الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي

الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

المؤلف:

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي


المحقق: عبدالرحمن بن حسين شايم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٣

والإمام يحيى والفقيه حميد (١) قد صححوا الاستدلال بالسمع على هذه المسألة وغيرها من جنسها على أنه يكفي في معرفة صحة السمع ثبوت الدلالة على أنه عدل حكيم في الجملة ، فإذا عرف المستدل عدله وحكمته ونبؤة نبيه صح الاستدلال بالسمع ، فمنها قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] مما يقتضي أنا مختارون في أفعالنا ، ومنها قوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧] مما يدل على أنهم يقدرون على أفعالهم ، ومنها قوله تعالى : (بِما تَعْمَلُونَ) ، (ما تَصْنَعُونَ) ، (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٩٠](لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [القصص : ٥٥](يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠](وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) [الفرقان : ٢٣](مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] ونحو ذلك مما يصرح بأن لنا أعمالا نجازى عليها ، والقرآن مشحون بذلك ، ومذهبهم يقضي بصرف القرآن عن ظاهره ، ويدخله في قالب الهذيان.

ومما نستدل به على صحة ما نقوله في هذه المسألة السنة النبوية والإجماع ، أما السنة فنحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (٢) ، وقوله : «نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاسق شر من عمله» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأعمال

__________________

وله المؤلفات الكثيرة ، شرح المؤثرات القريب والبعيد وغيرهما ، والكيفية ، والتحصيل ، والفائق في أصول الفقه ، والقاطف للوتين ، وغير ذلك ، وكان المنصور بالله يخرج إليه من صنعاء إلى سناع ليلا لمسائل ومشكلات ، وهو المعلل حلول الأعراض بالفاعل ، وكتبت المسألة على لوح قبره ، ولما مات قال رجل : أتفرحون بموت رجل كان يرد على اثنتين وسبعين فرقة ، ولما مات قيل : مات علم الكلام ، وله كتاب المؤثرات ، وفاته : سنة ٥٨٤ ه‍.

(١) هو الفقيه حميد الشهيد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد ، وهو زيدي من مشايخ الإمام المهدي لدين الله أحمد بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ قام بنصرة الإمام المهدي وجاهد بين يديه واستشهد في وقعة بين جنود الإمام وبين أولاد المنصور بالله ، له تواليف نافعة كالحدائق الوردية والوسيط والعمدة في أصول الدين وغير ذلك ، وأخذ عن المنصور بالله وغيره ـ رحمه‌الله ـ.

(٢) حديث : «اعملوا فكل ميسر لما خلق» في الطبراني عن ابن عباس وعن عمران بن حصين ، قال المناوي في شرح الجامع الصغير : وإسناده صحيح. ا. ه.

(٣) هذا الحديث هو بهذا اللفظ في معجم الطبراني الكبير من حديث سهل بن سعد والنواس بن سمعان ، وفي مسند الفردوس للديلمي من حديث أبي موسى ، وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص : «إنك لا ـ

٨١

بالنيات» (١) وأما الإجماع : فهو أن الرضى بقضاء الله واجب ، ولو كان الكفر من قضاء الله تعالى لكان الرضى به واجبا لكن الرضى بالكفر كفر بالإجماع ، فعلمنا أن الكفر ليس من فعل الله فلا يكن من خلقه ، ذكر هذا بعضهم ، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا من الأدلة العقلية والنقلية (أن) العباد (أفعالهم منهم) لا من الله تعالى وبطل ما ذهب إليه المخالفون ، وقد ألزموا بإلزامات في البسائط تقضي بكفرهم ولا محيص لهم عنها ، ولله القائل : (أتظن أن الذي نهاك دهاك ، إنما دهاك أسفلك وأعلاك) (٢) ، فيا لله من سلب العقول وتضييع المعقول والمنقول.

تنبيه : واعلم أن المعتزلة قد اتفقت على انقسام فعل العبد إلى متولد ، وهو الفعل الموجود بواسطة موجبة كالعلم الحاصل بواسطة النظر والمبتدئ يقابله ، وهما يرادفان السبب والمسبب في أغلب الأحوال ، ويفارقان المباشر والمتعدي مفارقة الأعم للأخص ؛ لأن المباشر هو الموجود في محل القدرة عليه ، والمتعدي هو الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها ، فكل متعد متولد ولا عكس ، وكل مباشر مبتدئ ولا عكس ، واختلفوا في المتولد ، فالذي عليه الزيدية أن المتولد فعل العبد حقيقة وتأثيره كالمبتدئ ، وإن اختلفا في أن أحدهما بواسطة والآخر بغير واسطة ، وقال أبو عثمان الجاحظ (٣) : لا فعل للعبد

__________________

تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعله في في امرأتك» قيل في تفسير هذا الحديث : أن المؤمن ينوي كثيرا من عمل الخير فيقصر به عمله ، وأن الكافر ينوي كثيرا من عمل الشر فيقصر به عمله ا. ه.

(١) حديث «الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» أخرجه الستة إلا الموطأ عن عمر بن الخطاب ، وأخرجه من أئمتنا الإمام المرشد بالله ـ عليه‌السلام ـ وهو أول حديث في أمالي المرشد بالله والبخاري.

(٢) هو أمير المؤمنين وسيد المسلمين علي بن أبي طالب عليه‌السلام حكاه الأمير الحسين في ينابيع النصيحة.

