نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

أدوات المعرفة

(٢)

العقل

العقل من أدوات المعرفة ، ويتميّز عمله عن عمل الحسّ ، فإنّ الحسّ لا يتعدى المحسوسات ، بل يقتصر عمله على نقل صور عنها من دون أن يكشف عن شيء آخر سوى ما تعلّق به.

أمّا العقل ، فالأمر فيه على العكس تماماً ، فإنّه ينتقل من إدراكات إلى أُخرى ، بعمليات متعددة ستقف عليها.

عمليات العقل

١ ـ الاستنتاج

المراد من الاستنتاج استخراج حكم موضوع مشخّص ، من حكم كلّي مستنبط ، وهذا من أسمى عمليات العقل في مجال المعارف ، وهو ما يسمّى بالقياس البرهاني في اصطلاح المنطقيين (١).

__________________

(١) إنّ القياس إذا كان برهانياً ، فبما أنّه يتألف من اليقينيات وأصولها الستة المتقدمة ، فهو يفيد اليقين. وأمّا الأقسام الأُخرى للقياس وهي : الجدل والسفسطة والخطابة والشعر ، فكلّها وإن كانت من عمليات العقل في مجال الاستنتاج ، لكنها لا تفيد اليقين ، لأنّ الجدلي يتألف من المشهورات والمسلّمات ، والسفسطي من الوهميات والمشبّهات ، والخطابي من المقبولات والمظنونات ، والشعر من المخيّلات ، ولذا اقتصرنا هنا على البرهاني.

١٤١

فالعقل في هذه العملية ينتقل من حكمٍ كلّي إلى حال موضوع خاص ، ولأجل إيضاحه نضرب بعض الأمثلة :

مثال أوّل : إذا وقف العقل على أنّ لكل ظاهرة طبيعيّة ، علةٌ ، يحكم بأنّ للثورة الفرنسية علّة ، وللحريق الواقع في غابة أو معمل سبب ، كما يحكم ـ في ظل هذه القاعدة الكليّة ـ بأنّ لكلِّ موجود إمكاني ، كالإنسان والحيوان والنبات والجماد ، علّةً أخرجته من كتم العدم إلى ساحة الوجود.

مثال ثان : أُفرض أنّ الإنسان وقف عن طريق البرهان على أنّ زوايا المثلث تساوي ١٨٠ درجة. وقد استقرّ عقله على هذا الحكم الكلّي ، فكلُّ مثلث يُعرض عليه في أي نقطة من نقاط الدنيا ، يحكم ـ بفضل ما حصّله بالبرهان ـ بأنّ زواياه ١٨٠ درجة.

مثال ثالث : إذا استخرج عن طريق البرهان الفلسفي أنّ التغيّر يلازم الحدوث ، أي الوجود بعد العدم ، فيستنبط حكماً كليّاً من البرهان ، وهو أنّ كل متغيّر حادث. وفي ضوء هذا الحكم الكلّي ، كلما عُرض عليه جزء من هذا العالم المتغير ، سمائِه وأرضِه ، ذرَّتِه ومجرَّتِه ، يحكم بأنّه حادث.

وقس على ذلك جميع البراهين العقلية في مجال الرياضيات والفلسفة والاجتماع ، فالعقل يُحْضِر الحكم الكلّي عن طريق البرهان ثمّ يطبقه على الموارد المعروضة عليه.

مثال رابع : العقل يحكم عن طريق البرهان بأنّ الدور محال. وذلك لأنّ معنى الدور أن يتوقف (أ) على (ب) ، وفي الوقت نفسه يتوقف (ب) على (أ) فتوقف (أ) على (ب) ، معناه كون وجوده ناشئاً منه ومفاضاً عنه ، فيستلزم تقدّم (ب) على (أ) زماناً أو رتبة. فلو فرضنا في الوقت نفسه توقف (ب) على (أ) ـ الّذي معناه تأخر (ب) عن (أ) لكون وجوده ناشئاً منه ـ يلزم أن يكون شيء واحدٌ ، في آن واحد ، ولحاظ فارد ، متقدماً ومتأخراً ، وليس هذا إلّا اجتماع للمتضادين وهو محال. وكل ما استلزم المحال ، محال ، فالدور محال.

فهذا ما يستلزمه الدور. وعلى ضوئه ، فَكُلُّ فَرضيَّةٍ علمية تعرض على

١٤٢

العقل ، وكانت متضمنة للدور ، يحكم العقل بأنّها محال ، من غير فرق بين أن تكون في باب الطبيعيات أو الرياضيات أو الإلهيات.

وفيما ذكرناه من الأمثلة كفاية في تبيين هذا النوع من عمليات العقل. نعم ، هاهنا إشكال باسم مشكلة الدور في طريق الاستنتاج ، نتعرض لها.

