نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

ويردونه على وجه القطع والبتّ ، ويشبّهون من يمشي طريق المعرفة بالعقل ، بمن يمشي برجل خشبية.

غير أنّ ذلك مغالاة في القول ، لا يصدقه العقل ، فكيف بالكتاب العزيز؟!

مع أنّا نؤاخذ عليهم بأنّ ما ذكروه ، هو استدلال بالعقل والبرهان على إبطال العقل ، والبرهان ، حيث يشبّهون الماشي في طريق كسب المعرفة على ضوء العقل ، بمن يمشي برجل خشبية ، فكما أنّ الرجل الخشبية تعرقل الإنسان عن إدامة المشي ، فهكذا العقل. إذ لو لم يكن العقل من أدوات المعرفة ، فكيف يستدلّ به على حصر أدوات المعرفة بالإلهام والإشراق.

ولو رفضنا المغالاة في القول ، فالحق أن نقول : إنّ الحسّ والعقل أوسع نفعاً من الإلهام والإشراق ، فإنّ الأَولَيْن يعمّ الانتفاع بهما كل الناس ، بينما الأخيرين لا ينتفع بهما إلّا قلّة ممّن ذكرنا أوصافهم ، وليسا رميةً لكلّ نبّال.

هذا ، والذكر الحكيم كما دعا إلى هذا النوع من المعرفة كما سيوافيك ، دعا إلى الانتفاع بالحسّ والعقل وأكّد عليه كثيراً ، من ذلك قوله سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).

وبهذا تقف على الفرق بين العارف الإسلامي والصوفي المتقشّف ، فالأخير يخصّ أداة المعرفة بالإلهام ، بينما العارف الإسلامي ، كما يستضيء بهذه الأداة ، يستضيء بالحسّ والعقل ، ويعطي كلًّا حقَّه.

وللشيخ الرئيس ابن سينا في الإشارات ، ولشارحه أيضاً المحقق الطوسي ، كلام في المقام ، نذكر منه المقتطفات التالية :

قال الشيخ : «إنّ للعارفين مقامات ودرجات يُخَصُّونَ بها ، وهم في حياتهم الدنيا ، دون غيرهم ، فكأنّهم وهم في جلابيب من أبدانهم ، قد نضّوها وتجرّدوا عنها إلى عالم القدس ، ولهم أُمور خفية فيهم ، وأُمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها ، ويستكبرها من يعرفها».

__________________

(١) يونس : ١٠١.

١٨١

وقال المحقق في شرحه : «إن نفوسهم الكاملة ، وإن كانت في ظاهر الحال ملتحفة بجلابيب الأبدان ، لكنها كأنْ قد خلعت تلك الجلابيب ، وتجرّدت عن جميع الشوائب الماديّة ، وخلصت إلى عالم القدس متصلة بتلك الذوات الكاملة البريئة من النقصان والشّر ، ولهم أُمور خفية ، وهي مشاهداتهم لما تعجز عن إدراكه الأوهام ، وتكلّ عن بيانه الألسنة ، وابتهاجاتهم بما لا عين رأت ولا أُذن سمعت» (١).

وقال الشيخ الرئيس في موضع آخر : «وإذا بلغك أنّ عارفاً حدّث عن غيب ، فأصاب ، متقدِّماً ببشرى أو نذير ، فصدِّق ، ولا يتعسّرن عليك الإيمان به ، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة» (٢).

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس يصرِّح بأنّ النفوس القوية إذا كانت غالبة على الشواغل الحسيّة ، تقدر على الاتّصال بعالم القدس ، وتنتقش فيها صور ومعان من ذلك العالم ، ثمّ يعود فيخبر بما أدرك. فكأنّ انغمار النفس في عالم الطبيعة ، واشتغالها بالأُمور الحسيّة ، يمنعها عن الاتّصال ، يقول :

«كلما كانت النفس اقوى قوّة ، كان انفعالها عن المحاكيات (٣) أقلّ ، وكان ضبطها للجانبين أشدّ. وكلما كانت بالعكس ، كان ذلك على العكس» (٤).

وقد أشار صدر المتألهين إلى إمكان الإلهام والإشراق بوجه عام ، بقوله :

«إنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن مهاجرة إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى ، وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى. وهذا النور إذا تأكّد وتجوهر ، كان جوهراً قدسياً يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي.

__________________

(١) الإشارات مع شرحه ، ج ٣ ، النمط التاسع في مقامات العارفين : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

(٢) المصدر السابق : ٣٩٨.

(٣) أي الشواغل الحسيّة.

(٤) المصدر السابق : ٤٠٦.

١٨٢

وبهذا النور الشديد العقلي ، يتلألأ فيها (أي الروح الإنسانية) أسرار ما في الأرض والسماء ، وتتراءى منها حقائق الأشياء ، كما تتراءى بالنور الحسيّ البصري ، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب. والحجاب هاهنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذا الأدنى. وذلك لأنّ القلوب والأرواح ـ بحسب أصل فطرتها ـ صالحة لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرأ عليها ظلمة تفسدها كالكفر ، أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها.