(٣) الجاحظ : عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء الليثي أبو عثمان الشهير بالجاحظ من أئمة الأدب العربي ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ، من أهل البصرة مولدا ووفاة ، تعلم بها وببغداد فنبه في علوم الأدب واللغة ، وأحاط بمعارف عصره فلم يترك موضوعا إلا وكتب فيه ، تقرب من الخلفاء والوزراء إلى أن ولي المتوكل العباسي ، وتنكر للمعتزلة فتوارى الجاحظ وعاد إلى البصرة ولازم منزله الذي أصبح مثوى الأدب ومحط رحاله ، وفلج في آخر عمره ومات والكتاب على صدره ، قتلته مجلدات وقعت عليه ، كتبه كثيرة وشهيرة وموجودة بأرقى الطبعات.

٨٢

مبتدئ إلا الإرادة فقط ، وجميع ما عداها من الأفعال المنسوبة إليه فهو متولد ، لكن لا من فعل العبد بل متولد بطبع المحل ولا تأثير لله تعالى فيه.

وقال تلميذه إبراهيم بن سيار النظام (١) : المباشر سواء كان بواسطة أولا ، فعل العبد ، والمتعدي فعل الله تعالى لكن لم يجعله طبعا للمحل فهو فعله بواسطة ذلك الطبع.

وقال قبة (٢) : بل المتعدي فعل الله يبتدئه ، وقال ثمامة (٣) : بل هو حدث لا محدث له ، لنا وجوده بحسب القصد والداعي دل على توليده من فعلنا كما تقدم ، وللمجبرة شبه لا طائل تحتها فلا نشتغل بإيرادها ، وهي مذكورة في البسائط.

__________________

(١) هو إبراهيم بن سيار النظام البصري المعتزلي ، أبو إسحاق يقال : هو مولى ، قال الإمام المهدي ـ عليه‌السلام ـ في شرح الملل والنحل : قيل : إنه كان لا يكتب ولا يقرأ ، وقد حفظ التوراة والإنجيل والزبور مع تفسيرها ، قال الجاحظ : ما رأيت أحدا أعلم بالفقه والكلام من النظام ، وهو من الطبقة السادسة ، من طبقات المعتزلة ، ا. ه ، وسمي نظاما ؛ لأنه كان ينظم الكلام ، وقيل : كان ينظم الخرز ، توفي سنة بضع وعشرين ومائتين.

(٢) قبة : هو صالح قبة معتزلي من الطبقة السابعة.

(٣) ثمامة بن الأشرس : أبو معمر النميري البصري ذكره المهدي ـ عليه‌السلام ـ في أول الطبقة السابعة ، قال الذهبي في الميزان : من كبار المعتزلة ومن رءوس الضلالة إلخ ، ، ما ذكره على عادته من وصم رجال العدل.

٨٣

(المسألة الثالثة عشرة : أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي من قضاء الله وقدره)

والقضاء في اللغة : بمعنى الخلق نحو : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] وبمعنى الأمر نحو : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] وبمعنى الإعلام نحو : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) [الإسراء : ٤] وبمعنى الفراغ نحو : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩].

وأما القدر فلم يرد إلا بمعنى الكتابة والعلم نحو قوله :

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولى التي كان سطر

أمرك هذا فاجتنب (منه) (١) التبر .. أي الهلاك. أي علم وكتب.

ثم إن أهل القبلة اتفقوا على إثبات القضاء والقدر في جميع أفعال العباد بمعنى العلم والكتابة ، واتفقوا على نفيه بمعنى الأمر بكل أفعال العباد ، واختلفوا في هل قضاء أفعال العباد وقدرها بمعنى خلقها ، فأنكره أهل العدل ومنعوا إطلاق القول بأن أفعال العباد بقضاء الله وقدره ، ولقولهم بثبوته بمعنى العلم والكتابة ، ومنعوا القول أيضا من إطلاق نفي كونها بقضاء الله وقدره.

وأما المجبرة فلإثباتهم معنى الخلق أجازوا إطلاق القول بأنه بقضائه وقدره ، (والدليل على ذلك) هو أنه لا يصح إطلاق القول : (أن إطلاقه يوهم المعنى الفاسد ، وهو أنه تعالى خلقها) كما يقوله المجبرة ، (وذلك لا يجوز ؛ لأنا قد بينا) بالدليل القاطع فيما تقدم من مسألة خلق الأفعال (أن أفعالهم منهم لا منه تعالى).

وأيضا فقد وقع الإجماع على قبح الرضى بالمعاصي وأخبر الله عن نفسه أنه لا

__________________

(١) لفظة (منه) غير موجودة في الأصل ، وهي ثابتة في غير هذا الكتاب كالينابيع والأساس وغيرهما ، والبيت للعجاج ، وهو عبد الله بن روبة بن لبيد بن صخر السعدي التميمي ، العجاج شاعر راجز مجيد ولد في الجاهلية وقال الشعر فيها ثم أسلم ، توفي نحو سنة ٩٠ ه‍.

٨٤

يرضى لعباده الكفر.

وأيضا فقد وقع الإجماع على أن قضاء الله حق ، لقوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) [غافر : ٢٠].

ووقع الإجماع على أن الكفر باطل كما قال تعالى : (وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] فلو كانت المعاصي بقضائه لكانت حقا.

وأيضا إذا جاز القضاء بالمعاصي بمعنى الخلق جاز القضاء بمعنى الأمر ؛ لأنه ليس الأمر بالكفر بأبلغ من فعله في الكافر ومنعه من الإيمان.

واعلم : أنه قد اختلف في بيان القدرية (١) واتفق الناس على أنه اسم ذم لما ورد الأمر بذمهم ولعنهم ، والنهي عن مجالستهم وتشبيههم بالمجوس ، فعندنا أن المجبرة المعنيون به ودليلنا اللغة والمعنى والآثار.

