نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

بجوهريّته وقوّته ، وغاية نقصه بعرضيّته وضعفه وإضافته إلى محل» (١).

ب ـ خلق الأرواح قبل الأبدان

ومن الآراء المنقولة عن أفلاطون ، قوله بقدم النفوس الإنسانية ، وأنّها خلقت قبل الأبدان ، فكانت موجودة بصورة مستقلة عنها قبل تكوُّنها.

وقد أثارت هذه المسألة بين الإلهيين اختلافاً عميقاً : فمن قائل بقدم النفس قدماً زمانياً لا ذاتياً ، وأنّها خلقت قبل البدن ثمّ تعلقت به حسب مشيئته سبحانه ؛ إلى قائل بحدوثها ذاتاً وزماناً ، ولكل أدلته وحججه ، مذكورة في محلها(٢).

ج ـ الاستذكار

إنّ لأفلاطون في الإدراكات نظرية خاصة معروفة بنظرية استذكار المعلومات السابقة ، وقد استنبطها من الأصلين المتقدمين ، وهما :

الأوّل : إنّ لكل نوع فرداً تامّاً مجرداً غير مشوب بالمادة والماديّات ، على عاتقه تربية الأفراد الطبيعية.

والثاني : وجود النفس الإنسانية مستقلة عن البدن قبل تكوّنه ، وقد كان متحرراً عن المادة وقيودها تحرراً كاملاً.

وعلى ضوء هذين الأصلين ، قال : إنّ النفس الإنسانية كانت قبل تعلقها بالبدن ، متحررة عن كل قيد ، فأمكنها الاتّصال بالمثل النورية المجردة ، فتعرّفت عليها تعرفاً كاملاً.

__________________

(١) الأسفار : ٢ / ٦٢.

(٢) لاحظ الأسفار : ٨ / ٣٣٠ ـ ٣٥٥. وقد اختلفوا أيضاً في وجه هبوطها من ذلك العالم إلى عالم الطبيعة وتعلقها بالبدن ، فمن أراد التفصيل ، فليرجع إلى الأسفار الأربعة : ٨ / ٣٥٦ ـ ٣٦٤.

٨١

وعند ما تهبط من ذلك المقام الشامخ وتتعلّق بالبدن الماديّ ، تفقد كل ما كانت تعلمه من المثل والحقائق ، وتذهل عنه ذهولاً تامّاً.

ولكن عند ما يعي الإنسان ، ويبدأ بإدراك الأُمور الجزئية ، يبدأ بتذكّر ما كانت تعلمه نفسه ، ويسترجع إدراكاتها بصورة مفاهيم كلية. فليس المفهوم الكلي المتجلي في الذهن إلّا انعكاس المُثُل في ذهن الإنسان. فمتى أدرك زيداً وعمراً ، انتقل فوراً إلى الحقيقة المثالية الّتي كانت تدركها النفس قبل اتّصالها بالبدن.

فنظرية الاستذكار ترجع إلى حلّ عقدة كيفية انعكاس المفاهيم الكلية في ذهن الإنسان ، فهي تقول : إنّ إدراك المحسوسات مُعِدٌّ لاتّصال النفس بذاك العالم الشامخ الّذي كانت النفس تعيش فيه ، وبالتالي إدراك المثل وانعكاس ظلّها على النفس ، الّذي يعبّر عنه بالمفهوم المجرّد عن المقارنات.

وقد أكّد أفلاطون أنّ الظواهر أُمورٌ فانية ، وليست أصولاً باقية ، والعلم الحقيقي يتعلق بالثابتات لا بالفانيات ، والمُثُل ـ بما أنّها واقعيات ثابتة ـ يتعلق بها العلم.

هذه أبرز أُصول نظرية أفلاطون في المعرفة ، وهي بعدُ قابلة للنقد والنقاش ، وقد نقدها الفلاسفة الإسلاميون في أسفارهم. وعقد صدر المتألهين في أسفاره فصلاً في دفع ما قيل من أنّ النفس لا تدرك الجزئيات ، وممّا قاله : إنّ النفس ذات نشئات ثلاث : عقليّة وخياليّة وحسِّيَّة ، ولها اتّحاد بالعقل والخيال والحسّ. فالنفس عند إدراكها للمحسوسات تصير عين الحواسّ ، والحسُّ آلة وضعية ، تأثرها بمشاركة الوضع. فعند الإحساس يحصل أمران: تأثر الحاسة ، وإدراك النفس. والحاجة إلى الحضور الوضعي إنّما يكون من حيث التأثّر الحسّي ، وهو الانفعال ، لا من حيث الإدراك النفساني ، وهو حصول الصورة (١).

* * *

__________________

(١) الأسفار الأربعة : ٨ / ٢٣٤.

٨٢

٣ ـ أرسطو (١) (٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق م)

هو أعظم فيلسوف جامع لفروع المعرفة الإنسانية. ويمتاز على أُستاذه أفلاطون بدقة المنهج واستقامة البراهين والاستناد إلى التجربة الواقعية. وهو واضع علم المنطق أو جامعه ومكمّله ، ومِنْ هنا لقّب ب «المعلّم».

ولد في اسطاغيرا من مقدونية. تعاطى في البداية صناعة الطب ، ثمّ شخص إلى أثينا في عصر ازدهار الفلسفة ، وكان شيخها إذ ذاك أفلاطون ، فالتحق به نحواً من عشرين سنة ثمّ اعتزله.

منهجه في المعرفة

كان بين منهج أرسطو وأستاذه أفلاطون فوارق. فالأُستاذ كان يعتمد على العقل فقط ، ولكن التلميذ اعتمد على العقل والحسّ معاً ، وأعطى لكل منهما حقّه. ولأجل ذلك كثرت كتبه في علمي الطبيعيات والإلهيات.

فإذا كان الأستاذ متبنياً لنظرية قدم النفوس ، فقد كان هو يتبنّى حدوث النفس مع البدن لا قبله ولا بعده ، وهي تُعَدّ صورة للبدن.