وقال : إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة وظلمات الهوى ، وولّت بوجهها شطر الحق ، وتلقاء عالم الملكوت ، اتّصلت بالسعادة القصوى ، فلاح لها سرّ الملكوت ، وانعكس عليها قدس اللاهوت» (١).

الإلهام والإشراق ، وعلماء الغرب

إنّ علماء الغرب كانوا غارقين في العلوم الطبيعية ، فلم يبحثوا عن هذا النوع من أدوات المعرفة إلّا عابراً. ومن أبرز من التفت إلى هذه الأداة هو الفيلسوف الفرنسي «هنري بِرْگسُن» (٢) ، في آراء منفردة له في الأوساط الغربية ، حيث ذهب إلى أنّ الإنسان إنّما يدرك بعقله ظواهر الأشياء وقشورها ، وأمّا إدراك حقائقها فإنّما يتم له بالمراقبة المستمرة التي تنتهي إلى المكاشفة وشهود الوقائع. فَمَثَلُ مَنْ يريد دَرْك المعارف عن طريق العقل ، كَمَثل من يريد أن يطلع على ما في البيت بتفحص جدرانه وسطوحه من الخارج. وأمّا من يريد درك الحقيقة بالإلهام والإشراق ، فمثله مثل من يلج البيت ويتفحص الأشياء الموجودة فيه واحدة بعد الأُخرى(٣).

كما أنّ عدّة من المكتشفين والمخترعين ادّعوا أنّ الإلهام كان العامل الوحيد لانتقالهم إلى بعض المكتشفات والمخترعات ، وربما ادّعوا أنّهم ألهموا أُموراً ، وهم في غفلة ، وعدم اشتغال بالكشف والاختبار.

__________________

(١) الأسفار الأربعة : ٧ / ٢٤ ـ ٢٥.

(٢)nosgreB irneH) ٩٥٨١ ـ ١٤٩١ م).

(٣) وله في ذلك كلام مفصل أتى به الكاتب محمد علي فروغي في كتابه «مسيرة الفلسفة في أوروبا» : ٣ / ٢٦٤ ـ ٢٧٣ ، فلاحظ.

١٨٣

وقد اعترف من اعترف منهم بهذه الأداة من دون أن يحدد طريق الوصول إليها وكيفية الاستضاءة بها. وبعبارة أُخرى : هم حدّدوا طريق المعرفة بآلية الحسّ والعقل ، فطرحوا مباحث قيّمة في كيفيّة الاستضاءة بهما ، وإزالة الموانع الّتي تعرقل مسيرة الإنسان لاكتساب المعرفة بهما. ولكنهم سكتوا عن آلية الإشراق ، وأنّه كيف يصل الإنسان إلى تلك الأداة ، وكيف يستضيء منها ، وما هي مُعِدّاتُها وشرائطها ، وما هي موانعها.

إلّا أنّ العرفاء الإسلاميين حرّروا هذا الجانب فكشفوا عن آلية القلب (١) ، وقالوا إنّ الإنسان يصل إلى مرتبة خاصة من الاستشراق والاستلهام إذا طوى منازل خاصة ، هي :

١. اليقظة.

٢. التوبة.

٣. المحاسبة.

٤. الإنابة.

٥. التفكّر.

٦. التذكر.

٧. الاعتصام.

٨. الانقطاع.

٩. كبح جماح النفس.

١٠. درك اللطائف.

وقد فصلوا الكلام في هذه المنازل الّتي تسمّى عندهم «منازل السائرين».

وفيما يلي نذكر هنا إجمالاً آليّة هذه الأداة :

__________________

(١) ليس المراد من القلب الجسم الصنوبري الّذي ليس له وظيفة سوى ضخّ الدم إلى أجزاء البدن ، بل المراد نفس الإنسان وروحه الواعية. وإليه يشير قوله سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق : ٣٧) ومن المعلوم أنْ ليس المراد من القلب هنا هو القلب الجسماني ، لأنّ كل إنسان يمتلك هذا القلب وإنّما المراد من كان له عقل مدرك وواع.

١٨٤

آلية القلب في إدراك المعارف

إنّ تفصيل هذه المنازل يتوقف على عرض عرفان إسلامي على الباحثين ، وهذا لا يناسب موضوع الكتاب ، وإنّما نذكر أثر طيِّ هذه المنازل في الحياة العلمية.

إنّ لطيّ هذه المنازل أثرين بارزين في الوقوف على المعارف :

١. إنّ الباصرة الظاهرية تقدر على رؤية الأشياء البعيدة عنها. ولكن إذا كان هناك ضباب أو غبار ، ينحصر البصر برؤية الأشياء القريبة فقط ، فالضباب والغبار مانعان عن الرؤية ، ولكن الباصرة مستعدة لها.

