لا يغنيان عمّا يُدْرَكُ بالشمّ والذوق واللمس.

الجواب ـ إنّ هناك فرقاً بين القول بأنّها حاصلة في الذهن من دون أن يكون للخارج أدنى تأثير فيه ، لا مباشر ولا غير مباشر ؛ والقول بأنّها تحصل في النفس بعمليات ذهنية من دون انعكاس مباشر من الخارج ، وإن كان لصلة الإنسان بالخارج عبر حواسه ، تأثير في جميع علومه ومعارفه ، بحيث لو كان الإنسان فاقداً لجميع أدواته الحسيّة ، لما كان قادراً على تصوّر شيء وتصديقه. حتّى أنّ البديهيات الّتي ربما يتصور الإنسان أنّ النفس تنالها من صميم ذاتها ، كاستحالة اجتماع المتناقضين وامتناع ارتفاعهما ، إنّما تنالها عبر اتّصالها بالخارج في شتّى الموارد. فلولا الحسّ لما وقف الذهن على مفهوم الاجتماع ، كما أنّه لولاه لما وقف على مفهوم النقيض أو النقيضين. فالتصديق بالامتناع إنّما يحصل بعد مُعِدّات تعطي له إدراك هذا الحكم بضرورة وبداهة.

* * *

الصحيح في تعريف العلم

قد عرفت أنّ الباحث في غنى عن تعريف العلم ، لأنّه من المفاهيم الّتي يتعاطاها في يومه وليله ، غير أنّا إذا أردنا صياغته في قالب مضبوط ، نقول : إنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم ، إمّا حضوراً بالمباشرة أو بغيرها. وهذا التعريف يشمل جميع أقسام العلم الحضوري والحصولي ، فإنّ المعلوم بالعلم الحضوري حاضر بنفسه لدى النفس ، والمعلوم بالعمل الحصولي ، أعني المعلوم بالعرض ، حاضر لدى النفس بتوسط صورته العلمية.

وعلى ضوء ذلك ، تقف على أنّ كلّ ما نسميه علماً ، يدخل تحت هذا العنوان : حضوره لدى العالم.

* * *

٣٤

الفصل الثاني

أقسام المعرفة

٣٥
٣٦

الفصل الثاني

أقسام المعرفة

للعلم أقسام ، ولأقسامه أقسام ، نستعرضها فيما يلي :

١ ـ انقسام العلم إلى تصور وتصديق

العلم إن خلا عن الحكم فتصوّرٌ ، وإلّا فتصديق. وهما علمان متمايزان بالذات أوّلاً ، وبالآثار ثانياً. أمّا الأوّل ، فلأنّ التصور خال عن الحكم دون الآخر. وأمّا الثاني ، فلأنّ التصور لا يقبل الصدق والكذب ، بخلاف التصديق.

والتصوُّر على أقسام :

فإمّا أن لا يكون فيه نسبة أصلاً ، كالإنسان.

أو فيه نسبة تقييدية ، كالحيوان الناطق.

أو نسبة إنشائية ، كقولك : اضرب.

أو نسبة خبرية لم يُحكم بأحد طرفيها ، كما إذا قيل «زيد قائم» وتصورت «زيداً» و «القيام» و «النسبة» بينهما ، تصوُّراً خالصاً من أيّ حكم.

فكلُّها علوم خالية عن الحكم.

وأمّا التصديق فقد اختلفوا فيه ، فهل هو نفس الحكم ، كما هو مذهب

٣٧

الحكماء الأوائل ، أو المجموع المركّب منه (الحكم) ومن تصورات النسبة وطرفيها ، كما هو رأي الإمام الرازي؟ ، اتّجاهان.

ثمّ على الاتّجاه الأول ، هل متعلّق الحكم هو ذات النسبة ؛ أو وقوعها وعدم وقوعها ، لأنّ النسبة إمّا واقعة والقضية موجبة ، أو ليست بواقعة والقضية سالبة؟ ، قولان ، اختار ثانيهما صاحب المواقف وشارحه.

والتعريف البسيط لتقسيم العلم إلى التصور والتصديق أن يقال : إنّ العلم إمّا تصور ساذج ، أو تصور معه تصديق.

وتقسيم العلم إلى التصور والتصديق من الواضحات ، فإنّهما قسمان متمايزان بالذات ، فإنّك إذا تصورت نسبة أمر إلى آخر ، فقد علمت ذينك الأمرين والنسبة بينهما قطعاً ، فلك في هذه الحالة نوعٌ من العلم. ولو حكمت بأحد طرفي النسبة حصل هناك نوع آخر من العلم ممتاز عن الأوّل بحقيقته ـ وجداناً ـ وبحسب آثاره ولوازمه. فالأوّل لا يقبل الصدق والثاني يقبله.

* * *

٢ ـ انقسام العلم إلى ضروري واكتسابي

ينقسم العلم إلى ضروري ومُكْتَسَب. وقد عُرّف كلٌّ منهما بوجوه ، أحسنها أن يقال:

الضروري ، ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر ، فيحصل بالاضطرار والبداهة ، الّتي هي المفاجأة والارتجال من دون توقّف ، كتصوّرنا لمفهوم الوجود والعدم ومفهوم الشيء ، وكتصديقنا بأن الكلّ أعظم من الجزء ، وبأنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأنّ الواحد نصف الاثنين.

