نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

آخر ، وأنّ الإسلام صار مغلوباً بالمسيحية المزعومة ، أو الماركسية الملحدة ، ولكنه زعم بسيط لا يثبت إلّا بعد نفي سائر الفروض الّتي تصلح لتفسير هذه الغلبة ، ومنها ما سنوضحه.

وقد استغلّ الغربيون هذه الفكرة للدعاية لمصالحهم ، فترى المستشرقين والقسيسين يقولون : إنّ الطريق الدمث لتمييز الحق عن الباطل هو ملاحظة آثار الديانتين : المسيحية والإسلام ، فإنّا نرى أنّ كل بلد أشرقت عليها شمس المسيحية تنعم بالرفاهية والعمران والتقدم الحضاري ، وكل بلد يحكمه الإسلام تسود فيه الأميّة والتخلّف والانحطاط ، أو ليس هذا دليلاً على كون الأولى حقّة والثانية باطلة.

ويقولون : إنّ المسيحية والإسلام شجرتان غرستا في المجتمعات الإنسانية ، إلّا أنّ السبيل السهل لمعرفة حقيقة الشجرة هو ثمرتها ، ونحن نرى أنّ ثمرة شجرة المسيحية هي العلم والتمدن ، وثمرة شجرة الإسلام خلاف ذلك.

ولكن هذه الكلمات مغالطات محضة ، يتأثر بها السذج ، فيفسّرون تقدّم البلاد المسيحية وتأخّر الإسلامية ، بتقدم المنهج النصراني وتفوقه على المنهج الإسلامي ، وهذا ادّعاء محض ، لا يثبت إلّا إذا كانت البلاد الإسلامية إسلامية حقّاً ، وكانت السيادة فيها للإسلام الإسلام ، وكانت البلاد المسيحية مسيحية حقّاً والسائد عليها هو الدين المسيحي ، فعند ذلك يمكن أن نستدلّ بنجاح أحد المنهجين على الآخر بكونه حقّاً والآخر باطلاً.

ولكن لحسن الحظ ، فإنّ كلا الأمرين منتفيان ، فليست البلاد الإسلامية إسلامية بالمعنى الحقيقي ، ولا النظام إسلامي ، ولا الحكام المتصدون للحكومة إسلاميون ، ولا القوانين الإسلامية هي المطبّقة في المجتمع ، وإنّما يحملون اسم الإسلام في تلك المجالات. ويوم كان الإسلام ـ ولو إلى حدود ما ـ سائداً فيها ، كانت مزدهرة بالعلم والعمران ، حليفة الرقي والتقدّم ، وكانت البلاد الأوروبية والغربية عامّة ، بما أنّها كانت متمسكة بالمسيحية المزعومة ، متدهورة ، لا أثر لعلم فيها ولا لحضارة ، يعيش أهلها عيش الوحوش وتحكمهم قوانين الغاب.

وعند ما انقلب الأمر وخلعت البلاد الإسلامية ربقة الإسلام عن عنقها ،

٢٤١

انقلبت حضارتهم رأساً على عقب ، ورحلت عنهم العلوم والمعارف.

وبذلك يتضح أنّ الهزيمة كانت ناتجة عن الابتعاد عن الإسلام ، والانحلال عن الالتزام بمبادئه وأُصوله وفروعه ، كما أنّ غلبة الغرب ناتجة عن طرده للمسيحية المزعومة الّتي كانت تحاصر العلم والعلماء ، وتعذّب المكتشفين والمخترعين ، وتنشر الخرافات والأساطير ، وتمسكه بأسباب الحضارة والأُصول الإنسانية التي لم يزل الإسلام داعياً إليها ، واتّصاله بالحضارة الإسلامية واقتباس علومها وإكمال مسيرتها. والله تعالى يعلم إلى متى تستمر هذه الغلبة ـ وبوادر انحلالهم ويقظة المسلمين قد ظهرت ـ ولله سبحانه سنن لا تتخلّف ، قال سبحانه : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١) ، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٢) ، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (٣).

فما ذكروه من أن ثمرة كل شجرة تعرب عن ماهيتها ، صحيح ، إلّا أنّه يجب ضم معرفة أُخرى إليه وهي أنّ نعلم أنّ هذه الثمرة لهذه الشجرة ، وأنّ التأخّر نتيجة تطبيق الإسلام في هذه الأعصار ، والتقدم نتيجة تطبيق المسيحية كذلك. وهذا العلم منتف ، بل الواقع هو العلم بخلافه.

__________________

(١) الفتح : ٢٣.

(٢) فاطر : ٤٣.

(٣) آل عمران : ١٤٠.

٢٤٢

الفصل الثامن

حدود المعرفة

٢٤٣
٢٤٤

الفصل الثامن

حدود المعرفة

الإنسان بفطرته متشوق لمعرفة كل شيء ويحاول أن يهتك حجاب الجهل عن الكون وأسراره ، والنظام ورموزه ، وأن يحلّق بفكره ، فيقف على الغيب المستور ، ويشاهد الآخرة وهو بعدُ محصورٌ بحصار الزمان والمكان ، مغلول بالقيود الجسمانية والطبيعية الّتي تعرقله عن الغوص في الأعماق البعيدة عنه ، ولكنه هل ينال تلك الأمنية؟ أو يعجز عنها ويقف دونها؟ أو أنّ هناك طريقاً وسطاً يسمح له بسلوك طريق المعرفة على وجه يناسب عقليته وقواه الذهنية ومرتبة وجوده الإمكاني؟

لا ريب في أنّ هناك

موضوعات خارجة عن إطار المعرفة ،

ويقصر العقل الإنساني عن الإحاطة بها وإدراك كنهها ، وفيما يلي بيانها :

١ ـ حقيقة الوجود

إذا قلنا : الشجر موجود ، أو الغنم موجود ، أو الإنسان موجود ، فهناك موضوعات هي : الشجر والغنم والإنسان ، ومحمول هو الوجود. وعند التحقيق نرى أنّ هناك وجوداً نعبّر عنه بمرتبة من مراتب تحققه وعينيّته ، ومبلغه في الكمال.