مشكلة الدور وحلُّها

ذكروا مشكلة في طريق استنتاج حكم موضوعٍ من حكمٍ كلِّي ، وهي :

إنّ استكشاف حكم الموضوع المفروض ، يتوقف على الحكم الكلي الحاصل لدى العقل ، مع أنّ كليّة هذا الحكم وصدقه على وجه العموم ، يتوقف على إحراز وضع هذا الموضوع المطروح ، ولو لا تبيين حاله ، لما كان للعقل الحكم بالكليّة ، فالمعرفة العقلية عن هذا الطريق تستلزم الدور.

مثلاً : إذا أردنا أن نعرف حال الماء الماثل بين أيدينا ، وأنّه على أيِّ درجة من الحرارة يغلي ، نستكشف حاله من الحكم الكلّي القائل بأنّ كلَّ ماء يغلي على درجة (١٠٠). مع أنّ العلم بهذا الحكم ، بوصف الكليّة ، يتوقف على العلم بأنّ كلّ فردٍ من أفراد المياه ، حتّى هذا الفرد الماثل بين أيدينا ، يغلي عند هذه الدرجة. فلزم توقف التعرف على حكم الجزئي ، على العلم بهذا الحكم الكلّي ، مع أنّ العلم بكليته وعمومه وشموله ، يتوقف على التعرف على حكم هذا الماء الماثل بين أيدينا ، الّذي نريد أن نتعرف عليه. وهذا ما يقال من أنّ الاستدلال بالعقل عن طريق الشكل الأول يستلزم الدور.

ففي المثال المتقدم ، يقال :

ـ هذا ، ماءٌ يغلي.

ـ وكل ماءٍ يغلي ، درجة حرارته (١٠٠).

فهذا ، درجة حرارته (١٠٠).

فالعلم بالنتيجة موقوف على العلم بكليّة الكبرى ، كما أنّ العلم بها موقوف على العلم بالنتيجة.

١٤٣

وهذا إشكال معروف طرحه الفلاسفة الإسلاميون في كتبهم وأجابوا عنه ، وقد روي أنّ الشيخ العارف ، أبا سعيد بن أبي الخير (١) ، أورد هذه الشبهة على رئيس الحكماء ابن سينا لإثبات أنّ الفكر غير موصل للإنسان إلى استكشاف المجاهيل ، لأنّ الاستنتاجات كلّها تحصل من طريق الشكل الأول ، والأشكال الثلاثة الأُخرى منتهية إلى الأول ، وهو مستلزم للدور.

الجواب

أُجيب عن هذه المشكلة بوجوه مختلفة ، أظهرها أنّ العلم بالنتيجة ، وإن كان موقوفاً على العلم بكلية الكبرى ، إلّا أنّ العلم بكليّة الكبرى موقوف على البرهان العلمي الدالّ على الملازمة بين بلوغ الحرارة درجة (١٠٠) ، وغليان الماء ، من غير ملاحظة مصداق دون مصداق. فليست صحة الكبرى ولا كليتها متوقفتان على العلم بالنتيجة أبداً ، بل متوقفتان على وجود تلك الملازمة ، وبما أنّ هذا الحكم ، حكم تجريبي ، يتوقف العلم بكليته على قياس عقلي ، وهو ما قدمنا بيانه من أنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، ولا يتوقف أبداً على العلم بالصغرى.

والّذي أوقعهم في الشبهة ، هو توهمهم أنّ الكبرى حصل بها العلم من طريق الاستقراء ، ومن المعلوم أنّ الحكمَ الكليَّ فيه ، يتوقف على العلم بحكم المصاديق تفصيلاً أو إجمالاً ، فيلزم عندئذٍ الدور. ولكنهم غفلوا عن أنّ العلم بالحكم الكلي ، تارة يحصل من الاستقراء التامّ ، فيحصل العلم بالنتيجة قبل العلم بالحكم الكلي ، وأُخرى بالبرهان الدالّ على الملازمة بين الموضوع ، والمحمول. وفي مثله ، لا يتوقف العلم بالحكم الكلي ، على العلم بأحكام الأفراد ، لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، بل إذا علم من طريق البرهان أنّ بين غليان الماء ، وبلوغه درجة حرارة (١٠٠) ملازمة ، يحكم بأنّ درجة الحرارة هي (١٠٠) لكل مصاديق الماء الّذي يغلي. فالعلم بأحكام المصاديق ، يحصل من العلم بالحكم الكلي ، لا العكس ، كما هو مبنى الشبهة.

__________________

(١) (٣٥٧ ـ ٤٤٠ ه‍).

١٤٤

مثال : إنّا نقول : العالم متغيّر ، وكل متغيّر حادث ، فالعالم حادث. هذا البرهان مركب من صغرى وكبرى ، وكل منهما مبرهن بالدليل العقلي ، بالبيان التالي :

أمّا الصغرى ، فقد كشفت نظرية الحركة الجوهرية (١) عن أنّ ذات المادة بصميمها وجوهرها في حالة السيلان والتدرج والحدوث والزوال ، وأنّ الحركة ليست مختصة بظواهرها وسطوحها (أعراضها) ، بل تعمّ صلبها وجوهرها كذلك. فالكون بجميع ذرّاته في تحول وتغيّر مستمرين ، وما يُتراءى للناظر من الثبات والاستقرار ليس إلّا من خطأ الحواس وخداعها ، ولكن الحقيقة أنّ كلّ ذرّة من ذرّات المادة ، خاضعة للتغيّر الجوهري.

