الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي

الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

المؤلف:

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي


المحقق: عبدالرحمن بن حسين شايم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٣

وتعلق بما ورد من أنه تعالى يفرح بتوبة العبد ، وبما ورد في الأخبار : «لا أغير من الله تعالى» وبقوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣] والصحيح خلاف ذلك جميعا ؛ (لأن ذلك من توابع الجسمية والتحيز ، وهو تعالى ليس بجسم ولا متحيز) وأن هذه ألفاظ وردت في حقه على سبيل المجاز.

واعلم : أن من أثبت التجسيم أثبت توابعه من الكون في جهة ، والاستقرار على مكان ، ومن نفاه فمن حقه أن ينفي توابعه كلها.

وعن بعض الكرامية (١) نفي التجسيم وإثبات الجهة ، وأنه تعالى بجهة فوق ، وعن الكلابية (٢) صحة وصفة بأنه على العرش بلا استقرار ، ويبطل قولهم جميعا أن الجهة والمكان من لوازم الجسمية وتوابعها ، فلا يتصور ذلك مع نفيها الذي قامت الدلالة عليه وشبهتهم ما ورد من السمع مما يقتضي بأنه تعالى فوق كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨](إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ، (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨] وما ورد من رفع اليدين عند الدعاء وهو متعارف عند الأمة غير متناكر.

والجواب : أن الأدلة العقلية قد قامت على نفي الجسمية وفي ذلك انتفاء لوازمها من الفوقية وغيرها ، ويجب تأويل ما قضى ظاهره بخلاف ما قامت الدلالة القاطعة عليه ، وتأويل مثل تلك الآيات والأفعال ظاهر غير مستور عند من له أدنى مسكه بعلم البيان ، وكذلك لا يجوز عليه ما يجوز على الأعراض ، ولذلك قال : (و) هو (لا يجوز عليه تعالى العدم والبطلان) والتضاد (والحلول في المحال ؛ لأن ذلك من توابع

__________________

(١) الكرامية : هم أتباع محمد بن كرام السجزي النيسابوري ، إمام الكرامية ، ولد بسجستان وجاور بمكة سنين ، ثم انتقل إلى نيسابور ومات بالقدس سنة ٢٥٥ ه‍ وقد بقوا في خراسان حتى أوائل القرن السابع الهجري ، وكانوا يقولون : بأن الله تعالى مستقر على العرش ، وأنه جوهر إلى غير ذلك من آرائهم الشاذة.

(٢) الكلابية : هم فرقة من نابتة الحشوية أتباع محمد بن عبد الله بن كلاب القطان ، وهو من نابتة الحشوية ورئيس الفرقة الكلابية ، مات بعد سنة ٢٤٠ ه‍ وهو أول من عرف عنه القول بقدم كلام الله.

٦١

الأعراض ، وهو تعالى ليس بعرض) لما قررنا من أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض فلا يثبت له ما يتفرع عليهما.

تنبيه : قال أصحابنا : يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى لا يشبه الأجسام والمتحيزات فيما لم يزل وفيما لا يزال ، ولا يصح عليه مشابهتها في حال من الأحوال ، ولا توابعها من الحركة والسكون ، والصعود والهبوط والموت والعجز ، والجهل والهرم ، والسقم والحاجة ، وأنه ليس بعرض ولا يشبه الأعراض فيما لم يزل وفيما لا يزال ، فلا يصح كونه كذلك في حال من الأحوال ، ولا يصح عليه خصائصها ولوازمها المتقدم ذكرها (فثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء) وأنه يجب على المكلف اعتقاد ذلك. والله أعلم.

٦٢

(المسألة الثامنة : أنّ الله تعالى غني)

وقد عدّها كثير من الأصوليين من صفات النفي ، (وحقيقة الغني) في اللغة : من استغنى بما في يده عما في أيدي الناس ومنه : «القناعة رأس الغنى».

وفي اصطلاح الفقهاء : هو من ملك النصاب أو ما قيمته نصاب ، وقيل : من ملك الكفاية.

وأما في اصطلاح المتكلمين : فالغني : (هو الحي الذي ليس بمحتاج) هذه الحقيقة لا تثبت إلا في حق الله تعالى ، فأما من عداه من الأحياء فهم محتاجون إليه تعالى ، بل يحتاج بعضهم إلى بعض ، فلا بد من اعتبار الطرفين في هذه الحقيقة كونه حيا ، إذ لو لم يكن حيا لم يوصف بالغنى كالجماد والأعراض ، وكونه غير محتاج إذ لو احتاج إلى شيء لم يكن غنيا.

واعلم : أنه لا خلاف بين أهل الإسلام ومن أقر بالصانع في أنه تعالى غني إلا فرقة من اليهود حكى الله عنهم نسبة الحاجة إليه حيث قال : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] وقد قيل : إن القائلين بذلك لم يقولوه عن اعتقاد ، وإنما أوردوه على جهة الإلزام للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتهكم بما جاء به من قوله :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] (والدليل على ذلك) القول الصحيح (أن الحاجة) الاصطلاحية التي هي الدواعي والصوارف ، وهي ما يدعوا إلى جلب نفع له ، أو يصرفه عن جلب ضرر إليه ، والداعي هو ما يرجح وجود الفعل على عدمه من غير تأثير ، والصارف هو ما يرجح عدم الفعل على وجوده من غير تأثير ، فهذه (لا تجوز إلا على من جازت عليه الشهوة والنفار) ؛ وذلك لأن النفع والضرر مأخوذ في تلك الحاجة (١) ، والمنفعة هي اللذة والسرور ، أو ما أدى إليهما أو إلى

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعل العبارة (مأخوذ في حد الحاجة) ا. ه.

