نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

بأنفسها. وبذلك استطاعوا ان يدفعوا عن نظريتهم الإشكالات المعروفة في باب الوجود الذهني (١).

والعجب أنّ المادية الديالكتيكية قد جددت هذه النظرية المندرسة المتروكة ، ولكن بصبغة علمية.

أضف إلى ما ذكرنا ، أنّه إذا كان المعلوم والمكشوف لنا في ظرف التصور والتفكير ، هو الأثر المادي الّذي لا يعادل المادة الخارجية ، فمن أين علمنا أنّ وراء ذواتنا وإدراكاتنا ، عالماً فيه ذوات لها خواص مختلفة؟ ومن أين علمنا أنّ الصورة العلمية وليدة المادة الخارجية والقوة الدماغية؟. إذ كلُّ ما نفرضه واقعاً فهو ، بلا شك ، فكر وخيال حادث في القوة المفكرة ، لا يحكي عن شيء ، ولا ينطبق على شيء.

سؤال وجواب

السؤال : إنّ انكشاف الواقع ، يُتَصَوَّرُ على نحوين :

الأوّل : انكشاف الخارج على وجه الإطلاق بأن تحضر صور الواقعيات بما لها من الحدود والخصوصيات من دون أن تمسّ القوى الإدراكية بحقيقة الصورة ، ومن دون أن تتصرف فيها. وهذا هو العلم المطلق ، والتفكير المطلق الّذي آمنت به الفلسفة المادية الميكانيكية.

الثاني : انكشاف الخارج انكشافاً نسبياً ، غير مطلق ، بأن لا يكون الحاضر لدى العالم بالخارج ، عينَه ، ولكنه يحكي عنه حكاية نسبية ، إذ الإدراك لا يحصل إلّا بعد تصرّف من الحواس والأعصاب. وهذا التصرف يسلب الصرافة والإطلاق عمّا يحضر عندنا من الصورة ، لأنّ المفروض أنّ المادة بذاتها متحولة متغيرة ، من غير فرق بين المادة الخارجية والمادة الدِّماغية ، فالخارج معدّ لحصول

__________________

(١) الإشكالات مبنية على وحدة الوجودين في الذات والذاتيات. وعلى القول بالشبح ، لا يحصل الشيء بنفسه وماهيته في الذهن. وسيأتي هذا الإشكال مع تحليل كامل لأهم الأجوبة المذكورة فيه في الفصل العاشر ، فترقب.

١٢١

التغيرات الذاتية في الدماغ ، ليتولد منهما العلم ، فغاية ما يسلب عن الصورة هو السذاجة والصرافة. وما ذكر في نقد هذه النظرية من أنّ الأثر المتولد من المادتين لا يخبر عن الواقعية الخارجية ، صحيح على وجه وباطل على وجه.

فهو صحيح إنْ أُريد منه نفي العلم المطلق ، بالخارج المطلق ، أي نفي العلم الّذي لم يتطرق إليه التصرف. ولكنه لا يضر بالمادي المتبني للمنهج الديالكتيكي ، فإنّ المادة ـ خارجية كانت أو دماغية ـ متحولة متغيرة. فكون العلم مغايراً لمعلومه ، بهذا المعنى ، لا يضر.

وباطلٌ إن أُريد منه نفي العلم النسبي ، بل هو ثابت ، ولأجل ذلك يستمد الإنسان منه في حياته ، ويرفع به حاجاته.

الجواب :

أولاً : إنّ الماديّ ـ في الوقت الّذي يحاول فيه أن ينفي العلم المطلق ـ يُثبت علماً مطلقاً ، وهو أنّه ليس لنا علم مطلق بالأشياء والواقعيات الموضوعية ، بل علومنا كلها علوم نسبية. فإنّا نسأله ، هل هذا نفي مطلق أو نفي نسبي؟. فإن اعترف بالأول ، فقد اعترف ـ وهو يحاول نفي العلم المطلق ـ بعلم مطلق ، ولو في مورد واحد. وإن قال : إنّه نسبي ، فلا يضرّ ذلك ، الإلهيين القائلين بإطلاق الإدراكات والعلوم ، إذ نفي إطلاق العلوم والإدراكات ، بالنفي النسبي ، غير القول بأنّ جميع العلوم والإدراكات نسبية قطعاً وعلى وجه الإطلاق ، بل هو اعتراف بكونها علوماً مطلقة.

وثانياً : إنّ الاعتراف بالعلم النسبي ، إقرارٌ بالعلم المطلق أولاً ، قبل توصيفه بالنسبي ثانياً. فيستلزم تعقل النسبية ، تعقّل المطلق من الموجود الذهني والخارجي.