ففي المثال الأوّل نتصور أنّ الشيء حسب حركته نحو الكمال تدرج من الجسمانية إلى النباتية.

٢٤٥

وفي الثاني نتصوره قد تدرج من النباتية إلى الحيوانية.

وفي الثالث نتصوره قد تدرج من هذه المراتب إلى مرتبة الإنسانية.

فهذه المفاهيم تحدد لنا بعض مراتب الوجود ودرجاته والحدّ الّذي بلغه في الكمال ، وإذا أردنا أن نعبّر عن ذلك بعبارة بسيطة نقول : إنّ الوجود كالشمس المشرقة ليس لنورها لون ، فإذا أشرقت على زجاجة ملونّة ينعكس نورها بحسب لون الزجاجة من أخضر أو أصفر أو أزرق الخ ... فكأنّ شمس الوجود في عالم التكوين ليس لها لون وإنّما تتلون بالحدود والخصوصيات الّتي نعبر عنها بالماهيات ، فيظهر لنا الوجود متلوناً بالنباتية والحيوانية والإنسانية.

وهذا البيان يقرّب لنا معنى الماهية الّتي تضاف إلى الوجود ، ويبين لنا مكانتها بالنسبة إليه ، فالعينية الخارجية هي الوجود ، والحدود المبينة لدرجة كماله ومرتبته في الخارج هي الماهية.

وإذا قال الفلاسفة : الفلسفة عبارة عن العلم بحقائق الموجودات على ما هي عليه حسب الطاقة البشرية ، فلا يريدون إلّا ذلك ، أي الوقوف على حدود الوجود وقيوده والألوان الّتي تلوّن بها ، ولا يزال الإنسان المتحرّي يفتح قُلل المعرفة واحدة بعد الأُخرى ، ويقف على حدود الموجودات حسب ما أوتي من طاقة ، فيصيب أحياناً ويخطئ أُخرى.

ولكنّ هناك كلاماً آخر دقيق جداً ، وهو أنّهم مع تصريحهم بذلك ، يقولون بأنّ الوجود غير معلوم الكنه ، ولا يمكن للإنسان العلم بحقيقته ، وإنّما يعرف الوجود برسمه وشرحه. يقول المحقق السبزواري في منظومته :

مفهومُهُ مِنْ أَعْرَفِ الأشياءِ

وكُنْهُهُ في غايَةِ الخَفاءِ

ولكنْ ، أو ليس هذا تناقضاً في القول حيث إنّهم من جانب يعرّفون الفلسفة بأنّها العلم بحقائق الموجودات ، ومن جانب آخر يقولون بتعذّر معرفة حقيقة الوجود؟ أو أنّه ليس بذلك ، باعتبار أنّ النفي والإثبات ليسا واردين على محلّ واحد؟

فالصحيح هو الثاني ، وإليك بيانه :

إنّ ما يمكن معرفته حقيقةً ـ إن صحّ ـ إنّما هو حدود الوجود وماهيات

٢٤٦

الموجودات ، الّتي ترجع معرفتها إلى معرفة درجة الوجود من حيث الكمال.

وأمّا الموضوع الّذي لا يمكن الاكتناه به ومعرفته حقيقةً ، فهو نفس الوجود متعرّياً عن كل حدّ ولون. وذلك لأنّ الإنسان يتعرف على الأشياء بذهنه ، وأداة الذهن أداة داخلية ، لا يقع في إطارها إلّا ما كان من سنخها وفي مرتبتها. وأمّا الوجود فهو نفس العينية الخارجية، وهو مباين لسنخ أداة إدراك الإنسان وخارج عن مرتبتها ، فلا يقع في أفقها حتّى تتعلّق به المعرفة.

فالذي يقع في إطار الذهن ، هو المفاهيم والصور ، الّتي يعبّر عنها برسم الوجود وشرحه ، وبيان مرتبته وحدّه ، لا الشيء الّذي يشكل دار الوجود والتحقق ، أعني نفس العينية الخارجية ، فإنّه يستحيل من يرد الذهن من غير طريق المفاهيم والصور والإشارات ، ولأجل ذلك قالوا في الوجود : «كنهه في غاية الخفاء».

وبعبارة ثانية : إنّ أدوات المعرفة ، الّتي تتبلور جذورها في الذهن ، إنّما تستطيع درك ما لا يترتب عليه أثر إلّا نفس وجوده ، كالمفاهيم وصور الأشياء ، دون ما تترتب عليه الآثار.

مثلاً : النار الخارجية تتصور معرفتها بنحوين :

أ ـ التعرف عليها بالمفهوم والصورة ، فنتصور مفهوم النار أو صورتها في الذهن ، وهذا ما يقدر عليه الذهن ، لأنّ المعلوم ، أعني المفهوم والصورة ، لا يترتب عليهما شيء.

ب ـ التعرف عليها بحقيقتها العينية ، وحيثيتها الخارجية ، الّتي لا تنفك عن الأثر ـ وهو الإحراق ـ وهذا ما لا يقدر عليه الذهن ، وإلّا لزم أن يحترق الذهن في ظرف ذلك الإدراك ، وليس كذلك ، بل الذهن في درجة ، والمعلوم في درجة أُخرى ، لا يجتمعان.