٦٣

أحدهما ، والمضرة : هي الألم والغم ، أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما ، واللذة والألم مأخوذان في تعريف المنفعة : هما المعنى المدرك بمحل الحياة فيه ، لكن إن قارنه شهوة سمي لذة ، وإن قارنه نفار سمي ألما ، فبهذا التدريج صارت الحاجة من ملازمات الشهوة والنفار (و) وجب القطع (بأن الشهوة والنفار لا يجوزان إلا على من جازت عليه اللذة والألم ، واللذة والألم لا يجوزان إلا على من جازت عليه الزيادة والنقصان) من حيث يزداد جسم أحدنا بتناول ما يشتهيه ، وينقص بتناول ما ينفر عنه (والزيادة والنقصان لا يجوزان إلا على من كان جسما) ؛ إذ المرجع بالزيادة إلى انضمام بعض الأجزاء المتحيزة إلى بعض والمرجع بالنقصان إلى افتراق بعض الأجزاء المتحيزة من بعض (وهو تعالى ليس بجسم ؛ لأن الأجسام محدثة وهو تعالى قديم على ما تقدم) وهذه علة أبي هاشم (١) في امتناع الشهوة والنفار عليه تعالى ، واعترضه الشيخ أبو إسحاق : بأنه لا يصح كون الشهوة مؤثرة في زيادة الجسم ، إذ ليست من الأسباب المولدة ولا المتحيزات مما تولد عن غيرها ، فلا يصح أن تولد الشهوة تلك الأجزاء ، ولا أن تولد اجتماعا ولا تأليفا ، وكذلك النفرة لا يصح أن تولد افتراق الجواهر ولا أن توجد عدمها ، فحينئذ علمنا أن تلك الزيادة والنقصان من جهة الله تعالى أجرى العادة بذلك ، ولو قدرنا أن الله تعالى مشته ونافر لم يمتنع ألّا يثبت ما مجراه العادة في حقه تعالى ، ولا تزداد ذاته ولا تنقص بإدراك ما يشتهيه أو ينفر عنه ، لا سيما وذلك لا يصح عليه ، بل هو مستحيل في حقه تعالى ، وقال الجمهور في امتناع الشهوة والنفرة عليه ؛ لأنه لو جاز أن يشتهي لكان إما أن يشتهي لذاته أو لما هو عليه في ذاته ، أو بالفاعل أو لمعنى ، والأول باطل وإلّا وجب أن يشتهي جميع المشتهيات فيكون ملجأ إلى فعلها دفعة واحدة ، وإلى أنه يوجد أكثر مما أوجد وأكبر ، وقبل الوقت الذي أوجد المشتهيات فيه ؛ لتوفر دواعيه إلى جميع ذلك ، والثاني باطل لما تقدم من أن

__________________

(١) أبو هاشم : هو عبد السلام بن محمد بن سلام (مخفف) بن خالد بن أبان بن حمران مولى عثمان بن عفان الجبائي المعتزلي أبو هاشم ، قال ابن خلكان : هو الإمام في مذهب الاعتزال المتكلم بن المتكلم ، العالم بن العالم ، كان هو وأبوه من كبار العلماء ، وولادته سنة ٢٤٦ ه‍ توفي ، سنة ٣٢١ ه‍ ببغداد.

٦٤

القديم لا فاعل له ولا لشيء من صفاته ، ولأن تأثير الفاعل لا يتعدى تأثير إحداث الذات وإخراجها من العدم إلى الوجود وتوابع الحدوث ، وهي الوجوه التي يقع عليها الفعل ككون الكلام أمرا أو خبرا ، وكون الفعل طاعة أو معصية. والثالث : باطل ؛ لأن المعنى إن كان قديما لزم أن يشتهي أكثر المشتهيات فيوجد أكثر مما أوجد قبل الوقت الذي أوجد فيه ، وإن كان معدوما فلا اختصاص للشهوة المعدومة لمشتهى دون مشتهى ، وإن كان المعنى محدثا لزم ذلك أيضا ، ومثل هذا الكلام يجيء في أنه تعالى لا يجوز أن يكون نافرا إلا في كونه نافرا بنفار محدث ، فإنه يقال : لو جاز عليه النفار المحدث لجازت عليه الشهوة المحدثة ، إذ لو قلنا : كان يلزم أن يكون ملجأ إلى أن لا يخلق شيئا من النفرة ولا من المنفّر لكان لقائل أن يقول : إنه يخلق لنفسه نفرة عن منفرات لم يخلقها ، ولا يخلق نفرة عن المنفرات التي خلقها (فثبت بذلك) المذكور من الأدلة (أن الله تعالى غني) لا يحتاج إلى شيء أصلا.

تنبيه : قال أصحابنا : يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أن الله تعالى غني لا تجوز عليه الحاجة في شيء أصلا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأنه غني فيما لم يزل وفيما لا يزال ، ولا تجوز عليه الحاجة في حال من الأحوال.

٦٥

(المسألة التاسعة) : في استحالة الرؤية على الله تعالى

فالذي ذهب إليه العدلية جميعا والنجارية (١) من المجبرة (٢) والخوارج والمرجئة (٣) ، وأكثر الفرق الخارجة عن الإسلام (أن الله تعالى لا يرى بالأبصار) ولا يرى نفسه (لا في الدنيا ولا في الآخرة) ، وذهبت المجسمة وأكثر أهل الجبر إلى أنه يرى نفسه ويراه غيره ، وبعض المجسمة تقول : أنه مدرك بكل الحواس ويرى في جهته على حد رؤية الأجسام ، ويرى بالحاسة من دون معنى ، والأظهر من مذهب الأشعرية (٤) أنه لا يرى بحاسة غير حاسة الرؤية ، وذهب ضرار (٥) إلى أنه يرى بحاسة سادسة غير الحواس الخمس ، واتفقوا جميعا أنه لا يرى في جهة لا خلف ولا أمام ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال. قال أصحابنا : وهذه رؤية غير معقولة.