إنّ النفس الإنسانية قادرة على التعرّف على الحقائق الموجودة في مجال الحسّ والعقل. لكن العصبية والهوى يعميان الإنسان ، فيعود منكراً للمحسوس والمعقول ، فأدنى أثر لطيّ هذه المنازل هو صيرورة الإنسان ، إنساناً خالصاً ، مجرّداً عن الهوى والعصبية المعميين ، كاملاً لا يطلب إلّا الواقع ولا يعشق إلّا الحقيقة ، سواء أكانت لصالحه أم لا ، وافقت انتماءه القومي أم لا ، وغير ذلك من موانع المعرفة الّتي سيأتي البحث عنها(١).

٢. إنّ طيّ هذه المنازل يعطي للنفس قوّة واقتداراً على الاتّصال بعالم الغيب ، وإشراق صور ومعانٍ منه عليها ، ويُلهم مفاهيم وحقائق لا يتوصل الإنسان العادي إليها بأدوات المعرفة الحسيّة والعقلية.

وعلماء الأخلاق يوصون بأُمور ، ويحذّرون من أُمور : يوصون بالإيثار والتقوى والشجاعة والاستقامة. ويحذّرون من البخل ، والانحلال ، والجبن والانخذال ولكنهم يكتفون بالإيصاء بتلك والتحذير من هذه ، من دون الإفاضة في كيفية توصّل الإنسان إليها ، وأنّه في ظل أي عامل يقدر على تحصيل الفضائل ، وتحت أي حافزٍ يستطيع اجتناب الرذائل ، فهذه النقطة الحساسة قد أُهملت في كتب الأخلاق ، فلا تجد فيها سوى الدعوة إلى الفضائل ولزوم التحلي بها ،

__________________

(١) لاحظ الفصل الحادي عشر.

١٨٥

والتحذير عن الرذائل ولزوم اجتنابها ، من دون بيان الطرق الّتي يصل بها الإنسان إلى تلك الأُمنية الكبرى.

وقد سدّ العرفاء الإسلاميون هذه الثغرة ، وبيّنوا الوسيلة الّتي يبلغ بها الإنسان تلك الأهمية ، وهي سلوك المنازل العشرة المتقدم ذكرها ، ليصير الإنسان بعدها ، إنساناً كاملاً ذا حسّ وعقل وشهود.

الفتوحات الغيبية والذكر الحكيم

إنّ في الذكر الحكيم لآيات كثيرة تصرِّح بأنّ الإنسان المتّقي ، المتحلّي بالفضائل ، والمتنزّه عن الرذائل ، ترعاه عناية الله تعالى ، وتفيض عليه الهداية بعد الهداية ، والعلم بعد العلم ، ولا يزال يرقى مدارج المعرفة حتّى يبلغ مقام شهود عالم الغيب. ونذكر فيما يلي نبذة منها.

١. يقول عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١). أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحقّ والباطل ، وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، تارة بالبرهنة والاستدلال ، وأُخرى بالشهود والمكاشفة.

٢. ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢) والمراد بالنور ، النور الّذي يمشي المؤمن في ضوئه في دينه ودنياه وآخرته ، وهذا النور نتيجة إيمانه وتقاه. ويوضحه قوله سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٣).

٣. ويقول سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٤). فإنّ العطف يحكي عن وجود صلة بين التّقى والتعليم.

__________________

(١) الأنفال : ٢٩.

(٢) الحديد : ٢٨.

(٣) الأنعام : ١٢٢.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

١٨٦

٤. ويقول سبحانه : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (١). والمراد رؤية الجحيم قبل يوم القيامة ، رؤية قلبية. وهذه الرؤية غير متحققة لمن ألهاه التكاثر ، لأنّها من آثار اليقين ، ومن ألهاه التكاثر خلو منه.

٥. ويقول سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٢). فلو أقام الإنسان نَفْسَه في مسير الهداية ، وطلبها من الله سبحانه ، زاده تعالى هدى وآتاه تقواه. ولا تختص الهداية بالعمل حتّى تُفَسَّر بتوفيقه سبحانه للطاعات ، بل هي أوسع من ذلك.

٦. ويقول سبحانه : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (٣). والآية تبيِّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم وتغرّبوا حفظاً لدينهم ، فزاد الله من هداه فيهم ، وربط على قلوبهم ، كما يقول سبحانه : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (٤).

فهذه الآيات تُعرب عن أنّ نافذة الفتوحات الباطنية ، والمكاشفات والمشاهدات الروحية ، والإلقاءات في الرَّوْع ، غيرُ مسدودة ، بل هي تتنزل على الأمثل فالأمثل من أفراد الأُمّة.