وبعبارة أُخرى : إنّ قول القائل : «كلُّ ما نتصوره ونتعقّله هو علم وتعقّل نسبي» ، اعتراف بأمرين : اعتراف بالموصوف ، وهو أنّه علم. واعتراف بوصفه ، وهو أنّه نسبي. والاعتراف بالوصف غير الاعتراف بالموصوف ، فإنّه في

١٢٢

الوقت الذي يعترف بالموصوف لا يكون معترفاً بوصفه ، وهذا يستلزم تصور المطلق قبل تصوّر النسبي.

وثالثاً : إنّ مآل العلم النسبي إلى الشك ، فإنّ نفاة العلم لا يرومون نفي العلم المطلق بالواقعيات ، وإنّما يقولون : ما يحضر عندنا لا ينطبق على الواقع ولا يحكي عنه.

نعم ، القائلون بالنسبية ، يفارقون المنكرين للوجود والحقيقة حتى وجود ذهنهم وأنفسهم.

* * *

ه‍ ـ نظرية التحليل النفسي (١)

مؤسس هذا المذهب عالم النفس النمساوي «سيجموند فرويد» (٢) (١٨٥٦ ـ ١٩٣٩ م). والفكرة الأساسية الّتي يقوم عليها مذهبه هي أنّ الغرض الأساسي من كل فكرة ومعرفة يطرحها الإنسان ، وكلِّ عمل يقوم به ، هو إشباع الحاجات الحسيّة والشهوانية المختزنة في ضميره ، وبالتالي تحصيل أكبر قسط يمكنه من اللذّة ، ولا يرى أي واقع وحقيقة وراء ذلك. وإليك فيما يلي بيان هذا المذهب ، بما يقتضيه المقام.

يقسم فرويد عقل الإنسان إلى قسمين : شعوري ولا شعوري.

__________________

(١)sisylana ohcysP.

(٢)duerF dnumgiS. يهودي ، ولد في ٦ / ٥ / ١٨٥٦ في فرايبرج (grebierF (في إقليم موراقيا. وكان يومذاك تابعاً للأمبراطورية النمساوية ثمّ صار بعد الحرب الكونية الأولى جزءاً من تشيكوسلوفاكيا. درس الطب في جامعة «فينا» وتخصص في طب الأعصاب. بدأ نشاطه في معالجة الأمراض العقلية ـ بالتعاون مع بعض علماء النفس ـ باستعمال التنويم المغناطيسي ، ثمّ انصرف إلى طريقة «العلاج بالمحادثة» ، حتّى توصل إلى بناء نظريته في التحليل النفسي القائمة على إرجاع كل سلوك الفرد وتصرفاته إلى دوافع غرائزه الجنسية وخالفه في هذا المنهج جميع زملائه وانفصلوا عنه ، فسلك طريقه وحده حتّى مات في لندن في ٢٣ / ٩ / ١٩٣٩ بعد أن جاوز الثالثة والثمانين.

١٢٣

أمّا العقل اللاشعوري ، فهو مجموعة الشهوات والغرائز المختزنة في أعماق الشخصية الإنسانية ، لا يمكن للإنسان السيطرة على نشاطها أو التحكم في تكوينها أو تطورها. ويمكن أن يسمّى هذا بالجانب الحيواني في الإنسان ، ويسمّيه فرويد بال «هو». وهذا الجانب يسعى دائماً ، بدوافعه الوحشية اللاشعورية ، للتعبير عن نفسه ، والظهور في العلن.

وأمّا العقل الشعوري ، فهو ذلك الجزء من شخصية الإنسان الّذي ينشد العثور على مخارج واقعية لدوافع الشهوة والغرائز والجانب الحيواني من الإنسان ، ويحاول ـ قدر المستطاع ـ أن يحفظ ماء وجه صاحبه ، وأن يؤمّنه من الوقوع في نزاع مع محيطه.

ثمّ يقول فرويد : ليست أعمال الإنسان الشعورية ، إلّا تعبيراً عن الدوافع الشهوية والغرائز الجنسية المختزنة في اللاشعور ، وانعكاساً لها على لسانه وجوارحه. ويرى أن شخصية الإنسان وعقليته ، تشبهان جبل جليد عائم في الماء ، لكن معظمه وأساسه مغمور ومختف تحت الماء ، فلا ترى العين منه سوى جزء صغير.