فبما أنّ حقيقة الوجود في جميع مراتبه من الواجب والممكن ، والعلّة والمعلول ، والمجردات والماديات ، والجواهر والأعراض ، نفس العينية الخارجية الّتي لا تنفك عن الأثر ، لا يستطيع الذهن الاكتناه بها ، اللهم إلّا ما أمكن وقوعه

٢٤٧

في دائرة العلم الحضوري ، كعلمنا بذواتنا ، فإنّ الحاضر لدينا هو وجود ذاتنا ، وإن كان محدوداً بحدود ، ومقيّداً بقيود ، إلّا أنّ وجود النفس ، بما هو وجود ، حاضر لديها ، لا حضوراً بالصورة والترسيم ، بل حضوراً بالعينية والحقيقة.

نعم ، لا يصحّ لنا أن نتخذ ذلك ذريعة لتصحيح علم الإنسان الحضوري بجميع مراتب الوجود ، واجبه وممكنه ، لأنّ علمه الحضوري مقصور على علمه بذاته أو بالصور القائمة بها. وأمّا العوالم الخارجة عنها ، فليست هي عين ذات الإنسان ولا فعلاً قائماً بذهنه.

٢ ـ واجب الوجود

الموجود إمّا واجب لذاته وإمّا ممكن لذاته. فما وجب لذاته ، لا يمكن معرفة كنهه ، لأنّ واجب الوجود ، على خلاف الممكنات ، وجود بحت ، ليس له ماهية وحدود (١) حتّى يتعلق التعرف به.

ولأجل ذلك ، ينسلك واجب الوجود في عدم التعرف على كنهه ، في عداد حقيقة الوجود بعامة مراتبه ، غير أنّ حقيقة الوجود في غير الواجب محدودة بالماهية ، ومقترنة بها ، فيمكن التعرف عليها ، وأمّا في الواجب فهي وجود صرف ، فهو فوق أفق المعرفة.

ولكن هذا لا يعني أنّه لا يمكن التعرف على الواجب بوجه آخر يناسب مقدرة الإنسان ، وهو التعرف عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، والحكم عليه بضرورة الوجود والتحقق ، وأنّه مبدأ الأشياء ، إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يتخذه الإنسان وسيلة للتعرف على تلك الذات ، فيقول : الله موجود ، وهو واجب الوجود ، عالم ، قادر ، حي ، مريد ، حكيم ، ليس بجسم ، ولا عرض ، ولا متحيز ، وهو الخالق ليس له شريك في خلقه ، والمدبر ليس له شريك في تدبيره ، إلى غير ذلك من الصفات الجمالية والجلالية.

__________________

(١) ستوافيك أدلته في الإلهيات في بحث التوحيد الذاتي من مباحث الصفات السلبية.

٢٤٨

٣ ـ حقائق الأشياء

قد عرفت أنّ الماهيات ، حدود الوجود الّتي تتكفل ببيان مراتبه ، ولكن هل بإمكان الإنسان الوقوف على واقعية تلك الحدود الّتي يعبّر عنها تارة بالماهيات ، وثانية بالجنس والفصل ، وثالثة بالنوع؟ أو أنّ المعرفة تقتصر على لوازم الأنواع وخصائصها الّتي يعبّر عنها بالأعراض الخاصة والعامة؟

المنقول عن الشيخ الرئيس أنّ معرفة حقائق الأشياء أمر عسير إن لم يكن محالاً ، وأنّ المعرفة إنّما تتعلّق بلوازمها وخصوصياتها.

مثلاً : المعروف في بيان حقيقة ماهية الإنسان أنّه «حيوان ناطق» ، حيث جعلوا «الحيوان» جنساً ، و «الناطق» فصلاً. مع أنّ فيه تأمّلاً واضحاً ، لأنّه إن أُريد من الناطق ، الناطق باللسان ، فالنطق كيف جسماني ؛ وإنْ أُريد منه المفكر ، فالتفكير كيف نفساني ؛ وإنْ أُريد منه النفس الناطقة ، فما هي ماهية النفس؟.

يقول بعض المعاصرين : «إنّا نعيش في عالم مملوء بالحقائق والقوى ، ولا نعلم أيَّ شيء هي. وهذا في الدنيا الّتي نعيش فيها ، ونلمسها ، ونزاول شئوننا فيها ، فكيف بالعوالم الأُخرى البعيدة عنّا؟ نقول : إنّ العالم مكوّن من ذرّات ، ونقول إنّ الذرّة مكونة من الكترونات ، أو من نواة وشحنة كهربائية سالبة وموجبة ، ويتغيّر رأينا في تكوين الذرّة بمعدّل مرّة كل أربع سنوات ، ونتبجح فنعمل من الذرّة قنابل ذريّة ، ونحن لا نعلم عن حقيقتها شيئاً. نقول إنّ الأجسام تسقط لقانون الجاذبية ، والمصباح يشتعل بالكهرباء ، ونسخّر الكهرباء في إيجاد الحرارة والبرودة والحركة ، وإيجاد الأمواج واستقبالها ، ولكن ما الكهرباء؟ لا نعلم عن حقيقتها شيئاً ، وإنّما نعلم كيف تستخدم ، بل الحياة نفسها لم نعرف حقيقتها ، وإن كانت تسكن فينا ، وكل ما حولنا لا نعرف حقيقته ، وإنّما نعرف أعراضه. وبعبارة أُخرى : نعرف «كيف» ، ولا نعرف «ما» و «لما ذا» (١).

__________________

(١) مجلة رسالة الإسلام الصادرة عن دار التقريب بالقاهرة ، السنة الرابعة ، العدد الأول (ربيع الثاني ١٣٧١ ه‍) ، ص ٢٤ ، مقالة للدكتور أحمد أمين بعنوان «ما نعلم وما لا نعلم».

٢٤٩

ولكن الحق أن يقال : إنّ الإنسان ـ بما أُوتي من بضاعة مزجاة في مواجهة هذا الكون العظيم ـ عاجز عن معرفة حقائق أكثر الموجودات ، وإنّما يتمكن من التعرف على صفاتها الظاهرية ـ كثيراً ما ـ والباطنية ، أحياناً.