الإمام علي والإنسان المثالي

وللإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، تصريحات وإشارات إلى انفتاح هذه النافذة في وجه الإنسان :

١. يقول عليه‌السلام في المتّقي : «قد أحيا عَقْلَه ، وأمات نفسه ، حتّى دقَّ جليلُه ، ولطف غليظه ، وبرق له لامعٌ كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك

__________________

(١) التكاثر : ٣ و ٤.

(٢) محمد : ١٧.

(٣) الكهف : ١٣.

(٤) الكهف : ١٤.

١٨٧

به السبيل» (١).

٢. ويقول عليه‌السلام في حجج الله تعالى في أرضه : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا رَوْح اليقين» (٢).

٣. ويقول عليه‌السلام : «وما برح لله عزت آلاؤه ، في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات ، عبادٌ ناجاهم الله في فكرهم ، وكلَّمهم في ذات عقولهم» (٣).

هذه الآيات والروايات توقفنا على أنّ المعرفة الحقيقية الّتي تحيا بها نفس الإنسان ، لا تُستوفى بالسَّير الفكري ، وإنّما بتهذيب النفس ، وتطهير القلب ، والانقطاع عن كل شيء ، حتّى يرفع دونها كل حجاب مضروب ، وكل ستار مسدول ، فيرى عالم الغيب ويعاين معارفه وحقائقه بعين القلب.

وإكمال هذا البحث يتوقف على شرح الأسفار الّتي يسلكها العارف في سيره الروحي والمعنوي ، ولكنه بحث واسع ، لا يسعه المقام.

هذا ، ولا يحق للباحث الكريم أن يستنتج ممّا تقدّم أنّ دعوى آليّة القلب والمكاشفة والشهود والإلهام ، في كسب المعرفة الحقّة ، إحباط لمقام الحسّ والعقل ، وإنكار لفضلهما ولزوم إعمالهما. لا ، ليس الأمر كذلك البتّة ، بل إنّ لكلّ أداة مقامها ، ومجال عملها ، وسيأتي مدى قيمة هذه الأداة.

الوحي

ثمّ إنّ هناك أداةً أُخرى تقرُب من الإلهام والإشراق ، وهي المسمّاة بالوحي في مصطلح الشرع ، وهو الّذي يخصّ به الخالق تعالى أنبياءه.

والوحي إدراك خاص متميّز عن سائر الإدراكات ، وليس نتاج الحسّ ولا

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٥.

(٢) نهج البلاغة ، الكلم القصار ، الرقم ١٤٧. من كلام له عليه‌السلام لكميل بن زياد النَّخعي.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١١٧.

١٨٨

العقل ولا الغريزة ، وإنّما هو شعور خاص يوجده سبحانه في بعض عباده الصالحين ، وهو يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامّة. ومن ينزل عليه الوحي لا يغلط في إدراكه ، ولا يختلجه شك ، ولا يعترضه ريب في أنّ الّذي يوحي إليه هو الله تعالى ، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة. ولو افتقر إلى شيء من ذلك لكان اكتساباً عن طريق القوة النظرية لا تلقّياً من الغيب.

والفرق بين الوحي وما تقدم من الإلهام والإشراق هو أنّ الوحي يتضمن تعاليم في مجالي العقيدة والعمل ، فيكون الموحى إليه نبياً مبعوثاً من جانب الخالق تعالى لتربية الناس وتزكيتهم.

وهذا بخلاف الإلهام والإشراق ، فإنّهما لا يتضمنان تشريعاً ولا تقنيناً ، ولا يكون المُلْهَمُ مبعوثاً من جانبه سبحانه لتبليغ ما أُلهم.

قيمة الإلهام والإشراق

إنّ قبول قولٍ بلا حجة ولا برهان ، خروج عن الفطرة ، فالإنسان العاقل هو من يقبل الدعوى إذا قورنت بالدليل ، فصاحب المعرفة الحسيّة أو العقلية يصحّ له تعميم معرفته إلى غيره ، فيرشدنا إلى مُبْصرَاته ومسموعاته ، فنقبلها لأجل تطابق الحسَّين ، ويرشدنا إلى ما عقله بالبرهان ، فنتعقله به أيضاً.

وأمّا مدّعي الإلهام ، فبما أنّه يدّعي أمراً غير محسوس ولا معلوم بالبرهان ، فيكون شهوده حجةً على نفسه فحسب ، ودليلاً له لا للغير. ولا يمكنه تعميم ما ألهم وأَشْرَقَ على قلبه ، وإراءته لغيره ليشاهده ويعاينه ويشرق على قلبه ، لأنّ للإلهام والإشراق مبادئ ومؤهلات خاصة ، كما تقدّم.

ولكن مع ذلك ، لا يكذّب مدّعي الشهود والكشف ، غاية الأمر أنّه لا يمكن تعدية ما انكشف له ليكون قاعدة مطردة في مجالات العلم والمعرفة.