وقد أوضح فرويد وأتباعه تأثير اللاشعور في الشعور بأمثلة جزئية ، أسسوا منها قانوناً كليّاً ، ونكتفي هنا بالنموذجين التاليين :

١. افترض أنّ شاباً عشق فتاة جميلة فاتنة ، فحاول أن ينال منها ، ففشل ، فتصيبه خيبة شديدة في حبّه ، ويعاني من آلام تلك الخيبة ولا يجد وسيلة لإراحة نفسه من ذلك العذاب إلّا بمحاولة تناسي تلك الخيبة. فهنا يقوم الذهن بدفعه إلى منطقة اللاشعور ليكمن هناك. ولكن هذا الحب الجنسي المستعر لا يخبو بل يواصل نشاطه من منطقة اللاشعور مديراً دفّة تصرفات ذلك الشاب المسكين من دون أن يشعر. فلذا نراه يتحول إلى أعمال الخير الّتي لها نحو علاقة بذلك الحبّ الجنسي ، فينصرف إلى دُور الأيتام والعناية بالعجزة والمحتاجين ، وليس هذا التوجه العاطفي إلّا صورة محرّفة ، عن ذلك الحبّ الجنسي الّذي أصابته الخيبة فيه ، بلا شعور وإرادة منه.

٢. الأُمهات تدعين أنهن منابع الجود في معاملتهن لبناتهن ، وأن دافعهن

١٢٤

هو الحبّ وإنكار الذات لا غير. ولكن في الواقع ، إنّ دافعهن الحقيقي ليس إلّا التسلّط على بناتهن ، والاستفادة من خدماتهن في مشاغلهن المنزلية وغيرها متى كبرن.

مناقشة نظرية فرويد

إنّ هذه النظرية الّتي طرحها فرويد ، ساقطة من جهتين :

الجهة الأولى : لو صحّ ما ذكره فرويد من أنّ كلّ ما يقوم به الإنسان من خير أو شرّ، أو إصلاح أو إفساد ، فإنّما هو تعبير محرّف عن الدوافع الشهوية والجنسية المختزنة في اللاشعور ـ لو صحّ ذلك ـ لكان معناه أن نشطب بقلم عريض على جميع القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية ، الّتي تجعل من الإنسان إنساناً.

فإنّ نتيجة هذه النظرية أنّه لا فرق بين الصالح والطالح ، ولا بدّ من المساواة بين الأمين والخائن ، والعميل وخادم الشعب ، باعتبار أنّ هؤلاء جميعاً إنّما يتحركون بلا شعور عن مجموعة الشهوات والغرائز المختزنة في شخصياتهم ، وكلّ منهم يطلب إرضاءها ويسعى لإخماد لهيبها.

فإنّا هنا نحكّم ضمير كل إنسان سليم الفطرة ، أفيصح أن يُقضَى بأن ما يحرّك المناضل المجاهد المكافح من أجل قطع أيادي الاستعمار عن بلاده وثرواتها وثقافتها ، هو عين ما يدفع العميل للأجانب الساعي إلى ضرب شعبه والإغارة على ثرواته وتحطيم ثقافته ، وسوقه تحت نير أسياده المستعمرين ليتمكن من السيادة أياماً معدودات؟! كلا ، ولا.

ورغم ذلك فأصحاب هذه النظرية لا يأبهون بمنطق العقل ، وحكم الوجدان ، ويقولون: أجل ، الصالح والطالح سواء في المبدأ والمختتم ، والغايات والدوافع. فالسلام إذن على الإنسانية وقيمها.

الجهة الثانية : لو صحّت هذه النظرية ، لقضينا على الموضوعية والواقعية في الأفكار والعلوم ، وذلك لأنّه إذا كانت الأفكار والآراء في مجالات المعرفة والاقتصاد والسياسة والدين ، كلُّها تعبيراً عن الدوافع الشهوانية والغريزية المختزنة في

١٢٥

اللاشعور ، فأقصى موضوعية يمكن أن تضفى عليها هي أنّها معبّرة عن تلك الدوافع اللاشعورية. وأمّا أنّها تعبّر عمّا وراءها من الواقعيات الخارجية ، فلا ، لأنّ المفروض أنّ كل العناصر الشعورية تعتمد على هذه العناصر الخفية الّتي لا نشعر بها ، وليست أعمالنا وآراؤنا ـ بزعمهم ـ إلّا انعكاساً محرّفاً عنها ، فهي الّتي تحدد محتويات الشعور ، وبالتالي تتحكم في كل أفكار الإنسان وسلوكه.

وعلى هذا الأساس ، فالفكر والبرهنة والاستدلال ، أدوات طيّعة للغرائز الجنسية والشهوات الجامحة ، وليست جهود الفلاسفة وأتعاب العلماء ، إلّا إظهاراً لتلك الغرائز ، وتسامياً بها إلى منطقة الشعور الّتي تشكّل الطابق العلوي من شخصية الإنسان ، كما أنّ العناصر اللاشعورية تشكل الطابق الأرضي الأساسي الّذي يقوم عليه ما فوقه.