أما اللغة : فهو أن الاسم إنما يشتقه أهل اللغة لمن أثبت الشيء لا لمن نفاه ، والخصوم أثبتوا القدر بالمعنى المختلف فيه ، ونحن ننفيه فهم أحق بهذا الاسم ، كما أن الموحد من أثبت الواحد ، والثنوي من أثبت الثاني ، والمجسم من أثبت التجسيم ، فكذلك القدري من أثبت القدر ، هكذا قيل ، وفي العبارة وهم ؛ لأن القدري ليس مشتقا من القدر بل منسوب إليه إذ هو اسم القدر زيدت عليه ياء النسبة ، فالأولى في تحرير العبارة أن القدرية اسم نسبة.

فإن قيل : قد أثبتم يا عدلية القدر ؛ لأنكم تجعلون المعاصي بقدر العبد فصحت النسبة والاشتقاق ، فأنتم إذا القدرية؟

فالجواب : أن هذه ليست من عبارات العدلية ولا يتولعون بذكر القدر بخلاف المجبرة ، ولا يقال أنه منسوب إلى القدرة ، فأنتم تقولون بها ؛ لأنكم تثبتون القدرة على

__________________

(١) القدرية : يطلق هذا الاسم على كل من يقول : بأن الله هو خالق أفعال العباد مثل المجبرة ، وهو الصحيح.

٨٥

أفعالكم ؛ لأنا نقول : لو كانت كذلك لكنتم أيضا قدرية ؛ لأنكم تثبتون القدرة لله تعالى ، وأكثر كم يثبت القدرة للعباد ، ويلزم أن يكون الله قدريا.

وأيضا فالنسبة إليها قدري بضم القاف وسكون الدال ، والأصل عدم تغيير النسبة ، فهلم الدليل إلى أنه من تغيير النسب فإنه خلاف الظاهر ، وأما من جهة المعنى فهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذمهم ونهى عن مجالستهم وحكم بأنهم شهود إبليس وخصماء الرحمن وشبههم بالمجوس ، فسبيلنا أن ننظر في معاني هذه الأطراف.

أما الذم فوجدناهم أحق به ؛ لأنهم أضافوا إلى الله كل قبيح من ظلم وعبث وسفه وتكليف ما لا يطاق ، والاضلال عن الدين ونحو ذلك مما لو نسبته إلى أحدهم لأنف منه ونفاه عن نفسه ، ونحن نقول : إن الله تعالى عدل حكيم منزه عن كل نقص في الذات منعم على كل الخلق ، له الحجة على المكلفين.

وأما النهي عن المجالسة ؛ فلأنا وجدنا في مجالستهم من المفسدة ما لا يخفى ، أما أولا : فلأنهم يغرون بالمعاصي ويسهلونها ، ويقولون ما قدّره الله كان ، وما لم يقدره لم يكن ، فلا وجه للصبر عن المعصية والتحفظ عنها.

وأما ثانيا : فلأنهم يؤيسون عن رحمة الله تعالى وعدله بتجويزهم أن يعذب من لا ذنب له ، إلى غير ذلك مما يجري مجراه.

وأما كونهم شهود إبليس وخصماء الرحمن فإن الله إذا قال : ما منعك أن تسجد ولم كفرت؟ فيقول : يا رب أنت منعتني من السجود وقضيت علي بالكفر ، فهو منسوب إليك ، ونسبته إليّ كذب لا صحة له ، ولا حجة لك عليّ ، فإذا قال الله : من شاهدك على ذلك فلا يجد غير أهل هذه المقالة.

قال الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ : وشهادتهم له ومخاصمتهم لله عزوجل تقديرية وبلسان الحال ، وإن كانوا هم وإبليس في الآخرة أحقر من أن يحاجوا الله بالأباطيل ، وينطقوا بالهجر من الأقاويل ، والمعنى أن هذا يكون قولهم لو قالوا ونطقوا بما كانوا

٨٦

عليه من الاعتقاد ، وهيهات هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون. انتهى.

وأما شبههم بالمجوس فمن وجوه : أحدها : أنهم ينكحون أمهاتهم وأخواتهم ويقولون : كل ذلك من الله تعالى ، وقول المخالفين كذلك.

ومنها : أن المجوس علقوا المدح والذم والأمر والنهي بما لا يعقل ، وهو الطبع ، والمخالفون علقوا ذلك بما لا يعقل ، وهو الكسب.

ومنها : أن المجوس يعلقون المدح والذم بما لا اختيار في فعله ولا تركه ، يحكى أنهم يرمون بالبقرة من شاهق ، ويقولون : انزلي لا تنزلي ، فإذا وقعت على الأرض ، قالوا : غصب وأكلوا لحمها ، وكذلك مذهب الخصوم في المؤمن والكافر.

وأما الآثار الدالة على ذلك ؛ فلأنه قد روي (أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيا ، وهم القدرية والمرجئة ، قيل : يا رسول الله : من القدرية؟ قال : الذين يعملون المعاصي ، ويقولون : هي من الله تعالى ، قيل : ومن المرجئة؟ قال : الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل» (١).).

وروى القرشي في منهاجه قال : روي في الفائق (٢) أنه قال : «لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا ، قيل : ومن القدرية يا رسول الله؟ قال : قوم يزعمون أن الله تعالى قدّر المعاصي عليهم وعذبهم عليها ، قيل : ومن المرجئة؟ قال : قوم يقولون : الإيمان قول بلا عمل» (٣).

__________________

(١) أخرجه من أصحابنا جمع كثير كالقاضي جعفر في الخلاصة ، والأمير الحسين في الينابيع وغيرهما ، وهو في رسائل العدل والتوحيد.