نعم ، إذا تضمَّن الاتّصال بعالم الغيب تنبّؤاً بالوظائف الإنسانية في مجالَيْ

١٨٩

العمل والعمل ، كما في الوحي ، يكون حجة على الجميع ، ويكون المخبر نبياً ، والتابعون له أُمة ، وللبحث في هذا مجال آخر(١).

__________________

(١) الكلام في الوحي واسع ، سنفيض فيه في مباحث النبوة العامّة من الإلهيات.

١٩٠

الفصل الخامس

مراحل المعرفة

١٩١
١٩٢

الفصل الخامس

مراحل المعرفة

كان اللازم بعد الفراغ من قيمة المعرفة ، وأداتها ، البحث عن موضوعات المعرفة الّتي يمكن أن تقع عليها المعرفة وما لا يمكن. غير أنّه لما كان لمراحل المعرفة صلة وثيقة بالبحث عن أداتها ، قدمناه بالبحث.

إنّ الفلاسفة في هذا المجال على طائفتين :

فمنهم من يقول بأنّ للمعرفة مرحلة واحدة فقط.

ومنهم من يعتقد بتعدد مراحلها.

والنظرية الأُولى ، أعني وحدة مراحل المعرفة مترتبة على القول بوحدة أداة المعرفة ، كما أنّ النظرية الثانية مترتبة على تعدد أدواتها.

أمّا القائلون بوحدة أداة المعرفة ـ كالقائلين بانحصارها في الحسّ ، أو في العقل ـ فيحاولون إرجاع جميع مراحلها إلى مرحلة واحدة.

مثلاً : القائلون بانحصار أدوات المعرفة بالحسّ ، إذا واجهوا المفاهيم الكلية الّتي يدركها الإنسان في ذهنه من دون أن يكون للحسّ إليها سبيل ، يقولون بأنّ المفاهيم الكليّة ليست إلّا الفرد المبهم من دون أن يكون وراءه شيء آخر. فكلُّ فردٍ إذا أدركه الإنسان بمشخصاته ومميزاته ، يكون المدرَك جزئياً محسوساً ، ولكن ربما يحاول الإنسان تناسي المشخصات والمميزات ، فعند ذلك يتبلور هذا

١٩٣

الفرد الشخصي بصورة الفرد المبهم ، ويطلق عليه الإنسان الكلي. فليس الإنسان الكلي إلّا الفرد المبهم الّذي حذفت أو نسيت مشخصاته ومميّزاته. فما أشبه هذا الفرد بالعملة المعدنية الرائجة إذا طُمست نقوشها من كثرة التداول ، فلم يبق منها إلّا جسم العملة دون مشخصاتها.

وأنت ترى كيف يتحمل هذا القائل بوحدة الأداة ، المشاقّ في تحليل المفاهيم العقلية. وما هذا إلّا لأنّه لم يعتقد إلّا بأداة واحدة ، ولو كان مؤمناً بأداتين لصدّق بالمفاهيم الكلية العقلية الّتي هي بمنأى عن الفرد الّذي نسيت مشخِّصاته.

وهكذا القائل بانحصار الأداة بالعقل ك «ديكارت» ، فإنّه لا يقيم للحسّ وزناً. فهذا إذا واجه المحسوسات ـ الّتي يدركها الإنسان بحواسه ـ يضيق عليه الخناق ، ويقول إنّ الحسّ لا يوصلنا إلى حقيقة الأشياء وإنّما هو لينتفع به الإنسان في حياته لا أكثر ، كما تقدم.

ونظير ذينك المنهجين ، منهج القائلين بانحصار معرفة الحقائق بالإلهام والإشراق ، المنقول عن الفيلسوف الغربي «بِرْگُسن» (١).

وعلى ذلك ، فنحن نضرب الصفح دون البحث حول هذه المناهج النابعة عن القول بوحدة الأداة ، لأنّ إنكار تعددها وكثرتها ، أشبه بإنكار الضروريات كما عرفت. ونعطف عنان البحث إلى المراحل المتعددة للمعرفة ، فنقول :

إنّ القائلين بتعدد المراحل هم أيضاً على طوائف نعبر عنهم بالعناوين التالية :

أ ـ أصحاب الفلسفة العلمية.

ب ـ أصحاب الفلسفة الماديّة الديالكتيكيّة.

ج ـ الفلاسفة الإسلاميّون.

* * *

__________________

(١)nosgreB irneH) ٩٥٨١ ـ ١٤٩١ م).

١٩٤

أ ـ نظرية الفلسفة العلمية في تعدد مراحل المعرفة

إنّ أصحاب هذه النظرية يقسّمون مراحل المعرفة إلى الأقسام التالية :

١. المعرفة الحسيّة.

٢. المعرفة العلمية.

٣. المعرفة الفلسفية.