ومع هذا الاعتراف ، لا مانع من تعلّق نور العلم بحقائق بعض الأشياء ، وإن كان الجزم بها ، خصوصاً في مثل الفرضيات العلمية ، أمر مشكل ، لأنّ مُثْبَتات العلوم والمعارف ـ عدا مسلّماتها القطعية ، كالأحكام الكلية في الفن الأعلى والفلسفة الأُولى ، والقواعد الرياضية والهندسية ومبادئ العلوم الطبيعية ـ أقول : لأنّ مثبتاتِ العلوم والمعارف في اليوم الحاضر ، منفياتُها في الغد والمستقبل. وعلى الإنسان أن يذكر في كل حال قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

هذا هو الحدّ الّذي يجب أن يقال في المقام من غير فرق في ذلك بين الأُمور الطبيعية والخارجة عن إطارها.

هل تتعلق المعرفة بالخارج عن إطار الحسّ؟

الإجابة عن هذا السؤال متفرعة على نتيجة البحث في أداة المعرفة ، فإن قلنا هناك بانحصار أداتها في الحسّ وما يشابهه ، كالتمثيل والاستقراء والتجربة ، فلا تتعلق المعرفة بما وراء المحسوسات ، لعدم وجود أداة قابلة لإدراكها.

وأمّا لو قلنا بأنّ العقل أحدها ، بل قلنا بأنّ الأدوات الأُخرى لا تنتج إلّا بمعونة العقل ، فعندئذٍ لا يبقى هناك فرق بين المحسوسات والمعقولات ، والماديات والمجردات.

فوجود أداة العقل ، دليل على إمكان المعرفة ، وقد تقدم فيما سبق أنّ طريق البرهنة على النظريات الخارجة عن إطار الحسّ ، هو إنهاؤها حسب التسلسل المنطقي إلى البديهيات ، فعند ذلك يستطيع العقل التعرّف على المحسوسات وما وراءها ، لأنّ البديهيات بديهية الصدق ، وما يبتني عليها يكون صادقاً مثلها.

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

٢٥٠

وبعبارة أُخرى : إنّ التعرّف على ما وراء الحسّ ، يحصل في ظل البرهان ، وهو مركب من اليقينيات ، وأصولها ست : الأوليّات ، والمشاهدات ، والتجريبيات ، والحدسيات ، والمتواترات ، والفطريات. فإذا كان الأساس صادقاً ، فما يبتني عليه يكون مثله.

وبذلك تقع عوالم الوجود في إطار المعرفة ، فالإنسان يتعرّف عليها من مبدئها إلى منتهاها. ولا يَحُدّ من إطارها إلّا ما يحدّ من أدوات المعرفة.

ولأجل إيقاف الباحث على كيفية تعلّق المعرفة بما وراء الحسّ ، نأتي بتقريبات يسهل معها التصديق بإمكان معرفة المغيبات والعوالم الخارجة عن إطار الحسّ :

١ ـ العقل الباطن أو اللاوعي

كانت النظرية السائدة في علم النفس أنّ الإنسان ذو نفس واعية وعقل شاعر ، يتصوّر ويصدّق ، وتظهر سلطانها في الأفعال والحركات وغير ذلك ممّا يرجع إليها.

ولكن التحليل النفسي ـ فيما بعد ـ كشف عن أنّ هذا الذهن المشهود ، هو أحد وجهي العملة ، وأنّ الوجه الآخر ، جانب مغمور من النفس لا يلتفت إليه الإنسان ، سمّي بالعقل الباطن أو اللاوعي.

وقد أخذ بحث اللاوعي شوطاً كبيراً من الاهتمام ، بعد اكتشافه كحدث عظيم في تاريخ علم النفس على يد مدرسة التحليل النفسي الّتي يتزعمها «فرويد» ، وقد تبعه على هذا النهج تلامذته نظراء «يونغ» (١) و «أدلر» (٢) ، وإن

__________________

(١)gnuJ ، كارل غوستاف (١٨٧٥ ـ ١٩٦١ م) ، سويسري. أسس مدرسة «علم النفس التحليلي» بعد انفصاله عن فرويد ١٩١٣. يرى أنّ وراء اللاشعور الفردي ، لا شعور جماعي ، يتكون من أنماط قديمة من النزعات والتصورات الموروثة. وضع اختبار تداعي المعاني للكشف عن العقد النفسية. ونظريةً في أنماط الشخصية ، له مذكرات نشرت عام ١٩٦٣.

(٢)reldE ، ألفرد إدلر (١٨٧٠ ـ ١٩٣٧ م) سويسري. أسس مدرسة «علم النفس الفردي». والمشهور أنّ إدلر يعارض التحليل النفسي الفرويدي في تضخيمه للجنس ، مؤكّداً بالعكس دور الأنا ـ

٢٥١

اختلفا مع استاذهما في بعض النتائج. وركّز المحلّلون النفسيون اهتمامهم على الدوافع والأسباب اللاشعورية الّتي تتستر خلف بعض الأفعال السلوكية والحالات النفسية للإنسان ، وكشفت بذلك على سر عظيم في باطن الإنسان ، غير مرئي ولا ملموس لنا ، وإنّما نتعرف عليه من سلوك الإنسان وحالاته النفسية. وإليك فيما يلي البيان.

إنّ الشخصية النفسية الّتي يشير إليها الإنسان بلفظ «أنا» ، يشكلها أمران نفسيان يعبّر عنهما في مصطلح علماء النفس بالعقل الواعي والعقل الباطن ، أو الشعور واللاشعور.