وأمّا الكبرى ، أعني كون «كلِّ متغيّر حادث» ، فإنّ المراد من المتغير في موضوعها ، ليس هو المتغير في الصفات والأعراض فحسب ، بل المتغير في الصميم واللبّ أيضاً ، فيكون المتغيّر بهذا المعنى مسبوقاً بالعدم ، بمعنى أنّ كل مرتبة متقدمة ، تحتضن عدماً للوجود المتأخر ، وليس الحدوث إلّا الوجود بعد العدم.

فالعالم مُتغيِّرٌ في الذات والصفات ، حسب تلك النظرية التي أثبتتها البراهين.

وكلُّ متغيّر في الذات والصفات ، بما أنّه لم يكن ثمّ كان ، حادثٌ ، إذ ليس الحدوث إلّا الوجود بعد العدم.

فينتج : أنّ العالم حادث.

فها إنّك ترى أنّ العلم بكل واحدة من الصغرى والكبرى لم يتوقف على شيء.

نعم ، الفرق بين الأحكام العقلية المعتمدة على البراهين العقلية ، والأحكام الكليّة المعتمدة على التجربة ، هو أنّ البراهين العقلية لا تعتمد على الحسّ في

__________________

(١) لاحظ الأسفار : ٧ / ٢٨٠ و ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٢٩٧.

١٤٥

الصغرى والكبرى ، في حين أنّ الأحكام التجريبيّة تعتمد على الحسّ في الصغرى ، وعلى قياس عقلي خفيّ في الكبرى وهو أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

هذا ، وإنّ الأحكام العقلية على قسمين :

فتارة يكون موضوع الكبرى علّة للحكم في الكبرى ، كما في قولنا : كلُّ متغيّر حادث.

وأُخرى تكون العلّة غير الموضوع المأخوذ في الكبرى ، كما في قولنا : زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين ، فإنّنا نقول : هذا مثلث ، وكل مثلث تساوي زواياه زاويتين قائمتين ، فينتج : هذا تساوي زواياه زاويتين قائمتين. والّذي يدلّ على صحة الكبرى هنا ، إنّما هو البرهان الهندسي الّذي أثبت أنّ زوايا المثلث تتساوى مع الزاويتين القائمتين (١٨٠ درجة) من دون أن يتوقف العلم بالكبرى على العلم بالنتيجة في المثلث الشخصي ، لا تفصيلاً ولا إجمالاً. فافهم واغتنم.

* * *

٢ ـ إدراك المفاهيم الكليّة

من العمليات الّتي يقوم بها العقل ، درك المفاهيم الكليّة الّتي لا تأبى الصدق والانطباق على ازيد من فرد واحد. والضيق الموجود في المفاهيم الجزئية منتف فيها. فالأعلام لا تصدق إلّا على من سُمّيت به ، بخلاف «الإنسان» ، فهو ينطبق على أفراد كثيرين (١).

وفي كيفية إدراك العقل نظريتان.

الأُولى : نظرية التجريد والانتزاع.

__________________

(١) فلفظ «أحمد» مثلاً ، لا يصدق إلّا على النبي الأكرم ، لكن بالنسبة إلى الوضع المخصوص به ، ولو صدق على فردٍ آخر فإنّما هو بلحاظ وضعٍ آخر. وهذا بخلاف لفظ «الإنسان» ، فإنّه يصدق بوضعٍ واحد ، على كثيرين.

١٤٦

والثانية : نظرية تبديل المعرفة الحسيّة إلى المعرفة العقلية بالخلق أو بالارتقاء من درجة إلى درجة.

وإليك فيما يلي بيانهما.

النظرية الأُولى : نظرية التجريد والانتزاع

حقيقة التجريد والانتزاع قائمة على سلب العقل ، الخصوصيات والمشخِّصات عن الأفراد ، واستخراج القدر المشترك بينها. مثلاً : إنّ زيداً وعمراً وبكراً متميزون في جهات شتى من الطول والقصر والبياض والسواد وسائر الإضافات ، ومع ذلك يدرك العقل أن بينها اشتراكاً في أمر يفصلها عن سائر الأنواع ، وهو المسمّى بالإنسانية ، فينتزع هذا المفهوم الكلي بعد تجريد تلك الأفراد من المشخِّصات.

النظرية الثانية : نظرية التبديل

وهناك نظرية أُخرى حقَّقها صدر المتألهين ، وهي أنّ درك المفاهيم الكلية ليست إلّا من باب تبديل المعرفة الحسيّة بالمعرفة العقليّة. وحاصلها أنّ للمعرفة مراحل ثلاث :

أ ـ مرحلة الإحساس.

ب ـ مرحلة الحفظ.