فالإنسان الساذج لا يرى من الإنسان إلّا القسم العلوي من العقل ، ويظن أنّه نفس شخصيته وتمامها ، ولكنه غافل عن الطابق الأرضي ، والقسم الأساسي الحامل لما فوقه ، والمهيمن عليه والمدير لدفته. وهذا تماماً كمن يَدْخُل معملاً كبيراً فيرى هناك أجهزة وآلات فعّالة ، فيتخيل أنّها تمام المعمل ، ولكن عند ما يشار إليه بالتوجّه إلى قسم القيادة المختفي عن الأنظار ، يلتفت إلى أنّ كل ما شاهده من حركة وفعّاليّة في القسم الظاهر فإنّما هو أداة طيّعة بيد غرفة القيادة ، وكل ما في المصنع ـ في الحقيقة ـ هو ما في القيادة المسيطرة على جميع الآلات ؛ «وكل الصّيد في جوف الفراء».

فإذا كانت آراؤنا وأفكارنا وتصرفاتنا ، كالقسم الظاهري من المعامل ، فهي حينئذٍ مدارة بالغرائز ، ومتحركة عن الشهوات ، الّتي هي كغرفة القيادة في المعمل ، وليست تعبيراً عن الحقيقة والواقع. بل ربما كانت الحقيقة على خلاف تلك الرغبات والشهوات اللاشعورية المتحكمة بعقلنا. وليس هناك أي ضمان للتوافق بين قوانا العقلية اللاشعورية ، والحقيقة الواقعية. ونتيجة ذلك إنكار الواقع الموضوعي أو على الأقل الشك في الحقائق والواقعيات.

فهذه النظرية النفسية الّتي شغلت بال الكثيرين من علماء النفس والاجتماع ساقطة من جهتين كما عرفت ، فهي من جانبٍ معاول هدّامة للمثل الإنسانية

١٢٦

العليا ، ومن جانب آخر تجرّ إلى الشكّ والمثالية الّتي تساوق إنكار الحقائق أو الشك فيها.

وما كل هذا الانحراف ، إلّا لأجل أنّ الغرب يفقد فلسفةً موضوعية محققة تستند إلى أُسس عقلية ثابتة.

* * *

هذا عرض إجمالي للمذاهب الّتي تبنّت منهج اليقين في مجال المعرفة ، إمّا واقعاً ، كما عرفت في مناهج الفلاسفة الذين عرضنا آراءهم ، والفلاسفة الإسلاميين ، أو ظاهراً مع تبنّي الشك واقعاً ، كما وقفت عليه في مدارس الفلاسفة الغربيين(١).

ونختم البحث في «قيمة المعرفة» بِسَبْر الدوافع الحقيقية الّتي كانت وراء جنوح الفلسفة الغربية إلى الشك ، وهو ما نستعرضه فيما يلي :

* * *

__________________

(١) وستقف عند البحث عن حدود المعرفة على مدارس غربية أُخرى ، هي : «المدرسة التجريبية» التي أسسها «بيكون» ، و «المدرسة الوضعية» الّتي أسسها «كونت» ، و «المدرسة البرجماتية» الّتي أسسها «جيمس» ، فترقّب.

١٢٧
١٢٨

خاتمة المطاف في قيمة المعرفة

العوامل الرئيسية لجنوح الفلسفة الغربية إلى الشك

كان وراء جنوح الفلسفة الغربية إلى الشك عوامل عدّة ، نستعرضها فيما يلي ، وإن كنّا قد ألمعنا إلى بعضها فيما تقدم.

العامل الأوّل : الحطُّ من قيمة الحس

هذا العامل هو الّذي دفع ديكارت وجان لوك إلى الشك في كشف الحسّ عن الواقع الموضوعي ، كما تقدم عند عرض فلسفتيهما ، حيث قالا إنّ الحس ليس له دور سوى الإعانة على أُمور الحياة لا غير ، وأمّا اتّحاد ما هو موجود عند الحسّ مع نفس الواقع الموضوعي ، فلا.

وغير خفي أنّ إدخال هذا العنصر في الفلسفة ، يستلزم كون المعرفة الحسيّة فاقدة لوصف اليقين ، ومتصفة بوصف الشك. وذلك أنّ الموجود عند الحسّ ، إذا لم يكن عين الواقع ، نكون جاهلين بالواقع ، ولا أقل شاكين في أنّ الموجود عندنا هل هو متحد مع الواقع الموضوعي أو لا ، وهذا نفس ما كان «بيرون» يتبناه.

