الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي

الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

المؤلف:

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي


المحقق: عبدالرحمن بن حسين شايم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٣

(قد صح منه) والمراد الصحة التي تقابل الاختيار لا الصحة التي تقابل الاستحالة كما تقدم (والفعل لا يصح إلا من قادر) ضرورة (دليل ذلك أنّا وجدنا في الشاهد ذاتين : أحدهما : إذا حاول حملا ثقيلا حمله ، والآخر : يتعذر عليه ، فالذي صح منه الفعل يجب أن يفارق من تعذر عليه ذلك).

اعلم أن هذا الدليل هو من قياس الغائب وهو الله جل جلاله على الشاهد ، وهو الواحد منا بعلة جامعة ، قالوا : لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهدا ولا غائبا.

قالوا : وثبوت المفارقة معلوم ضرورة ، وكلام الإمام القاسم بن محمد (١) ـ عليه‌السلام ـ أن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر ضرورة. انتهى.

فالعلم بذلك ضروري ولا نحتاج إلى الاستدلال بالقياس ؛ لأن الفعل قد صح منه تعالى ، وكل من صح منه الفعل فهو قادر.

قال مولانا العلامة الإمام علي بن محمد العجري (٢) ـ رحمه‌الله ـ في (مفتاح السعادة) : اعلم : أن هذا الدليل المركب من القياس وما ذكره النجري (٣) مبنيان على ما ذهب إليه الأكثر أن هذه الصفة أمر وجودي زائد على الذات ، وأما على ما ذهب إليه الأئمة عليهم‌السلام ومن وافقهم ممن ينفي الأحوال ، فالدليل على قادريته عندهم ما

__________________

(١) الإمام القاسم بن محمد ـ عليه‌السلام ـ : هو الإمام الأجل المنصور بالله عزوجل ، أبو محمد القاسم بن محمد بن علي ينتهي نسبه إلى الإمام الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين ـ عليهم‌السلام ـ ، قام بعد إياسه من خروج الإمام الناصر الحسن بن علي في المحرم سنة ست وألف ، وطهر الأرض من الردى ، ونشر فيها الإيمان والهدى ، توفي في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وألف عن اثنتين وستين سنة.

(٢) هو السيد العلامة الولي بن الولي علي بن محمد بن يحيى بن أحمد بن الحسين بن محمد الملقب بالعجري ، مولده في هجرة فلله عام ١٣٢٠ ه‍ ، وتوفي في ليلة الخميس ١٩ رجب ١٤٠٧ ه‍ له مؤلفات منها : (مفتاح السعادة) ، (والفتاوى) وغير ذلك من الفوائد.

(٣) النجري : هو عبد الله بن محمد بن أبي القاسم النجري ، توفي سنة ٨٧٧ ه‍ ، أحد علماء الزيدية المتكلمين ، اهتم كثيرا بشرح كتب الإمام المهدي ـ عليه‌السلام ـ ، ومن كتبه : (شافي الغليل في شرح آيات الأحكام) ، ومرقاة الأنظار المنتزعة من غايات الأفكار شرح القلائد للإمام المهدي من مقدمة البحر الزخار.

٤١

مر من أن العلم بأن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر ضرورة ، انتهى.

(و) يجب (أن يختص القادر عليه بمزية ، تلك المزية هي التي عبّرنا عنها بكونه قادرا ، فإذا كان الله سبحانه قد صح منه من الأفعال ما يتعذر على غيره ثبت أنه تعالى قادر) وقال ابن حابس (١) رحمه‌الله : إن هذا ليس بقياس ، وإنما هو رجوع إلى كلية. انتهى.

ولا شك في إثبات صفة القادرية للقادر ، ومرجعها عند أئمتنا عليهم‌السلام إلى ذات الباري جل وعلا ، وفي الشاهد إلى البنية المخصوصة.

واعلم : أنه يلزم المكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر فيما لم يزل وفيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة في حال من الأحوال ، ويعلم أنه تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات ، ومن كل جنس على ما لا يتناهى ، فلا تنحصر مقدوراته جل وعلا جنسا ولا عددا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.