ج ـ مرحلة إدراك مفهوم كلي.

وإليك بيانها.

أ ـ إذا أطلّ الإنسان بنظره على بحيرة يرى ماءها الشفاف فضة مذابة ، تغطيها صفحات من الأمواج الملتوية التواء خفيفاً ، فيعطيه منظر اهتزاز النسيم الرقيق ، والرياض المطلّة على ضفاف تلك البحيرة ، العبقة بالأزاهير والورود ، والشجية بأنغام تغاريد الطيور ، تعطيه صوراً بهيّة خلّابة رائعة ، تنشرح لها النفس ، وتهتزّ لها الروح. فما دام الحسّ مشغولاً بالتقاط تلك المناظر البهية ،

١٤٧

فالصورة الواردة من المُبْصَر إلى الذهن ، تسمّ صورة حسيّة ، من غير فرق بين البصر وغيره من الحواس. وهذه المرحلة هي مرحلة الإحساس.

ب ـ عند ما تتم عملية الإحساس وتتعطل القوى عن العمل يبقى هناك أثر في النفس ، وهو الصورة الخياليّة (١). وهو ما عبّر عنه قدماء الفلاسفة بالصورة الحادثة في الخيال بعد حدوث الصورة الحسيّة ، يستحضرها الإنسان بعد فناء الحسيّة متى شاء ، وفي أي وقت أراد ، وهو أمر واضح لكل من جرّب ودرب.

مثلاً : بعد أن يغادر الإنسان ضفاف البحيرة ويُقْفِل عائداً إلى منزله ، ربما يحاول أن يستحضر ما رأى من المناظر البديعة ، فتراه ينتقل إلى تلك الصور بلا تروٍ ، وهذا يكشف عن أنّ في النفس قوة خاصّة ليس لها شأن إلّا صيانة تلك الصور عن الزوال ، ليرجع إليها الإنسان عند ما تمس الحاجة ، وليس هذا شيئاً يحتاج إلى دليل.

وهكذا الأُستاذ عند ما يرد إلى قاعة من قاعات الكليّة ، المكتظة بالطلاب والباحثين ، فيلقي هناك دراسة في موضوع ، ويأخذون بالنقاش ، وبعد ساعة تنتهي المحاضرة ، فيغادرها ، ثمّ يغفل عن وقائعها مدّة لا يستهان بها. لكن ربما تمسّ الحاجة في وقت من الأوقات إلى سرد أو تسجيل ما شاهده من قبل وما ألقاه من نكات أو سمعه من نقاش ، فيرجع إلى خزانة الصور ، ويسترجع منها ما شاء.

فهذه الصور ، هي الصور الخيالية ، والتوجّه إليها في هذا الوقت هو التوجّه والإدراك الخيالي ، والمِحْفَطَة الّتي حفظت فيها تلك الصور هي خزانة الخيال.

والفرق بين الصورتين الحسيّة والخيالية من وجوه :

١. إنّ الحسيّة أوضح عند الإنسان من الخيالية.

__________________

(١) المراد من الخيال معناه الفلسفي ، وهو قوة في النفس شأنها صيانة الصور الواردة من الحواس ، لا المعنى العرفي.

١٤٨

٢. الصورة الحسيّة لا تدرك إلّا غِبّ شرائط خاصة ، ككون المرئي واقعاً أمام الرائي ، والصوت مسموعاً بكيفية خاصة ، ... وأمّا الصورة الخيالية ، فيمكن استحضارها بذاتها مجرّدة عن هذه الأوضاع ، وتمثيلها في الذهن من دون أن تقترن بشيء منها.

٣. الصورة الحسيّة لا تقع في أُفق الإدراك إلّا بإعمال القوى الظاهرية ، ويدور وجودها وعدمها مدار إعمالها وتعطيلها ، فيكن وجود الصورة الحسيّة ضروري التحقّق عند اجتماع الشرائط ، كما يكون عدمها ضرورياً متى فقد أحدها.

وأمّا الصورة الخيالية ، فيمكن استحضارها بلا معونة القوى الظاهرية الحسيّة ، بل الملاك في وجودها هو تعطيل الحواس عن العمل ، والاعتماد على الإرادة.

وعلى ذلك يمكن إحضار صورة الغائب أو صوته ، بالاعتماد على القوة الخيالية ، وأمّا صورته الحسيّة فتتوقف على حضور المرئي وتكلّمه والنظر إلى وجهه والاستماع إلى صوته.

ج ـ إذا استحضر الإنسان صوراً متشابهة أو متماثلة في ذهنه ، وميَّز المخصِّصات عن المشتركات ، وترك الأُولى وأخذ بالثانية ، فالصورة المأخوذة هي الصورة العقلية ، وذلك كما لو أحضر صور زيد وعمرو وبكر من خزانة الخيال ، فرأى بينها عدّة مميزات ومشخّصات ، من طول وقصر ، وبياض وسواد ، فيترك المميزات ويأخذ المشترك أو المشتركات ، وهذه الصورة الحاصلة المشتركة هي الصورة العقلية.

