نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

أدوات المعرفة

(٤)

الاستقراء

هو تصفح الجزئيات لإثبات حكم كليّ.

وبعبارة أُخرى : دراسة الذهن لعدّة جزئيات ، ليستنبط منها حكماً كليّاً كما إذا شاهد عدّة أنواع من الحيوانات ، فوجد أنّ كل نوع منها يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ ، فيستنبط منها قاعدة عامّة ، وهي أنّ كلّ حيوان يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ.

فحقيقة الاستقراء هي الاستدلال بالخاص على العامّ ، كما أنّ حقيقة التمثيل هي الاستدلال بالخاصّ على الخاصّ. فملاك الاستنباط في التمثيل هو التشابه بين جزئيين ، بينما ملاكه في الاستقراء هو التشابه بين جزئيٍّ لم ندرس حاله ، وجزئيّات درسنا حالها ، فنُلْحِق الجزئي المجهول ، بالجزئيات المعلومة الحال (١).

وأركان الاستقراء ـ كالتمثيل ـ أربعة :

١. الأصل ، وهو الجزئيات الّتي درسنا حالها.

__________________

(١) وأمّا البرهان ، فلا صلة له بالتمثيل والاستقراء ، إذ ليس الجزئي هناك موجباً للمعرفة ، بل هو الاستدلال بالعام على الخاص ، أعني الاستدلال بالكبرى الكليّة على مقدمة كليّة ، كما سيوافيك بيانه.

١٦١

٢. الفرع ، وهو الجزئي الّذي نريد أن نتعرّف على حاله.

٣. الجامع ، وهو جهة المشابهة بين الأصل والفرع ، كالحيوانية في المقام.

٤. الحكم ، وهو ما علم ثبوته للأصل ، والغرض إثباته للفرع ، كتحريك الفكّ الأسفل.

ثمّ إنّ المعروف تقسيم الاستقراء إلى قسمين : تام وناقص.

فالاستقراء التامّ هو تصفّح حال جميع الجزئيات بأسرها ، كما إذا تجوّل في جميع شوارع بلد خاص ، ولم يستثن أي شارع منها ، فرآها جميعها نظيفة ، مشجّرة ، معبَّدة ، فيقول عند توصيف هذا البلد : شوارع هذا البلد كلّها نظيفة ، مشجّرة ، ومعبّدة.

والاستقراء الناقص هو أن لا يفحص المستقرئ إلّا بعض الجزئيات ، كمثال الحيوان ، فإنّه باستقراء الكثير من أنواعه ـ لا جميعها ـ يجد أنّها تحرّك فكّها الأسفل عند المضغ ، فيحكم على ما لم يره من الحيوانات بذلك ، مؤسساً قاعدة كليّة هي : كل حيوان يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ.

قيمته العلميّة

الاستقراء التام في الحقيقة ، ليس من مقولة الاستدلال والاستنباط ، ولا يستكشف فيه حال مجهول من معلوم ، وإنّما هو إعادة جمع وصياغة ما شاهده الإنسان ، في قالب واحد ، ففي المثال المذكور يصب الإنسان كلّ انطباعاته عن شوارع البلد الّذي تجوّل فيه ، في قالبٍ جامع ، ويقول : كل الشوارع كذا وكذا. فهو بدلاً من أن يتكلم بالتفصيل ، يكتفي بالإجمال.

إنّما الكلام في الاستقراء الناقص ، الّذي يعد من أقسام الاستدلال.

المعروف عند القدماء أنّ الاستقراء الناقص غير مفيد للعلم ، لأنّه ما دمنا لم ندرس جميع جزئيات الحيوان ـ مثلاً ـ فكيف يجوز لنا الحكم بأنّ كل حيوان يتحرك فكّه الأسفل عند المضغ ، إذ من المحتمل أن يكون هناك حيوان يعيش في الغابات وأعماق البحار ـ لم ندركه ـ يتحرك فكّه الأعلى عند المضغ ، كما ثبت بعد ذلك في

١٦٢

التمساح ، ولأجل ذلك قالوا إنّ الاستقراء الناقص لا يفيد اليقين.

نعم ، لا شك أنّه يفيد الظن ، والظن يُلحق الشيء بالأعم الأغلب.

والحق أن يقال إنّه إذا تهاون المستقرئ في استقرائه ، وترك الكثير ممّا يمكن التفحص عنه ، واكتفى بالقليل ، فلا شك أنّه ربما لا يفيد حتّى الظن. ولو أفاده لما تجاوز عنه. وأمّا لو بذل جهده ، وسعى سعيه إلى حدٍّ كبير ، ولم ير باباً إلّا طرقه ، ووصل إلى نتيجة خاصة ، وصار احتمال مخالفها ، احتمالاً ضئيلاً لا يتوجه إليه الذهن وإن كان موجوداً في زواياه ، فعند ذلك يفيد العلم ، أي العلم العرفي ، باعتبار فرض الاحتمال المخالف كالعدم. وكلّما اتّسع نطاق الاستقراء ، يبتعد صحة الاحتمال المخالف ، إلى حدٍّ ينساه الذهن في مقام القضاء.

وما ذكره القدماء أمر متين ، إذا فسرنا العلم بالاعتقاد الجازم الّذي لا نحتمل خلافه أبداً ، حتّى واحداً في المليار. ومن المعلوم أنّ الاستقراء الناقص لا ينتج هذه النتيجة ، إذ الاحتمال المخالف ـ ولو بصورة ضئيلة ـ موجود في الضمير ، وهو على طرف النقيض من العلم.