وإذا كان الأُستاذ يتبنّى نظرية الاستذكار وأنّ الروح ، كانت ـ قل هبوطها إلى عالم الطبيعة ـ تعرف الحقائق ، فلما هبطت نسيت كل ما كانت تعلمه ، ثمّ تبدأ بتذكره تدريجياً كلما شاهدت الأُمور الجزئية الّتي تُعِدُّها لتذكّر ما قد نسيته من العلوم والمعارف ؛ فقد أنكر التلميذ كل ذلك ، وقال إنّ الروح منذ نشوئها وتكونها خالية من كلّ علم ومعرفة ، وإنّما تكتسبهما في هذه النشأة.

وإذا كان الأُستاذ يقول بأنّ المفاهيم الكليّة ظلال المُثُل وانعكاساتها ، فالتلميذ كان يقول بأنّها مصنوعة للنفس حيث إن لها قدرة تجريد الجزئيات وانتزاع المفاهيم الكلية منها ، فتحذف مثلاً من كل فرد ـ كزيد وعمرو .. ـ الخصوصيات المشخِّصة ، وتأخذ بالجهة الجامعة وهي المفهوم الكلي.

__________________

(١)eltotsirA.

٨٣

وعلى ضوء ذلك فإدراك الجزئيات عند أرسطو ، متقدّم على إدراك الكليات ، على عكس ما كان أفلاطون يتصوّره.

ولأرسطو آراء كثيرة اختصّ بها :

فقد اشتهرت عنه المقولات العشر ، وهي الأجناس العالية ، أعني أعمّ المفاهيم الّتي تطلق على الموجودات في مقام التحليل ، وهي : الجوهر ، والكم ، والكيف ، والمكان ، والزمان ، والإضافة ، والوضع ، والملك ، والفعل ، والانفعال. وقد بحث عن هذه المقولات في كتبه المنطقية ، كما بحث فيها عن القياس وأنواعه ومقدماته.

ومن آرائه تقسيم الوجود إلى ما بالفعل وما بالقوة.

وأيضاً تقسيم العلة إلى علّة فاعليّة ، وعلّة صوريّة ، وعلّة ماديّة ، وعلّة غائيّة.

كما أنّ من آرائه القول بتركب كل جسم من صورة وهيولى.

وغير ذلك من الآراء الّتي اشتهر بها.

لقد كان أرسطو رجل العقل والحسّ معاً ، يُعلم مدى قوة تفكيره واستعماله العقل واستخدامه الحس في المعرفة ، من ملاحظة موضوعات كتبه ، فإنّها تنقسم إلى الأقسام التالية:

أ ـ الكتب المنطقية.

ب ـ الكتب الطبيعية.

ج ـ الكتب الميتافيزيقية.

د ـ الكتب الأخلاقية.

ه ـ الكتب الشعرية.

فكل هذا يكشف عن كونه رجلاً منهجياً معترفاً بالحسّ والعقل.

* * *

٨٤

٤ ـ أبيقور (١) (٣٤٢ ـ ٢٧٠ ق م)

فيلسوف يوناني بارز أسس في «كاوفون» في آسيا الوسطى مدرسة لتدريس اللغة والقواعد النحوية ، ثمّ مال بعدها إلى دراسة الفلسفة ، فأسس فيها منهجاً خاصاً.

سلك هذا الفيلسوف في فلسفته طريق الحسّ ، فقال بأنّ الأصل في كل معرفة هو الحس والمشاهدة والدلائل العيانية ، ومن هذا الطريق وحده تتم المعرفة.

ولازِمُ هذا الأصل الّذي ركن إليه أن لا يصدّق بشيء ممّا وراء الطبيعة ، لكن لم يرو عنه أنّه نابذها.

وإذا كان الحس هو الأساس في المعرفة عند أبيقور ، فقد جعل المقياس في باب الأخلاق أمراً حسياً باسم اللذة والخلوّ من الألم ، وقد نقلت عنه ـ في ذلك الباب ـ الأُصول التالية :

١. اطلب اللذائذ الّتي لا يكون وراءها ألم.

٢. إياك والألم الّذي لا يجلب لذة.

٣. إيّاك واللذة الّتي تحرمك من لذّة أكبر منها أو تكون عاقبتها ألماً أكبر منها.

٤. تحمَّل الألم الّذي ينجيك من ألم أكبر منه ، أو الّذي يكون من ورائه لذّة كبيرة.

ولأجل هذه الأُصول اتُّهم الرجل بالانهماك في الشهوات ، غير أنّ هذه الأُصول لا تدلّ على شيء من ذلك ، ولعلّها ترمي إلى الاعتدال في الحياة ، وهو فضيلة من الفضائل.

وعلى كل تقدير ، فالرجل يعتمد على الحس في العصر الّذي كان فيه الفلاسفة يعتمدون على العقل (٢).

* * *

__________________

(١)surucipE.

(٢) فكان هناك مسلكان في المعرفة اليقينية : المسلك الأفلاطوني العقلي ، والمسلك الأبيقوري الحسيّ ، ـ

٨٥

٥ ـ الفلاسفة الإسلاميون

قد تعرفت على بعض الشخصيات من أنصار منهج اليقين ، وكانت آراؤهم هي السائدة حتّى بزغ فجر الإسلام وظهرت طلائع الحضارة الإسلامية ، وعمّ نور الإسلام مشارق الأرض ومغاربها ، فنشطت المعارف والأبحاث الفلسفية بنقل ما وقف عليه المفكرون المسلمون من كتب فلسفية وطبيعية ، إلى اللغة العربية. ولم يكتفوا بمجرّد النقل والترجمة ، بل تحمّلوا عبئاً كبيراً في تكميل وتهذيب ما وصل إليهم من تراث اليونان ، وكانت نتيجة هذه الجهود أن حدثت حضارة من أرقى الحضارات الّتي عرفها التاريخ ، وبلغت الأُمّة الإسلامية في مدّة وجيزة شأواً عظيماً في مجالات العلوم والفلسفة ، حتّى غَدَتِ العواصم الإسلامية معاهدَ للعلوم ومراكز للفلسفة ، يقصدها الشرقي والغربي ، ويطوف عليها رواد الفضيلة.

وسلك جُلُّ الفلاسفة المسلمين منهج اليقين بين مشائيّ يعتمد على البرهان والحسّ معاً ، وإشراقيّ يعتمد على تهذيب النفس وإعدادها لتلقي الحقائق من عالم الغيب. والكلّ من أنصار اليقين وإنْ كانت دروبهم إلى المعرفة اليقينية مختلفة. وقد كانت الغلبة للمشائين ، فروّجوا العقل والحسّ وأعطوا كل واحد منهما حقّه.