__________________

(١) شمس الدين أحمد بن يحيى بن أحمد حابس ، توفي ـ رحمه‌الله ـ قبيل الفجر يوم الاثنين سنة ١٠٦١ ه‍.

٤٢

(المسألة الثالثة : أن الله سبحانه عالم)

قال القرشي : حقيقة العالم : هو المختص بصفة ؛ لكونه عليها لمكانها يصح منه الإحكام تحقيقا أو تقديرا ، وزاد غيره إذا لم يكن ثم مانع ، ولا ما يجري مجراه ، فقوله : المختص بصفة جنس الحد ، وقوله لمكانها : يعني لاختصاصه بها ، وقوله : يصح منه الإحكام ، أي يصح منه الفعل المحكم ، وهو فصل يخرج غير المحدود ، ومعنى الإحكام : إيجاد فعل عقيب فعل ، أو مع فعل على وجه لا يتأتى من كل قادر ابتداء ، والمحكم (بكسر الكاف) : هو المرتب لذلك ، والمحكم (بفتح الكاف) : هو الفعل المرتب ، وقوله : في الحد أو تقديرا ، أراد به ما لا يكون مقدورا كفعل الغير ، أو يكون مقدورا لكن لا يصح إحكامه كالفعل الواحد ، فإن ما هذا حاله يصح إحكامه تقديرا بمعنى أنه لو كان مقدورا ، ومما يصح ترتيبه لأحكمناه ، والمراد بالمانع : الضد ، كأن يريد أحدنا كتابة فيمسك الغير يده ، فيفعل من الأكوان ضد ما يريد الكاتب فعله ، والذي يجري مجراه عدم الآلات كعدم القلم ، وقد أورد على هذا الحد أسئلة وأجيب عنها.

وقال أبو الحسين وابن الملاحمي : العالم : هو المتبين لأمر من الأمور تبينا يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه. انتهى.

واعترضه القرشي ، وقال ابن حابس (١) رحمه‌الله : هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة وتمييز كل منها بما يميزه ، أو من أدرك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم.

والقول بأنه تعالى عالم هو قول من يقر بالصانع المختار (والدليل على ذلك أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء) والمراد وجودها منه تعالى على سبيل الصحة

__________________

(١) هذا الذي ذكره ابن حابس هو لفظ الأساس للإمام القاسم بن محمد ـ عليه‌السلام ـ.

٤٣

والاختيار كما مر في مسألة قادر (والأفعال المحكمة لا تصح إلا من عالم ، والدليل على أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء أنه أوجد العالم على سبيل الترتيب والنظام ؛ لأن فيه من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة ما يزيد على كل صناعة محكمة في الشاهد من بناء وكتابة وغيرهما) وإذا نظر المتأمل إلى خلق السماء المرفوعة وكونها كالسقف ، وإلى الأرض المبسوطة ، وإلى ما أعد الله فيها من النبات ، ومن المياه الجارية والمستخرجة ، والجبال الراسية ، والأخاديد ، والآكام ، والشّم الشوامخ ، وإلى زينة السماء بالشمس والقمر ، وحكمة مطالعهما ومغاربهما وكونهما ضياء ، وإلى الشّهب التي هي كالمصابيح المضيئة ، فالسماء والأرض كالبيت المسقوف ، والقمران والنجوم كالمصابيح المعدة للاهتداء بها إلى رؤية ما في البيت ، والواحد منا كالمالك المتصرف في بيته مع الشموع المشتعلة والمصابيح المضيئة.

ثم انظر إلى خلق الإنسان وتركيبه ، فقد كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم ، والدم يقويهما ، وعصبا رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط بما فيها من القوة والمتانة ، ثم تركب من ذلك آلات وحواسّ حية موافقة للمصالح مع ضيق ذلك المكان وشدة ظلمته ، وإلى ذلك أشار تعالى بقول : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [الزمر : ٦] والظلمات الثلاث : هي ظلمة البطن ، وظلمة المشيمة (١) ، وظلمة الرحم ، ثم انظر موضع العينين (٢) ما أنسبهما بموضعهما مرتفعتان عمّا يؤذيهما ، محفوفتان بالأجفان عن القذاء ، في موضع لا يحتاجان إلى التغطية باللباس فلم يكونا في ظهر ولا بطن مع الجمال البديع.