والعلم بهذا المعنى هو مصطلح منطقي ، غير أنّ العقلاء ـ في فروضهم العلمية ـ يكتفون بما هو أدون من ذلك. فلو تبيَّن حال موضوع بنحو يطمئن إليه الفؤاد ، وكان الاحتمال المخالف ضئيلاً إلى حدّ لا تتوجه إليه النفس ، يسمون الاستقراء دليلاً علمياً لا ظنياً ، وذلك لإهمالهم الاحتمال المخالف الضئيل المكنون في الذهن. وهذا هو الرائج في التحليلات الاجتماعية والعلمية. وإليك مثال في غير الاستقراء :

لو وقع حريق مهيب في معمل من المعامل ، وجاء الخُبراء لتحقيق مَنْشئه ، وتحديد فاعله ، فيفترضون عدّة فروض ، ثمّ يَردّون الواحد منها تلو الآخر ، حتّى يستقرّ نظرهم على أقواها وهو ـ مثلاً ـ أن تكون النار قد انقدحت من احتكاك أسلاك كهربائية أوجدت في البداية حريقاً في زاوية معينة من المعمل ثمّ انتشرت إلى سائر أرجائه. فيخرجون بهذه النتيجة ، ويعلنون على الملأ أن سبب الحريق هو ذلك.

١٦٣

ومع ذلك كلّه ، فالخبراء لم يحصل لهم اليقين القاطع بأنّ هذا هو سبب الحريق لا غير ، علماً لا يحتمل معه أي احتمال آخر ، كاحتمال أن تكون الطائرة الّتي مرّت فوق المعمل قبل احتراقه ، قد أحدثت شرارة أوجدت الحريق. فإنّ هذا الاحتمال غير معدوم على القطع ، وإن كان ضئيلاً للغاية. ومع ذلك فالمحللون للقضية يهملون هذا القدر من الاحتمال ولا يعتنون به.

وعلى ذلك ، فهناك نسبة خاصة بين التوغل في الاستقراء ، وضآلة الاحتمال المخالف ، فكلّما اتّسع نطاق الاستقراء ، وطَرَق المستقرئ كلَّ باب يواجهه ، وقطع كل طريق يعترضه ، وإن لم يستوف جميع الطرق لعدم تمكّنه منه ، أو لوجود مانع عنه ، أو لوجود صوارف خاصة ، كان الاحتمال المخالف لنتيجة الاستقراء ضئيلاً.

وكلما ضاق نطاق الاستقراء ، واكتفى المستقرئ بالأقل من الكثير ، صار الاحتمال المخالف ماثلاً في الذهن غير غائب عنه. فغيبوبة الاحتمال المخالف شدّة وضعفاً ، أو ظهوره كذلك ، تابع لاستفراغ الوسع وبذل الجهد.

ولو أردنا أن نفرغ ذلك في قالب الاصطلاح الرياضي ، نقول : إنّ بين قوة الاستقراء وضعفه من جهة ، وقوة الاحتمال وضعفه من جهة أُخرى ، تناسب عكسي. فكلما قوي الاستقراء وطال نطاقه ، ضعف الاحتمال المخالف ، وكلما قوي الاحتمال المخالف للنتيجة الّتي يفيدها الاستقراء ، يكشف عن ضعف الاستقراء. فلو أراد المستقرئ أن يصل إلى القمة من العلم العرفي والاطمئنان العقلائي ، فعليه أن يستفرغ وسعه إلى حدّ ينتفي معه الاحتمال المخالف من زوايا الذهن ، وإن كان لا ينعدم أبداً إلّا إذا كان الاستقراء تامّاً.

وليُعلم أنّ ملاك الحكم في الاستقراء هو التشابه بين الشيئين ، ومن المعلوم أنّ المتشابهين قد يختلفان في الحكم ، إلّا أنّا إذا نظرنا إلى الأكثرية فوجدناها محكومة بحكم خاص ، نُلحق البقية بها ، ولذلك لا يمكن القطع بالحكم ، إذ ليس هنا دليل عقلي يُبَرْهَنُ به على وحدة المتشابهين في الحكم.

وأمّا التجربة ـ الآتي بحثها ـ فالأساس في سريان الحكم فيها إلى جميع الأفراد ، هو التماثل في الحقيقة والتوحّد في الماهية ، ومن المعلوم أنّ المتماثلين يجب

١٦٤

أن يتحدا في الحكم ، حسب البرهان العقلي الّذي سيوافيك بيانه.

وممّا تقدم يعلم أنّ أداة الاستقراء ليست أداة حسيّة محضة ولا أداة عقلية كذلك ، بل هي مزيج من الحسّ والعقل ، فإنّ الاستقراء الكامل يرجع إلى بيان ما أدركه المستقرئ بحسّه ، تحت ضابطة عامة ، ومن المعلوم أنّ الحكم على الجزئيات المتشتتة بحكم واحد هو من عمل العقل لا الحسّ.

وأمّا الاستقراء الناقص فهو استدلال بالخاص على العام ، ولا شك في اشتراك الحسّ والعقل معاً في ذلك لأنّ هذا الاستقراء قائم على أنّ المستقرئ لا يتفحّص إلّا عن بعض الجزئيات بحسّه ، ومن المعلوم أنّ الانتقال منها إلى حكم عام شامل لما لم يتعلّق به الاستقراء ، يستمدّ من العقل.