قال الإمام يحيى بن حمزة ـ عليه‌السلام ـ : ويقرب أن يكون الخلاف بيننا وبين

__________________

(١) النجارية : بناحية الري منسوبون إلى الحسين بن محمد النجار.

(٢) المرجئة : سميت بذلك ؛ لتركهم القطع بوعيد الفساق ، وذلك جامع مذهبهم ، ومنهم عدلية وجبرية ، والمجبرة كلهم مرجئة ، والمجبرة يسمون مجورة وقدرية ، ولا يرضون بها ، بل يسمون أنفسهم : أهل السنة ، ويجمع مذهبهم القول بخلق الأفعال وإرادة المعاصي ، وأن الله يعذب من يشاء بغير ذنب ، وأنه تعالى يفعل الفعل لا لغرض ، وأنه لا يقبح منه شيء ، وأن القبائح بقضائه وقدره إلى غير ذلك ، وأما الخوارج فيسمون الشراة والحرورية والمحكمة ويرضون بذلك ، والمارقة ولا يرضون به ، ويجمعهم إكفار عثمان وعلي وكل من أتى كبيرة ، وفرقهم خمس : الأزارقة ، والصفرية ، والإباضية ، والبيهسية ، والنجدات ، وأنشأ مذهبهم عند التحكيم : عبد الله بن الكوّاء وعبد الله بن وهب. ا. ه.

(٣) الخوارج : أهل النهروان الذين خرجوا على أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، وهم فرق منهم النجدات والأزارقة والإباضية وغيرهم.

(٤) الأشعرية : هم أتباع أبي الحسن على بن إسماعيل الذي أنشأ مذهب الأشعرية بعد أن كان معتزليا ، شيخه أبو علي الجبائي ، توفي عام ٣٣٠ ه‍.

(٥) ضرار بن عمرو الغطفاني قاض من كبار المعتزلة طمع في رياستهم في بلده فلم يدركها ، فخالفهم فكفروه وطردوه ، وصنف نحو ثلاثين كتابا ، قال فيه الجشمي : ومن عده من المعتزلة فقد أخطأ ؛ لأنا نتبرأ منه فهو من المجبرة ، توفي نحو ١٩٠ ه‍ ، ا. ه أعلام.

٦٦

الأشعرية في هذه المسألة لفظيا كما ذكره المحققون من متأخريهم ، فإنّ الغزالي (١) ذكر في كتاب الاقتصاد : أن الرؤية عبارة عن تجل مخصوص لا ينكره العقل ، وهذا العلم بعينه ونحن لا نأباه ، وقال الرازي (٢) في النهاية : بعد تحرير الأدلة العقلية لهم أنها ليست بقوية ، قال : ويقرب أن يكون الخلاف في المسألة لفظيا. انتهى.

قال الإمام عز الدين في المعراج : واعلم أن من طالع كتبهم ، كالأربعين للرازي وعرف احتجاجهم ، وتصفح كلامهم علم أن خلافهم معنوي ، وأنهم يثبتون الرؤية التي هي الإدراك ، إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا يحتاج في الاحتجاج على هذه المسألة إلى الرد على المجسمة ؛ إذ لا نزاع بيننا وبينهم فيها على الحقيقة ؛ لأنهم مسلّمون أن الله تعالى لو لم يكن جسما لم يصح رؤيته ونحن نسلم لهم أنه لو كان جسما لصحت رؤيته ، فالكلام عليهم في إبطال التجسيم ، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل : أن من أدركته الأبصار فقد أحاطت به الأقطار ؛ لأن الرؤية المعقولة إنما تكون في جهة ومقابلة ، والله تعالى يتعالى عن الجهة والحلول.

قال الهادي عليه‌السلام : وأنها لا تدركه الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ لأن كل ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف ذليل محتاج محوي محاط به له كل وبعض ولون ... إلخ.

وقال : من زعم أن الأبصار تدركه ، وأن العيون تراه مجاهرة فقد قال قولا عظيما ، أو يقال : ويرى في القيامة بشيء مما عليه العباد فقد قال إفكا مبينا ؛ لأن كل من وقعت عليه الرؤية فمحدث ، فلا عين تراه ولا يدرك بأداة.

ومعنى ذلك عن علي كرم الله وجهه في الجنة وغيره ، ذكره في البدر الساري للوالد

__________________

(١) هو محمد بن محمد الغزالي الأشعري ثم الزيدي الطوسي الملقب حجة الإسلام ، قرأ على الجويني بطوس إلى أن توفي وانتقل إلى العراق ، وله المؤلفات المشهورة كالإحياء والمستصفى والمنتخب وغيرها.

(٢) هو فخر الدين الرازي محمد بن عمر ، من أكابر علماء الأشاعرة ومتكلميهم له مؤلفات كثيرة فيها التفسير الكبير مفاتيح الغيب ، والنهاية في أصول الدين وغيرهما توفي سنة ٦٠٦ ه‍.

٦٧

العلامة محمد بن عز الدين المفتي ـ رحمه‌الله ـ ، وهذا الذي تقدم صدر الدليل هو الدليل المسمى دليل المقابلة.