وقد اختلف الإسلاميون في كيفية وقوف الإنسان على هذا المفهوم الكلي إلى نظريتين.

١ ـ نظرية الإبداع والخلاقية

ذهب الشيخ الرئيس ابن سينا إلى أنّ النفس فاعل إلهي تخلق الصور

١٤٩

والمفاهيم الكليّة في الذهن. فوقوفها على الصورة الحسيّة والخيالية يعطيها قدرة الخلق والإبداع ، فتخلق المفاهيم الكليّة في صقع الذهن.

٢ ـ نظرية التكامل والارتقاء

ذهب صدر المتألهين إلى أنّ وقوف النفس على هذه الصور (١) العقلية ، إنّما هو من باب ترقّي المعرفة من درجة إلى أُخرى ، فكما أنّ الصورة الحسيّة تأخذ بالارتقاء وتتبدل إلى المعرفة الخيالية الّتي هي ألطف من الأُولى ، فهكذا تترقى المعرفة الخيالية إلى معرفة ألطف وأكمل ، وهو المفهوم الكلي الصادق على أفراد كثيرين. وليست الرابطة بين الصورتين رابطة التوليد والإنتاج وإنّما هو ارتقاء صورة من منزلة إلى منزلة أُخرى.

نعم ، هناك فرق بين الخيالية والعقلية ، فالخيالية وإن كانت مجرّدة عن الجهة والخصوصيات ، لكنها جزئية لا تنطبق إلّا على فرد واحد ، بخلاف الصورة العقلية ، فإنّها كليّة (٢).

* * *

٣ ـ تصنيف الموجودات

إنّ من عمليات العقل ، تصنيف الموجودات وتأليف المختلفات تحت مفهوم واحد ، فيُدخل الأنواع الكثيرة تحت الجوهر ، وعدّة من الأعراض تحت الكيف ، وأُخرى تحت الكم. وهكذا.

وقد قالوا من قديم الأيام : إنّ الجوهر ينقسم إلى العقل ، والنفس ، والهيولى ، والصورة ، والجسم. وذكروا في انحصاره في الأُمور الخمسة ما هذا حاصله :

__________________

(١) ليست الصور في مصطلح الفلاسفة مساوقة للصور الحسية والخيالية ، بل تطلق أيضاً على المفاهيم الكلية الموجودة في صقع الذهن.

(٢) راجع الأسفار : ١ / ٣١٩. وتعليقة صدر المتألهين على الشفاء : ١٢٩. وللفلاسفة الغربيين رأيان في كيفية إدراك العقل للمفاهيم الكلية سنذكرهما عند البحث عن مراحل المعرفة.

١٥٠

الجوهر هو الماهية الّتي إذا وجدت وجدت لا في موضوع ، وعندئذٍ فإمّا أن يكون مجرّداً في ذاته وفعله عن المادة ، أو مجرّداً عنها في ذاته دون فعله ، أو لا يكون مجرّداً.

فالأول هو العقل.

والثاني هو النفس.

والثالث إمّا أن يكن محلّاً لجوهر ، أو حالاً في جوهر ، أو مركباً منهما.

والأول هو الهيولى ،

والثاني هو الصورة ،

والثالث هو الجسم.

يقول الحكيم السبزواري :

الجَوْهَرُ المَهِيَّةُ المحصِّلة

إذا غَدَتْ في العَيْنِ لا موضوع له

فجوهرٌ كان مَحَلُّ جَوْهَرٍ

هيولىً أو حلّ به من صورٍ

وجَوْهَرٌ ليس بذاكَ وبذا

إن منهما رُكِّب جسماً أُخذا

ودونه نفسٌ إذا تَعَلَّقْ

جسماً وإلّا عقلاً المفارِق (١)

كما أنّهم قالوا : إنّ العَرَض ماهية مستقلة في نفسها مفهوماً ، ولكنها إذا وجدت في الخارج وجدت في موضوع. وهذا في مقابل الجوهر فإنّه ماهية مستقلة إذا وجدت وجدت لا في موضوع كما تقدّم ، وفي مقابل المعاني الحرفية ، فإنّها غير مستقلات مفهوماً وتحقّقاً ، فالأعراض متوسطات بين الجواهر والمعاني الحرفية. ويطلق على وجود الجوهر (٢) : الوجود النفسي ، وعلى وجود الأعراض : الوجود الرابطي ، وعلى وجود الحرف : الوجود الرابط.

قال الحكيم السبزواري :

إنّ الوجود رابطٌ ورابطي

ثَمَّةَ نَفْسيٌّ فهاكَ فاضْبُطِ (٣)

__________________

(١) شرح المنظومة ص ١٣١

(٢) والواجب ايضا

(٣) شرح المنظومة ص ٥٦

١٥١

وقد قسّموا الأعراض إلى أقسام تسعة ، وهي : الكم ، والكيف ، والوضع ، والأين ، والجدة ، ومتى ، والفعل ، والانفعال ، والمضاف.