فالعقل الواعي ـ وهو المشهود لكل إنسان ـ هو المسئول عن سلوك الفرد وأفعاله وتصرفاته الاختيارية في الحياة. وهو ـ بما أنّه قوة مدركة للإنسان ويعمل في ظل الاختيار والإرادة ـ يكون شاعراً وعالماً بما يقع في صفحة النفس ، وتظهر آثاره في أفعاله وحركاته وسكناته ، في حالات وعي الإنسان والتفاته وصحوته ، ويتوقف عن العلم إذا كان مسلوب الإرادة أو واقعاً تحت تأثير ظروف خاصة ، كما سيأتي. وهذا كلّه مشهود لا نقاش فيه.

ثمّ إنهم اكتشفوا بأنّ للإنسان وراء ذلك وجداناً آخر وعقلية خاصة ، تكونها عناصر عدّة ، يمكن جمعها في أمرين :

الأوّل : المكبوتات ، وهي الأسرار والميول والرغبات الّتي يعاني منها الإنسان ، فهو يخشى ظهورها وبروزها ، فيحاول أن يدفنها وينساها ويمحوها من صفحة ذهنه الواعي ، ليرتاح من دوام الالتفات إليها.

الثاني : الروحيات ، وهي الفطريات الإنسانية والدوافع المثلى فينا ، كحب العلم والفن وحب الخير والنفور من الشر. وأيضاً : العقد النفسية ،

__________________

ـ الشعوري ، وفاعلية الأهداف في مقابل العوامل الطفلية ، وأنّ اضطرابات السلوك والأعراض العصبية تنشأ عن التعويض الزائد عمّا يعانيه الشخص من نقص وقصور وشعور بالدونية ، وما يصيب نزعته إلى التفوق والعلو ، من هبوط وحرمان. وتتلخص ـ بنظره ـ أهداف الإنسان الرئيسية في التوافق الاجتماعي ، والنجاح المهني ، وإشباع الحب جسمياً وعاطفياً وروحياً. ومن مؤلفاته : «علم النفس الفردي علماً وعملاً» و «فهم الطبيعة البشرية».

٢٥٢

والانحرافات السلوكية الّتي تمنع البيئة أو العادات والتقاليد من إظهارها ، كعقدة التحقير ، والكبر ، والعجب ، ونحو ذلك.

وهذه المكبوتات والروحيات تجتمع في أعماق النفس لتشكّل العقل اللاواعي للإنسان. وما دام الإنسان في حالات الوعي والشعور والاختيار ، يكون العقل الواعي هو المتسلط على أفعاله ، المانع لتلك المخفيات عن الظهور.

غير أنّ تلك السيادة ، سيادة مؤقتة ، تدوم ما دام الوعي والإرادة مسيطرين ، فإذا ارتفعا عنه ، وقع أسير عقله الباطني من حيث لا يشعر ، وانبثقت مكبوتاته وروحياته من مَكْمَنِها ، فتتجلّى على أسارير وجهه ، وفلتات لسانه ، وتهورات جوارحه.

وأكثر ما تبرز مخفيات العقل الباطني ، في حالتين :

الأولى ـ حالات غفوة العقل الظاهر ، وكبوته ، كحالة النوم والسكر وغيرها. ولذا يذكر الإنسان في حالة النوم ما لا يذكره في اليقظة ، ويبدي في بعض حالاته ـ كحالات التنويم المغناطيسي ـ ما لا يبديه في يقظته ، وما ذلك إلّا لأنّ العقل الواعي كان مسيطراً على العقل الباطني في حال اليقظة ، فإذا غفا ونام ، سلبت سيادته ، وتوقف في تلك اللحظات عن عمله ، مفسحاً بذلك المجال أمام مخفيات العقل الباطن.

وهكذا في حال السكر ، حيث تمحق ملكات التمييز والإرادة ، فيقع السكران في نفوذ ضرب من الهذيان ، تواكبه ثائرات زائفة ، وكل ذلك من تجليات ما أُبطن في عقله.

الثانية ـ الحوادث النفسية ، والمؤثّرات الروحية الخارجية ، الّتي تخضع العقل الظاهر لتأثيرها الشديد ، وتسلب عنه السيطرة الكاملة. كحالات الغضب ، والحسد ، والنزعات العاطفية ، وتَوَهُّم العقاب أو الفضيحة وما شابه ذلك. فالحسود ـ مثلاً ـ إذا سمع مأثرة عن منافسة ، يجرّ رداءه ـ بلا شعور ـ أو يحرّك سبحته بشدة أو غير ذلك من الحركات الّتي تبرز روحياته الباطنية.

إذا تبين ذلك نقول : إنّ العقل الباطن ليس شيئاً ملموساً ولا مشهوداً ،

٢٥٣

ومع ذلك كلّه فقد كشفت عنه الأبحاث النفسية ، ودلّت عليه المشهودات الحسيّة من أفعال الإنسان في الحالات المختلفة الّتي ذكرناها. أفيصح بعد هذا أن يقال إنّ التعرّف على الذهن الباطن غير ممكن بحجة أنّه غير ملموس ولا محسوس ولا واقع في إطار التمثيل والاستقراء والتجربة؟ بل يكفينا في ذلك أنّ الأثر يكشف عن وجود المؤثر ، والآية تدلّ على ذيها.

ولا خصوصية لهذا المقام ، بل جميع المغيبات من هذا القبيل ، نكشفها بآثارها وآياتها.