١٦٥
١٦٦

أدوات المعرفة

(٥)

التجربة

التجربة إحدى أدوات المعرفة الرئيسية (١) ، ومنها يتشكل البرهان أيضاً ، وذلك لأنّ البرهان يتألّف من اليقينيات ، وأُصول اليقينيات ـ كما عرفت سابقاً ـ ستة ، منها التجريبيات.

فالتجربيات إذن ، إحدى اليقينيات الّتي تشكل أساس البراهين العقلية ، وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في حواسنا ، فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب أن يَرسُخَ في النفس حكمٌ لا شك فيه ، كقولنا : «إنّ الحديد يتمدد بالحرارة» ، بعد أن جرّبنا أفراد الحديد المختلفة ، مرّات عديدة ، فوجدناها جميعها تتمدد بالحرارة ، فإنّا نقطع جزماً بأنّ ارتفاع درجة الحرارة مؤثر في تمدد الحديد ، كما أنّ هبوطها يؤثّر في انقباضه وتقلُّصه.

وقد احتلَّت التجربة مكانةً ساميةً في الغرب ، وتربَّعت عرش المعرفة فيه ، وشكَّلت حجر الأساس لكثير من الاختراعات والاكتشافات. وليس الغرب مبتكراً في إعمالها ، بل سبقه إليها الأغارقة والإسلاميون ، وكان علماء الطبيعة في

__________________

(١) وسيظهر لك ممّا يأتي أنّ الاستنتاج من التجربة يتوقف على ضم حكم عقلي إلى ما وقف عليه المجرّب عن طريق الحسّ ، ولو لا ذلك لكانت التجربة عقيمة. ومنه يعلم أنّ التجربة مزيج من الحسّ والعقل ، فلا هي أداة حسيّة محضة ولا عقلية كذلك ، كما هو الحال في التمثيل والاستقراء ، كما تقدم.

١٦٧

العصور الإسلامية الأولى يركنون إليها في مواضع كثيرة ، تشهد بذلك كتبهم المدوَّنة في الطب والكيمياء ، وستوافيك قبسات من عبارات الشيخ الرئيس حول التجربة ، كما سيوافيك بعض ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المجال.

قيمتها العلميّة

التجربة إحدى الأدوات الّتي تفيد اليقين بنتيجةٍ كليّة ، على خلاف التمثيل والاستقراء ، اللذين عرفت عدم إفادتهما إلّا الظن ، كما عرفت أنّ الاستقراء على فرض إفادته اليقين ، فإنّما يراد منه اليقين العرفي ، بتناسي الاحتمال المخالف الماثل في الذهن ، بينما التجربة تفيد القطع بحكم كلي شامل لجميع الأفراد الماضية والحاضرة والمستقبلة. وعندئذٍ ينطرح في المقام سؤال وهو أنّه لما ذا صارت التجربة مصدراً للعلم واليقين ، بخلاف التمثيل والاستقراء ، مع اشتراك الجميع في أنّ العملية تقع على أفراد محدودة لا على جميع الأفراد؟. هذه شبهة مستعصية على الأذهان وقف دونها الكثيرون ، فيجب علينا حلُّها في ضوء الضوابط العقلية فنقول :

الفرق بين التمثيل والاستقراء ، والتجربة ، أنّ مناط الحكم في الأوَّليْن هو تشابه الأفراد واشتراكها من جهات واختلافها من جهات أُخرى. فالفُقّاع والخمر ، وإن كانا متشابهين ومشتركين في الإسكار ، لكنهما من نوعين مختلفين ، وهذا هو الّذي دفعنا إلى تسمية أحدهما فقّاعاً والآخر خمراً ، فإنّ أحدهما متّخذ من الشعير والآخر من العنب. وهكذا في الاستقراء ، فإنّ ما نشاهده من الحيوانات البرية والبحرية ، أنواع مختلفة ، واقعة تحت جنس واحد هو الحيوان ، لكنها تتميّز بفصول وأشكال مختلفة. فلو رأينا هذا الحيوان البري ، وذلك الحيوان البحري ، كلُّ يحرك فكَّه الأسفل عند المضغ ، نحكم بذلك على سائر الحيوانات ، من دون أن تكون بينها وحدة نوعية ، أو تماثل في الحقيقة ، والدافع إلى ذلك التعدّي في الحكم هو التشابه والاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد ، رغم الاقرار باختلافها في الفصول والأشكال. ومن هنا ، لا يمكن الجزم بالحكم والنتيجة على وجهها الكلّي ، لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين ، في الحكم. هذا كلُّه في التمثيل والاستقراء.

١٦٨

وأمّا التجربة ، فتُخالِفُهما من حيث مناط وملاك إسراء الحكم ، فإنّ المناط فيها هو الوحدة في النوع والحقيقة ، والتماثل من جميع الجهات طراً إلّا الزمان.