التطور النهائي في باب المعرفة

ظهر هذا التطور في العصور الإسلامية الأخيرة ، أي بعد القرن العاشر الإسلامي ، فأدهش العقول ، وحيّر أصحاب الفكر ، أحدثه رجل العلم والفضيلة ، سيد نوابغ العالم وأُسوة الحكماء والمتكلمين ، محمد بن إبراهيم الشيرازي المشتهر بصدر الدين ، وصدر المتألهين (١). فقد أسس أساساً حديثاً ، ورسم قواعد لم يسبق إليها أحد ، وأتى بأفكار أبكار لم يقف على مغزاها إلّا ثلّة قليلة من بغاة العلم والفلسفة ، فهو المبتكر الوحيد في إبداع أُصول لم تُعهد ،

__________________

ـ وما أشبه حالهما بحال عَلَمَيْ النهضة في الفلسفة الغربية : رينيه ديكارت وجان لوك ، فالأول منهما يعتمد على العقل والثاني على الحسّ. وسيوافيك بيان منهجهما في محله.

(١) ولد عام ٩٧٩ ه‍ ، وتوفي عام ١٠٥٠ ه‍.

٨٦

وتفريع فروع لم تسمع ، وإحداث طريق للبحث والتحليل لم يشاهد.

وفي ظل هذه الجهود المتمادية من فلاسفة الإسلام ، بلغت الفلسفة الموروثة من مائتي مسألة إلى سبعمائة مسألة فلسفية عقلية فكرية (١) ، مضافاً إلى التحوّل الّذي أوجدوه في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

الفلسفة الإسلامية والواقعية الموضوعية

إنّ من الظلم الفاحش رمي أُمّة كبيرة تحتل هذه المكانة السامية في الحضارة الإنسانية ـ رميها ـ بالمثالية والسفسطة. وليس شيء أدلّ من نتاجهم العلمي الموجود بأيدي الجميع ، على بطلان هذا الافتراء.

وهذا كتاب المسلمين يوقظ شعورهم ، ويدعوهم إلى الاعتماد على السمع والبصر ، وفي الوقت نفسه إلى التعقل والتفكر ، يقول :

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢).

فذِكْر السمع والأبصار كنموذج ، يعرّفنا موقف أدوات الحسّ. كما أنّ ذكر الأفئدة يُعرب عن مقام الفؤاد وهو العقل ، في مجال المعرفة.

ويُستنتج من هذه الآية أنّ الإنسان يأتي إلى الدنيا خالي الذهن من كلّ علم ومعرفة حتّى المعارف البديهية والأوليّة ، وإنّما يكتسب ما يكتسبه بعد اتّصاله بالخارج عبر أدوات المعرفة. ولو فرضنا انعدام تلك الأدوات ، لما حصلت للإنسان أية معرفة متعلقة بما سوى ذاته.

وقد يتوهم ممّا ذكرنا أنّ الآية تنفي المعلومات الفطرية المودعة في ذات الإنسان ، ولكنه توهّم باطل ، لأنّ الآية الكريمة ترمي إلى نفي كل معرفة فعلية للإنسان حين ولادته ومجيئه إلى الدنيا ، وهذا لا ينافي وجود معلومات فطرية مختمرة

__________________

(١) مقالة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي بمناسبة مرور أربعمائة سنة على ميلاد صدر المتألهين.

(٢) النحل : ٧٨.

٨٧

في النفس الإنسانية ، تظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان ، واحتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ، فإنّ مثل هذه ليست علوماً فعلية وإدراكات حاضرة حتّى تكون منفية بقوله تعالى: (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).

فسلسلة المعلومات والإدراكات الفطرية المودوعة في النفس ، حاصلة فيها بالقوة حين ولادة الإنسان ، ثمّ تخرج إلى الفعلية ، وتتكامل بتكامل وجوده ، وتتفتح تدريجياً باتّصاله بالخارج عبر أدوات المعرفة(١).

فكل ما تقدم يدلّ على أن الإسلاميين من الفلاسفة كانوا رجالاً واقعيين موضوعيين ، يتبنون منهج الجزم ويستخدمون أدوات المعرفة كلٌّ منها في مجاله ، مقتفين في ذلك بعد كتابهم السماوي المرشد ، أثر المعلم الأول.

ومن أبدع أساليبهم في تحليل المعرفة ، تقسيمهم التصورات والتصديقات إلى بديهيات ونظريات.

فهناك تصورات بديهية لا يحتاج العقل في دركها إلى أَزيد من تصور موضوعاتها ، كمفاهيم الوجود والعدم والوحدة والكثرة والضرورة والإمكان والامتناع ، وسائر ما يسمونه في الفلسفة بالأُمور العامة.

وهناك تصورات نظرية تنالها النفس بعد إعمال القوة الفكرية ، كالمفاهيم الكلية من الإنسان والفرس والشجر ونحوها. فإنّ النفس تنالها بعد إدراك أَفراد كثيرة لذلك المفهوم الكليّ عن طريق الحسّ ، ثمّ يقوم العقل بعد ورود صورها إلى الذهن بتجريدها من المشخِّصات أولاً ، ثمّ بالأخذ بالقدر المشترك الّذي يعمّ جميع الأفراد(٢).

__________________

(١) لاحظ مفاهيم القرآن : ١ / ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) نعم ، ليست التصورات على وزان واحد ، وإن كانت كلها تشترك في أنّ النفس تنالها من الخارج بعد اتّصالها به بالحسّ. بل تفترق إلى قسمين ، فإنّ لبعضها مصاديق في الخارج ، ولبعضها الآخر مناشئ انتزاع.

فمن القسم الأول ، الإنسان والفرس والشجر ونحوها ، فإنّ النفس تنتزع من الجزئيات الخارجيّة ، بعد تجريدها من الخصوصيات ، مفهوماً مشتركاً يسمى مفهوماً كليّاً. وكلّما تصور هذا المفهوم الكلي ، انتقل إلى مصاديقه وجزئياته ، فيقول هذا إنسان وذاك حيوان وذلك شجر.