والنظري ، ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر ، كتصور حقيقة الروح والكهرباء أو التصديق بأنّ الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها وحول الشمس ، وهذا ما يسمّى بالكسبي.

وبعبارة أخرى : إنْ كان حصولُ العلم بشيء ، غيرَ متوقف على توسط

٣٨

عملية فكرية ، فهذا هو العلم الضروري. وإن كان متوقفاً عليه ، بأن يتوسل بالمعلومات عنده إلى العلم به ، فهذا هو النظري والكسبي ، فلا يستطيع الإنسان حلّ المعادلات الجبرية بلا توسيط معلومات وتنظيمها على وجه صحيح.

هذا هو التعريف الواضح ، وقد ذكر المتكلمون تعاريف أُخر (١).

ونَزيد بياناً على ذلك بأنّ انقسام كل من التصور والتصديق إلى الضروري والكسبي ، أمر يدركه الإنسان بالوجدان أولاً ، وبالبرهان ثانياً. إذ لولاه لانغلق باب المعرفة ، ولزم الدور والتسلسل ، فإنّه إذا كان كل واحد من التصور والتصديق نظرياً ، فإذا حاولنا تحصيل شيء منهما ، فنحتاج إلى تصوّر وتصديق آخر هو أيضاً نظري مستند إلى غيره من التصورات أو التصديقات ، فإمّا أن يدور الاستناد في مرتبة من المراتب أو يتسلسل إلى ما لا يتناهى ، وكلاهما باطل وممتنع ، فما يتوقف عليهما يكون باطلاً ممتنعاً. فيلزم أن لا يكون شيء من التصور أو التصديق حاصلاً لنا ، وهو باطل جداً (٢).

نظرة أُخرى في التقسيم

قال البغدادي : العلوم عندنا قسمان :

أحدهما : علم الله تعالى ، وهو علم قديم ، ليس بضروري ولا مكتسب ، ولا واقع عن حسّ ولا عن فكر ونظر ، وهو مع ذلك محيط بجميع المعلومات على التفصيل ، يعلم بعلم واحد أزلي غير حادث.

وثانيهما : علوم الناس وسائر الحيوانات ، وهي ضربان : ضروري ومكتسب.

ثمّ قال : العلم الضروري قسمان : علم بديهي ، وعلم حسيّ ، وعَدَّ

__________________

(١) لاحظ أُصول الدين ، للبغدادي ، (المتوفّى ٤٢٩ ه‍) ، ص ٨ ـ ٩. وشرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني (المتوفّى ٨١٦ ه‍) ، ج ١ ، ص ٩٠ ـ ٩٥ ، وقد ذكر تعريفاً للقاضي الباقلاني وناقش فيه.

(٢) وقد أُورد على هذا الاستدلال ما هو مذكور في شرح المواقف ، فمن أراد فليرجع إليه : ١ / ٩٨.

٣٩

الوجدانيات من أقسام العلم البديهي ، والمدرَكات بالحواس الخمس من العلم الحسيّ (١).

وفيما ذكره مجال للتأمّل :

أمّا أولاً : فلأنّ مَقْسَمَ الضروري والكسبي هو العلم الإمكاني الحادث لا العلم الأزلي الواجب غير الحادث ، فلا وجه للبحث عن علم الباري هنا بعد عدم دخوله في المقسم كما اعترف هو.

وثانياً ، فلأنّ العلوم الحسيّة من أقسام البديهية ، والحس أصل ومبدأ لها ، فلا تكون قسيماً للبديهي.

ثمّ إنّ لكلٍّ من الضروري والكسبي أقسام ، نذكرها فيما يلي :

أ ـ أقسام الضروريات

تنقسم القضايا اليقينية إلى ضروريات (بديهيات) ، وكسبيات (نظريات) تنتهي لا محالة إلى الضروريات. فالبديهيات إذن هي أُصول اليقينيات ، وهي على ستة أنواع بحسب الاستقراء : أوليّات ، ومشاهدات ، وتجريبيات ، ومتواترات ، وحدسيات ، وفطريات. وإليك فيما يلي بيان كلٍّ منها إجمالاً :

١. الأوليات ، وهي قضايا يصدّق بها العقل لذاتها ، أي بدون سبب خارج عن ذاتها ، بأن يكون تصور الطرفين مع توجه النفس إلى النسبة بينهما ، كافياً في الحكم والجزم بصدق القضية. فكلما تيسر للعقل أن يتصور حدود القضية (الطرفين) على حقيقتها ، وقع له التصديق بها فوراً ، مثل قولنا : الكل أعظم من الجزء ، والنقيضان لا يجتمعان.

٢. المشاهَدات ، وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بواسطة الحس ، ولا يكفي فيها تصور الطرفين مع النسبة. والحس على قسمين : ظاهري وباطني. فالحكم بأنّ الشمس مضيئة ، والنار حارّة ، يحكم به العقل بواسطة الحسّ

__________________

(١) أصول الدين للبغدادي : ٨ ـ ٩.

٤٠