وذهب جماعة من الآل إلى الاستدلال بالدليل المسمى دليل الموانع ، وهو (أنه لو كان يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن) ، ومعلوم بالضرورة أنا لا نراه الآن كما سيأتي ، وإنما قلنا : لو كان يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه ؛ فذلك (لأنّ) من المعلوم قطعا أن (الحواس) التي لو أدرك المدرك لما أدرك إلا بها (سليمة) بدليل أن المدركات تدرك بها ، ولو كانت سقيمة لم تدرك (والموانع مرتفعة) ، وهي ثمانية : البعد ، والقرب المفرطان ، والرقة واللطافة ، والحجاب الكثيف ، وكون المرئي في خلاف جهة الرائي ، وكون محله في بعض هذه الأوصاف ، وعدم الضياء المناسب للعين ، (وهو تعالى موجود) كما تقدم وحاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، (وهذه الأمور) الأربعة (هي التي تصح معها رؤية المرئيات) ، والخامس : أن هذه الشرائط هي التي يجب معها رؤية المرئيات ، فهذه خمسة أصول ، وأما أن الحواس سليمة فقد تقدم دليله ، وأما ارتفاع الموانع في حقه تعالى ؛ فلأنها إنما تمنع من رؤية الأجسام والألوان ، وليس بجسم ولا لون تعالى عن ذلك ، وأما أنه تعالى موجود فقد تقدم ، وأما أن هذه الشرائط هي التي معها ترى المرئيات ؛ فلأنه قد حصل المقتضي ، وهو كون أحدنا حيا ، وشرط الاقتضاء وهو صحة الحاسة ، وزوال المانع ووجود المدرك ، فيجب حصول المقتضى ، وهو كون أحدنا مدركا له تعالى ، ومتى قيل هو يرى ، وقولكم : لم نره الآن دعوى تحتاج إلى برهان.

قلنا : (والذي يدل على أنا لا نراه أنا لو رأيناه الآن لكان معلوما بطريق المشاهدة ، ومعلوم ضرورة أنا لا نشاهده الآن ، فثبت) بذلك المذكور من دليل العقل القطعي (أن الله لا يرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد) جاء السمع مؤكدا لما دل عليه العقل من نفي الرؤية حيث (قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الأنعام : ١٠٣] فنفى تعالى أنه يدرك بالبصر مطلقا في

٦٨

كل وقت ولكل بصر ؛ لأن الفعل وقع في سياق النفي المطلق ، والأبصار جمع معرّف بالألف واللام ، وكل ذلك يوجب الاستغراق ويفيد القطع في مثله على المختار ، وهذه المسألة أيضا مما يصح الاستدلال عليها بالسمع ، وتشكيك الرازي ونحوه فيها لا يسمع.

قالوا : قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣] وفي الحديث : «سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر».

قلنا : معنى قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : منتظرة لرحمته إذ ذلك أحد معانيه ويوجب حمله عليه ما تقدم من الأدلة فدون ذلك يصرف عن حمل المشترك على معانيه الغير متنافية إلى أحدها ، والنظر قد ورد بمعنى الانتظار كثيرا كقوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٩] أي منتظرة ، وقوله تعالى حاكيا عن الأشقياء : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] أي انتظرونا ، وقوله تعالى : (وَقُولُوا انْظُرْنا) [البقرة : ١٠٤] أي انتظرنا ، قال الشاعر حسان بن ثابت :

إلى الرحمن باني بالخلاص

وجوه يوم بدر ناظرات

والخبر (١) مقدوح فيه بروايته عن قيس بن أبي حازم (٢) وجرير بن عبد الله البجلي (٣) ، فإن صح مع بعده فمعناه ستعلمون ربكم كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] ، ورأيت الله إذ ..... البيت (٤) ، وغير ذلك مما يكثر تعداده ، ومع ذلك فهو ظني لا يقاوم القاطع ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) انظر الينابيع للأمير الحسين ـ عليه‌السلام ـ صفحة (١٣١ طبعة بدر) فقد بيّن الأمير ـ عليه‌السلام ـ جرحه بما فيه كفاية ، وقد أشبع المحقق في الهامش الموضوع ، ونقل في جرح قيس عن أهل الجرح ورجاله ما يشفي ويكفي فلا نطيل الكلام بذلك.

(٢) قيس بن أبي حازم : البجلي أبو عبد الله الكوفي وثقه القوم ، قال ابن حجر : من الثانية مخضرم ، ويقال له روية يعني أنه صحابي ، قال : مات بعد التسعين أو قبلها ، وقد جاوز المائة وتغيّر ، راجع التقريب.

(٣) جرير بن عبد الله البجلي : صحابي مشهور مات سنة ٥١ ، وقيل : بعدها ، انظر التقريب.

(٤) تمام البيت :

رأيت الله إذ سمى نزارا

وأسكنهم بمكة قاطنينا.

٦٩

(المسألة العاشرة : أن الله سبحانه واحد لا ثاني له في القدم والإلهية)

والواحد يستعمل في معان أحدها : واحد العدد ، وهذا مستحيل في حقه تعالى ؛ لاقتضائه التناهي والتحديد ، وقد يراد به ما لا يقبل التجزي والانقسام ، أما من كل وجه وهذا جائز في حقه تعالى ، ويكون مدحا بانضمامه إلى كونه حيا خلافا لعبّاد ، وأما من بعض الوجوه كالإنسان الواحد والدار الواحد فإنه لا يقبل التجزي من حيث الإنسانية والدارية وإن قبله من جهة أخرى ، وهذا مستحيل في حقه تعالى ، وقد يراد به المختص بصفات الكمال أو بعضها على حد يقبل المشاركة له ، وهذا أيضا مستحيل في حقه تعالى ؛ لأنه يقتضي صحة مشاركة الغير له فيها ، وهذا هو المتعارف به.