(٢) الفائق لابن الملاحمي.

(٣) هو في رسائل العدل والتوحيد إنقاذ البشر للشريف الرضي.

٨٧

وفيه أيضا : وروى أبو الحسن عن محمد بن علي المكي (١) بإسناده أن رجلا قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فارس فقال له النبي : «أخبرني بأعجب ما رأيت؟ قال : رأيت قوما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لم تفعلون؟ قالوا : قضاه الله وقدّره ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : أما إنه سيكون في هذه الأمة قوم يقولون بمثل مقالتهم أولئك مجوس أمتي» (٢).

وروي فيه عن جابر بن عبد الله (٣) قال : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ويقولون : قدرها الله تعالى ، الراد عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله» (٤).

وعن الأصبغ بن نباتة (٥) قال : قام شيخ إلى علي ـ عليه‌السلام ـ بعد انصرافه من صفين فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال علي ـ عليه‌السلام ـ : (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ، ولا هبطنا واديا ، ولا علونا تلعة (٦) إلا بقضاء الله وقدره ، فقال الشيخ : عند الله أحتسب عناي ما أرى أنّ لي من

__________________

(١) هو محمد بن علي المكي من الطبقة الثامنة ، قال أبو القاسم : وهو إمام نيسابور.

(٢) ومثله ما روي عن أنس بن مالك أنه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «مجوس العرب وإن صلوا وصاموا القدرية» ا. ه. أخرجه أبو نعيم في الحلية ، وروي عن أبي هريرة وابن عمر وجابر عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه قال : «القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ولا تصلوا عليهم ، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم فإنهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم به» أخرجه القاضي جعفر في خلاصة الفوائد والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ورواه أبو داود في سننه. ا. ه. وأخرجه الحاكم الجشمي ـ رحمه‌الله ـ في جلاء الأبصار عن ابن عمر أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم» قال : وفي حديث جابر : «فإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم فإنهم شيعة الدجال». ا. ه.

(٣) جابر بن عبد الله صحابي من الطبقة الثامنة في الفقه والحديث.

(٤) هو في رسائل العدل والتوحيد.

(٥) من الشيعة المعاصرين لأمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ ، له من الكتب عهد أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ إلى مالك الأشتر النخعي ، ووصيته إلى ابنه محمد بن الحنفية.

(٦) قوله : ولا علونا تلعة ، التلعة : ما ارتفع من الأرض.

٨٨

الأجر شيئا ، فقال له : مه (١) أيها الشيخ بل أعظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين ، فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقال : ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولم تأت من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان ، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها ، إن الله تعالى أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلف يسيرا ، ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، فقال الشيخ : فما القضاء والقدر الذي ما سرنا إلا بهما؟ قال : هو الأمر من الله والحكم ، ثم تلى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] فنهض الشيخ مسرورا وقال :

أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته

يوم الحساب من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه إحسانا (٢)

__________________

(١) قوله : فقال له : مه ، معناه : اكفف عن هذا الكلام واعتقاده. يقال : فما بال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أطلق القول بأن ذلك بقضاء الله تعالى وقدره ، مع أنكم قد منعتم إطلاقه ، لإيهامه الخطأ واحتماله المعنى الغير الصحيح كما سبق إلى فهم هذا الشيخ الذي راجعه؟ أجاب بعضهم : بأنه ـ عليه‌السلام ـ يجوز له إطلاق ما لا يجوز لنا إطلاقه لما ثبت بالدلالة من عصمته ، فلا يجوز للسامع أن يظن به قول الخطأ ولا اعتقاده لعصمته. ا. ه.

(٢) ذكر هذا الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ـ رحمه‌الله ـ في أماليه ، وأوردها الأمير الحسين في الينابيع ، والقاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام في خلاصة الفوائد ، وأخرجه الحاكم الجشمي في كتاب جلاء الأبصار ، وذكر سند هذه الحكاية ولفظه ، وقد بين أمير المؤمنين ذلك على وجه لا يبقى معه ريب فيما أخبرناه الشيخ أبو حامد أحمد بن محمد ـ رحمه‌الله ـ ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد الدينوري ، قال : حدثني أبو منصور عبد الله بن محمد ، قال : قرأت على أبي بكر أحمد بن عبد الله بن عبد المؤمن المكي بها في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ، قال : وقرأت على أبي العباس أحمد بن إبراهيم الكندي ، قالا : حدثنا الحضرمي أبو جعفر محمد بن عبد الله الكوفي عن الحسن بن زياد الكوفي عن محمد بن إسحاق الكندي عن زيد بن علي عن أبيه ـ

٨٩

فانظر في هذا الكلام الذي هو صريح في أنهم هم القدرية ، وهو من كلام سيد البشر الصادق المصدق ، ومن كلام باب مدينة العلم ومن هو على الحق والحق معه.

ولهم شبه في هذه المسألة ، منها أخبار آحادية لا تقبل في مثل هذه المسألة ، ومع ذلك فهي محتملة فلا نشتغل بإيرادها ، وتعلقوا بقوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤] فبين أنه بعث المؤمنين على محاربة الكفار وجرأهم عليه ، وكذلك بعث الكفار على المؤمنين وجرأهم عليهم ليقضي ذلك.

والجواب : ليس في ظاهرها من هذه الدعوى شيء ، والمراد بالقضاء التمام فقلل الكفار في أعين المؤمنين ؛ ليجترءوا عليهم تثبيتا لهم ونصرا ، وقلل المؤمنين في أعينهم ؛ لئلا يحترزوا منهم خذلانا لهم ؛ ليتم ما وعد من نصر المؤمنين وخذلان عدوهم وهلاكهم بأيدي المؤمنين.