٨٨

وكلا قسمي التصورات يشتركان في أنّ العقل لا ينالهما من دون إعمال الحسّ والاتّصال بالخارج. فلو كان الإنسان فاقداً لعامّة حواسه لما قدر على تصور شيء من التصورات البديهية حتّى الوجود والعدم. كما أنّه لو كان فاقد الصلة بالخارج لما قدر على تجريد الجزئيات والأخذ بالقدر المشترك. وهذا اعتراف من الفلاسفة المسلمين باعتبار الحسّ والعقل في مجال المعرفة الإنسانية.

وكما أنّ التصورات تنقسم إلى بديهية ونظرية ، فالتصديقات أيضاً مثلها. فالتصديق بامتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما ، من التصديقات البديهية. كما أنّ التصديق بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين ، من التصديقات النظرية ، والكل يناله العقل بعد الاتّصال بالخارج وإعمال الحواس قبل تصديقه بالنسبة الموجودة فيها. أمّا في التصديقات البديهية فواضح ، وأمّا في القضايا النظرية ، فإنّ العقل يستكشف تلك القضايا النظرية المجهولة عن طريق القضايا البديهية بعملية فكرية خاصة ، مستفيداً ممّا ناله بالحسّ. مثلاً : إن قولنا : المادة حادثة ، الأرض كرويّة ، الحركة تسبب الحرارة ، الدور والتسلسل ممتنعان ، الفلزات تتمدد بالحرارة ، زوايا المثلث تساوي ١٨٠ درجة ، المادة تتحول إلى طاقة ؛ كلُّها معارف تُعَدّ في هذه الأعصار من اليقينيات ، غير أنّ النفس لا تؤمن بصحتها عند سماعها لأول وهلة ، وإنّما يحصل لها ذلك في ضوء معلومات سابقة بديهية ومكتسبة يجمعها العقل بعملية وجهد فكري ، ليكتسب بعده تصديقاً وعلماً جديداً.

__________________

ومن القسم الثاني المفاهيم العامة الّتي أُشير إليها في المتن ، فليس لها مصاديق في الخارج ، وإنّما لها مناشئ انتزاع وانتقال فمفهوم العدم ـ مثلاً ـ من المفاهيم العامة ، يصنعه الذهن بعد الاتّصال بالخارج ، ولكن ليس له مصداق فيه ، لأنّ الخارج يساوق الوجود والعينيّة ، والعدم بطلان محض ، وإنّما ينتقل الذهن إليه بعد عمليات خاصة.

ومثله الضرورة والإمكان والامتناع ، فليس في الخارج شيء محسوس نسميه بأحدها ، وإنّما هي مفاهيم يصنعها الذهن بعد ملاحظة القضايا الخارجية ، كحتمية كون الأربعة زوجاً ، وحتمية عدم كونها فرداً ، فينتقل من تصور هذه القضايا إلى صنع مفهوم الضرورة والامتناع. فلأجل ذلك قلنا إنّ التصورات ليست على وزان واحد ، بل هي بين ما يكون له مصداق ، وما يكون له منشأ للانتزاع والانتقال من دون أن يكون له مصداق.

وأمّا عدم كون الوجود والوحدة الّتي تساوقه ممّا له مصاديق في الخارج ، فيحتاج إلى بيان آخر قرره الحكماء عند البحث عن أحكام الوجود الخارجي والذهني.

٨٩

ولنحلل المثال الأول ، أعني قولنا : المادة حادثة. إنّها قضية يقينية للإسلاميين ، يقضون بها عن طريق الحسّ والعقل معاً بقوله :

ـ المادة متغيّرة.

ـ وكل متغيّر حادث.

إذن فالمادة حادثة.

أمّا الحسّ ، فهو يستخدم في غالب القضايا لنيل مفرداتها ، سواء أكانت ممّا يناله الحسّ بلا واسطة ، أم مما يناله بعد تعمّل. وفي هذه القضية ، إن كون المادة موجودة في الخارج ، أمر ملموس للحسّ (١) ، حتى التغيّر والتبدل ـ إن أُريد منهما ما يدركه عامة الناس ـ يؤخذان من الخارج.

نعم ، ما يدّعيه أصحاب القول بالحركة الجوهرية للعالم ـ جواهره وأعراضه ـ ممّا يدعمه البرهان وتثبته الأدلّة الفلسفية (٢) ، لا الحسّ.

وبعبارة أُخرى : إنّ للحركة والتبدل مرتبتين ، مرتبة يدركها الحسّ ويقف عليها عامة الناس ، وهي التغير الملحوظ ليلاً ونهاراً في الأرض وما عليها والسماء وما فيها. ومرتبة يدركها العقل بالبرهان الفلسفي ، وهو أن العالم بجوهره وحقيقته ، في تغيّر ذاتي ، وسيلان واقعي ، كالنبع المتدفق من مكان ليصبّ في مكان آخر. فالصغرى على المرتبة الأولى حسيّة ، وعلى الثانية عقلية مبرهنة.

وأمّا العقل ، فيستخدم في القضاء بالكبرى ، ببيان أنّ التغيّر عبارة عن الوجود بعد العدم ، الحصول بعد ما لم يكن ، وهذا هو نفس الحدوث وعينه ، فيكون ـ إذن ـ كل متغيّر حادث.

ثمّ يقوم العقل بعملية أُخرى وهي استنتاج حكم الأصغر (المادة) من الحكم على الأكبر ، لأنّ الأصغر من مصاديق الأكبر ، فلو كان الأكبر محكوماً بحكم عام ، فهو يشمل كل فرد من مصاديقه ، فالمادة من مصاديق المتغير ، فهي أيضاً حادثة.

__________________

(١) ولو عن طريق إحساس عوارضها ، من اللون والريح والطعم والملمس ... بناءً على ما هو الحق من أنّ الحس لا ينال الجوهر (المادة) مباشرة ، وإنّما ينالها بواسطة إحساس عوارضها.

(٢) وسيوافيك ذلك في الفصل الرابع عند البحث عن أداة العقل من أدوات المعرفة.