(و) أما في اصطلاح المتكلمين : فإنّ (المعنى في ذلك أنه) واحد القدم والإلهية المستحق للعبادة ، وهو (المتفرد بصفات الكمال على حد لا يشاركه فيها غيره على الوجه الذي يستحقها) عليه ، وهو المقصود هنا ، وهذا هو ما ذهب إليه المسلمون كافة ، وخالف في ذلك الوثنية والثنوية والمجوس وبعض النصارى.

(والدليل على) ما ذهب إليه أهل الإسلام (أن الله تعالى واحد لا ثاني له : أنه لو كان له ثان لصح بينهما الاختلاف والتمانع) وصحة الاختلاف والتمانع محال ، فهذان أصلان ، أما الأول : وهو أنه كان يصح بينهما التمانع والاختلاف فلأن اشتراكهما في القدم يقتضي اشتراكهما في القادرية وسائر صفات الذات ؛ لأنه قد عرف أن الشيئين متى كانا مثلين كانا قد اشتركا في صفة ذاتية كالسوادين فإنهما إنما كانا مثلين ؛ لاشتراكهما في كونهما سوادين ، ويجب اشتراكهما في سائر الصفات الذاتية ، وإلا كانا مختلفين ومن حق كل قادرين صحة التمانع بينهما ، وذلك ضروري في الشاهد ، ولا علة لهذه الصحة إلا كونهما قادرين ، بدليل أن العلم بصحة التمانع يدور مع العلم بالقادرية ثبوتا وانتفاء مع فقد ما هو أولى من القادرية بأن تعلق عليه صحة التمانع ، والتمانع : هو أن يفعل كل واحد من القادرين ما لأجله يتعذر على

٧٠

الآخر إيجاد مراده ، كمتجاذبي الحبل ، فإن كل واحد منهما يفعل من الاعتماد ما لأجله يتعذر على الآخر تحصيل الحبل في جهته التي يجذبه إليهما.

وأما الأصل الثاني : وهو أن صحة التمانع محال ، (فكان يجب إذا أراد أحدهما تحريك جسم وأراد الآخر تسكينه) في حالة واحدة (فلا يخلو الحال من ثلاثة أقسام : إما أن يحصل مرادهما معا فيكون الجسم متحركا ساكنا في حالة واحدة وذلك محال ، وإما أن لا يحصل مرادهما معا فيخلو الجسم من الحركة والسكون ، وذلك محال) وأيضا ففي ذلك خروج عن كونهما قادرين للذات ، (وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر ، فمن حصل مراده فهو الإله القديم ، ومن تعذر مراده فهو عاجز ممنوع ، والعجز والمنع لا يجوزان إلا على المحدثات).

فإن قيل : إنهما حكيمان فلا يختلفان في الإرادة والداعي ؛ لأنهما إذا كان حكيمين فالذي يدعو أحدهما إلى الفعل من العلم بحصول منفعة للغير تدعو الآخر إليه ، والذي يدعو أحدهما إلى فعل الإرادة يدعو الآخر ، إذ ليس دواعيهما دواعي حاجة ، فتختلف دواعيهما لاختلاف نفعهما ، وإذا كانا لا يختلفان في الداعي والإرادة لم يتمانعا ، إذ التمانع فرع على اختلاف الدواعي.

قلنا : كلامنا في الصحة لا في الوقوع ، ومعلوم أن كل حيين يصح اختلافهما في الإرادة والداعي ، وإلّا لم ينفصل الحي الواحد من الاثنين على أنه يعلم صحة التمانع من لا يعلم اتحاد الإرادة أو تعددها ، بل يعلمه من ينفي المعاني.

قال الوالد العلامة محمد بن عز الدين المفتي : قلت : وأيضا لو كان متعددا ومنعت الحكمة من تخالفهما لما وصلنا رسول مؤيد بمعجز خارق يدعو إلى أحدهما ومكذب دعوى التعدد ، ومثله ذكره الإمام القاسم بن محمد ـ عليه‌السلام ـ في الأساس : (وقد) دل السمع على المنع حيث (قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)) [الأنبياء : ٢٢] قال جار الله في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) دلالة على

٧١

أمرين : أحدهما : وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحد ، والثاني : ألا يكون ذلك الواحد إلا إياه.

فإن قلت : لم وجب الأمران؟ قلت : لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التناكر والتغاير والاختلاف ، وهذا ظاهر.

قال : وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد وقوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢] فهذه الآيات فيها مناسبة لدليل التمانع وإشارة إليه ، ومما يدل على الوحدانية قوله تعالى : ((وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ)) [المائدة : ٧٣] وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وغير ذلك من الآيات المصرحة بالتوحيد.

وأما الكلام على الثنوية في النور والظلمة ومقالتها : أن كل خير فهو من النور بطبعه ، وكل شر فهو من الظلمة بطبعها ، وأن كل واحد منهما لا يقدر على خلاف ما يصدر عنه ، وأن العالم ممتزج منهما ، وأنهما غير متناهيين إلا من جهة التلاقي.

فالكلام عليهم : أن النور والظلمة جسمان عند كثير من الناس وعرضان عند الباقين ، والأجسام والأعراض محدثة ، وأما المجوس الذين يقولون : بأن النور يزدان والظلمة أهرمن ، وقال بعض هؤلاء : بحدوث أهرمن ، قيل : من عفونة كانت قديمة. وقيل : من فكرة يزدان الرديّة ، وقيل : من شكه.