ومنها : قوله تعالى : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [يوسف : ٤١].

والجواب : أن لفظ الأمر ليس فيه تصريح بما يدعيه الخصم ، وهو من الألفاظ المشتركة إلى غير ذلك مما لا تعلق لهم به من المتشابه.

وأيضا فإنه لا يصح الاستدلال بسمع قط لتجويزهم القبيح عليه تعالى ، ومع ذلك فما يؤمنهم أنه تعالى لم يرد بخطابه معنى من المعاني المفهومة ، بل تكلم به على جهة الهذر واللعب ، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا (أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره) ، وبطل ما زعموا.

__________________

عن جده ـ عليهم‌السلام ـ قال لما رجع علي ـ عليه‌السلام ـ من صفين وسردها وذكرها جمع من أصحابنا ، وذكرها المقدّم لرسالة أبي مرة تأليف الحاكم الجشمي ، وذكر من رواها من الإمامية وغيرهم بصفحة ٥ ، ٦ من تلك المقدمة. قال الدامغاني في رسالته : اسم هذا الشيخ (أزور بن ضرار).

٩٠

(المسألة الرابعة عشرة : أنّ الله تعالى لا يكلف عباده ما لا يطيقون)

وهذا قول الأكثر ، واتفق أهل الجبر إلا الغزالي (١) على جوازه ، وليس وجه الامتناع عنده الوجه الذي تعلل به العدلية وهو قبحه ، وأن الله تعالى لا يفعل القبيح ؛ لأن قاعدته نفي التقبيح العقلي ، بل علل بأن الطلب ممن لا يتأتى منه المطلوب محال كما يستحيل طلب الحركة من الشجرة ، ووافقونا إلّا الأشعري وأتباعه على أنه ممنوع سمعا ثم اختلفوا في صحة تكليف ما لا يعلم والعاجز ، فمنعه محققوهم وأجازه الباقون مع اتفاق الجميع على منع تكليف الجماد.

واعلم : أنه لا محصول لشيء من هذا الخلاف ؛ لأنهم متفقون على أن الله تعالى خالق لجميع الأفعال ، وأنه لا يوجد شيء إلا بقدرته ، فلا بد أن يكون التكليف بالأفعال تكليفا لما لا يطاق ولا ينجيهم من ذلك قولهم : إن للمؤمن قدرة على الإيمان ، وللكافر قدرة على الكفر ؛ لأنه لا معنى لذلك إلا أن الله أوجد الفعل عندها على ما يقولون ، (والدليل على ذلك) الذي ذهبنا إليه أن تكليف ما لا يطاق قبيح مع أنه معلوم قبحه على الجملة ضرورة لا يختلف فيه أهل العدل ، وإنما اختلفوا في العلم بقبحه تفصيلا وفي وجه قبحه ، وفي حق الله تعالى ، فالشيخان : أبو الحسين ومحمود ابن الملاحمي طردا القضية وقالا : كل ذلك معلوم بالضرورة ، قيل لهما : لو كان ذلك ضروريا لم يخالف المجبرة؟ فأجابا : بأنهم صنفان : عوام وعلماء ، فالعلماء منهم قلة فيجوز منهم التواطؤ على إنكار الضرورة لأغراض دنيوية ، والعوام هم السواد منهم ومن غيرهم ، وهم أتباع للناعق.

والذي عليه جمهور العدلية أنه لا يعلم قبح تكليف ما لا يطاق مفصلا وفي حق الله

__________________

(١) قال الغزالي في كتابه المنخول من تعليقات الأصول (ص ٢٤ تحقيق محمد حسن هيتو) : المختار عندنا استحالة تكليف ما لا يطاق ، قال : والدليل على استحالته أن الأمر طلب يتعلق بمطلوب كالعلم يتعلق بمعلوم ، فلا يكون مطلوبا ويستحيل طلبه إذ لا يعقل في نفسه. ا. ه.

٩١

إلا استدلالا.

وقالوا : على ذلك (إن تكليف ما لا يطاق قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح).

فإن قيل : (و) ما (الذي يدل على أن تكليف ما لا يطاق قبيح

قيل له : (هو معلوم) قبحه (ضرورة في حق الشاهد ، ألا ترى أنه يقبح في الشاهد منا أن يأمر الأعمى بنقط المصحف ، وأن يأمر المقعد بالجري مع الخيل العربية ، وأن يأمر من لا جناح له بالطيران ، وقبح ذلك معلوم ضرورة ، ولم يقبح ذلك إلا لكونه تكليفا لما لا يطاق) بدليل أن من علمه كذلك علم قبحه ، وإن جهل كل أمر من سمع وغيره ، (فلو كلف الله تعالى عباده ما لا يقدرون عليه لكان قبيحا ، والله تعالى لا يفعل القبيح).

ولهم شبه من جهة السمع والعقل ، فأما السمع فلا مدخل له في هذه المسألة ؛ لأنها مما لا يصح الاحتجاج فيها به عند البعض.

وأما العقل فقالوا : لو قدر أحدنا على الفعل لكان إما أن يقدر حال وجوده وهو محال ، لاستحالة إيجاد الموجود ، أو قبل وجوده وهو محال ؛ لأن القدرة إن كان لها أثر لزم حصول المقدور حال حصول الأثر ، وإن لم يكن لها أثر لزم أن لا يكون قدرة.

والجواب : أن هذا معارض بقدرة الباري تعالى وجوابهم جوابنا ، والتحقيق : أنّ القدرة ثابتة قبل الفعل ، ولها به تعلق يثبت حال ثبوتها ، وهو صحة إيجاده لها.