وممّا يثبت أنّ للإنسان عقلاً باطناً أنّه ربّما يتأثر بعوامل خارجية ، خارجة عن إطار العقل الواعي ، خصوصاً إذا عطل العقل الواعي بالتنويم الصناعي أو المغناطيسي الّذي كشفه الدكتور مسمر (١) الألماني في القرن الثامن عشر ، وجاهد هو وأتباعه مدى قرن كامل من الزمن في سبيل إثباته. وقد نجح في اختباراته ، فاعترف العلماء به علمياً ، وها نحن نضع بين يديك هنا تجربة واحدة من تجارب التنويم الصناعي تقرّب إليك البعيد ، نقلها الأستاذ المصري الزرقاني في مناهل العرفان ، قال :

«هذه التجربة رأيتها بعيني ، وسمعتها بأُذني ، على مرأى ومسمع من جمهور مثقف كبير. قام المحاضر وأحضر الوسيط ، وهو فتىً فيه استعداد خاص للتأثر بالأستاذ. نظر الأستاذ في عيني الوسيط نظرات عميقة نافذة ، وأجرى عليه حركات يسمونها سحبات ، فما هي إلّا لحظة حتّى رأينا الوسيط يغط غطيط النائم ، وقد انتقع لونه ، وهمد جسمه ، وفقد إحساسه المعتاد ، حتّى لقد كان أحدنا يخزه بالإبرة وخزات عدّة ، ويخزه كذلك ثانٍ وثالث ، فلا يبدي الوسيط حراكاً ، ولا يظهر أي عرض لشعوره وإحساسه بها. وحينئذٍ تأكّدنا أنّه قد نام ذلك النوم الصناعي أو المغناطيسي وهنالك تسلّط الأستاذ على الوسيط يسأله : ما اسمك؟. فأجابه باسمه الحقيقي ، فقال الأستاذ : ليس هذا هو اسمك ، وإنّما اسمك كذا (وافترى عليه اسماً آخر) ، ثمّ أخذ يقرر في نفس الوسيط هذا الاسم الجديد الكاذب ، ويمحو منه أثر الاسم القديم الصادق بواسطة أغاليط

__________________

(١) فردريك أنطون مسمر (١٧٣٤ ـ ١٨١٥ م).

٢٥٤

يلقنها إياه في صورة الأدلة ، بكلام يوجهه إليه في صيغة الأمر والنهي ، وهكذا أملى عليه هذه الأكذوبة إملاءً ، وفرضها عليه فرضاً ، حتّى خضع لها الوسيط وأذعن.

ثمّ أخذ الأستاذ وأخذنا نناديه باسمه الحقيقي المرّة بعد الأُخرى ، في فترات متقطعة ، وفي أثناء الحديث ، على حين غفلة ، كل ذلك وهو لا يجيب. ثمّ نناديه باسمه المصنوع فيجيب دون تردد ولا تلعثم.

ثمّ أمر الأستاذ وسيطه أن يتذكّر دائماً أنّ هذا الاسم الجديد هو اسمه الصحيح ، حتّى إلى ما بعد نصف ساعة من صحوه ويقظته. ثمّ أيقظه وأخذ يتم محاضرته ، ونحن نَفْجَأُ الوسيط بالاسم الحقيقي فلا يجيب ، ثمّ نفجؤه باسمه الثاني فيجيب. حتّى إذا مضى نصف الساعة المضروب عاد الوسيط إلى حاله الأُولى من العلم باسمه الحقيقي.

وبهذه التجربة أثبت الأُستاذ أنّ المنوِّم (بكسر الواو) يستطيع أن يمحو من نفس وسيطه كلَّ أثر يريد محوه ، مهما كان ثابتاً في النفس ، كاسم الإنسان ، عنه. وبهذه التجربة أثبت أنّ للإنسان عقلاً باطناً مثل عقله المعتاد ، وأنّه في حالة التنويم يرى ويسمع من بعد شاسع ، وأنّ للتنويم درجات بعضها فوق بعض ، يزداد العقل الباطن سمواً بتنقله فيها ، إلى غير ذلك من الآثار الّتي ذكروها في محله(١).

إنّ هذه التجارب وأمثالها الّتي تكررت في عالم العلم كثيراً ، نوافذ على الغيب ، تهزّ ضمير الإنسان وتنبهه إلى أن لا يأخذه العجب بما أوتي من معلومات ضئيلة ، فينكر غير المحسوس والخارج عن عالم الطبيعة ، وليس الإنسان محروماً من التطلع إلى الغيب ، بل وشهوده ، بالطرق العلمية كالتي ذكرنا ، أو المعنوية كالكشف والشهود لأهلهما.

العقل الباطن في الكتاب والسنّة

وفي الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية إشارات إلى العقل الباطن والشخصية الثانوية للإنسان.

__________________

(١) مناهل العرفان في علوم القرآن : ١ / ٦٠ ـ ٦١.

٢٥٥

يقول سبحانه : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (١).

يقول العلامة محمد حسين الطباطبائي (١٣٢١ ـ ١٤٠٢ ه‍) : الجهر بالقول ، رفعُ الصوت به. والإسرار خلافه. قال تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) (٢). و «أخفى» : أَفْعَل التفضيل من الخفاء ، وذِكْر الجهر بالقول في الآية أولاً ، ثمّ إثبات العلم بما هو أدقّ منه ، وهو السرّ ، والترقّي إلى أخفى ، يدلّ على أنّ المراد إثبات العلم بالجميع ، والمعنى : وإن جهرت بقولك وأعلنت ما تريده ، أو أسررته في نفسك وكتمته ، لا بل كان أخفى من ذلك ، بأن كان خفياً حتّى عليك نفسك ، فإن الله يعلمه (٣).

فالآية تدلّ على أنّ هناك أشياء في الضمير الإنساني ، مكتومة على الإنسان نفسه ، لأنّها ليست في عقله الواعي ، بل في عقله الباطن الّذي لا تتجلى سرائره وخفاياه إلّا في حالات خاصة كما ذكرنا.

وروى الصدوق في معاني الأخبار عن محمد بن مسلم ، قال : «سألت أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) ، قال : «السرّ ما أكننته في نفسك ، و «أخفى» : ما خطر ببالك ثمّ أنسيته» (٤).