وانظر إلى ستر القذر في البطن بالسواتر العظيمة ، بحيث لا يحس له حس ، ولا يظهر

__________________

(١) المشيمة : هو الغشاء الذي على الولد.

(٢) إلى هنا انتهى ما كملنا به موضع النقص ، والله ولي الهداية. عبد الرحمن حسين شائم غفر الله له.

٤٤

له ريح ، ولا يخرج إلا باختيارنا ، وأن من عجيب الصنع استمساك البول في حالة الغفلة والنوم ، حتى يرضى خروجه ويختاره من غير رباط ولا سداد في مجرى ، ولا مانع محسوس.

ثم حياتنا في بطون الأمهات ، ولو غمّ الإنسان ساعة لمات كما في كثير ممن يدفن في الحبوس مع سعتها ، ثم خروجنا من ذلك المكان الضيق بغير اختيار من الوالدة والمولود ، وهو فعل محكم صعب لا بد له من فاعل مختار ، ثم إحداث اللبن في ثدي الأم من بين فرث ودم.

وتربية المولود وفهمه للغة أهله كيف كانت ، فصيحة عربية ، أو غيرها ، مع أن العاقل مع كثرة مجالسته لغير أهل لغته لا يعرف من ذلك ما عرف الصغير الذي لا عقل له ولا تمييز. إلى غير ذلك من عجائب الملكوت التي لا تحصى.

فلو جاز أن يكون هذا بغير صانع لجاز أن يصح لنا دور معمورة ومصاحف مكتوبة وغير ذلك بغير بان ولا كاتب ، ولو كان هذا أثر طبع لكانت أثرا واحدا ، كما لو جمدت النطف بفعل البرد (والدليل على أن الأفعال المرتبة) المنظومة (لا تصح إلا من عالم ، أنا وجدنا في الشاهد قادرين) وهذه عبارة جيدة ، وهي أولى من أن يقال ذاتين أو جملتين أو حيّين ؛ لأنه قد استغنى بإيراد هذه العبارة عن إبطال أن يكون المؤثر في صحة الإحكام كون المؤثر ذاتا أو جملة أو حيا من حيث أن (أحدهما) وهو من (من تصح منه الكتابة المحكمة المرتبة) كالكاتب ، (و) نحوه قد شاركه (الآخر) وهو من (يتعذر عليه ذلك كالأمي) في جميع تلك الأمور) ولم تصح منه الكتابة المحكمة ، (فالذي يصح منه ذلك يجب أن يفارق من تعذر عليه ، ويختص عليه بمزية ، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بكونه عالما) بفعل المحكم (فثبت) بالدليل القطعي (أن الله عالم).

وقولنا : في حد العالم مع القدرة على فعلها غير محكمة لدفع ما يقال لا نسلم أن

٤٥

الإحكام دليل العالمية ، فإن النحلة وهي من العالم البهيمي لها عمل متقن في بيوتها كما نشاهد ذلك ، وتمييزها العسل من الشمع وذلك بيّن ، وكذلك شيء من الطير ؛ لأن هذه الحيوانات لا تقدر على فعلها كذلك إلا بإلهام الله لها.

٤٦

(المسألة الرابعة :) أنه يجب على كل مكلف أن يعلم (أن الله تعالى حي)

وحقيقة الحي : من يمكنه إدراك الأشياء عند اجتماع شرائط الإدراك والقدرة عليها مع سلامة الأحوال ، وقيل : هو المختص بصفة لمكانها يصح أن يقدر ويعلم.