مثلاً : إذا أجرينا تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة ، كالحديد ، تحت ظروف معينة من الضغط الجوي ، والجاذبية ، والارتفاع عن سطح البحر ، وغيرها مع اتّحادها جميعاً في التركيب ، فوجدنا أنّها تتمدد مقداراً معيناً ، ولنسمّه (س) عند درجة خاصة من الحرارة ، ولنسمّها (ح). ثمّ كررنا هذه التجربة على هذه الجزئيات ، في مراحل مختلفه ، في أمكنة متعددة ، وتحت ظروف متغايرة ، ووجدنا النتيجة صادقة تماماً : تمددٌ بمقدار (س) عند درجة (ح). فهنا نستكشف أنّ التمدد بهذا المقدار المعين ، معلول لتلك الدرجة الخاصة ، فقط ، دون غيرها من العوامل ، وإلّا لزم أن تكون ظاهرة التمدد بمقدار (س) معلولة بلا علّة ، وحادثة بلا جهة ، لِصدْق النتيجة في جميع الظروف ، والأمكنة ، وهو أمر محال ، لأنّ المفروض وحدة الأفراد في جميع الخصوصيات ، إلّا الزمان ، والمفروض عدم تأثيره في الحكم. وعلى هذا يحكم العقل بأنّ الحديد ، بجميع جزئياته وتراكيبه ، يتمدد بمقدار (س) عند درجة (ح).

وعلى ضوء هذا ، فما من تجربة إلّا وفي جنبها حكم عقلي يوجب بسط الحكم إلى جميع الأفراد وفي جميع الأزمنة ، ويُعبَّر عنه بالعبارات التالية :

أ ـ إذا كانت جميع الجزئيات متحدة في الحقيقة ، ففرض وجود الخصوصية (التمدد بمقدار معين) في بعضها دون بعضها الآخر ، يستلزم وجود هذه الخصوصية بلا علّة ، وهو محال.

ب ـ إذا كانت جميع الجزئيات متحدة في الحقيقة ، ومختلفة في الزمان فقط ، ففرض وجود الخصوصية في بعضها دون الآخر يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو في حكم فرض المعلول بلا علّة.

ج ـ إذا كانت جميع الجزئيات متّحدة في الحقيقة ، ففرض وجود الخصوصية في بعضها دون بعض ، يناقض حكم العقل بأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

١٦٩

ففي ظل هذا الحكم العقلي الّذي يعبّر عنه بتعابير مختلفة ، يحكم العقل بسريان الحكم إلى جميع الأفراد في جميع الأزمنة.

نعم ، لا يمكن إسراء الحكم إلى الموضوع الّذي يختلف مع مورد التجربة اختلافاً جزئياً ، فضلاً عن الاختلاف الفاحش ، فلو كنّا أجرينا التجربة على حديد خاص من حيث التركيب ، كالحديد المطاوع ، فلا يمكن إسراء هذا الحكم على الحديد الّذي يغايره فيه ، كالفولاذ.

هذا هو الأساس لانتزاع العلماء قوانين كليّة عامة من التجربة.

ولنضرب مثالاً آخر : لو أجرى عالماً كيميائياً تجربة على عقار خاص فوجده ناجعاً في معالجة الصداع ، الناشئ من عوامل معينة ، ومؤثراً في أفراد معينين من الناس إذا أُعطي بمقدار معين. ثمّ كرر التجربة مرّات عديدة وفي ظروف مختلفة على الصداع الّذي له تلك الخصوصيات ، فوجده مؤثّراً في جميعها ، يقطع بالنتيجة الّتي توصّل إليها ، وبعموميتها لجميع الحالات المماثلة ، وما ذلك إلّا لأنّ الحكم بالتخصيص ورفض العموم يستلزم تفسير الخصوصية بطريق غير ممكن.

وتلك النتيجة لا تَصْدُق ، وذلك العقار لا ينجع في معالجة الصداع الناشئ من عوامل أُخرى ، أو في أفراد مختلفين في الأمزجة ، أو إذا أُعطي بمقادير أقلّ أو أكثر ، ففي هذه الموارد لا يمكن الحكم بعمومية العلاج وسريانه.

وبذلك يعلم الفرق الجوهري بين الاستقراء والتجربة ، فالمستقرئ لا يجري عملية خاصة سوى المشاهدة ، ولا يستنبط علّة الحكم أبداً ، وليس له دافع إلى إسراء الحكم إلّا المشابهة. وهذا بخلاف المجرّب ، فإنّه يتسلّط على علّة الحكم ومناطه بحكم البرهان والعقل ، ويقف على أنّ علّة الخصوصية (التمدّد بمقدار معين والبرء) ليس إلّا نوعاً معيناً من الحديد في حرارة خاصّة ، أو تأثير العقار في الداء والمزاج المُعَيَّنَين ، وبالمقدار المحدّد ، وبعد ذلك يستعدّ العقل لانتزاع حكم كلّي هو أنّ كل حديد من التركيب الفلاني ، ينبسط بمقدار كذا عند حرارة كذا ، وهذا العقار ناجع في إبراء كل صداع ناشئ من العوامل الفلانية ، في المزاج الفلاني وبالمقدار الفلاني. ولو لا التسلّط على المناط والإحاطة بالعلّة ، لما قدر العقل على إسراء الحكم وتوسعته.

١٧٠

ومن هنا يتبين أنّه ما من معرفة طبيعية تجريبية إلّا وفي جنبها معرفة عقلية قطعية لولاها لكانت التجربة عقيمة غير مفيدة.

وممّن تنبّه إلى ما ذكرنا الشيخ الرئيس : فقد أجاب في سؤال من سأله عن علّة إيراث التجربة اليقين ، بأنّ التجربة ليست بمعنى أنّ تكرار المشاهدات يفيد اليقين ، وإنّما المشاهدات (العملية) تفيد اليقين بضميمة قياس عقلي (١).