فكل معرفة متقدمةٍ ، تكون مقدِّمةً لحصول معرفة أوسع وأكمل ، وإليك البيان :

إذا عرّض الإنسان للنار معدناً خاصّاً كالرصاص ، فرأى انّه يذوب عند درجة خاصة؛ أو لاحظ أنّ مريضاً ما مبتلًى بالصداع مثلاً ، قد برئ عند استعمال عشبة طبيّة معينة ، فهذه المرحلة يطلق عليها المرحلة الحسيّة ، إذ هي لا تتجاوز إطار الحسّ.

ثمّ إذا كرّر هذا العمل مرّات عديدة وفي ظروف مختلفة ، استطاع العقل أن ينتزع منه قانوناً كليّاً وهو أنّ الرصاص يذوب عند درجة كذا ، والنبات الفلاني مبرئٌ من الصداع ، فهذه المرحلة هي المرحلة العلمية ، ومنها يستنتج قاعدة وقانوناً علمياً عاماً.

وأمّا المعرفة الفلسفية فهي عندهم عبارة عن المعرفة الّتي لا تختص بعلم دون علم أو موضوع دون موضوع ، وإن شئت قلت : هي عبارة عن المعرفة العامة المنتزعة من غالب العلوم أو جميعها.

مثلاً : القوانين الرياضية مختصة بموضوعها كالكم المنفصل والمتصل (الأعداد ، والسطوح) ، وهكذا قوانين العلوم الفيزيائية والكيميائية. وأمّا إذا انتزع الإنسان من هذه القوانين والعلوم قاعدةً تثبتها جميعها أو غالبها فهي قانون فلسفي ، كقانون التكامل العام الّذي تدعمه جميع العلوم التجريبية. فالتكامل أمر يثبته علم الأحياء وعلم الاجتماع وغيرهما. فالمطلع على هذه العلوم يصل إلى معرفة فلسفية وينتزع منها قانوناً كليّاً سائداً على الكون أجمع.

وهذه المرحلة من المعرفة فوق المرحلة العلمية ، فإنّ المعرفة العلميّة تختص

١٩٥

بموضوع خاص لا تتجاوزه ، بينما المعرفة الفلسفية هي معرفة حكم يعم موضوعات كثيرة.

وعلى ضوء ذلك ، فالمسائل الفلسفية ، نتيجة العلوم ، ولا تختلف عن المسائل العلمية إلّا بعلو درجة المعرفة ، فإذا كانت المعرفة راجعة إلى موضوع خاص ، تسمّى المعرفة معرفةً علميةً ، والمسألة المعلومة مسألةً علميةً. وأمّا إذا تجاوزت المعرفة موضوعاً معيناً وعمّت غالب الموضوعات أو جميعها ، فالمعرفة فلسفية والمسألة المعلومة مسألة فلسفية ، فليست المسائل الفلسفية متغايرة جوهراً مع المسائل العلمية.

هذا ما يذهب إليه أصحاب الفلسفة العلمية ونحن نعلّق عليه ما يلي :

١. إنّ ما ذكره أصحاب الفلسفة العلمية من هذه المراحل الثلاث لا ننكر منه شيئاً ، ولكن المعرفة العلمية عن طريق التجربة تحتاج إلى ضم حكم عقليّ إليها ، وأمّا نفس التجربة فلا تعطي قانوناً كليّاً في مجال العلم ، بل العقل إذا لاحظ وجود التماثل بين مورد التجربة وغيرها ، يحكم بسريان الحكم إلى جميع الموارد بحجة أنّ المتماثلين متساويان في الأحكام. ولو لا هذا الحكم لما تجاوز حكم التجربة مواردها. وقد تقدم الكلام في ذلك.

٢. إنّ المسائل الفلسفية تختلف عن المسائل العلمية جوهراً وذاتاً ، وليست المعرفة الفلسفية نتيجة لترقّي المعرفة العلمية حتّى يلزم كون المعرفة علميةً إذا كان الحكم مختصاً بموضوع ، وفلسفية إذا عمّت جميع الموضوعات ، فإنّ هذا التفسير خاطئ جداً ، بل المسائل الفلسفية تفترق عن العلمية موضوعاً ، وذلك انّ كلَّ معرفة تختص بالبحث عن أحوال الموجود الطبيعي المادي المتحيِّث بحيثيّة جسمانية أو رياضية أو هندسية ، فهو معرفة علمية ، وأبحاثها أبحاث علمية ، وإنْ عمّ الحكم جميع هذه الموضوعات.

فالعلم الباحث عن الخواص الظاهرية والباطنية للأجسام ، كعلمي الفيزياء والكيمياء ، والباحث عن أحكام الكم المنفصل كالحساب ، والكم المتصل كالهندسة ، و ... ، كلها مسائل علمية ، لأنّ الموضوع فيها مقيّدٌ بحيثية طبيعيّة ماديّة متبلورة في الحيثية الطبيعية أو التعليمية الحسابية أو الهندسية.