العامل الثاني : القول بتأثير الظروف الزمانية والمكانية

ذكرنا عند البحث في فلسفة النسبية أن النسبيين يعتقدون بأنّ هناك عاملين

١٢٩

رئيسيين يشتركان في إخراج الصور الذهنية عن الإطلاق ، أولهما هو أنّ للزمان والمكان تأثيراً في تبلور الأشياء بصورها المختلفة لدى المدرِك.

إنّ القول بتأثير هذا العامل في الإدراكات التصورية والتصديقية ، يحطّ من قيمة المعرفة. ومآل هذا إلى أنّ الإنسان لا يقف على الواقع الموضوعي ، وإنّما يقف على ما تقتضيه الظروف الزمانية والمكانية ، وأمّا ما هو الواقع الموضوعي ، فغير معلوم ولا مُدْرَك ، لوقوع الذهن تحت تأثيرها.

ونتيجة ذلك ، جهلنا بالواقع أو الشك في أنّ المعلوم لدينا في تلك الظروف هل هو نفس الواقع أو لا؟

العامل الثالث : القول بتأثير الجهاز الفكري في الإدراك

وهذا ثاني العاملين الرئيسيين للقول بالنسبية وهو أنّ للحسّ والجهاز العقلي الفكري ، دور في اكتساب المعقولات من مقدماتها. فكل ما يدركه الإنسان عن طريق الحسّ والعقل فإنّما هو نتيجة كيفية صنع ذلك الجهاز وكيفية عمله ، وأمّا كون ما أدركه هو نفس الموضوعية الواقعية ، فلا.

وغير خفي على النبيه أنّ نتيجة ذلك هو الجهل بالواقع الموضوعي على ما هو عليه ، والشكّ في كل ما يدركه الإنسان في المسائل العلمية والفكرية ، وذاك نفس ما كان يتبناه الشكاكون الإغريق.

العامل الرابع : تفسير المعرفة تفسيراً ماديّاً

وهذا العامل هو الظاهر من المادية الديالكتيكية ، فإنّهم فسّروا المعرفة تفسيراً ماديّاً ، ولم يكن لها عندهم واقعية سوى الأثر الموجود في الدماغ من تفاعل المادتين الخارجية والدماغية ، وهذا الأثر لا يعادل واحداً منهما وهو بالنسبة إليهما كالولد إلى الوالدين ، وهو لا يعادلهما.

إنّ تفسير المعرفة بهذا المعنى يحطّ من قيمتها ليعود الإنسان في النتيجة جاهلاً بالواقع وشاكّاً في مقدار مطابقة ما لديه ، له.

١٣٠

العامل الخامس : تأثير الأوضاع الاقتصادية

إنّ الفلسفة المادية الديالكتيكة (١) ، تفسّر الأحداث الكونية والأوضاع السياسية والاجتماعية والعلمية والدينية بأصول مادية.

فكما أنّهم يفسّرون الأحداث الكونية والظواهر الطبيعية بأُصول مادية مسلّمة عندهم(٢) ، فكذلك يفسّرون كل ما يرجع إلى المجتمع الإنساني من علم وسياسة ، وفن وديانة ، بالوضع الاقتصادي الّذي تحدده وسائل الإنتاج ، الّذي هو الأساس الواقعي لبناء المجتمع بكل نواحيه.

فمثلاً عند ما تحوّل الوضع الاقتصادي من الإقطاع إلى الرأسمالية ، وحلّت الطاحونة البخارية محل الطاحونة الهوائية (تبدُّلُ وسائل الإنتاج) ، تبدَّلَ كل ما يرجع إلى المجتمع وفقاً للحالة الاقتصادية الجديدة.

فالقوة المحركة للتاريخ بالمعنى الأعمّ (٣) ، هي الوضع الاقتصادي الّذي يتبع كيفية تطور وسائل الإنتاج. والمعرفة الإنسانية ليست إلّا تعبيراً عن الوضع الاقتصادي ، فلو تبدّل تبدلت وتغيّرت.

ومن الواضح أنّ هذا المنهج المادي يَحُطّ من قيمة المعرفة الإنسانية ، لأنّ مآله إلى أنّ كل ما يدركه الإنسان يخضع مباشرة تحت تأثير الوضع الاقتصادي وتطوُّر أدوات الإنتاج ، وليس حاكياً أيّما حكاية عن الواقع.

فمثلاً : إنّ القول بأنّ كل ظاهرة تنبع عن علّة حقّقتها ، وأنّ حُسْنَ ردّ الإحسان بالإحسان ، وقبحَ ردّه بالإساءة ، وأنّ المتناقضيْن لا يجتمعان ، وجميع القوانين الرياضية (٢* ٢ / ٤ ، مثلاً) ، كلُّها تعبيرات عن الوضع الاقتصادي ، لا حاكية عن الواقع ، معناه أنّ الإنسان الّذي سيعيش في المستقبل ، وفي وضع اقتصادي آخر ، سيحكم بخلاف ما تقدّم!!.