وقال الإمام علي عليه‌السلام في إشارة واضحة إلى العقل الباطن الّذي يختفي عند سيادة العقل الواعي ، ثمّ يظهر على حين غرّة عند كبوته أو خضوعه للمؤثرات النفسية القوية : «ما أَضْمَرَ أحدٌ شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه» (٥).

وقال عليه‌السلام في الدعاء الّذي علّمه لكميل بن زياد النخعي : «إلهي

__________________

(١) طه : ٧.

(٢) المُلْك : ١٣.

(٣) الميزان في تفسير القرآن : ١٤ / ١٣٢.

(٤) معاني الأخبار : ١ / الباب ٨٢ ، ص ١٤٣ ، الحديث الأوّل. ورواه الطبرسي في مجمع البيان عن السيدين الباقر والصادق عليهما‌السلام : ٤ / ٣.

(٥) نهج البلاغة ، قصار الحكم ، الرقم ٢٦.

٢٥٦

وسيدي ، فأسألك بالقدرة الّتي قدّرتها ... أن تهب لي في هذه الليلة ، وفي هذه الساعة ، كل جُرْمٍ أَجْرَمْتُه ... وكلَّ سيِّئة أَمَرْتَ بإثباتها الكِرامَ الكاتبين الذين وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يكون مني وجعلتهم شهوداً عليّ مع جوارحي ، وكنت أنت الرقيب عليّ من ورائهم ، والشاهد لما خفي عنهم» (١).

٢ ـ تجرّد النفس

الأدلة القائمة على تجرّد النفس عن المادة ، وأنّها شخصية مستقلة لها السيادة والتسلط على المادة (البدن) ، نافذةٌ على الغيب تثبت أنّ ما وراء الطبيعة قابل للتعرف عليه. وفيما يلي نذكر أحد أدلّة وجود النفس المجردة ، وهو دليل من سنخ الأدلة الّتي يعتمد عليها علماء النفس في إثبات النفس وحالاتها.

ما هو المشار إليه بلفظ «أنا»

لم يزل كل واحد منّا ينسب أفعالاً كثيرة إلى نفسه الّتي يعبّر عنها ب «أنا» ، أو بالضمير المتصل ، ويقول : قرأت ، كتبت ، أردت ، أحببت ، بل لا يكتفي بذلك ، فيضيف أعضاءه إليها ، ويقول : يدي ، رجلي ، عيني ، قلبي ، وما شاكل ذلك. وهذا ممّا يتساوى فيه الإلهي والمادي ، ولا يمكن أن ينكره أحد.

غير أنّه يجب علينا أن نتعرف على تلك الحقيقة المعبّر عنها ب «أنا» الّتي تستند إليها الأحوال الروحية والخارجية.

فالحسيّون يقولون : ليس هنا إلّا مجموعة أفعال وأفكار وتصورات متلاحقة ، تشكّل هذه الحقيقة ، وليس لها حقيقة مستقلة. غير أنّ الإلهيين يعتقدون بوجود حقيقة مستقلة تقف وراء الأفعال الذهنية والخارجية ، وإليها تستند تلك الأفكار والتصورات والأفعال.

والّذي يبين صحة النظرية الثانية هو أنّ الأفعال البشرية ، رغم صدورها عن أعضاء مختلفة ، ينسبها الإنسان جميعها إلى مصدر واحد ويقول : أنا

__________________

(١) مصباح المتهجد ، للشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) ، ص ٧٧٤ و «الإقبال» ، ص ٧٠٦.

٢٥٧

شاهدت ، أنا مشيت ، أنا فكّرت ، أنا أذعنت. فلا مناص ـ حينئذٍ ـ من الاعتراف بأنّ هناك ، وراء هذه المحمولات ، موضوعاً واحداً ، تحمل عليه جميع هذه المحمولات ، حتّى يصحّ هذا الإسناد.

ولو كان المشار إليه هو نفس التصورات والأفعال المتراكمة ، لوجب أن تكون هذه القضايا محمولات بلا موضوع ، لأنّ القائل لا يعترف إلّا بالفعل كالرؤية ، والتفكير و ... ، أو يلزم أن يكون الموضوع نفس المحمول ، لأنّه إذا كانت الأفعال المتلاحقة هي نفس «أنا» ، يكون الموضوع مفهوماً منتزعاً من تلك الأفعال ، وكلا الأمرين ـ أي كون القضية بلا موضوع ، أو كون الموضوع نفس المحمول ـ خاطئ بالوجدان والبرهان.

وبعبارة أُخرى : إذا صحّت نظرية الحسيين القائلة بأنّ شخصية الإنسان ليست سوى نفس أفعاله ، لزم من ذلك أن يكون الموضوع نفس المحمول ، بمعين أن يكون المنسوب إليه نفس المنسوب. وهذا ما ذكرنا من أنّه يستلزم أن تكون القضايا فاقدة للموضوع ، أو تكون نفس المحمول. والكل باطل ، لأنّ المحمول غير الموضوع ، والمنسوب إليه غير المنسوب. وهذا خير دليل على وجود حقيقة مستقلة عن الأفكار والأفعال ، هي الشخصية الإنسانية المعبّر عنها ب «أنا» ، أو النفس الإنسانية» (١).

وهذا كما يدلّ على وجود مصدرٍ لهذه الأفعال ، يدلّ على أنّه غير البدن ، لأنّ المفروض أنّ ما يصدر من الأعضاء ـ كالرؤية والتفكير ـ يسند إليه أيضاً ، لا إلى البدن. وهذا يكشف عن أنّه غير البدن ، وعن أنّه خارج عن إطار الحسّ والمادّة.