٩٠

ثمّ إنّ هناك بديهيات أولية يبتني صحة أي استنتاج عليها ، وهي مفروضة في جميع موارد الاستدلال ، مثل مبدأ عدم التناقض ، وأنّ النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد ، وأنّه إذا صحّ كون المادة متغيّرة ، فلا يصحّ نقيضه ، وإذا صحّ أنّ كل متغير بالذات حادث ، فلا يصحّ نقيضه.

وبالجملة ، كل معرفة إنّما تتولد عن معرفة سابقة ، وهكذا تلك المعرفة عن أُخرى ، حتّى تنتهي سلسلة المعارف النظرية إلى المعارف الأَوليّة المعلومة بالذات.

وهذا هو المنهج الّذي درج عليه الفلاسفة الإسلاميون ، واتّضح من مجموع ذلك أنّهم حسيون عقليون.

ونختم هذا البحث الإجمالي لنظرية الإسلاميين في باب المعرفة ، بكلمة قيّمة لصدر المتألّهين تعرب عن كون الحسّ ، مثل العقل ، من أدوات المعرفة عند الإسلاميين ، وأنّ الإدراكات العقلية تنتهي في النهاية إلى الحسّ. قال : «فإنّ الحواس المختلفة الآلات ، كالجواسيس المختلفة الأخبار عن النواحي ، تُعِدّ النفس للاطّلاع على تلك الصور العقلية المجرّدة. والإحساسات إنّما تتكثر ، بسبب اختلاف حركات البدن لجلب المنافع والخيرات ، ودفع الشرور والمضار ، فبذلك ينتفع الحسّ بالحسّ ، ثمّ يُعِدُّها ذلك لحصول تلك التصورات والتصديقات الأوليّة. ثمّ يمتزج بعضها ببعض ، ويتحصّل من هناك تصورات وتصديقات مكتسبة لا نهاية لها» (١).

* * *

٦ ـ الفلاسفة الغربيون

ظهرت في أُوروبا ، في أوائل عصر النهضة الصناعية ، نهضة فكرية فلسفية بعد قرون الانحطاط والتخلف ، وبرز فلاسفة كثيرون يناصرون منهج اليقين في الوصول إلى المعارف والحقائق ، ولكنهم سلكوا في هذا المنهج مذاهب شتّى واعتنقوا نظريات مختلفة ، نعرضها فيما يلي ثمّ نحلل كل واحدة منها :

__________________

(١) الأسفار : ٣ / ٣٨١ ـ ٣٨٢.

٩١

أ ـ النظرية العقلية ، أو العقليون.

ب ـ النظرية الحسيّة ، أو الحسيّون.

ج ـ النظرية النسبية ، أو النسبيون.

د ـ النظرية الديالكتيكية ، أو الديالكتيكيون.

ه ـ نظرية التحليل النفسي.

وجميع أصحاب هذه النظريات والمذاهب يدّعون أنّهم من أنصار منهج اليقين. وستقف على مدى قيمة هذا الادّعاء ، وأنّ القوم مع ما لهم من صخب وهياج في هذا المجال ، هم في الواقع من الشكاكين ، ويصحّ تسميتهم ب «أنصار الشك» الجدد.

أ ـ النظرية العقلية ، أو العقليون

مؤسس هذا المذهب هو الفيلسوف الفرنسي الطائر الصيت «رينيه ديكارت» (١).

الشك الديكارتي

كان ديكارت بفطرته مولعاً بالرياضيات لأنّه وجد فيها من اليقين ما لم يجده في سائر العلوم. ثمّ إنّه بعد ما بلغ مبلغاً عظيماً في الفلسفة والمنطق والرياضيات ، طرأ عليه الشك في كثير ممّا اتّخذه أُصولاً موضوعية ، وهو يصف تلك المرحلة من عمره بقوله :

«مضت عدّة سنوات منذ ان لاحظت أنّ كثيراً من الأشياء الباطلة كنت اعتقد إبّان شبابي أنّها صحيحة ، ولاحظت أنّ الشك يعتور كل ما أقمته على أساس هذه الأُمور الباطلة ، وأنّه لا بدّ أن تأتي لحظة في حياتي أشعر فيها بأنّ كل

__________________

(١)setracseD eneR ، رائد الفلسفة الغربية في العصر الحديث ، كان رياضياً بارعاً ، وعالماً في البصريات والفلك. ابتكر الهندسة التحليلية المزيجة من الجبر والهندسة ولد عام ١٥٩٥ م في فرنسا في مدينة لاهيه (eyaH aL (، وتوفي في السويد عام ١٦٥٠ م ، ونقل جثمانه بعد ذلك إلى فرنسا حيث ترقد بقاياه الآن في كنيسة «سان جرمان دي بريه» في باريس.

٩٢

شيء يجب أن يقلب رأساً على عقب تماماً ، وأن أبدأ من أساس جديد إذا شئت أن أقرر شيئاً راسخاً وباقياً» (١).

ويستمر ديكارت في تأكيد هذا الشك فيقول : «إنّي أفترض إذن أن كل الأُمور الّتي أُشاهدها هي باطلة ، وأتصور أنّه لا يوجد عندي أي حسّ ، وأتصور أنّ الجسم والشكل والامتدادات والحركة والمكان ، ليست إلّا تخيلات من صنع عقلي. فما ذا عسى أن يُعَدّ حقيقياً ، ربما إنّه لا شيء في العالم يقيني».

ثمّ يقول : «من يدريني : لعلّ هناك شيئاً مختلفاً عن تلك الأشياء الّتي حسبتها غير يقينية ، شيئاً لا يمكن أبداً الشك فيه. ألا يوجد إله أو قوّة أُخرى تصنع في عقلي هذه الأفكار؟» ... «من أين أعلم أنّه ليس من خادع يخدعني بكل ما أوتي من حيلة وقوّة في فكري وتصوري ، فيخيل لي المعدوم موجوداً ، أو بالعكس» (٢).

فهو يقول ـ بعبارة أُخرى ـ : من الجائز أن أكون واقعاً تحت تأثير قوّة تهيمن على وجودي وعقلي ، وتحاول خداعي وتضليلي ، فتوحي إليّ بأفكار مقلوبة عن الواقع وإدراكات خاطئة. ومهما كانت هذه الأفكار والإدراكات واضحة ، فلا استطيع أن استبعد هذا الفرد الّذي يضطرني إلى اتّخاذ الشكّ مذهباً مطرداً.