فيقال لهم : أما القول بأنه حدث من عفونة فباطل ؛ لأن العفونة جسم ، وكل جسم محدث ؛ لأن الجسم لا يتولد عن جسم ، ولأن العفونة من القاذورات ومما تعدّونه شرا فهلا كانت الشرور قديمة ولا يحتاج إلى إثبات ثان يخلقها ، أو كانت هذه العفونة محدثة فيجب تقدم أهرمن عليها ليكون محدثا لها ، ولأنه كان يجب أن يتولد من كل عفونة أهرمن ؛ لأنه إذا كان أهرمن محدثا فكيف يكون إلها دون غيره من المحدثات؟ وكيف يصح منه فعل الأجسام؟

٧٢

وأما القول بأنه حدث من فكرة الله أو من شكه فباطل ؛ لأن الشك والفكرة إنما يجوزان على من يجهل ، ولأنه كان يجب في كل فكرة وشك مثله ؛ لأن الشك والفكرة متماثل إذا اتحد متعلقه ، ولأنه إذا حدث من فكرة يزدان لزم كون يزدان محدثا للشرور ؛ لأن هذه الفكرة الرديئة من قبيل الشرور ، وفي ذلك حصول الشرور من غير أهرمن.

وأما الكلام على الصابئين الذين زعموا أن للعالم صانعا واحدا لكنه خلق الأفلاك حية قادرة عالمة وجعلها آلهة عبدوها (١) وعظموها وسمّوها الملائكة وجعلوا بيوت العبادات بعدة الأفلاك السبعة ، وزعموا أن بيت الله الحرام هو بيت زحل وأنكروا الآخرة ، ومنهم قائلون بالتناسخ ، وزعموا أن لهم نبيئا وأنه على دين شيث.

فإنا نقول : الأفلاك جمادات سخرها الله بأمره ودبر حركتها بمشيئته وخلقها لمنافع العباد ، وألطافا لهم ، وقد ذكر الله تعالى من منافعها في القرآن العظيم أنها زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها وغير ذلك ، وهي أجسام والجسم لا يقدر على إحداث جسم كما هو مقرر بدليله ، والطبع غير معقول ، إذ لا يعلم ضرورة ولا دليل عليه ، (فثبت بذلك) الذي ذكرناه من الأدلة (أن الله واحد لا ثاني له).

__________________

(١) في الأصل : يعبدوها ، والأولى ما وضعناه.

٧٣
٧٤

(باب العدل)

العدل في أصل اللغة : المثل ، يقال هذا عدل هذا أي مثله ، وفي عرفها مصدر عدل في فعله ، أي أنصف نقيض الجور هكذا نقل.

وفي الشرع : ما قاله أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (العدل أن لا تتهمه) هذا نهاية التنزيه ، وهو يقتضي التفويض والتسليم لأوامره تعالى وقضاياه وأحكامه ، وما قصر عنه الفهم اتهم فيه العقل القاصر عن بلوغ شأو أحكم الحاكمين ووكل علمه إلى الله العزيز الحكيم ، وقطع المكلّف بأن ذلك هو الراجح كما أرشد إليه ملائكته المقربين لما قالوا على وجه الالتماس لا الاعتراض (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] وقد صرح به القاسم بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والمرتضى وغيرهما.

واعلم : أن هذا الباب يشتمل على عشر مسائل ذكرها الشيخ في الباب أولها :

٧٥

(المسألة الحادية عشرة) من الكتاب

(أنه يجب على المكلف أن يعلم أن الله تعالى عدل حكيم ليس في أفعاله ما هو قبيح ولا ظلم ولا عبث ولا سفه) ولا كذب (ولا شيء من القبائح).

ولم يسمع عن أحد من أهل الجبر هذه المسألة ، ولا وجدت في شيء من كتبهم الكلامية ، وإن كانوا لو سئلوا عن ذلك لما وسعهم إنكاره ، وهذه المسألة هي أم مسائل العدل ، وما عداها من مسائله داخل تحتها ومفصّل لها كما نقوله في الدلالة على أنه غير خالق لأفعالنا ، فهي مشتملة على القبيح ، والله تعالى لا يفعله ، وتحقيق ذلك أن مسائل العدل على ضربين :

الأول : المسائل الإثباتية ، كالكلام في أنه تعالى يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه ، ويبين للمكلفين ما كلفوه ، ويمكنهم منه فلا يكلفهم ما لا يعلم ولا يطاق ، ويعوض المؤلمين ، ويقبل توبة التائبين ، وهي داخلة تحت قولهم فيها لا يخل بالواجب.

والثاني : المسائل النفييّة ، كالكلام في أنه ليس بخالق لأفعال العباد ، ولا يثيب أحدا بغير عمل منه ، ولا يعاقبه بغير ذنب منه ، ولا يريد المعاصي ولا يقضي بها ، ولا يرضى بها ولا يكلف ما لا يطاق وما لا يعلم ، وهذه كلها داخلة في أنه لا يفعل القبيح ، فعرفت صحة ما ذكر من كونها أم مسائل العدل ، وإنما سائر مسائله تفصيل لها وعائدة إليها.

نعم : وقد وافقت المجبرة في المنع من إطلاق القول بأن الله تعالى ظالم وجائر وفاعل للقبيح ، وأثبتوا المعنى فأضافوا إليه كل قبيح ، وجعلوا يحتالوا للمنع من إطلاق العبارة بما لا محصول له ولا طائل فيه.