١٩٦

كما أنّ البحث عن عوارض الموجود الحيّ المادي ، سواء أكان راجعاً إلى الإنسان أم الحيوان أم النبات ، بحث علمي طبيعي. وهكذا كل الأبحاث العلمية الّتي تأخذ لنفسها موضوعاً ماديّاً وتبحث عن عوارضه ، فهي كلها بحوث علمية حتّى ولو انتزع من الكل قانون عام يشمل أكثر العلوم أو جميعها ، كالتكامل ، فإنّه نتيجة العلوم المتنوعة ، وليس نتيجة العلوم إلّا نفس العلوم لا غير.

وأمّا المسائل الفلسفية فهي عبارة عمّا يأخذ لنفسه موضوعاً عامّاً غير متقيّد بحيثية طبيعية أو تعليمية ، بل تبحث عن الموجود بما هو هو ، فتقول :

الموجود إمّا واجب ، أو ممكن.

والممكن إمّا جوهر ، أو عرض.

والجوهر إمّا نفس ، أو عقل ، أو جسم ، أو صورة ، أو هيولى.

والعرض إمّا كم ، أو كيف ، أو وضع ، أو فعل ، أو انفعال ، أو أين ، أو متى ، أو ملك ، أو إضافة.

إلى غير ذلك من التقسيمات الواردة على الموجود من حيث هو هو ، حتّى قولنا : الموجود إمّا علة أو معلول ، وغير ذلك من الأحكام العارضة على الموجود من حيث هو هو ، من دون أن يتقيّد بحيثية طبيعية أو تعليميّة.

وبذلك تظهر رئاسة المسائل الفلسفية على العلوم لأنّ العلوم في إثبات موضوعاتها ، محتاجة إلى الفلسفة ، كإثبات الكم في الحساب والهندسة ، كما يظهر أن تغير العلوم وتبدل الفروض العلمية لا يغيّر شيئاً في المسائل الفلسفية فإنّ قولنا : كل ممكن يحتاج إلى علّة ، أو : إنّ واجب الوجود غني عن العلّة ، مسائل ثابتة لا يزعزعها تغيّر الفروض العلمية وتبدّلها.

نعم ، مَنْ جعل المسائل الفلسفية منتزعة من العلوم ، جعلها مسائل متزلزلة غير يقينية لتبعيّتها لمسائل العلوم الّتي هي بدورها في مهبّ التغيّر والتبدّل.

* * *

١٩٧

ب ـ نظرية أصحاب الفلسفة المادية الديالكتيكية

إنّ أصحاب هذه الفلسفة يعتقدون بتعدد مراحل الفلسفة ، كأصحاب الفلسفة العلمية ، غير أنّهم يبينون تعدد المراحل بالشكل التالي :

١. مرحلة الحسّ.

٢. مرحلة التعقل.

٣. مرحلة العمل والتجربة.

ونحن نقرّر ذلك في ظل مثال :

افرض أنّ إنساناً يريد أن يطّلع على علّة مرضٍ خاص كالسلّ ، فيريد أن يقف على علائمه وآثاره ، وعلله وموجباته ، ودوائه الناجع في اقتلاعه من المجتمع ، فعند ذلك يحين أوان المرحلة الأولى ، فيتفحص حياة المبتلين بالسلّ وكيفية عيشهم وأماكن سكنهم ومحيطهم ، فيجمع عن الجميع معلومات خاصة يجمعها قولنا : إنّ السائد عليهم هو العيش في أمكنة مظلمة ملوثة بالدخان والغبار ، ويتغذّون بأطعمة فاقدة للقيمة الصحيّة والغذائية.

ثمّ بعد ذلك يأتي أوان المرحلة الثانية ، وهي مرحلة التعقل ، وهي عبارة عن مطالعة تلك المعلومات ، وحَدْس العلة الحقيقية الكامنة وراء حدوث هذا المرض وتكوّن جراثيمه في البدن. وعند ذاك توضع الفرضيات العلمية ، إذ يحدس هذا العالم أنّ العلة هي ذي ، وآخر أنها ذِهْ وثالث أنّها تلك.

ثمّ إذا تمّت المرحلة الثانية ، وعرض العلماء والمفكّرون فروضهم لظهور هذا المرض ، يأتي أوان مرحلة التجربة ، فإنّ الفروض لا تُعلم صحتها إلّا بالتجربة ، فإذا قام المجرّبون بعملياتهم التجريبية في المختبرات ، يُميَّزُ الفرض الصحيح من الفروض الباطلة.

هذه هي مراحل المعرفة المختلفة. والمعرفة في ضوء المثال المتقدم تبدأ من الحس إلى العقل ، ومن العقل إلى التجربة.

وإن شئت قلت : المعرفة عبارة عن حركة المادة إلى جانب الشعور والتعقل ومنه إلى جانب المادة الخارجية.