وهكذا إذن ، فالموضوعات المجرّدة ، تماماً كالموضوعات المادية ، واقعة تحت أفق المعرفة ، عبر النوافذ الّتي يمكن الإنسان بها التطلع إلى ما وراء عالم المادة.

__________________

(١) وقد اكتفينا هنا بهذا البرهان. وذكرنا ثلاثة براهين أخرى على تجرد النفس في بحث المعاد من «الإلهيات» ، تحت عنوان تجرّد الروح الإنسانية ، وكلّها براهين علمية يعتمد عليها الفلاسفة وعلماء النفس. ونشير إلى رءوسها :

أ ـ ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغيّرات الجسدية.

ب ـ علم الإنسان بنفسه مع غفلته عن بدنه.

ج ـ عدم انقسام الذات الإنسانية.

٢٥٨

٣ ـ الرؤيا الصادقة

إنّ علماء النفس قسّموا الرؤيا إلى أقسام.

أ ـ أضغاث أحلام ، وهي الأحلام الّتي تنشأ من هموم الإنسان وأفكاره الّتي يعايشها في يقظته فهي تراوده عند النوم في صورة الأحلام والمنامات. وهي لا تدلّ على شيء ، لأنّها ليست سوى انعكاسات لأفكار اليقظة ومشاكل الحياة.

ب ـ تجلّي اللاوعي في صفحة الوعي ، وقد عرفت الكلام فيه. وهو إن دلّ ، فإنّما يدلّ على أنّ شخصية الإنسان ليست هي الظاهر منه فحسب ، بل له باطن لا يقلّ عن ذلك الظاهر.

ج ـ الرؤيا الصادقة ، والمراد منها الصور الواقعية المرئية عند النوم ، الحاكية عن أحداث قطعية وقعت قبل الرؤيا أو حينها أو بعدها ، ولم يكن منها في خلْد الإنسان شيء.

قال الشيخ الرئيس : التجربة والقياس متطابقان على أنّ للنفس الإنسانية ان تنال من الغيب نيلاً في حالة المنام ، فلا مانع من أن يقع ذلك النيل في حال اليقظة ، إلّا ما كان إلى زواله سبيله ، وإلى ارتفاعه إمكان.

أمّا التجربة ، والتسامع والتعارف (أي إخبار الآخرين والمعرفة الشخصية) ، يشهدان به. وليس من أحد من الناس إلّا وقد جرّب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق ، اللهم إلّا أن يكون أحدهم فاسد المزاج (١).

يريد الشيخ أنّ لكل أحد تجارب شخصية في حقل الأحلام الصادقة ، إلّا أن يكون فاسد المزاج. ويدلّ على ذلك أنّ هناك أحلاماً تحكي عن أحداث واقعة في عالم اليقظة دون أن يكون لها جذور في أعماق النفس ، ودون أن يكون لها سوابق في باطن الإنسان ، وقد ألّف غير واحد في ذلك المجال تآليف قيّمة ، من أرادها فليرجع إليها (٢).

__________________

(١) الإشارات ، مع شرحه للمحقق الطوسي : ٣ / ٣٩٩.

(٢) لاحظ «دار السلام فيما يتعلق بالرؤيا والمنام» ، للمحدث النوري (م ١٣٢٠ ه‍) و «الآيات ـ

٢٥٩

إنّ الاستدلال بهذه الرؤيا ، على وجود عالم الغيب ، وإمكان التعرّف عليه ، بالطريق التالي :

إنّ هذه الرؤيا تكشف عن أحداث قطعية وقعت قبلها ، لم يكن الإنسان واعياً لها ولا مطّلعاً عليها ؛ أو بعد الرؤيا ، كما هو الحال في رؤيا النبي يوسف ، حيث يدلّ ذلك على أنّ للأحداث وجودات مثالية خارجة عن إطار المادة ، تتعرّف عليها النفس في ظروف خاصة ، حتّى قبل أن تتحقق. فالنبي يوسف رأى سجود والديه وإخوته له ، قبل مدّة طويلة من تحققه ، وقد ظهرت له هذه الحقيقة بصورة سجود الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً ، له.

وقد أفرط الغربيون في البحث عن هذا القسم من الرؤى ، واستنتجوا منها وجود عالم خارج عن إطار المادة ، فيه صور الأشياء.

وقد جاء في القرآن ذكر عدّة رئي صادقة رآها الأنبياء وغيرهم وتحققت بعد زمن من رؤيتها ، وهي (عدا رؤيا يوسف الّتي قد عرفت) :

ـ رؤيا أحد زميلي يوسف في السجن (١).

ـ رؤيا زميله الآخر(٢).

ـ رؤيا ملك مصر في عهد يوسف (٣).

ـ رؤيا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخول مكّة (٤).

ـ رؤياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزو بني أُميّة على منبره (٥) (٦).

__________________

ـ البيّنات في حقيّة بعض المنامات» ، للمحقق التستري (١٣٢٠ ـ ١٤١٥ ه‍) وهو حيّ يرزق مدّ الله في عمره. وقد ذكر الأستاذ ـ دام ظلّه ـ نبذاً من ذلك في كتاب «الله خالق الكون» الذي أُلّف تحت إشرافه فلاحظ : ٣٨٧ ـ ٣٩١.

(١) قوله تعالى : (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) يوسف : ٣٦.

(٢) قوله تعالى : (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) يوسف : ٣٦.

(٣) قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) يوسف : ٤٣.

(٤) قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الفتح : ٢٧.

(٥) قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) الإسراء : ٦٠. لاحظ في نزولها مجمع البيان : ٣ / ٤٢٤.

(٦) إن للفخر الرازي كلاماً في ذكر سبب الرؤيا الصادقة ، يقول : أمّا الرؤيا الصادقة ، فالكلام في ـ

٢٦٠