وعلى ذلك ، فالشك المنهجي لديكارت يبتني على احتمالين :

١. احتمال بطلان كل ما يعتقده صحيحاً فعلاً ، كما بَطَلَ ما كان يعتقده صحيحاً سابقاً.

٢. احتمال كونه واقعاً تحت تأثير قوّة كبرى تخدعه وتضلله.

وهكذا ، حاق به الشكّ في كل ما يتصور ويتخيل ، وكاد ألمه أن يهلكه ، حتّى وصل إلى قضية يقينية لم يقدر أن ينفيها عن نفسه ، أو يشك فيها ، ألا وهي أنّه يفكر ، وذلك لأنّه مهما شكّ في الأشياء ، لا يشكّ في شكّه ، فشكّه أمر بديهي له ، وليس الشكّ إلّا التفكير ، وليس خارجاً عن إطاره.

__________________

(١) نشرة آدم وتانري : ٧ / ١٧ ، على ما في موسوعة الفلسفة : ١ / ٤٩٣.

(٢) المصدر السابق.

٩٣

«أنا أفكر إذن أنا موجود».

ثمّ صار وجود التفكر نواة لقضية يقينية أُخرى وهي أنّه موجود ، لأنّه بدا له أنّ التفكير يحتاج إلى مفكّر ولا ينفك عنه ، فقال : «أنا أفكر ، لكن ما هو الشيء الّذي يفكر ، إنّه شيء يَشُكُّ ، ويفهمُ ، ويتصوَّرُ ، ويقرِّرُ ، وينفي ، ويريد أو لا يريدُ ، ويَحُسُّ» ، ثمّ استنتج من ذلك أنّه ليس إلّا ذاته ونفسه وطبيعته.

وكانت النتيجة أن قرر ديكارت مقالته المشهورة : «أنا أفكر ، إذن أنا موجود» (١).

الله موجود

ثمّ بدأ ديكارت بالاستدلال على قضية يقينية أُخرى ، وهي أنّ الله موجود ، وقرّر الاستدلال كما يلي : لا يمكن أن أكون أنا مصدر هذه الفكرة ـ أي فكرة الله ـ فهذه الفكرة تُصوِّر لي جوهراً لا متناهياً ، سرمدياً ، ثابتاً ، مستقلاً. فحقيقة هذا الجوهر تتجاوز إذن ماهيتي وحقيقتي ، فكيف يمكن أن أكون مصدراً لها. فإذن فكرة الله على هذا النحو لا يمكن أن يكون مصدرها كائناً آخر غير الله نفسه.

وبعبارة أُخرى : إذا فكرت في الله ، وجدت فيه من المزايا العظيمة الفائقة الّتي كلما تأمّلت فيها بعناية أكثر اعتبرت نفسي أقلّ قدرة على إنتاج هذه الفكرة نفسي بنفسي. فإنّ كوني جوهراً لا يجعلني أنتج فكرة جوهر لا متناه ، لأنّي أنا كائن متناه ، لو لم تكن هذه الفكرة (فكرة جوهر لا متناه) قد أودعها في نفسي جوهر لا متناه حقّاً.

ف «ديكارت» إذن مقتنع ومتأكد من أنّ فكرة وجود «موجود لا متناه ومطلق الكمال» هي فكرة صحيحة ومتميزة.

الأفكار الفطرية

ثمّ يستدل ديكارت بعد ذلك على أنّ كل فكرة تنتهي إلى الله فهي فكرة

__________________

(١) لاحظ المصدر السابق : ٤٩٥.

٩٤

صادقة ، بأنّها صادرة عن الله ، فلو لم تكن صادقة لكان تزويد الله الإنسان بها خدعة وكذباً ، وهو مستحيل على الكامل المطلق.

وبذلك يستنتج أنّ كلَّ فكرة فطرية في الطبيعة الإنسانية ، فهي فكرة صادقة ملقاة من جانب «الله». وبذلك آمن بالمعرفة الفكرية ، وأنّها معرفة صحيحة صادقة ، وليس لها مصدر سوى الله.

والفطريات عند «ديكارت» ، تختلف عنها في لسان القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية ، فإنّ الفطرة في الأخيرين هي الميل الذاتي إلى الشيء ، من صميم الذات ، بلا حافز خارجي ، بل كأنّ هناك نداءً من صميم النفس يدعو الإنسان إليه ، كالميل إلى العدالة والعفّة والزواج والجاه وغير ذلك. فكلها فطريات في منطق القرآن والأحاديث ، ويعبّر عنها بالغرائز تارة ، والفطريات أُخرى ، وليست هي من قبيل الأفكار ، بل ميول طبيعة يجدها الإنسان في ذاته.

وأمّا الفطريات في مصطلح «ديكارت» ، فهي من مقولة الفكر والإحساس العقلي. وهي عبارة عن الأفكار الطبيعية الّتي يجدها في نفسه ، وتبدو في غاية الوضوح والجلاء ، كفكرة «الله» و «الحركة» و «الامتداد» و «النفس» ، وكأنّها لوازم للعقل الإنساني ، من دون أن يكون العقل مصدراً لها بل هو حامل لها ، وإنّما مصدرها شيء غير ذاته وعقله.

طوائف الأفكار الإنسانية الثلاث

ثمّ إنّه في ضوء ذلك رتب الأفكار الإنسانية في طوائف ثلاث :

١. الأفكار الفطرية : وهي عبارة عن التصورات الّتي يدركها العقل بالبداهة ، وليس للخطأ إليها سبيل. كالحركة والامتداد والشكل من الأُمور المادية ، والجهل واليقين والشكّ من الأُمور العقليّة المحضة ، والوحدة من الأُمور المشتركة بين الأُمور الماديّة والعقلية ، وكذلك فكرة الله والأفكار الرياضية الأساسية (الأعداد). ولذلك يقول ديكارت إنّ كل إنسان يحكم بأنّه موجود ، كما يدرك بأنّ المثلث له ثلاث زوايا ، وأنّ الكُرَةَ ليس لها أزْيَد من سطح واحد ، وأنّ المساويين لشيء متساويين.