ذهب المسلمون وكثير من الناس إلى أن الله تعالى حي ، والخلاف في ذلك على نحو ما مر في مسألة قادر (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح ما تقرر من الأدلة القاطعة من (أنه تعالى قادر عالم) وإنما خص الاستدلال بهاتين الصفتين على كونه حيا دون سائر الصفات التي تصححها الحييية ؛ لأن سائرها منها ما لا تصححه الحيية له تعالى ، وهي كونه مشتهيا ونافرا وظانا وناظرا ، إذ لا تصحهها إلا بشروط لا تحصل في حقه ، ومنها ما لا يصح العلم بصحتها إلا بعد العلم بكونه حيا ككونه مدركا ومريدا وكارها ، فلم يبق مما يصححه ما يعلم أنه يصح عليه تعالى قبل العلم بكونه حيا إلا القادرية والعالمية ، وقد جرت عادة المتكلمين على الجمع بينهما في الاستدلال على الحيية وإلا فأحدهما كاف.

(و) إذا قد ثبت أنه قادر عالم علم أن (القادر العالم لا يكون إلا حيا) فهذان أصلان لا بد لكل واحد منهما من دليل ، (أما الدليل على أنه تعالى قادر عالم فقد تقدم) في مسألة قادر ومسألة عالم ، وأما الدليل على أن القادر العالم لا يكون إلا حيا فهو في الجملة معلوم ضرورة ، ولهذا يصفه العقلاء بأنه حي.

وأيضا فلأن الميت والجماد لا يعلمان شيئا ، ولا يقدران عليه ، فلا بد من مفارقة لولاها لما صح من أحدهما ما استحال على الآخر ، وليس ذلك إلا كونه حيا ، (فثبت) بما تقرر من الدليل القاطع (أن الله تعالى حي).

٤٧

(المسألة الخامسة : أن الله تعالى سميع بصير)

والمرجع بهما عند الجمهور إلى أنه تعالى لا آفة به ، وحكي عن أبي هاشم إثبات حالة زائدة ، وهو لا يصح ؛ لأن العلم بكونه سميعا بصيرا يدور على كونه حيا لا آفة به ثبوتا وانتفاء ، ولو كانت غيرين لصح انفصال أحدهما عن الأخرى.

وحكى الإمام القاسم بن محمد ـ عادت بركاته ـ عن جمهور أئمتنا والبغدادية (١) : أنهما بمعنى عالم ؛ لأن السميع حقيقة لغوية مستعملة لمن يصح أن يدرك المسموع بمعنى محله الصماخ ، والبصير حقيقة كذلك لمن يصح أن يدرك المبصر بمعنى محله الحدق ، والله تعالى ليس كذلك ، فلم يبق إلا أنهما بمعنى عالم. انتهى.

فمتى دللنا على ذاته بكونه عالما لذاته بجميع المعلومات ثبت أنه تعالى عالم بالمسموعات والمبصرات التي يعلمها غيره من جهة السمع والبصر ، فكان سميعا بصيرا بهذا المعنى.

قال الإمام يحيى ـ عليه‌السلام ـ : إن الخلاف هاهنا فرع على الخلاف في كونه مدركا ، فمن ذهب إلى أن كونه مدركا أمر زائد على كونه حيا وعالما. قال : السميع البصير هو الذي يصح أن يختص بهذه الصفة عند وجود المدرك.

ومن ذهب إلى أن كونه مدركا ليس أمرا زائدا على كونه عالما قال : إن كونه سميعا بصيرا مدركا ليس إلا أوصافا للمبالغة في كونه تعالى عالما من غير أمر زائد كقولنا عالم وعليم ، انتهى كلامه.

والذي عليه جمهور أئمتنا والبغدادية أن المرجع بمدرك في حقه تعالى إلى أنه عالم.

__________________

(١) هم أحد فرعي المعتزلة ، وقد كانوا حتى عام ٢٥٥ ه‍ مجموعة واحدة ، إلا أنه بعد وفاة الجاحظ في التاريخ الآنف انقسموا إلى فرعين : بغدادية وبصرية ، ومن أهم أعلام البغدادية : بشر بن المعتمر وثمامة بن الأشرس وأبي الحسين الخياط ، ومما يتميز به البغدادية عن البصرية هو ميلهم إلى التشيع.