وأما التأثير : فمعناه أنه وجد بها ، وذلك لا يحصل إلا حال وجود المقدور ؛ لأنه هو وجود المقدور بها.

قالوا : قد كلف الله تعالى ما يعلم أنه لا يقع والقدرة على خلاف الفعل محال ؛ لأن ذلك يؤدي إلى انقلاب علم الله جهلا.

والجواب أن يقال : من سلم لكم استحالة القدرة على خلاف المعلوم ، ولو ادعينا

٩٢

الضرورة على القدرة على خلاف المعلوم لأمكن ، فإن أحدنا يعلم من نفسه أنه قادر على إلقاء خاتمه في البحر ، وعلى أن يسعى في السوق ويقتل نفسه فحينئذ لا حجة لهم ، (فثبت بذلك) الذي قررنا (أن الله تعالى لا يكلف عباده ما لا يقدرون عليه) وبطل ما قاله المخالف.

(المسألة الخامسة عشرة : في معنى أن الله تعالى عدل حكيم)

واعلم : أن الحكمة هي : كل فعل حسن لفاعله فيه غرض صحيح هذا إذا رجع بهذا الوصف إلى الفعل وهو الغرض ، فإن رجع به إلى الذات فالحكمة بمعنى العلم ، وعليه حمل قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] وقد اتفق أهل الإسلام على أنه تعالى يوصف بأنه حكيم ، ثم اختلفوا في المعني فقال أهل العدل : لا يفعل الله تعالى الفعل إلا لغرض (فلا يثيب أحدا إلا بعمله ولا يعاقب أحدا إلا بذنبه) ، وقالت المجبرة : يجوز أن يفعل لا لغرض ، بل يجوز أن يعذب الأنبياء ويثيب الأشقياء.

قال الإمام عز الدين : وهذا هو الظاهر من مذهبهم والذي تقضي به نصوصهم ، وصرح به الرازي في نهايته ، واحتج لصحته بأن الغرض في فعل الله تعالى إذا كان عائدا إلى غيره ، فهل له في انتفاع ذلك الغير غرض يعود عليه فيلزم صحة الحاجة عليه ، أو لا غرض فيه يعود عليه فيلزم كون وجود ذلك الفعل وعدمه بالنظر إليه على سواء ، ومع ذلك فلا معنى لكونه غرضا مرجحا للإيجاد.

ويمكن الجواب : بأن حاصل دليلك هذا إنكار أن يكون النفع العائد إلى الغير غرضا وهو نفس المتنازع فيه ، فإنا نقول : أنه غرض صحيح ، وأنه يعلم بالعقل حصول الغرض في إرشاد ضال عن الطريق ، وإطعام جائع قد أشرف على التلف ، وإن فرضنا عدم العلم بحصول نفع في ذلك يعود إلى المرشد والمطعم بأن لا يخطر بباله ثناء ولا ثواب ، أو

٩٣

بأن يكون ممن ينكر ذلك أو يجهله (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح ، وهو مذهب العدلية (أن المجازاة) بالثواب والعقاب (لمن لا يستحقها قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح ، أما الدليل على أنه لا يثيب أحدا إلا بعمله فهو أن الثواب يتضمن التعظيم).

قال الشارح المحقق : لا يخفى ما في هذه العبارة من الركة ؛ لأن الاشتغال بإبانة أن الثواب لمن لا يستحقه قبيح ، وفي تصدير الكلام في قوله : أما الدليل على أنه لا يثيب أحدا إلا بعمله رجوع إلى نفس المسألة لا إلى الاستدلال على أصلها المبنية عليه هي ، وإنما قلنا : يتضمن التعظيم ؛ لأن حقيقته المنافع المستحقة على جهة التعظيم ، (و) معلوم قطعا (أن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح) ، دليله ما نعلمه في الشاهد (ألا ترى أنه يقبح من الواحد منا تعظيم البهائم كتعظيم الأنبياء وتعظيم الأجانب كتعظيم الوالدين) وأن من أهان وليه وأعز عدوه فلا شك في سخافته ، (وإنما قبح ذلك ؛ لكونه تعظيم من لا يستحق التعظيم) ، إذ لا نجد ما يتعلق الحكم به أولى فثبت أنها هي العلة ، وإذا ثبت ذلك لزم أن إثابة الباري من لا يستحق الثواب قبيحة وقد قدمنا أن الله لا يفعل القبيح كما بيّناه.

(وأما الدليل على أنه لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ، فلأن عقاب من لا يستحق العقاب يكون ضررا عاريا عن جلب نفع ، أو دفع ضرر أو استحقاق ، وهذه حقيقة الظلم) والعقاب هي المضار المستحقة على جهة الإهانة.

قال الدواري : الأجود في حقيقة الظلم أن يقال : هو الضرر العاري عن استحقاق ، أو جلب منفعة أو دفع مضرة ، أو الضرر الذي لا يعرى عنها أو عن أحدها ، ولم يقض الشرع أو العقل بحسن ذلك الضرر ، أو العاري عن ظن جلب النفع أو دفع الضرر ، أو الذي لا يعرى عن ظن ذلك ، ولم يكن فعله حسنا ولا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر.