وعلى ذلك ، يصحّ لنا أن نرفع عقيرتنا ونقول : إنّ الفلسفة المادية داست

__________________

(١) نريد هنا الاتجاه الماركسي في المادية الديالكتيكية.

(٢) سيأتي ذكرها في الفصل الثاني عشر.

(٣) الفلسفة والعلوم والآداب والديانات.

١٣١

جميع المعارف البشرية ، وحطّت من منزلتها ، كما أنّها داست المعنويات والحوافز المقدسة الّتي تبعث الإنسان إلى فضائل الأخلاق ومكارمها.

العامل السادس : تأثير العناصر اللاشعورية في الإدراكات الشعورية

هذا العامل هو المبدأ الّذي اتّكأت عليه نظرية فرويد في التحليل النفسي ، الّتي مرّت عليك. حيث جعل جميع ما يصدر عن الإنسان من تصرفات وأفعال ، وأفكار وآراء شعورية ، تعبيراً لا شعورياً عن الشهوات الجامحة ، والغرائز الجنسية المختزنة في أعماق الشخصية الإنسانية.

والنتيجة الطبيعية لتبنّي هذا الاتّجاه من التفكير ، لن تكون إلّا إلغاء كل واقع وراء الشهوات والغرائز ، لا محالة. لأنّ المفروض أنّ الفكر والاستدلال والبرهنة كلّها أدوات طيّعة لتلك الميولات الحيوانية اللاشعورية لا أكثر ، وليست هي كشفاً للحقيقة الموضوعية.

فمآل القول بتأثير العناصر اللاشعورية في الإدراك الشعوري ، إلى نفي العلم ، والشك في الحقائق والتردد في ثبوتها ، إن لم نقل إنكارها.

١٣٢

الفصل الرابع

أدوات المعرفة

١٣٣
١٣٤

الفصل الرابع

أدوات المعرفة

قد علمت فيما تقدّم أنّ كل إنسان يولد صفراً من كل معرفة ، ثمّ يكتسب بعد ذلك جميع علومه ومعارفه عن طريق أدوات خاصة تربطه بالواقع الخارجي وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

وقد شذّ في هذا المجال من قال بأنّ النفس الإنسانية كانت قبل تعلُّقها بالبدن متحررةً عن كل قيد ، فأمكنها الاتّصال بموجودات مجرّدة نورانية ، فتعرفت عليها ، ولما هبطت من ذلك المقام ، وتعلّقت بالبدن المادي ، فقدت كل ما كانت تعلمه وذهلت عنه ذهولاً تامّاً. وعند ما تقع الأشياء في أُفق حسّها ، تبدأ بتذكر ما كانت قد تعلمته من قبل ، وتسترجع إدراكاتها بصورة مفاهيم كلية. وعلى ذلك ، فليس لأدوات المعرفة دور سوى إلفات النفس إلى العالم الّذي هبطت منه ، لتستذكر ما كانت قد نسيته(٢).

ولو أغمضنا النظر عن هذه النظرية ، نجد اتّفاق الكل على أنّ جميع المعارف والإدراكات يكتسبها الإنسان عن طريق أدوات المعرفة ، ولو لا تجهز الإنسان بها لكان صفراً من كل معرفة.

__________________

(١) النحل : ٧٨.

(٢) لاحظ نظرية الاستذكار الأفلاطونية ، المتقدمة.

١٣٥

غير أنّ الفلاسفة اختلفوا في تعيين الأدوات الّتي يكتسب الإنسان بها معارفه وإدراكاته ، وانقسموا إلى طوائف :

١. طائفة يجنحون إلى الحس ويرونه الرصيد الوثيق للاتّصال بالخارج والإذعان به ، وهؤلاء هم الحسيّون.

٢. وطائفة يركزون على العقل ويرونه الأداة الوحيدة لكسب المعارف ، وهؤلاء هم العقليون.

٣. وطائفة ثالثة يرفضون الحس والعقل ويركزون على الإلهام والإشراق ، وهؤلاء هم الإشراقيون.

وفي ضوء ذلك ، لا بدّ لنا من تحليل أدوات المعرفة ، واحدة بعد الأُخرى لنستكشف مدى اعتبار كل منها.