٤٨

بعض أئمتنا وبعض شيعتهم والبصرية : بل هما صفتان له حين يدرك.

لنا عليهم ما مر في احتجاج القاسم ، ولا خلاف بين أهل القبلة في أنه يوصف بأنه تعالى سميع بصير إلا عن الباطنية ، وقد نطق القرآن الكريم بما قلنا ، وإنما الخلاف في معناه (والدليل على ذلك) الذي ذهبنا إليه ونفي مقالتهم (أنه تعالى حي لا آفة به) ولا مانع له ، (وكل من كان حيا لا آفة به) ولا مانع له (فهو سميع بصير) فهذان أصلان لا بدّ من إقامة البرهان على كل واحد منهما (أما أنه تعالى حي فقد تقدم) في مسألة حي ، وأما الدليل على أنه لا آفة به ولا مانع له ؛ فلأن الآفات والموانع إنما تجوز على الأجسام (لأن معنى الآفات فساد الآلات) ، ومعنى المانع وجود غفلة أو ذهول ، أو بأن يغلب على سمعه وبصره ، وهذه الأشياء (وفساد الآلات لا تجوز إلا على الأجسام والله تعالى ليس بجسم) وإذا كان كذلك استحال أن يكون له آلة تتطرق إليها الآفة أو المانع ، وإنما لم يكن تعالى جسما (لأن الأجسام محدثة والله تعالى قديم على ما يأتي بيانه) إن شاء الله.

وقد يقال قولكم : إنه حي لا آفة به غير مسلّم ، بل به آفة ؛ لأنكم إما أن تجعلوا زوال الحاسة آفة أو غير آفة ، إن كان فالباري تعالى عادم لها فهو إذن ذو آفة ، وإن لم يكن عدم الحاسة آفة فهو خلاف ما يقضي به العقل والسمع ، إذ عدمها أبلغ من حصول الآفة ، ولهذا قال الدواري (١) : الأولى في الاستدلال أن يقال : إنه تعالى حي والآفة مستحيلة عليه ، فيجب أن يكون سميعا بصيرا ، دليله الشاهد ، فإن الواحد منا إذا كان حيا لا آفة به كان سميعا بصيرا ، وإن كانت جائزة عليه ففي حق الباري أولى ؛ لأن الآفة مستحيلة عليه واستحالتها أقوى في زوالها من عدمها مع جوازها ، (فثبت بذلك) الدليل (أن الله تعالى سميع بصير).

__________________

(١) هو عبد الله بن الحسن الدواري اليماني الصعدي ، فقيه زيدي له جوهرة الغوّاص وشريدة القناص شرح خلاصة الرصاص والديباج النضير شرح لمع الأمير ، ولد وعاش ومات في صعدة. ا. ه.

٤٩

(المسألة السادسة : أن الله تعالى قديم)

ومعنى القديم في اللغة : هو ما تقادم وجوده ، ومنه (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] (ومعنى القديم) في الاصطلاح : (هو الأول الذي لا أول لوجوده).

وقد اشتملت هذه المسألة على طرفين : أحدهما : أنه تعالى موجود ، والثاني : أنه تعالى لا أول لوجوده ، ولا خلاف بين أهل الإسلام وكثير من الفرق الكفرية ، وهم المقرون بالصانع كاليهود والنصارى والبراهمة وبعض عبدة الأصنام في أنه موجود ، وأما الباطنية فلعلهم يقولون في هذه المسألة كقولهم في سائر الصفات ، ولا يحتاج إلى الاستدلال على وجوده عند من جعل الوجود هو ذات الموجود (١).