وكذلك الحكيم السبزواري ، قال : العلم في التجربة منوط بأمرين : أحدهما المشاهدة ، والآخر القياس الخفي ، وهو أنّه لو كان اتّفاقيّاً ، لما كان دائماً ولا أكثرياً ، ثمّ يستثني نقيض التالي لنقيض المقدَّم (٢).

وللأسف ، إنّ التجربة بهذا المعنى قد نسيت في الجامعات العلمية ، فترى أنّهم يفسرونها بعملية تعميم وبسط ما تدركه الحواس الظاهرية والباطنية. وقد تطرق هذا الخطأ إليهم بسبب تبعيتهم للغربيين حيث يستعملون المشاهدة والتجربة مترادفين ، مع أنّ المشاهدة غير التجربة ، فإنّ كلّاً منهما أصلٌ من أُصول اليقينيات الست ، كما تقدّم.

نعم ، إنّما تفيد المشاهدةُ اليقينَ ، في موردها ، ولا تكون مبدأً لانتزاع حكم كلّي ، بخلاف التجربة فإنّها تكون مبدأً لقاعدة كليّة بحكم القياس العقلي. فإذا أردنا تفسير الاستقراء ، فلنفسّره بالمشاهدة ، وأمّا التجربة ، فتفسيرها بالمشاهدة ، تفسيرٌ ناقص ، وإنّما هي عمليات كثيرة مختلفة ، في أجواء متنوعة ، يشهدها الحسّ الظاهري أو الباطني ، ثمّ يعمّم نتيجتها في ضوء حكم العقل.

نقل وتحليل

قد عرفت أنّ تعميم حكم التجربة في مورد ، إلى جميع أفراد الطبيعة ومصاديقها الّتي لم تجر فيها التجربة ، إنّما هو بحكم العقل القائل بأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد. وبعبارة أُخرى : يحصل للمجرّب ، بعد تكرر

__________________

(١) منطق الشفاء : ٩٦ ، ط مصر.

(٢) شرح المنظومة ، لناظمها : ٩٠.

١٧١

التجربة ، اليقين بأنّ النتيجة الّتي أفادتها راجعة إلى نفس طبيعة الشيء بما هي هي ، من دون أيّة دخالة لغيرها من الظروف الزمانية والمكانية وآلة التجربة والمجرِّب الخ.

غير أنّ بعض الغربيين ، أعني الفيلسوف جان استوارت ميل (١) ، ذهب إلى أنّ تعميم نتيجة التجربة إنّما هو في ظل قاعدة مسلّمة هي : إنّ الطبيعة ـ في جميع الأمكنة والأزمنة ـ متحدة الحقيقة والاقتضاء ، فهي تعمل في جميع الظروف على نسق واحد. فلو كان لفلزّ معينٍ ، ذوبان عند حرارة معينة ، فهو (أي الفلزّ) يقتضي ذلك الأثر في جميع المواطن ، سواء أكانت ممّا أُجريت فيها التجربة أو لا.

ولكن أشكل عليه بالدور ، وهو أنّ تعميم نتيجة التجربة إلى جميع الأفراد ، يتوقف على ثبوت هذا الأصل (٢) (الطبيعة متحدة الحقيقة والاقتضاء) ، مع أنّه ليس أصلاً عقلياً حتّى يعتمد في ثبوته على العقل ، وإنّما هو أصل تجريبي ، يحصل بالتجربة. ومن المعلوم أنّ عملية التجربة لكشف وحدة الطبيعة حقيقةً واقتضاءً ، لا يمكن أن تتحقق في جميع أفراد الطبيعة ، وإنّما تتحقق في الموارد الّتي تجري فيها التجربة. فتعميم نتيجة هذه العمليات المحدودة، يتوقف على ثبوت هذا الأصل ، وهو بعدُ غير ثابت. فيُنتج أنّ إثبات كون الطبيعة متّحدة الحقيقة والاقتضاء ، يتوقف على ثبوت كون الطبيعة متحدة الحقيقة والاقتضاء ، وهذا دور واضح.

لكن «ميل» تخلّص من هذا الدور بما هذا حاصله :

إنّ وقوف الإنسان على هذا الأصل (الطبيعة متحدة الحقيقة والاقتضاء) ، لا يتوقف على استقراء تام وتجارب متعددة ، بل يكفي في ثبوته تجربة ناقصة تحصل للإنسان البسيط قبل خوضه في المباحث العقلية ، وهو ما أسماه ب «الاستقراء السطحي». وذلك بحجة أنّ الطفل إذا أدنى يده من النار وآذته بلهيبها ، فإنّه لن يمدّ يده بعد ذلك إلى أيّة نار يصادفها ، لأنّ تلك التجربة تفيده علماً بأنّه سوف

__________________

(١) (١٨٠٦ ـ ١٨٧٣ م).lliM trautS nhoJ.

(٢)erutan la ed etimrofinu\'I ed epicnirP.

١٧٢

يواجه في المرة الثانية بمثل ما وُجه به في المرة الأُولى ، فكأنّ الطبيعة عنده متحدة الحقيقة والاقتضاء.