وقال أيضا : وأوجز من هذه الحقيقة ما ذكره المؤيد بالله والحاكم في حقيقة الظلم

٩٤

فقالا : حقيقة الظلم : هو الضرر القبيح ، والدليل على أن ذلك الضرر ظلم ، أن من علم ضررا هذا حاله علمه ظلما ، ومن لم يعلمه بهذه الصفة لم يعلمه ظلما ، (والظلم قبيح) بدليل أن القبح وعدمه يدور على العلم بكونه ظلما وجورا وعدما ، (والله تعالى لا يفعل القبيح) ، وقد جاء السمع بتصحيح ما ذكرنا (قال تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [النجم : ٣٨](وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عدله وحكمته ، وبهذا نستدل على أن الله تعالى لا يعذب أطفال المشركين لفعل آبائهم القبائح.

(وأما أنه تعالى لا يفعل القبيح فقد تقدم بيانه) ، وتقدم الدليل عليه (فثبت بذلك أن الله لا يثيب أحدا إلا بعمله ، ولا يعاقبه إلا بذنبه).

٩٥

(المسألة السادسة عشرة)

أنّ الله تعالى يريد الطاعات ولا يريد الظلم وسائر القبائح

واعلم : أن عادات المصنفين في علم الكلام تختلف في ذكر إرادة الله وكراهته وما يريده وما يكرهه ، فمنهم من يذكر جميع ذلك في باب التوحيد ؛ نظرا إلى أن كونه تعالى مريدا أو كارها من صفاته الثابتة وأحواله التي تستحقها ذاته ، وذكر ما يريده وما يكرهه من فروع ذلك ولواحقه.

ومنهم من يذكر ذلك جميعه في باب العدل نظرا إلى أن مقتضى العدل والحكمة أن يريد الطاعات ويكره المعاصي ، وأن خلاف ذلك ينافي الحكمة ، وإذا عرفت ذلك فقد ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى مريد لجميع أفعاله ما خلى الإرادة والكراهة ، وأنه تعالى مريد لجميع الطاعات من أفعالنا ما حدث منها وما لم يحدث ، و (أنه لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد).

وذهب سائر فرق المجبرة من الأشعرية والكلابية والنجارية إلى أن الله تعالى مريد لجميع ما حدث من الكائنات ، طاعة كان أو معصية ، وأنه لا كائن في عالمه إلا وهو متعلق بإرادته ، وما لم يحدث منها فإنه لا يريده طاعة كان أو معصية ، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل (أن الرضى والمحبة يرجعان إلى الإرادة) ، فإذا قد قام الدليل على عدم الرضى ، وعدم المحبة للقبيح كان غير مريد لهما ، وبيانه أن الرضى والمحبة من جنس الإرادة وإن كانا لنوعين مخصوصين منها فالرضى اسم للإرادة المتقدمة المتعلقة بفعل الغير بشرط وقوع ذلك الفعل ، والمحبة اسم للإرادة التي تطابق الداعي وقد يخلق الله فينا إرادة بما لا داعي لنا إليه كدخول النار فإنه يسمى إرادة ولا يسمى محبة.

فقول الشارح المحقق بترادفهما فيه ما فيه ، (والذي يدل على ذلك) الذي ذهبنا إليه من العقل (أن إرادة القبيح قبيحة ، والله تعالى لا يفعل القبيح) والعلم بذلك

٩٦

ضروري ، (وهو مما لا خلاف فيه) في الشاهد عند زوال اللبس ووجوه الشبه ، (ولهذا أن العقلاء يذمون من أراد القبيح كما يذمون من فعله ، وتسقط منزلة المريد للقبيح كما تسقط منزلة من فعله) ، وما ذاك إلا لكونه قبيحا ولا وجه لقبحه إلا كونه إرادة للقبيح ، لأنا عند العلم بذلك نعلم قبحه وإن جهلنا كل أمر ، وعند الجهل بذلك لا نعلم قبحه.

ولنا على ذلك أيضا أن الله تعالى لو كان مريدا للمعاصي لكان الفاعل لها مطيعا ؛ لأن من فعل ما أراده المطاع وصفه أهل اللغة بأنه مطيع ، وقولهم بل المطيع من فعل ما أمر به المطاع غير مسلم ؛ لأن العبد يوصف بأنه مطيع لسيده وإن لم يصدر منه أمر حيث فعل مراده ، وإن سلمنا فلا ينجيهم ؛ لأن الأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة.

(و) أما الدليل على ذلك من السمع : فإنه (قد) جاء السمع بذلك حيث (قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] وقال تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١](وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)) [البقرة : ٢٠٥] ونحو : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] أي ما يؤدي إلى اليسر من الطاعة ، ولا يريد بكم العسر وهو ما يؤدي إلى العسر من المعصية ، هكذا فسره بعضهم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه مسلم : «إن الله يقول للعبد العاصي إذا جاء يوم القيامة أردت منك أيسر من ذلك» فصرح بأنه أراد منه الطاعات التي لم يفعلها ، وقوله تعالى :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] وهذه لام الغرض بلا شبهة ، والغرض والإرادة واحدة في الأغلب بلا خلاف ، وقوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] إلى غير ذلك من الآيات.

وأما ما تعلق به المخالف فإنه تعلق بشبهتين من قبل العقل فقالوا : الإرادة مطابقة للعلم ، فما لا يعلم الله وقوعه لا يصح أن يريده.

والجواب : أن هذه دعوى محض ومحل النزاع ، وأيضا فكيف يصح ذلك عندهم أن

٩٧

كونه مريدا ككونه عالما في أنها تستحق للذات أو لمعنى قديم؟ فلم كانت إحداهما تطابق الأخرى أولى من العكس؟ وهلا طابقت القدرة كما هي مطابقة للعلم؟ أو هلا كانت القدرة والعلم مطابقين للإرادة؟ وما وجه هذه التحكمات من غير دليل؟

الشبهة الثانية : قالوا : لو وقع في ملك الله ما لا يريده لدل على عجزه قياسا على الشاهد.