وأما جمهور المعتزلة فيجعلونه زائدا على الذات شاهدا وغائبا فاحتاجوا إلى الاستدلال وصحة ما يقولونه مبنية على أن المعدوم ذات ، والدليل على أنه موجود أنه

__________________

(١) الذين يقولون أن الوجود هو ذات الموجود ، وينفون الأحوال التي قال بها بعض المعتزلة هم الشيخان : أبو الحسين والخوارزمي من المعتزلة : والمحققون من الأشعرية كالغزالي والجويني والرازي ، فقالوا : إن الكون هو نفس الكائنية ، وإن العلم هو نفس العالمية ، والأسودية هي نفس السواد ، وطردوا القول هكذا في جميع الأعراض ، ولا حقيقة للعلة ولا للمعلول ، وقرر هذا القول العلامة الشرفي ـ رحمه‌الله ـ في شرح الأساس ، أما القائلون بالأحوال فعندهم أن الكائنية معللة بالكون ، والقادرية معللة بالقدرة ، والأسودية معللة بالسواد ، وطردوا ذلك في جميع الأعراض ، هذا عند بعض الأشاعرة ، وأما أبو هاشم ومتابعوه فقالوا : هي على أربعة أنواع : الأول منها : حال يوجب للجملة ، وهذا هو الأعراض المشروطة بالحياة فالقدرة عندهم توجب حالة للجملة هي القادرية ، والعلم توجب حالة هي العالمية ، وهكذا القول في الشهوة والنفار.

الثاني : توجب حالة لمحله ، وهذا هو الكون ، فإنه يوجب حالة لمحله هي الكائنية.

الثالث : لا توجب حالة لمحله ، وإنما توجب حكما ، وهذا نحو الاعتماد ، فإنه يوجب حكما وهو المدافعة للمحل.

الرابع : لا توجب لمحله لا حالة ولا حكما عندهم ، وهذا نحو المدركات من الأعراض ، فإنها لا توجب عندهم لا حالة ولا حكما. لخصنا هذا من شرح الأساس ، وهو نقله من الشامل للإمام يحيى بن حمزة ـ عليهم‌السلام ـ.

٥٠

قادر عالم ، والقادر العالم لا يكون إلا موجودا ؛ لأن المعدوم يستحيل أن يكون قادرا على شيء أو عالما به ، ألا ترى أن كثيرا من الموجودات كالجمادات والأعراض يستحيل أن تكون قادرة على شيء وعالمة به مع وجودها ، وإذا كانت كذلك فالمعدوم أولى ، (و) أما (الذي يدل على أن الله تعالى قديم أنه لو لم يكن قديما) لا أول لوجوده بأن يكون لوجوده أولا (لكان محدثا) ؛ لأن ذلك حقيقة المحدث (ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث) أحدثه قطعا لما تقدم من أن كل محدث يحتاج إلى محدث ، والمحدث يحتاج إلى أن نتكلم فيه فنقول : هو إما قديم أو محدث ، فإن كان محدثا تكلمنا في محدثه وقلنا : (وكل محدث يحتاج إلى محدث أحدثه ، ومحدثه إلى محدث) فيتسلسل (إلى ما لا نهاية) من المحدثين ومحدثيهم (وذلك محال) أو ينتهي إلى محدث قديم وهو المطلوب ، فوجب الاقتصار على أنه قديم لا يحتاج إلى محدث ، وهو الله تعالى فثبت أن الله تعالى قديم.

قال الإمام عز الدين عادت بركاته : وفيه سؤال وهو أن يقال : ما أنكرتم أكثر ما في الباب أنه لا بد من الانتهاء إلى قديم واجب الوجود وإلّا أدّى إلى ما لا يتناهى من المحدثين أو محدثي المحدثين ، ولكن ما أنكرتم أن صانع العالم الذي أثبتم له تلك الصفات بعض هؤلاء المحدثين المتوسطين ، أو أول ما ذكرتم من المحدثين كما هو مقتضى سياق الكلام ، فلا يثبت أن الإله المستحق للعبادة واجب الوجود.

والجواب : أن هذا المحدث الذي قدرتموه صانعا للعالم لا يخلو إما أن يكون من قبيل الأجسام أو الأعراض ؛ إذ المحدثات لا تنفك عن هذين القسمين ، وسيأتي التوجيه أن الجسم والعرض لا يصح منهما فعل الأجسام ونحوها ، وإذا تقرر ذلك فلا بد أن يكون صانع العالم قادرا لذاته ، عالما لذاته ، وفي ذلك نفي أن يكون محدثا ، ووجوب أن يكون قديما ، وكلامنا في المحدثين وتسلسلهم إنما هو على جهة الفرض والتقدير وبيان أنه لا بد من قديم ، وهذا الجواب وإن كان فيه استعانة بما يصلح أن يكون دليلا مستقلا حسن صحيح.