قال الحكيم السبزواري :

كَمٌّ وكيفٌ وضعُ عَيْنٍ له متى

فِعلٌ مضافٌ وانفعالٌ ثبتا (١)

وربما يجعلونها ثلاثة : الكم ، والكيف ، والأعراض النسبية ، وهي شاملة لبقية الأعراض.

وليس التصنيف والتأليف وإدخال الأُمور المختلفة تحت مفهوم واحد ، مختصاً بالأُمور المادية ، بل يقوم به العقل في الأُمور النفسية أيضاً ، فيقول مثلاً : البخل ، والحسد ، والعشق والمحبة ، من الحالات النفسانية. وكلّها تدخل تحت كيف نفساني. كما يقول : إنّ الألوان والأشكال ـ من مربع ومثلث ـ كلّها من حالات الجسم ، وتدخل تحت كيف جسماني. إلى غير ذلك من عمليات التصنيف والتأليف في كل علم.

* * *

٤ ـ التجزئة والتحليل

إنّ من عمليات العقل ، تجزئة مفهوم واحد إلى مفاهيم كثيرة ، كتحليل الإنسان إلى الحيوان الناطق ، وتحليل الحيوان إلى الجسم المتحرك بالإرادة ، وتحليل الجسم إلى ما له أبعاد ثلاثة ، وغير ذلك من التحليلات الجسمانية والنفسانية.

والفرق بين التصنيف والتجزئة واضح جداً ، فإنّ عمليتي التصنيف والتحليل أشبه ببناء المخروط. فالتصنيف يشرع من قاعدة المخروط حتّى يصل إلى رأسه ، فيجمع المختلفات تحت مفهوم واحد. والتحليل يشرع من رأس المخروط ، ثمّ يحلل شيئاً فشيئاً حتّى ينتهي إلى قاعدته.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق : ١٣٢

١٥٢

٥ ـ التركيب والتلفيق

ومن عمليات العقل ، التلفيق والتركيب :

أمّا التلفيق ، فيكون في مجال التصور ، حيث يقوم العقل بالجمع بين بسيطين وإبداع شيء ثالث منهما في صقع الذهن ، كتصور فرس بجناحين.

وأمّا التركيب ، فيكون في مجال التصديق ، حيث يقوم العقل بتركيب قضيتين ويستنتج منهما نتيجة قاطعة.

وقد اعتنت الفلسفة الغربية بهذا القسم من عمليات العقل ، وركز عليهما الفيلسوف الطائر الصيت «جان لوك» وبعده «كانت» ، فجاءا بمفاهيم جديدة في الفلسفة.

* * *

٦ ـ درك المفاهيم الإبداعية

وإن من عمليات العقل ، صنع مفاهيم ليس لها في الخارج مصداق تنطبق عليه ، وإن كان العقل لا يستغني عن لحاظ الخارج في صنعها. وبعبارة أُخرى : ليس لها مصداق في الخارج ، وإن كان لها منشأ انتزاع.

وهذا كمفهومي الإمكان والامتناع ، فليس لنا في الخارج شيء نسميه بالإمكان أو نسميه بالامتناع ، وإنّما هما من المفاهيم الإبداعية للنفس بعد قياس الماهية إلى الخارج. فإذا لاحظ مفهوم «الإنسان» ، ورأى أنّ نسبة الوجود والعدم إليه في الخارج سواء ، يصفه بأنّه ممكن الوجود ، ويبدع مفهوم الإمكان وليس له مصداق في الخارج ، إذ ليست التسوية أمراً متحققاً فيه حتّى تقع مصداقاً للإمكان ، ومثله الامتناع ، كما إذا لاحظ مفهوم اجتماع النقيضين ورأى أنّ اتّصافه بالوجود في الخارج غير قابل للتحقق ، فيصفه بأنّه ممتنع الوجود ، فيبدع مفهوم الامتناع ، وليس للامتناع مصداق في الخارج.

وكم للنفس من مفاهيم إبداعية ليس لها مصاديق خارجية ، وإن كان لها مناشئ.

١٥٣

وإنّ المفاهيم الاعتبارية ، الّتي عليها مدار الحياة في المجتمع البشري ، كلّها مفاهيم إبداعية ، وإن كان للخارج تأثير في انتقال النفس إلى هذه المفاهيم وصنعها وجعلها ، كمفهوم الرئاسة والمرءوسية ، والبيع والإجارة في الاعتباريات الاجتماعية ، والسببية والشرطية والمانعية في الأُمور الاعتبارية التشريعية.

هذا ، والفلاسفة الإسلاميون يعدّون مفهوم الوجود من المفاهيم الإبداعية ، الّتي ليس لها مصداق في الخارج ، فليس نسبة مفهوم «الوجود» إلى الخارج ، كنسبة مفهوم «الإنسان» إلى زيد وعمروٍ. ولا يعني ذلك إقرارهم باعتبارية الوجود وأصالة الماهية ، بل القائلون بأصالة الوجود هم أيضاً يعترفون به. وقد أفاضوا القول في إثبات ذلك(١).