٩٥

ولا تنحصر الفطريات فيما مثّلنا بل هي تعمّ كل شيء لا يقع في إطار التجربة ، كتصور الكمال والضرورة والكلية ، فإنّها كلَّها يجدها العقل في ذاته وحدها ، من دون أن يستمدها من الخبرة (التجربة).

وأوضح تعريف للفطريات ما ذكره ديكارت نفسه في بعض رسائله (١) ، قال : «الأُمور الفطرية عبارة عن المعلومات البدائية الأصيلة الّتي نتوصل بها إلى سائر المعارف ، وهي قليلة جداً». ثمّ ذكر أنّ الوجود ، والعدد ، والزمان ، وامتداد الجسم ، وتفكير النفس ، والوحدة ، هي من الأُمور الفطرية (٢). وربما يسمّيها بالصفات الأولية.

٢. المحسوسات أو الصفات الثانوية : وهي أفكار طارئة تعبّر عن انفعالات خاصة للنفس بالمؤثرات الخارجية ، كفكرة الصوت والرائحة ، والضوء ، والطعم ، والحرارة ، واللون.

فالفطريات كيفيات أوليّة حقيقية ، وهذه الحسيّات كيفيات ثانوية لا تعبّر عن حقائق موضوعية ، وإنّما تتمثل في انفعالات ذاتية. فهي صور ذهنية تتعاقب وتثور في دنيا الذهن بتأثير الأجسام الخارجية.

ويبدو أنّ ديكارت يسمّي الفطريات كلّها أو بعضها بالصفات الأوليّة ، في مقابل المحسوسات الّتي يسمّيها بالصفات الثانوية. فهو يعتقد أنّا لا نستطيع أن نحصل إلّا على قدر ضئيل من اليقين بهذه الصفات الثانوية. فأفكارنا عن هذه الصفات مشوشة وغامضة.

وبعبارة أُخرى : إنّ ديكارت يقسم صفات الجسم إلى قسمين : صفات أولية ، كالشكل والامتداد والحركة ، وهذه لا ينالها الإنسان عن طريق التجربة ، ولها واقعية. وصفات ثانوية ، وهي الصور الذهنية الّتي ينالها الإنسان غبّ اتّصاله بالخارج ، كاللون والطعم والرائحة. وهو لا يقيم لهذه المعرفة اعتباراً علمياً ، بل يقول بأنّ قيمتها في مقام العمل ، بمعنى أنّ الإنسان يستفيد منها في حياته.

__________________

(١) المؤرخة بتاريخ ٢١ أيار ١٦٤٣ م.

(٢) الفلسفة العامّة ، پول فولكيه : ٢٠٣.

٩٦

فالحسّ عند ديكارت عبارة عمّا يربط الإنسان بالخارج ، ويستفيد منه في حياته العملية ، وليس هو وسيلة للكشف عن الحقيقة.

وبالرغم من أنّ ديكارت كان رجلاً تجريبياً يستفيد من التجربة في مواردها ، إلّا أنّه مع ذلك لا يقيم للحسّ وزناً علمياً ولا يراه كاشفاً عن الحقيقة!.

يقول ديكارت : أنا عند ما أواجه النار أحسُّ بحرارتها وأتخيّل أنّها تشتمل على الحرارة مثلما أحسّها. غير أنّ الّذي يجب الاعتقاد به أنّ النار مشتملة على حقيقة مجهولة إذا واجهتُها أحسّ بحرارة منبعثة منها ، ولا يمكنني الاستدلال بهذا الإحساس على حقيقة النار ، إذ ليس للحسّ بين أدوات المعرفة دور سوى تمييز النافع عن الضارّ والمصالح عن المفاسد ، وليس هو وسيلة لكشف الحقائق.

وبعبارة أُخرى : إنّ الحسّ وسيلة لاتّصال الإنسان بالخارج ، ويوجب خلق صور من العالم الخارجي في أذهاننا. ولكن لا يمكن إثبات أنّ ما ندركه من الصور هو نفس الحقيقة الخارجية.

يقول أحد المحققين في نظرية ديكارت : «التصورات الواردة من الخارج إلى محيط الذهن ، لا تكشف عن أنّ لها مصاديق خارجية. ولو كشفت عن ذلك ، فلا تكشف عن أنّ الموجود في الخارج يطابق ما في الذهن مائة في المائة ، بشهادة أنّ الموجود من صورة الشمس في الذهن يغاير الموجود في الخارج ، للعلم حسب القواعد النجومية بأنّ الشمس الخارجية أكبر ممّا في الذهن بكثير» (١).

٣. الصور المجعولة : وهي التصورات التي تخلقها القوة المتخيلة في الذهن ، وهي لا تكشف عن الواقع أبداً. وهذه كتصور إنسان برأسين ، وفرس بجناحين.

هذا عرض خاطف لعقيدة ديكارت في مجال المعرفة اليقينية ، وفيما يلي تحليلها.

__________________

(١) مسيرة الفلسفة في الغرب ، ل «فروغي» : ١ / ١٥١.

٩٧

تحليل نظرية «ديكارت» في المعرفة

١ ـ امتناع اجتماع النقيضين هو أساس المعرفة

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ «ديكارت» جعل حجر الأساس ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي ، الّذي أراد أن يخرج به عن إطار الشك المطلق ؛ «أنّه يفكر ، فهو إذن موجود».

ولكن ديكارت غفل عن أنّ هذا الإذعان مسبوق بإذعان آخر ، لولاه لما خرج به عن إطار الشك ، وهو أنّه عند ما يفكر هل يصحّ أن يصف نفسه بأنّه لا يفكر أو لا؟ على الأول ، يهوي حجر الزاوية ، ولا يجد مستقراً مكيناً ، لزوال يقينه بأنّه يفكر.

وعلى الثاني ، يجد في نفسه معرفة قطعية سابقة على ما توهمه أول المعارف ، وهي امتناع أن يوصف شخص واحد ، في آن واحد ، بأنّه يفكر ولا يفكر. وهذا ما نسميه «امتناع اجتماع النقيضين» ، الّذي يُطلق عليه «أم المعارف» و «أم القضايا».