١٩٨

ونحن لا نعلّق عليه شيئاً غير أنّا نقول إنّ هذه المراحل ليست شيئاً ينكر ، فإنّ تكامل العلوم مبني على هذه المراحل ، وقد عرفت دور التجربة وأهميتها ، غير أنّ المهم تبيين أنّ هناك معرفة عقلية غير تجريبية غفلت عنها كلتا الفلسفتين الماضيتين ، وإنّما استوفت حقّها الفلسفة الإسلامية ، وإليك بيانها.

* * *

ج ـ نظرية الفلاسفة الإسلاميين في مراحل المعرفة

تعترف الفلسفة الإسلامية بوجود معرفة عقلية وراء المعرفة الحسيّة والتجريبية ، وقد قصرت سائر الفلسفات عن إدراكها. كما تختص الفلسفة الإسلامية بنوع ثالث من المعرفة هو المعرفة الآيوية ، وإليك فيما يلي توضيحها :

١ ـ المعرفة الحسيّة

تنقسم المعرفة إلى حسيّة وعقلية ، والحسيّة عبارة عن المعرفة السطحية المشتركة بين الإنسان والحيوان ، بل ربما تكون في الحيوان أقوى منها في الإنسان ، فالعُقاب يرى الأشياء البعيدة جداً الّتي لا تنالها أبصار غيره ، والكلاب تشمّ الروائح الخفية ، والخفافيش تحسّ الموانع في الليالي الظلماء ، فتتجنّبها ... وعلى كلّ تقدير فالمعرفة الحسيّة الّتي تقوم بالحواس الظاهرية تعمّ الإنسان وغيره.

وللمعرفة الحسية خصائص :

١. إنّها جزئية لا تتجاوز موضوعاً خاصاً ، سواء أكان مبصراً أم مسموعاً أم مشموماً أم ملموساً أم مذوقاً. وليس للطفل معرفة سوى المعرفة الحسيّة ، فهو لا يدرك سوى اللون المشخص والفرد المعين ، وأمّا اللون والإنسان الكلِّيَّيْن فبعيدان عن أُفق معرفته.

٢. المعرفة الحسيّة تتعلق بما يقع في مرمى الحسّ وسلطانه ، دون الخارج عنه ، فالإنسان يقف على الأعراض والكيفيات الظاهرية للأجسام كالألوان والروائح والأشكال ، والليونة والخشونة ، ... وأمّا الخارج عنها ، فلا ، كقانون

١٩٩

العلية والمعلولية ، أو ضرورة وجود المعلول عند وجود علّته ، فإنّها معانٍ عقلية خارجة عن أُفق الحسّ.

٣. إنّ المعرفة الحسيّة محدّدة بالزمان ، فالحسّ يقف على الأشياء المتحققة في الزمن الحال ، دون الّتي تحققت في غابر الزمان ، أو ستتحقق في مستقبله وإن كانت أشياء محسوسة ، بل لا بدّ في إدراك الماضي والآتي من أداة أُخرى.

٤. المعرفة الحسيّة محدّدة بالمكان والجهة ، فكما أنّ الإنسان لا يدرك إلّا الأشياء الواقعة في الزمن الحاضر ، فهكذا لا يدركها إلّا في مكان أو جهة خاصة.

وأمّا المعرفة العقلية فهي على النقيض من المعرفة الحسيّة ، إنّها معرفة كليّة لا جزئية ، تتعلّق بمفاهيم خارجة عن الحسّ ، كما هي غير مقيّدة بالزمان والمكان والجهة ، سواء أكانت معرفة تصورية ، كالإنسان الكلّي ، أم تصديقيّة ، كالقوانين الّتي يستنبطها الإنسان من التدبُّر في الطبيعة.

عناصر عقلية في المعارف الحسيّة

إنّ هناك معارف تبدو للرأي العام أنّها حسيّة ، مع أنّها في الحقيقة معارف عقلية ، وإليك نماذج منها.

١. نحن نعتقد بوجود الإسكندر المقدوني ذلك الفاتح العالمي ، ووجود نابليون بونابرت ذلك القائد العسكري ، ونخال أن معرفتنا بوجودهما معرفة حسيّة ولكن الواقع أنّها معرفة عقلية ، إذ نحن لم نر أيّاً منهما ، ولا شاهدنا شيئاً من بطولاتهما وفتوحاتهما ، وإنّما قرأنا ذلك في الكتب. فالمحسوس لنا في الحقيقة هو المكتوب والمقروء لا نفس الرجلين وما قاما به من أعمال.

ونحن نحتمل ـ وراء ذلك ـ أن يكون كل ما نقرؤه ونسمعه عنهما باطلاً وكذباً ، غير أنّ العقل يدفع هذا الاحتمال ويقول : إنّ من الممتنع أن تكون تلك الأخبار المتضافرة كاذبة ، إذ من المحال أن يتواطأ عبر القرون جميع المؤرّخين على اختلاف مشاربهم ، على جعل الأكاذيب حول الرجلين. فعند ذلك نذعن بصحة وجودهما وبطولتهما وآثارهما.

٢٠٠