١٣٦

أدوات المعرفة

(١)

الحس

البحث في أداة الحسّ يقع ضمن أُمور :

الأمر الأوّل : الحسّ من أدوات المعرفة

الحسّ من أوثق مصادر المعرفة ، إليه تنتهي كل المعارف الضرورية والنظرية ، ولولاه لما كانت هناك معرفة عقلية ولا إشراقية. وهذا لا يعني انحصار أداة المعرفة به ، وأنّه ليس لنا إلى دار المعرفة طريق سواه ، فإنّ هذا ضلال وخداع ، بل إنّ لنا إلى ذلك طرقاً مختلفة يأتي بيانها ، بيد أنّ المراد هو أنّ إعمال الأدوات الأُخر يتوقف على تجهّز الإنسان بأدوات الحسّ ، وارتباطه بالمحسوسات ، لأنّ ذلك كلّه معدّ لإدراك العقل البديهيات والنظريات. ولذلك قيل : من فقد حسّاً فقد فَقَد علماً. ولو وُجد إنسان فاقدٌ لجميع الحواس ، لكان عاجزاً عن تصور المعارف البسيطة فضلاً عن المعارف النظرية الدقيقة.

الأمر الثاني : هل للإدراك الحسيّ قيمة علمية؟

قد سبق أن وقوف الإنسان على بعض الأخطاء في الإدراكات الحسيّة خير دليل على أنّ هناك حقائق مسلّمة تدركها الباصرة بالعين ، والسامعة بالأُذن ، واللامسة باليد وغيرها ، ... إذ لو لا كونه كاشفاً عن المعرفة الصحيحة ، فمن أين وقف على أنّ هذا الإدراك الحسيّ أو ذاك خطأ غير صحيح.

١٣٧

وقد كان المترقب من الحسيين الذين يحصرون أدوات المعرفة بالحسّ أن يعطوا المعرفة الحسيّة سمة المعرفة اليقينية الصحيحة ، ولكنهم ذهبوا إلى خلافه ، وحصروا قيمتها في الإعانة على أُمور الحياة ومشاكلها ، لا أكثر ، كما عرفته في فلسفتي «ديكارت» و «لوك». فكل ما يؤدّيه حسّ الإنسان لا يعدو عن كونه يدفع عنه ألم الجوع ، والعطش ، والبرد القارس ، والحرارة اللافحة .. ويساعده على تمييز النافع من الضار ، والمصالح من المفاسد. وقد وقفت على فساد هذه النظرية وأنّها تنتهي إلى الشك في كثير من المجالات.

الأمر الثالث : هل الحسّ هو الأداة الوحيدة للإدراك؟

إنّ الحسيين وفي مقدمهم «جان لوك» (١) حاولوا إرجاع جميع التصورات والأفكار إلى الحسّ ، وقد شاعت هذه النظرية بعده بين فلاسفة أوروبا وقضت إلى حدّ ما على نظرية الأفكار الفطرية الّتي كان يقول بها «ديكارت» (٢).

وحاصل هذه النظرية أنّ ذهن الإنسان حين يولد يكون خالياً من كل معرفة ، ثمّ تبدأ صور الأشياء المحسوسة بالانتقاش فيه من خلال ما يرد إليه عن

__________________

(١)ekcoL nhoJ.

(٢) إنّ حصر مناشئ العلم بالحسّ ليس فكرة جديدة ظهرت بين الأوروبيين ، بل لها جذور في التاريخ. فإنَّ «السُّمْنِيّة» من حكماء الهند والصين ، زعموا أنّه لا يُعلم شيء إلّا من طريق الحواس الخمس ، وأبطلوا العلوم النظرية. ولأجل ذلك شطبوا على المذاهب كلّها.

قال البغدادي (المتوفّى ٤٢٩ ه‍) : «ويلزمهم على هذا القول إبطال مذهبهم ، إذ يقال لهم : بما ذا عرفتم صحّة مذهبكم. فإن قالوا : بالنظر والاستدلال ، لزمهم إثبات النظر والاستدلال طريقاً إلى العلم بصحة شيءٍ ما ، وهذا خلاف قولهم. وإن قالوا : بالحسّ ، قيل لهم : إنّ العلم بالحسّ يشترك في معرفته أهل الحواس السليمة ، فما بالنا لا نعرف صحة قولكم بحواسنا. فإن قالوا : إنّكم قد عرفتم صحة قولنا ، بالحسّ ، ولكنكم جحدتم ما عرفتموه ، لم ينفصلوا ممن عكس عليهم هذه الدعوى وقال لهم : بل أنتم عارفون بصحة قول مخالفيكم وفساد قولكم بالضرورة الحسيّة ، ولكنكم جحدتم ما عرفتموه حسّاً». (لاحظ : أُصول الدين : ١٠ ـ ١١). وفي هذه المناسبة نذكر أنّهم اختلفوا في الفاضل من العلوم الحسية والنظرية ، فقدّم أبو العباس القلانسي العلوم النظرية على الحسيّة ، وقدّم أبو الحسن الأشعري العلوم الحسيّة على النظرية لأنّها أُصول لها. (المصدر السابق : ١٠).