٥١

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عامة الآل يقولون إن صفاته تعالى من نحو قادر وعالم وموجود وقديم وحي تعبير ليس إلّا ، وإلا لزم التكثر في الذات ، والتعدد في القدماء والواجبات ، أو التلاشي إن قالوا : لا شيء ولا لا شيء ، وهذه عبارة زين العابدين (١) في توحيده لرب العالمين حيث قال : فأسماؤه تعبير وأفعاله تفهيم ، وذاته حقيقة ، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه.

وقال الهادي ـ عليه‌السلام ـ في كتاب الديانات : لم يزل قادرا عالما ليس لقدرته غاية ، ولا لعلمه نهاية ، وليس علمه وقدرته سواه ، ومن قال علم الله هو الله ، وقدرة الله هي الله ، وسمع الله هو الله ، وبصر الله هو الله فقد قال في ذلك بالصواب.

قال الإمام المهدي ـ عليه‌السلام ـ : وهذا قول أبي الهذيل ، ولو أمعن النظر الهادي لما كان لإضافتها إليه معنى ؛ إذ لا يضاف الشيء إلى نفسه.

قال والدنا العلامة محمد بن عز الدين المفتي (٢) كثّر الله فوائده : وما أحق المهدي بإمعان النظر في قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨](كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وهذا من ذلك عند أولئك كما صرح به القاسم ، وليست صفاته ثابتة لمعان كما يقوله مثبتوا المعاني من المتكلمين ، فإنهم قالوا : حي له حياة أزلية ليست بعرض ولا مستحيل البقاء وعالم له علم أزلي شامل ، ليس بعرض ولا مستحيل البقاء ولا ضروري ولا مكتسب ، وليست ثابتة لمزايا زائدة كما يقوله الكثير من المعتزلة واختاره جماعة من متأخري الآل ، فكونه قادرا وعالما وحيا وموجودا صفات زائدة على ذاته ، مقتضاة عن صفة أخص (٣) بها فارق مفارقه تعالى بعد المشاركة في الذات

__________________

(١) هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، توفي سنة أربع وتسعين وعمره ثلاث وستون سنة.

(٢) هو محمد بن عز الدين بن محمد بن عز الدين الملقب بالمفتي الصغير ، زيدي توفي عام ١٠٥٠ ه‍ من مشايخه أحمد الضمدي وعبد الله المهلا ، وهو شيخ مشايخ الفروع ، ومن طلبته العلامة الحسن بن أحمد الجلال ومؤلف هذا الشرح. ا. ه.

(٣) هذا قول أبي هاشم ومتابعيه ، وحقيقة الصفة الأخص عندهم : هي الصفة الواجبة لله تعالى التي لا يستحقها ـ

٥٢

لسائر الذوات ، وهي صفته (١) الذاتية.

__________________

ـ عينا ولا جنسا ولا نوعا إلا هو ، وإن شئت قلت : هي الصفة الواجبة المقتضية لصفات أربع ، وإن شئت قلت : هي الصفة الواجبة التي لا يستحق جنسها إلا ذات واحدة ، وهي ذات الله تعالى ، وربما لقب هؤلاء بالمقتضية لقولهم بالمقتضي ، وهي الصفة الأخص ، والفرق بينها وبين العلة ، أن العلة ذات موجبة لصفة أو حكم ، والمقتضي ليس بذات ، ومن شرطهما أن لا يتقدمان على ما أثرا فيه وجودا بل رتبة ، ومن شرط الذي أثرا فيه أن لا يتخلف عنهما ، وأنت تعلم أن تأثير الإيجاب باطل غير صحيح ، تأمل.