(والدليل) لنا (على ذلك : أنه تعالى عالم بقبح القبيح وغني عن فعله وعالم باستغنائه عنه ، وكل من كان بهذه الأوصاف فهو لا يفعل القبيح ولا يختاره

٧٦

ولا يرضاه).

أما كونه تعالى عالما بقبح القبيح وغنيا عنه ، وعالما باستغنائه عنه فقد تقدم في مسألة غني وعالم أنه يستحيل عليه الجهل والحاجة.

وأما أنه لا علة في حق الشاهد لفعل القبيح إلا اجتماع هذه الأوصاف ؛ فلأن العلم بذلك يدور مع العلم باجتماعها ثبوتا وانتفاء ، ولو كان لمؤثر غيرها لجاز أن يفعل أحدنا القبيح مع اجتماعها أو يستمر الحال في أنه لا يفعله مع زوالها أو بعضها وخلافه معلوم ، ألا ترى أن الظلمة لا يغتصبون الأموال إلا لاعتقادهم أنهم محتاجون إليها أو لجهلهم بأن ذلك ظلم ، إما بأن يعتقدوا بأن المغصوب عليه يستحق بأن يغصب عليه ، أو أنهم يدفعون بذلك ضررا عن الرعية ويدّخرونه لما ينوب الجميع ، يزيد ذلك وضوحا أن العاقل لو خير بين أن يكذب ويأخذ درهما أو يصدق ويأخذ درهما مثله فإنه يختار الصدق لا محالة.

فإن قيل : إنه لا يختار الكذب لاستحقاق الذم عليه والعقوبة.

قلنا : نفرض الكلام في كافر دنيء لا يتضرر بالذم ولا يعلم استحقاق العقاب ، فثبت أنه لا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف ، (فثبت) بهذه الطريق أن الله (عدل حكيم) كما ذكر.

٧٧

(المسألة الثانية عشرة)

(أن أفعال العباد) جميعها (الحسن منها والقبيح) والمبتدئ والمتولد غير مخلوقة بل هي (منهم) ونسبتها إليهم حقيقة (لا من الله تعالى).

وهذا مذهب أكثر أهل القبلة وغيرهم من أهل الأديان الكفرية.

وقال أهل الجبر : هي من الله تعالى ، وإنما سموا جبرية لمذهبهم في هذه المسألة ، وقولهم بأن العبد مجبور على هذه الأفعال ، ولا اختيار له فيها ، ثم اختلفوا بعد ذلك فقال جهم : هم لها كالظروف ، وإضافتهم إليها كإضافة ألوانهم ، وكإضافة حركة الشجرة إليها ، وسواء في ذلك بين المباشر والمتعدي.

وقال ضرار (١) : هي من الله تعالى حدوثا ومن العبد اكتسابا ، ولم يفرق بين المباشر والمتعدي ، وبه قال الأشعري (٢) في المباشر ، فأما المتعدي فالله متفرد به عنده.

وقال المدعون للتحقيق منهم كالجويني (٣) والغزالي (٤) والقاضي أبي بكر الباقلاني (٥) وغيرهم من مشاهير علماء هذا المذهب : الفعل يقع بقدرة العبد ولكنها موجبة ففاعلها هو فاعل الفعل ؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب.

قال بعض المحققين : والأقرب أن هذه الأقوال في التحقيق تعود إلى قول جهم ؛ لأن أهل الكسب (٦) لا بد أن يجعلوا العباد كالظروف لها في الحدوث ، وأما الكسب فهو إما

__________________

(١) تقدمت ترجمته.

(٢) الأشعري : هو ابن أبي بشر الأشعري ، وهو رئيس الأشاعرة.

(٣) الجويني : هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله أشعري ، دعي إمام الحرمين ، توفي سنة ٤٧٨ ه‍.

(٤) تقدمت ترجمته.

(٥) أبو بكر الباقلاني : هو محمد بن الطيب أشعري ، ولد في البصرة وتوفي ببغداد عام ٤٠٣ ه‍.

(٦) يأتي الكسب في اللغة لعدة معان ، منها : الطلب والربح يقال : كسب الرجل علما أو مالا ، أي ربحه وطلبه ، وبمعنى التحمل نحو : كسب الإثم ومنه (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) وهو أعمال الجوارح أو بعضها في

٧٨

أن لا يكون فعلا فذكره هنا بطالة وهذيان ؛ لأن كلامنا في الأفعال ، وإما أن يكون فعلا فهو إما أن ينفرد الله به ، وهو مذهب جهم ، وإما أن يحتاج إلى كسب آخر فيعود السؤال ، وكذلك المثبتون للقدرة الموجبة لا بد أن يجعلوا العباد كالظروف لأفعالهم ؛ لأنه لا اختيار لهم في السبب ولا في المسبب ، ويصير الحال فيه كالحال في الشجرة التي يوجد الله فيها اعتمادا توجب الحركة ، فإن ذلك لا يخرج الشجرة عن كونها كالظرف للحركة الموجبة عن الاعتماد ، فظهر بذلك أن المجبرة كلهم جهيمة في التحقيق.