١٣٨

طريق الحواس. وبعد ذلك يأتي دور العقل والفكر ، وهو لا يخرج عن أحد الأمرين التاليين : التركيب والتجزئة ؛ والتجريد والتعميم.

أمّا عمل الذهن في مجال التجزئة والتركيب ، فكما لو رأى عن طريق الباصرة جبلاً وذهباً في الخارج ، فيركب الذهن بينهما ويتصور جبلاً من ذهب. أو يرى حيواناً وشجراً ، فيجزّئهما إلى أعضاء وأجزاء.

وأمّا عمله في مجال التجريد والتعميم فهو بأنّ يفرز خصائص الصور ويجرّدها عن مشخصاتها ويترك مفاهيمها العامة ، كما إذا رأى زيداً وعمراً وبكراً ، فيجرِّدهم عمّا يحيط بهم ويلابسهم من المشخصات ، ويأخذ بالقدر المشترك وهو الإنسانية. وهكذا الحال في سائر أدوات الحسّ.

وقد اشتهر قول المبشر بهذه النظرية : «ليس من شيء في العقل إلّا وله أثر في الحسّ».

وعلى ضوء ما تقدم يكون الرصيد الوحيد للمعارف البشرية هو الحسّ ومعطياته ، وأمّا دور الذهن والعقل فينحصر في الأُمور الأربعة : التجزئة والتركيب والتجريد والتعميم.

وتحليل هذه النظرية يقع ضمن الأُمور التالية :

١. إنّ ما ذكروه من أنّ الإنسان يولد خالي الذهن عن كل معرفة ، أمر مسلَّم أقرّت به الفلاسفة جميعاً ، وصرّح به الذكر الحكيم كما تقدّم (١). وإليه يشير قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية» (٢).

٢. من المسلّم أيضاً أنّ الحسّ هو الينبوع الأساسي للتصورات والتصديقات البديهية والنظرية وأنّ من حرم لوناً من ألوان الحسّ ، لا يستطيع أن يتصور المعاني الكليّة ذات العلاقة بذلك الحسّ الخاص ، ومن فقد جميع حواسه ، عجز عن إدراك أبسط المعارف وتصورها.

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٧٨.

(٢) نهج البلاغة ، الكتاب ٣١ : كتابه عليه‌السلام لولده الحسن عليه‌السلام.

١٣٩

٣. إنّا نفنّد تحديد دور العقل في مجال المعرفة بالتجزئة والتركيب ، والتجريد والتعميم ، فإنّ القول بأنّ الحسّ هو الينبوع الأساسي للتصورات ، لا يسلب عن الذهن قدرة توليد معان جديدة لم تدرك بالحسّ ، فليس من الضروري أن يكون قد سبق تصوراتنا البسيطة جميعاً ، الإحساس بمعانيها.

فالحسُّ ، على ضوء ما أثبتته التجارب ، هو البنية الأساسية الّتي يقوم على قاعدتها صرح التصورات البشرية ، ولكن ذلك لا يعني تجريد الذهن عن ابتكار تصورات وتصديقات جديدة على ضوء التصورات المستوردة من الحسّ. كيف ، وقد سبق منا القول ـ عند البحث عن تعريف العلم ـ بأنّ هناك مفاهيم تصورية باسم المعقولات الثانوية ، تنالها النفس وتقف عليها من دون أن يكون لها أثر في الحسّ والخارج ، كما أنّ هناك تصديقات تنالها النفس من دون أن تعتمد في نيلها على الإدراكات الحسية ، كالحكم بامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، أو امتناع الدور والتسلسل. فمحاولة الحسيين إرجاع كل المعارف التصورية والتصديقية إلى الحسّ ، بنحو من الأنحاء ، محاولة فاشلة. وسيوافيك بيان واف عند البحث عن العقل.

فالفرق ـ إذن ـ بين منهجنا ومنهج الحسيين هو أنّهم يحصرون أداة المعرفة به ، بينما نحن نجعل المعرفة الحسّية ممهدة لتسنّم العقل منصة إدراك أمور ليس لها في الخارج من أثر ، في مجالي التصور والتصديق ، على ما عرفت. وكم فرق بين حصر المعرفة بالحسيّة فقط وحصر أدواتها بالحس فحسب ؛ وجعل الحسّ ومعارفه ممهدة لحصول معارف أرقى وأعلى ، كما عليه فلاسفة الإسلام.

١٤٠