__________________

(١) لاحظ منظومة السبزواري : ٤ ـ ٥.

١٥٤

أدوات المعرفة

(٣)

التمثيل

من الوسائل الّتي يتوصل بها الإنسان إلى المعرفة ، ويرفع بها الأستار عن وجه الحقائق: التمثيل ، الاستقراء ، والتجربة (١).

وقد كان الأغارقة ـ وبالأخص أرسطو (٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م) في منطقه ـ يعتمدون في أبواب المعرفة على هذه الوسائل ، وإن كان اعتمادهم على التجربة أقل ، وإنّما شاع الاعتماد عليها واتُّخِذت سلاحاً صارماً في كشف الحقائق ، في عصر النهضة الغربية (٢) ، حتّى أنّها احتلت مكان التعقل والبرهنة في العلوم الطبيعية ، ولقد كان هذا الاحتلال في محلّه ، غفل عنه الأقدمون من الطبيعيين حين كانوا يعتمدون في كشف الحقائق الطبيعية على الاستدلال والبرهنة من دون جعلها تحت بوتقة التجربة. ونخصُّ البحث في هذا المقام بالتمثيل (٣) ، فنقول :

التمثيل : هو إسراء حكم من شيء إلى شيء آخر لجهة مشتركة بينهما.

وبعبارة أُخرى : هو إثبات حكمٍ في جزئيٍّ ، لثبوته في جزئيٍّ آخر مشابه.

__________________

(١) وهذه الأدوات الثلاث مزيج من العقل والحسّ كما ستعرف.

(٢)ecnassianeR. وقد بدأت هذه النهضة في إيطاليا ثمّ عمّت أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، وجاءت نتيجة انفتاح الغربيين على دراسة الحضارات القديمة ، والإسلامية على الخصوص.

(٣) وسيأتي الكلام في كلُّ من الاستقراء والتجربة منفرداً.

١٥٥

ويُعْرف التمثيل في عرف الفقهاء بالقياس ، وهو أحد الحجج الّتي تعتمد عليه أكثر المذاهب الفقهية السنية ، وسيظهر لك فيما يأتي مدى إمكان الاعتماد عليه.

ومثال التمثيل في الشريعة : استنباط حكم النبيذ من حكم الخمر لتشابههما في جهة الإسكار ، فيقال إنّ النبيذ حرام كالخمر ، لاشتراكهما في الإسكار.

ولا تنحصر الاستفادة منه في مجال الفقه ، فإنّه كثيراً ما يكون مأخذاً في المسائل الفردية والاجتماعية. أُفرض أَنَّك قرأت كتاباً من كاتب ، فوجدته كتاباً نافعاً مشتملاً على دقائق علمية. ثمّ سمعت أنّه قد نُشر له كتاب آخر ، فتحكم ـ بواسطة التمثيل ـ بأنّه أيضاً نافع ، لاشتراكهما في كونهما صادرين من مؤلف ومفكّر واحد.

وللتمثيل أركان أربعة :

١. الأصل ، وهو الجزئي الأوّل المعلوم ثبوت الحكم له ، كالخمر.

٢. الفرع ، وهو الجزئي الثاني المطلوب إثبات الحكم له ، كالنبيذ.

٣. الجامع ، وهو جهة الشبه بين الأصل والفرع ، كالإسكار.

٤. الحكم ، وهو ما عُلم ثبوته للأصل ، والغرض إثباته للفرع ، كالحرمة.

فإذا توفّرت هذه الأركان ، تحقَّق التمثيل ، ولو فقد واحد منها ، اختلت أركانه.

وثبوت الجامع ووجه الشبه يحصل بطرق ثلاثة :

الأوّل : الدوران ، وهو ترتب الحكم على الوصف الّذي له صلاحية العليّة ، وجوداً وعدماً ، كترتب الحرمة في الخمر ، على الإسكار ، فإنّه ما دام مسكراً ، حرامٌ ، فإذا زال عنه الإسكار ، زالت الحرمة. والدوران علامةُ كون المدار ـ أعني الوصف ـ علّة للدائر ، أي الحكم.

الثاني : الترديد ، ويسمّى بالسبر والتقسيم. وهو أنّ يتفحّص أولاً أوصاف

١٥٦

الأصل ، ويردّد أنّ علّة الحكم هذه الصفة أو تلك ، ثمّ يبطل ثانياً حكم عليَّة كلٍّ كلٍّ حتّى يستقر على وصف واحد. ويستفاد من ذلك كون هذا الوصف علةً ، كما يقال : علّة حرمة الخمر إمّا الاتّخاذ من العنب ، أو الميعان ، أو اللون المخصوص ، أو الطعم المخصوص ، أو الرائحة المخصوصة ، أو الإسكار. لكن الأوّل ليس بعلّةٍ ، لوجوده في الدِّبس ، مع كونه غير محرَّم. وكذا البواقي ـ ما سوى الإسكار ـ بمثل ما ذكر. فتعين الإسكار للعليّة.