نعم ، ثبوت هذا الأصل على الوجه العلمي ، يتوقف على تجارب كثيرة غير متناهية ، في مختلف أصناف الطبيعة وأنواعها ، حتّى يحصل له العلم بهذا الأصل ، وهو ما أسماه ب «الاستقراء العلمي» ، ويتمكن بالتالي من تدوين العلوم والقوانين والسنن ، في ضوء هذا الأصل. فالقول بأنّ الطبيعة متحدة الحقيقة والاقتضاء ، عبارة إجمالية عن هذه التجارب غير المتناهية (١).

يلاحظ عليه : إنّ التجارب المتضافرة الكثيرة التي أسماها ب «الاستقراء العلمي» ، هي أيضاً غير مفيدة للعلم بهذا الأصل (الطبيعة متحدة الحقيقة والاقتضاء). لأنّ استقراءه ، وإن كان كثيراً منسَّقاً ، ولكنه بعدُ محدود ، فمن أين علم بسريان النتيجة إلى ما تبقى من الموارد غير المتناهية ، الّتي لا يفي عمر الإنسان لإجراء التجربة فيها ، والمفروض أنّ هذا الأصل غير ثابت بعد ، ونحن في طريق إثباته.

وبذلك تصير نتائج التجارب العلمية ، ظنوناً متراكمة ، مشوبة بالشك ، وبذلك ينسلخ عن العلوم وصف الجزم والقطعية. وقد اعترف «ميل» بذلك إذ يقول : العلوم التجريبية لا توجب اليقين المطلق ، وليس عندنا اطمئنان مطلق بأنّ غداً سيأتي نهار بعد هذه الليلة. ولكن هذا الشك شك نظري فقط ، وإن كانت لتلك العلوم قاطعية عملية(٢).

والحق في إضفاء القطعية والكلية على نتائج التجارب ، هو ما ذكرنا.

التجربة والحضارة الإسلامية

التجربة من أسمى أدوات المعرفة في العلوم الطبيعية ، وفي ظلّها يصل

__________________

(١) لاحظ الفلسفة العلمية ، ل «فيليسين شاله» eyallahC neicileF ، ص ١١١ ـ ١١٢ بتصرّف وتوضيح منّا.

(٢) المصدر السابق نفسه.

١٧٣

الإنسان إلى سنن الكون الكليّة الصادقة في جميع الظروف ، من دون أن تختص بزمان أو مكان. وبها يتسامى موكب الحضارة وركب الإنسانية إلى قمة المعرفة الشامخة ، وكل ما نعايشه من تطور وتسلّط على القوى الطبيعية ، مدين للتجربة.

ولم يهمل أئمة المسلمين التأكيد على هذه الناحية الحيوية ، ويجد المرء في كثير من كلمات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، تشجيعاً وحثّاً على اتّخاذ التجربة أداة في عامة نواحي المعرفة ، ونذكر فيما يلي نزراً يسيراً منها :

قال عليه‌السلام :

١. التجارب علم مستفاد (١).

٢. العقل عقلان : عقل الطبع وعقل التجربة ، وكلاهما يؤدّي إلى المنفعة(٢).

٣. الأُمور بالتجربة ، والأعمال بالخبرة (٣).

كما أنّ الإسلام قد أنتج فطاحل وأساطين عظام في العلوم الطبيعية ، سلكوا مسلك التجارب والاختبارات العلمية ، فخرجوا بنتائج باهرة ، واكتشافات عظيمة ، دفعت عجلة العلوم البشرية إلى الامام ، وأرست قواعد الحضارة المدنية الحديثة. وفيما يلي نذكر بعضاً من نوابغهم :

١ ـ جابر بن حيّان الكوفي (٨٠ ـ ١٦٠ ه‍)

جابر بن حيّان ، أول رائد مسلم احتضن العلوم الكونية ، وعكف عليها بقلبه وعقله، وامتزج بها بروحه ودمه ، يدرسها ويبحثها ليدرك أسرارها ، ويكتشف مجهولاتها على أساس مبدأ التجربة والاختبار ، وعلى أساس تفسير الطبيعة بالطبيعة ، لا بالفرضيات والأشكال المنطقية ، فهو من قمم الفكر والثقافة الإسلامية ، ومن مفاخر المسلمين الّتي يُعتزّ بها ، حتّى لقب بأبي الكيمياء ، وقال

__________________

(١) غرر الحكم للآمدي : ٢٢٤.

(٢) بحار الأنوار : ١٧ / ١١٩ ، الطبعة القديمة.

(٣) غرر الحكم للآمدي : ٢٢٤.

١٧٤

عنه «برتيلو» (١) : «لجابر بن حيان ما لأرسطوطاليس في المنطق».

وتبدو عبقرية جابر ومواهبه بأنّه كان عالماً بالكيمياء بالمعنى الصحيح ، فقد درسها دراسة وافية ، ووقف على ما أنتجه الذين سبقوه ، وعلى ما بلغته المعرفة في هذا العلم في عصره ، وبأنّه أخضع الكيمياء للتجربة والملاحظة والاختبار. وهو من تلامذة الإمام جعفر الصادق ، حيث وجد في إمامه سنداً ومعيناً ، ورائداً أميناً ، وموجّهاً لا يستغني عنه.

وجابر أول من استخرج حامض الكبريتيك ، وسمّاه زيت الزاج. وأوّل من اكتشف «الصودا الكاوية» وأول من استحضر ماء الذهب ، ومركبات أُخرى ككربونات البوتاسيوم ، وكربونات الصوديوم وغيرها. كما درس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها.