قال صدر المتألهين : «أحقّ الأقاويل ، ما كان صدقه دائماً. وأحق من ذلك ، ما كان صدقه أوليّاً. وأول الأقاويل الحقّة الأوليّة ، الّذي إنكاره مبنى كلِّ سفسطة ، هو القول بأنّه لا واسطة بين الإيجاب والسلب ، فإنّه إليه ينتهي جميع الأقوال عند التحليل ، وإنكاره إنكار لجميع المقدمات والنتائج» (١).

٢ ـ معرفة النفس غنية عن الاستدلال

استدلّ ديكارت على وجوده بتفكيره ، الّذي لا ينفك عن مفكّر. وغفل عن أنّ معرفة النفس غنية عن البرهنة والاستدلال ، فإنّ كل إنسان يجد ذاته حاضرة لدى ذاته ، ولو غاب كل شيء عنه لا تغيب ذاته عنه.

والّذي يوضح ذلك ، أنّ المستدلّ أخذ التصديق بالنتيجة (أنا موجود) في مقدمة استدلاله ، عند ما قال : «أنا» أفكر. فترى أنّه يعترف بذاته ووجوده

__________________

(١) الأسفار : ١ / ٨٩ ـ ٩٠.

٩٨

مرتين ، تارة بالضمير المنفصل «أنا» ، وأُخرى بالضمير المستتر في «أفكر». فلو لم يكن وجوده مسلماً لديه ـ من حيث لا يشعر ـ لما صحّ منه هذا التعبير. فهو يعترف بوجوده ، ثمّ يعود ليستدلّ على وجوده!! وما أشبه هذا بمن يطلب شيئاً يملكه.

٣ ـ الاستدلال بصورة الشكل الأول

صبّ «ديكارت» استدلاله على ما زعم أنّه الحجر الأساس للمعرفة اليقينية ، في قالب الشكل الأول من الأشكال المنطقية الأربعة ، الّذي هو أكثر الأشكال استعمالاً في إقامة البراهين. وذلك أنّ قوله : «أنا أُفكر» ، صغرى ؛ وهناك كبرى مطوية هي : «وكل من يفكر فهو موجود» ؛ فخرج بالنتيجة : «فأنا موجود».

وصحّة هذا الاستدلال مبنية على إذعانه بصحة الشكل الأول وصدق نتيجته ، فقد كان هذا معرفة أولية مخزونة في ذهنه ، فاستمد منها ليستنتج أنّه موجود.

وقد نقل عن ديكارت أنّه حاول الإجابة عن ذلك بأنّه لم ينتقل إلى هذا الاستدلال من تنظيم قضية بعد أُخرى ، والكبرى بعد الصغرى ، «وإنّما جرّني إلى ذلك المتصورات الساذجة والبسيطة الّتي كنت أحسّها بالوجدان ، وكانت عندي من البديهيات».

ولكنه أشبه بالفرار من المطر إلى تحت الميزاب ، لأنّه إذا لم ينتقل إلى ما زعمه نقطة أُولى من المعرفة ، إلّا عن طريق المتصورات والبديهيات الأولية فقد اعترف أنّه كانت لديه معلومات بديهية أو وجدانيات كان يجدها في صميم ذاته.

٤ ـ «كلُّ ظاهرة تحتاج إلى علة موجِدة» ، معرفةٌ سابقة

عرفت أنّ «ديكارت» ، بعد ما أذعن بوجود نفسه عن طريق تفكّره ، أخذ في الاستدلال على وجود الإله ـ الّذي جعل الاعتراف به معرفةً ثانوية ـ بأنّه لا بدّ لفكرة الإله الّتي يجدها في ذهنه ، من مصدر وعلّة.

٩٩

وهنا نأخذ عليه بالنقد بأنّه كان يعتقد بمعرفة يقينية أخرى قبل إذعانه بوجود الإله ، وهي أنّ كل ظاهرة تحتاج إلى علّة ، وأنّ كل معلول في الخارج أو الذهن لا ينفك عن شيء يوجده ، لاستحالة خروج الشيء إلى عالم الوجود من لا شيء. ولو لا إذعانه بهذه القضية ، لما حاول التعرّف على علّة وجود تلك الفكرة في ذهنه.

٥ ـ المعلول لا يكون أكمل من علّته ، معرفة سابقة

قال ديكارت في مقام البرهنة على «وجود الله» : «لا يمكن أن أكون أنا مصدر هذه الفكرة ، لأنّ حقيقة هذا الجوهر تتجاوز ماهيتي وحقيقتي». وهذا الاستدلال يدلّ على أنّه كان ذا معرفة فطرية أُخرى ، وهي أنّ الشيء لا يمكن أن يكون أكمل من سببه ، وإلّا لكانت الزيادة في المسبّب ناشئة من لا شيء.

كل ما ذكرناه يعرب عن أنّ ما توهمه «ديكارت» ، أُسس المعرفة اليقينية ، ليست كذلك ، بل تسبقها أُسس ومنطلقات أُخرى يبتني عليها التفكير الإنساني ، كان ديكارت معترفاً بها في صميم ذاته.

٦ ـ الفكر المطلق لا يدل على مفكر خاص

استدلّ ديكارت على وجود المفكر بوجود التفكير ، وهذا صحيح على وجه وخاطئ على آخر. فلو كان مراده الاستدلال على أنّ الفكر المطلق دليل على وجود المفكّر ، فهو صحيح لا غبار عليه ولكنه لا يثبت وجوده الخاص. وأمّا لو كان مراده هو الاستدلال بوجود الفكر المطلق على مفكّر خاص ، وهو وجوده ، فهو غير صحيح ، إذ لا ملازمة بين وجود الفكر المطلق ووجود مفكر خاص هو نفس ديكارت وذاته وذهنه.

ولو أراد الاستدلال بوجود الفكر الخاص ، أي فكر نفسه وشخصه وذاته ، فعندئذٍ يكون قد أقرّ بوجوده واعترف به ، وذلك لأنّ الفكر المطلق لا ينقلب إلى الفكر الخاص إلّا إذا أُضيف إلى شخص ومُفكّر وذهن يقوم به الفكر ، وعند ما يلاحظ الفكر الخاص ، فإنّه يلاحظ في ضمنه وجوده وشخصه. فكيف يريد الاستدلال على ما يذعن به قبل الاستدلال؟

١٠٠