(والدليل على ذلك) المذهب الصحيح ، وهو مذهب أهل العدل ومن وافقهم : العلم بأنا محدثون لأفعالنا ضروري ؛ لأنه لا مجال للشك فيه ؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم (أنه يحسن أمرهم ببعضها ونهيهم عن بعض وثوابهم ومدحهم على الحسن) الذي يستحق عليه الثواب ، (وعقابهم على القبيح منها) ، ويعللون ذلك بكونه فعله ، وكل ذلك فرع على أنهم المحدثون لها ، وإنما قلنا على الحسن الذي

__________________

طلب عين يصح تملكها يعتقد أو يظن الانتفاع بها ، أو هو من الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرر ، وعلى هذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب ، لكونه منزها عن جلب نفع أو دفع ضرر ، وتعريفه عند الأشاعرة على اصطلاحهم : هو وقوع الفعل بالقدرة مع تعذر انفراده به ، وفي هذا التعريف إشارة إلى عدم الاستقلال مع أنه تعريف ناقص ، قال الآمدي : ذهب الشيخ الأشعري في خلق الأفعال ألّا تأثير للقدرة الحادثة في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاته ، وإن أجرى الله العادة بخلق مقدورها مقارنا لها ، فيكون الفعل خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا وكسبا من العبد لفرعه مقارن بقدرته ، والمرجع بالكسب عندهم إلى وجود الفعل بقدرة الله تعالى مقارنا بقدرة العبد في ذلك ، ولا نطيل بكثرة النقل عنهم في تحقيقه ، فإنه اسم لا مسمى له ، وقد اعترف التفتازاني وهو من المتشددين في مذهبهم بصعوبة إيضاح معنى الكسب ، ونقل الشعراني عن الغزالي ما لفظه : لا نعرف الكسب لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وقال ابن عربي : مكثت ثلاثين سنة أبحث عنها ولم أعرفها ، ويكفي في بطلانه أنه غير معقول ، وقد عدد العلماء المذاهب التي لا تعقل ، أحدها : المذهب المتناقض كمذهب النصارى فإنهم قالوا : إن الله تعالى واحد ثلاثة ، والثاني : أن لا يدل على ذلك المذهب دلالة عقلية ولا سمعية ، كمن قال بالطبع ، وأنه مؤثر ؛ لأن المؤثر لا يعقل إلا فاعلا ، والثالث : الكسب فإنه غير معقول ، ومما يدل على إبطاله أن يقال لهم أخبرونا عن هذا الكسب الذي يحصل بقدرتنا أكان حصوله منا اختياريا أو على جهة الإيجاب؟ فإن قلتم : اختيارا خرجتم عن مذهبكم ؛ لأن عندكم أنا غير مختارين ، وإن قلتم : على جهة الإيجاب سقط عنا المدح والذم والأمر والنهي ، ويلزم حصول أفعالنا دفعة ؛ لأن الموجب لا يتراخى عن الذي أوجبه ، والله الهادي والموفق.

٧٩

يستحق عليه الثواب ؛ لأن بعض الحسن لا يستحق عليه ثواب ، كالمكروه والمباح فإنهما حسنان عند المحققين ولا ثواب فيهما ، (فلو كانت من الله لما حسن شيء من ذلك كما لم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم ، فإذا حسن ثوابهم وعقابهم ، ومدحهم وذمهم ، على أفعالهم ، ولم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم علمنا) الفرق بين أفعال العباد وبين الصور والألوان ودل ذلك على (أن أفعالهم منهم لا من الله تعالى ، وذلك مقرر في عقل كل عاقل).

فإن قالوا : ألستم تحمدون الله تعالى على الإيمان وهو من فعلكم؟ (١)

والجواب : أنا نحمده على مقدمات الإيمان من الإقدار والتمكين والتوفيق ، وهو يحمدنا تعالى على فعله كما صرح به في قوله تعالى : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] وقوله تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران : ١١٥] وصار الحال في حمدنا له تعالى على الإيمان كالحال في الوالد إذا اجتهد في تخريج ولده وحسن تأديبه حتى يبدو صلاحه ، فإنه يقال : هذا من أبيه ، والمراد أنه تقدم من أبيه من العناية والرعاية ما كان سببا في ذلك.

ولنا طريقة أخرى سمعية ، وإنما استدللنا بالسمع هنا وإن كان العلم بصحته يقف على العلم بهذه المسألة استظهارا على الخصوم ، لموافقتهم في أنه دلالة ، ولأنهم تمسكوا بالمتشابه فتمسكنا بالمحكم على أن المتأخرين من أصحابنا كالشيخ الحسن الرصاص (٢)

__________________

(١) قد أورد هذا السؤال بعض المجبرة على رجل من أهل العدل ، فأجاب العدلي بجواب لم يصب فيه وفي الحضرة ثمامة بن الأشرس ، فأجاب ثمامة بقوله : إنا لا نحمد الله على الإيمان ، وإنما هو يحمدنا عليه ؛ لأنا الفاعلون له ، ثم التفت إلى الحاضرين فقال : شنعت المسألة فسهلت ، وروي أنه كان في الحضرة جعفر بن حرب ، وقيل : بل بشر بن المعتمر ، وقد أجاب عن هذا السؤال من أجاب بمثل جواب الإمام المؤلف ، وأجاب الفقيه حميد ـ رحمه‌الله ـ فقال : نحن نمدح الباري تعالى على الإيمان نفسه ؛ لأنه الفاعل لمقدماته والباعث عليه بالدلالة العقلية وصار لذلك كالفاعل ، أفاد معنى هذا صاحب شرح الخلاصة.

(٢) الحسن بن محمد بن الحسن بن أبي الطاهر محمد بن إسحاق بن أبي بكر بن عبد الله الرصاص ، محقق أصولي واسع الدراية ، تتلمذ على شيخ الإسلام : القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام ، ونبغ في سن مبكرة ، وكان عالم الزيدية في عصره ، وإليه انتهت رئاسة أصحاب القاضي جعفر ، عكف على التدريس والتأليف. وله تلامذة أجلهم وأعظمهم : المنصور بالله ـ عليه‌السلام ـ.

٨٠