قال «لوبون» (٢) : «تتألف من كتب جابر ، موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند المسلمين في عصره ، وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيميائية ، كانت مجهولة قبله ، وهو أول من وصف أعمال التقطير والتبلور والتذويب والتحويل وغير ذلك» (٣).

٢ ـ محمد بن زكريا الرازي (٢٥١ ـ ٣١٣ ه‍)

أبو بكر محمد بن زكريا الرازي من أئمة صناعة الطب ، واشتغل بالسيمياء والكيمياء ، ثمّ عكف على الطب والفلسفة في كبره ، فنبغ واشتهر.

وقد سُمِّي من تصانيفه ٢٣٢ كتاباً ورسالة ، منها :

ـ «الحاوي» في صناعة الطب ، وهو أجَلّ كتبه. ترجم إلى اللاتينية.

ـ «الطب المنصوري» ترجم إلى اللاتينية.

__________________

(١)tolehtreB.M ، (١٨٢٧ ـ ١٩٠٧ م) ، عالم كيميائي فرنسي له تآليف ممتازة في علم الكيمياء.

(٢)nob el.G ، (١٨٤١ ـ ١٩٣١ م).

(٣) لاحظ : فلاسفة الشيعة ، للشيخ عبد الله نعمة : ١٨٤ ـ ٢٣٠ ؛ والأعلام للزركلي : ٢ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٧٥

ـ «الفصول في الطب» ، ويسمى المرشد.

ـ «الجدري والحصبة».

ـ «برء الساعة».

وغير ذلك من التآليف (١).

٣ ـ لرئيس ابن سينا (٣٧٠ ـ ٤٢٨ ه‍)

هو ألمع اسم في تاريخ العلم والفكر والطب ، ومن أكبر الفلاسفة المسلمين الذين برزوا في الفلسفة والطبيعيات والطب ، ومن الذين دفعوا عجلة العلم إلى الامام خطوات كثيرة. وتقوم شهرة الرئيس ـ في الأكثر ـ على الفلسفة والطب ، وعلى كتبه العميقة الّتي وضعها ، كالإشارات ، والشفاء ، والنجاة والقانون وغيرها.

وكتابه القانون موسوعة طبية أودع فيها الشيخ كل ما يتعلّق بالطب ، وهو يتألف من خمسة كتب ، وفيه يظهر اعتماده على الاختيار والتجربة. وقد بقي هذا الكتاب معوّلاً عليه في علم الطب وعمله ستة قرون من الزمن ، وترجمه الإفرنج إلى لغاتهم ، وكانوا يتعلمونه في معاهدهم.

وقسم الطبيعيات من كتاب الشفاء ، مليء بالتجارب الّتي أجراها فيها ، يقول مثلاً عند البحث عن الهالة وقوس قزح : «وقد تواترت مني هذه التجربة بعد ذلك مراراً ، فظهر لي أنّ السحاب الكدر ، ليس يصلح أن يكون مرآةً البتة ... الخ» (٢).

٤ ـ الحسن بن الهيثم (٣٥٤ ـ ٤٣ ه‍)

أبو علي الحسن بن الهيثم ، فلكي رياضي وعالم طبيعي ، كان أكثر عمله

__________________

(١) الأعلام للزركلي : ٦ / ١٣٠.

(٢) الشفاء قِسم الطبيعيات : ٢٦٦ ، لاحظ في أحوال ابن سينا فلاسفة الشيعة ، لنعمة : ٢٥٦ ـ ٢٨٤ ؛ والأعلام : ٢ / ٢٤١ ـ ٢٤٢.

١٧٦

بالبصريات ، والعدسات ، والمشهور أنّه هو مخترع المِجْهَر. له كتاب في علم المناظر ، وقد طبع إلى اللاتينية وأصبح كتاباً مدرسياً في أوروبا في العصور الوسطى إلى عصر روجر بيكون(١) (١٢١٤ ـ ١٢٩٢ م). وله مقالة في الضوء(٢).

٥ ـ نصير الدين الطوسي (٥٩٧ ـ ٦٧٢ ه‍)

المحقق المشهور محمد بن محمد بن الحسن الطوسي من عباقرة الدهر الذين لم تنتج منهم الدنيا إلّا القليل. نبغ في الفلسفة والكلام والرياضيات والفلك والإرصاد.

والمحقق الطوسي رغم تعمُّقه في الفلسفة والكلام ، فإنّ شهرته لدى باحثي العصور المتأخرة ، قائمة على مواهبه وآثاره في الرياضيات والفلك والجغرافية. وقد بنى في مراغة (آذربيجان) مرصداً في جمادى الأُولى عام ٦٥٧ ه‍ ، ورصد وجماعته الكواكب ، وعينوا أطوالها ودرجات عرضها.

وقد طلب المحقق لإتمام هذا المشروع الضخم ، من البلاد الإسلامية ، نخبة فريدة من كبراء علماء الفلك المشهود لهم بالمقدرة العلمية. وكانت النفقات الّتي صرفت في هذا السبيل باهظة جداً. وقد ذكر التاريخ أسماء هؤلاء العلماء(٣). وقد تمّ بناء المرصد في نفس السنة الّتي توفي فيها المحقق ، سنة ٦٧٢ ، واستغرق بناؤه خمسة عشر عاماً.