الثالث : التنصيص ، والمراد منه أنْ يصرَّح بعلّة الحكم في دليل حكم الأصل ، بأن يقال الخمر حرام لأنّه مسكر.

والجامع الّذي يثبت بالدوران أو الترديد ، يسمّى «علّة مستنبطة» ، والّذي يثبت بالتنصيص ، يسمّى «علة منصوصة».

قيمته العلميّة

يقع الكلام في قيمته العلمية في موضعين : أحدهما التمثيل مستنبط العلّة ، والآخر التمثيل منصوص العلّة.

أمّا الأوّل ، فلا شكّ أنّ المشاهدة البسيطة ربما لا تفيد الاحتمال ، فضلاً عن الظنّ ، فإذا رأينا إنساناً ذا هيبة مخيفة ، وشارب كبير ، وعضلات مفتولة ، وحكم عليه بأنّه مجرم قاتل ، ثمّ رأينا بعد ذلك شخصاً آخر بهذه الصفات ، لم يمكننا القول بأنّه مجرم وقاتل ، بحجّة اشتراكهما في تلك الصفات.

نعم ، كلّما كثرت وقويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع ، يتدرج الإنسان من الاحتمال إلى الظن ، ومنه إلى الاطمئنان. ومن ذلك إلحاق الناس بعضهم ببعض لشباهة بينهم في الشكل والحركة والصوت ونحو ذلك ، فيُلحق الأولاد بالآباء عن طريق المشابهة المتواجدة بينهم(١).

نعم ، لو توفّرت المشابهة توفّراً كثيراً ، ربما يحصل للممثِّل العلم الجازم بأنّ هذا هو العلة الوحيدة لثبوت الحكم في الأصل ، كما هو الحال في الخمر ، فإنّه لو

__________________

(١) وهو إلحاق على خلاف الموازين الشرعية.

١٥٧

فرض أنّه لم يرد نصٌّ في وجه حرمتها ، إلّا أن السبر والتقسيم قد يوقفان الفقيه على أنّ مدار الحرمة هو الإسكار وزوال العقل ، ولكن لا بحث مع اليقين.

إلّا أنّ تحصيل هذه المرتبة من اليقين في المسائل الشرعية مشكلٌ جداً ، إلّا ما شذّ وندر ، وقلّ مِنْ مورد يكون وضوح العلّة فيه مثل وضوحها في الخمر. بل الوقوف على مصالح الأحكام على نحو تكون علة تامة للحكم ، لا يعلم إلّا من طريق المشرِّع نفسه. ولأجل ذلك حذّر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من الاعتماد على القياس في الشريعة وقالوا : «إنّ السُّنَّة إذا قيست ، مُحق الدين» (١). هذا كلّه حول مستنبَط العلّة.

وأمّا منصوصها ، فلا خلاف بين الفقهاء في العمل به. وفي الحقيقة إنّ التمثيل المعلوم فيه أنّ الجامع علّة تامة عند المقنِّن ، يكون من باب القياس البرهاني ، ويخرج من باب القياس الفقهي.

مثلاً : لو ورد : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأنّ له مادة» (٢) ، فإنّه يستنبط منه أنّ كل ما له مادّة فهو لا يفسده شيء. وفي الحقيقة يتشكل منه صورة البرهان ، ويكون الفرع أصغر ، والحكم أكبر ، والجامع حدّاً أوسط ، يقال :

الماء النابع ، له مادَّة.

وكلُّ ما له مادّة ، واسع لا يفسده شيء.

فينتج : الماء النابع ، واسع لا يفسده شيء.

* * *

وفي الختام ، ننبه إلى أنّ التمثيل ـ في الحقيقة ـ هو مزاج من عمل الحسّ والعقل ، فلا يصحّ بأن يوصف بأنّه أداة حسيّة بحتة ، ولا أنّه من فروع العقل ،

__________________

(١) الوسائل : ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠. ولاحظ أحاديث الباب.

(٢) الوسائل : ١ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ١٤ ، الحديث ٦ و ٧. صحيحة إسماعيل بن بزيع عن الإمام الرضا عليه‌السلام.

١٥٨

بل الإدراك بالتمثيل يبتني على إحساس واستدلال ، أمّا الإحساس ، فلأنّ الممثّل يدرك المشابهة التامّة بين الأصل والفرع في جهات. ثمّ إنّه يقوم بعد ذلك بإحراز ما هو الملاك في ثبوت الحكم على الأصل بإحدى عمليتين : إمّا الدوران أو السبر والتقسيم ، فإذا حصّل الملاك ، يحكم بأنّ الفرع أيضاً مثل الأصل في الحكم ، لاشتراكهما فيه. ومن المعلوم أنّ هذه المراحل عقلية لا حسيّة. ولأجل ذلك فصلنا التمثيل عن الحسّ والعقل. ومثل التمثيل في ذلك الاستقراء والتجربة ، كما سيوافيك.

١٥٩
١٦٠