والجواب أولا : بأنهم يمنعون قياس الغائب على الشاهد ويقولون لا يقاس بالناس فكيف قاسوا هنا؟

وثانيا : أنه معارض بالأمر ، فلو وقع في ملك الله خلاف ما أمر به أو ما نهى عنه لدل على عجزه قياسا على الشاهد بل مخالفة أمر الملك في الشاهد أدل على عجزه من مخالفة إرادته.

وأما السمعيات فقد منعوا من الاستدلال بها ؛ لتجويزهم القبيح على الله تعالى.

وأيضا فما ذكروه من الأدلة محتمل يجب رده إلى المحكم ، (فثبت بذلك أن الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر ، ولا يحب الفساد) فبطل ما قاله المخالف.

٩٨

(المسألة السابعة عشرة في الآلام)

واعلم : أنّ الألم جنس من الأعراض متميز عن غيره راجع إلى النفي (١) ، واللذة من جنسه ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بمقارنة الشهوة أو النفرة ، فما قارنته الشهوة فلذة ، وما قارنته النفرة فألم ، ودليل كونهما جنسا واحدا أن الواحد منا قد يتألم بما يلتذ به ويلتذ بما يتألم به كالحك وغيره.

وحقيقة الألم : المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة ، فقولنا : بمحل الحياة فيه قيد يمتاز به عن سائر المدركات ؛ لأن سائرها يدرك بمحل الحياة في غيره ، فلهذا كان فصلا.

وأما الغم : فإنه اعتقاد الحي أو ظنه بأن عليه أو على من يحب في فعل الغير فوت نفع أو جلب ضرر في الحال أو في المستقبل.

واعلم : أن الآلام مضرة عاجلة ووجوه حسنها خفية غير ظاهرة ، فلذلك ضل كثير من الناس حتى كان ذلك شبهة في إثبات ثان مع الله تعالى وفي جواز كل قبيح على الله تعالى.

وفي التعطيل عند ابن الراوندي (٢) حيث رأى أهل الفضل والعلم مبتلين بمقاسات

__________________

(١) إشارة إلى مذهب أبي إسحاق بن عياش أن مرجع الألم إلى النفي ، وهو خروج الجسم عن حد الاعتدال ، تمت.

(٢) هو أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي من أهل الطبقة الثامنة من المعتزلة ، ألحد في الدين وتزندق ، وصنف كتبا في الإلحاد ، وصنف لليهود والنصارى والثنوية وأهل التعطيل ، وصنف فضائح المعتزلة ، ورد عليه أبو الحسين الخياط بكتاب الانتصار ، والبيتان أكبر دليل على سخافته ، ويستشهد بها البيانيون في باب المسند إليه أن يكون باسم الإشارة ، لكمال العناية بتمييزه أكمل تمييز بحكم بديع فقوله : (هذا الذي) كان القياس فيه الإضمار بأن يقال : هو فعدل إلى اسم الإشارة لكمال العناية بتمييزه بأن هذا الشيء المتميز المتعين هو الذي له الحكم العجيب ، وهو جعل الأوهام حائرة والعالم النحرير زنديقا ، فالحكم البديع هو الذي أسند للمسند إليه المعبر عنه باسم الإشارة ، ا. ه.

٩٩

الفقر والأمراض والمصائب ، وأهل الجهالة والوضاعة بالعكس حتى أنشد البيتين المعروفين :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصيّر العالم النحرير زنديقا

وكذلك أبو عيسى الوراق (١) فإن ذبح البهائم صار له شبهة حتى صنف كتابا سماه النوح على البهائم ، وكان السبب في ذلك نفار الطبع عن هذه الآلام وميله إلى اللذة.

(واعلم أن جميع الآلام والنقائص) إذا كانت من أفعالنا ، فإنها تحسن إذا كانت لجلب نفع أو دفع ضرر أعظم ، أو استحقاق ، أو لظن أحد الوجهين المتقدمين ، وهذا لا شبهة فيه ، فإن كل عاقل يعلم حسن تحمل المشاق في الأسفار ومعالي الأمور ومشاق التعليم طلبا للمنافع سواء كانت معلومة أو مظنونة ، وكذلك يستحسنون الفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة ونحو ذلك طلبا لدفع مضار هي أعظم منها سواء كان اندفاعها معلوما أو مظنونا.

وأما الظن لاستحقاق الألم فقيل لا يحسن إنزاله بالظن ؛ لأن المنزل له يكون مقدما على ما لا يأمن من كونه ظلما ، وقال أبو هاشم : يحسن واحتج بإنزال الحدود عند الشهادة التي لا تفيد إلا الظن ، وأجيب بأن ذلك ورد به الشرع لمصلحة شرعية حتى لو تركنا والعقل لما استحسنه.

وأما الآلام والنقائص (النازلة بالأطفال والمجانين ، وسائر الممتحنين اللاتي من الله تعالى) ، وكذلك المضار اللاتي لا تتوقف على اختيارنا كفساد الثمار واجتياحها بالبرد والبرد ، فالذي عليه أهل الإسلام وكثير من الخارجين عنه أن ذلك فعل الله تعالى

__________________

(١) أبو عيسى الوراق : هو محمد بن هارون ، ذكر المسعودي في المروج : أن له كتابا اسمه المجالس ، ونقل سنة موته وهي ٢٤٧ ه‍ ونقلوا عن أبي علي الجبائي أن السلطان طلب ابن الراوندي وأبا عيسى الوراق ، فأما أبو عيسى فحبس حتى مات ، وأما ابن الراوندي فهرب إلى ابن لاوى اليهودي ا. ه.

١٠٠