وقد استنبط المحقق الطوسي زيجه المعروف بالزيج الإيلخاني في المرصد المذكور ، ونشره في كتاب خاص ، احتوى على جداول وطرائف حسابية جديدة لم تكن معروفة من قبل ، لذلك كان هذا الزيج هو المعتمد عليه في أُوربا في عصر النهضة(٤).

__________________

(١)nocaB regoR.

(٢) لاحظ ريحانة الأدب ، لمحمد علي المدرس : ٦ / ٢٨١.

(٣) أنظر «تاريخ علم الفلك في العراق» : ٣٢ ـ ٣٩ ، كما في فلاسفة الشيعة : ٤٨٤.

(٤) لاحظ فلاسفة الشيعة : ٤٧٢ ـ ٤٨٤. ومن أراد الوقوف على كيفية استخدام المسلمين أداة التجربة للفحص عن الحقائق ، فعليه الرجوع إلى الكتاب المؤلفة في هذا المضمار. ونكتفي بذكر كتابين منها :

١. «ميراث الإسلام» ، بقلم عدّة من المستشرقين.

٢. «شمس العرب تسطع على الغرب» ، تأليف المستشرقة «زيگرند هونكه».

١٧٧
١٧٨

أدوات المعرفة

(٦)

الإلهام والإشراق

الأُصول الّتي يتبناها الماديّ في نظرته الكونية إلى العالم ، تفرض عليه أن لا يعتقد إلّا بأداتين من أدوات المعرفة : العقل ، والحسّ وما يعتمد عليه من تمثيل واستقراء وتجربة. وأمّا الإلهي ، فيعتقد أنّ هناك وراء هذه الأدوات ، أداة أُخرى ، يتجهّز بها عدّة ممن طهرت قلوبهم ، وصفت أذهانهم ، وصقلت أنفسهم ، فاستعدوا لتلقّي المعارف من عالم الغيب ، وما وراء الحسّ والشهود.

فالمادي ، حيث إنّه يعتقد بتساوي الوجود مع المادة ، لا يرى للغيب والمعارف المفاضة منه إلى قلوب العرفاء والأولياء ، مفهوماً صحيحاً ، وربما يخطئه ، أو يسكت عنه قائلاً بأنّ العلم والمختبرات لم تكشف عنه شيئاً.

وأمّا الإلهي المعتقد بكون دائرة الوجود أوسع من المادة ، فيعتقد بأنّ هناك شهادة وهناك غيباً ، وأنّه يمكن للإنسان أن يتصل بعالم الغيب ، ويقف على أشياء لا يقف عليه لا بحسّه ولا بعقله ، وليست حقيقة هذا الوقوف إلّا إفاضة المعاني والحقائق والصور من ذلك العالم إلى نفس العارف السالك المطّهر من درن المعاصي ورذائل الأوصاف.

وأمّا كيف يتصل الإنسان ، المأسور بالمادة ، بعالم الغيب ، فإليك بيانه :

إنّ النفس الإنسانية بمنزلة المرآة ، تنعكس على صفحتها حقائق الأشياء من عالم الغيب ، فيقف على صور ومعاني لا يمكن الوقوف عليها بالحسّ والعقل ،

١٧٩

ولكن كما أن انعكاس الصور من الخارج على المرآة يتوقف على صفائها ووجود شرائط تمكّن من انعكاسها عليها مثل وقوعها في زاوية خاصة ، وارتفاع الحجب بينها وبين المرئي ، كذلك لا بدّ في انعكاس حقائق الأشياء من عالم الغيب ، من صفاء النفس وصقالتها وطهارتها من آثار الذنب والعصيان وكل مناف للأخلاق والشيم ، وتحررها من قيود الطبيعة ، حتّى يسمع كلام جنود ربِّه ووحيهم.

ويصب العرفاء الشرائط اللازمة لإمكان التلقّي من الغيب ، في أمور ، لا بدّ من تحققها في النفس :

١. عدم نقصان جوهرها ، بأن لا تكون كنفس الصبي الّتي لا تتجلّى لها المعلومات لنقصانها.

٢. صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة وخبائث المعاصي ، وهو بمنزلة الصيقل عن الخبث والصدأ.

٣. توجهها الكامل إلى عالم الغيب ، وانصراف فكرها إلى المطلوب ، بأن لا تكون غارقة في الأُمور الدنيوية ، وهو بمنزلة محاذاة المرآة.

٤. تخليتها عن التعصّب والتقليد ، وهو بمنزلة ارتفاع الحجب. وربما يزيدون قولهم :

٥. التوصل إلى المطلوب بتأليف مقدمات مناسبة للوصول إليه على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة.

فإذا ارتفعت حجب العصبية والسيئات عن النفس ، وحازت شطر الحق الأول (الله جلّ وعلا) ، تجلّت لها صورة عالم الملك والشهادة إجمالاً ، بحسب ما تستطيعه من الأخذ والتلقّي.

وما يتلقّاه الإنسان الطاهر ، من عالم الغيب بلا إعمال الحسّ والعقل ، إن كان راجعاً إلى شخص الإنسان ، يسمّى إلهاماً تارة ، وإشراقاً أُخرى ، وإن كان راجعاً إلى تربية الناس وتكميل نفوسهم بتشريع قوانين وتعاليم يرتقي بها المجتمع إلى الكمال ، فيسمّى وحياً ، والإنسان المتلقّي له نبيّاً.

ولكن بعض من يدّعون الإلهام والإشراق ، لا يكيلون العقل بصاع ،

١٨٠