(١) مسائل الصفات مما كثر فيها الخوض ، وزلت أقدام بعضهم فيها إلى الحضيض ، وتكلف بعضهم حتى خرج عن نطاق العقل وعن مقتضى الكتاب والسنة ، ونحن ملخصون جملة الأقوال فيها تبيينا لما أجمله الشارح وأشار إليه ، وقد لخصها مولانا وشيخنا أبو الحسين مجد الدين بن محمد ـ حفظه الله ـ في لوامع الأنوار المجلد الثاني صفحات (١٥٨ وما بعدها) ولم نستوف كلامه ـ حفظه الله ـ لطوله ، بل لخصنا ذلك تلخيصا.

فالقول الأول هو قول الأئمة الهداة : أن صفاته جل جلاله ذاته ، وهذا القول هو الحق الذي قامت عليه البراهين وأبانه إمام الموحدين وسيد المتكلمين أمير المؤمنين وسيد الوصيين ـ صلوات الله عليه ـ وخطبه كثيرة طافحة بالتصريح بذلك ، وأما القول بأنها عبارة عما لا يعلم كنهه ، وقد نسب إلى زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ واختاره الحسن الجلال ، فلا منافاة بينه وبين الأول ، فالذات المقدس لا تعلم كنهه ، ، فهي عبارة عنه وهو قول الآل ـ عليهم‌السلام ـ.

الثاني : أنها لعدم صفة النقص ، فعالم لعدم كونه غير جاهل ، وقادر لكونه غير عاجز إلخ ..

الثالث : أنها مزايا اعتبارية فقط في غير صفة الوجود ، وهو قول أبي الحسين البصري وأتباعه.

الرابع : أنها أمور زائدة على الذات ، لا هي الموصوف ولا غيره ، ولا شيء ولا لا شيء ، وهي مقتضاة عن الذات عند أبي علي وأتباعه ، وعن الصفة الأخص عند أبي هاشم وأتباعه.

الخامس : أنه يستحقها لمعان زائدة أزلية ، وهو قول الكرامية ، قال الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ : الأزلي هو القديم ، إلا أن ابن كلاب لم يتجاسر على إطلاق القول بقدمها للإجماع على أنه لا قديم مع الله تعالى ، وتجاسر الأشعري على ذلك لوقاحته.

السادس : أنه يستحقها لمعان قديمة قائمة بذات الباري سبحانه ، وهو قول الأشعرية ، وقد اتفق أهل النقل عنهم على إثباتهم للمعاني القديمة ، ثم اختلف بعد ذلك أنها نفس الصفات ، وأن الصفات مستحقة للمعاني القديمة عندهم ، والتحقيق ما أفاده الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ في المعراج قال فيه : قال الإمام يحيى ـ عليه‌السلام ـ : وأما الأشعرية فاتفقوا على إثبات المعاني القديمة ثم اختلفوا فنفاة الأحوال منهم يقولون العلم هو نفس العالمية ، والقدرة هي نفس القادرية ، ثم هذه الصفة عندهم معلومة بنفسها موجودة في ذاتها ، وهو مذهب الأشعري وابن كلاب ، وقول المتأخرين من محققيهم ، وأما مثبتوا الأحوال منهم فعندهم أن القادرية والعالمية والحيية صفات مضافة إلى المعاني ، والله تعالى كما هو موصوف بهذه الصفات هو موصوف بالمعاني إلخ .. وقالوا : لا هي الله ولا هي غيره.

السابع : أنه يستحقها لمعاني قديمة أغيار لله تعالى أعراض حالة في ذاته سبحانه وتعالى ، وهو قول الكرامية.

الثامن : أنه يستحقها لمعان لا توصف بقدم ولا غيره ، وهو قول الصفاتية وأفاد الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ

٥٣

قالوا : ومدرك صفة مقتضاة عن الحيية بشرط وجود المدرك ، وليست تلك مزايا زائدة هي صفات له تعالى كما يقوله منهم من نفى الصفة الأخص ، وكذا من يقول منهم بالتعلق ، بمعنى أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالمة ، وبالمقدورات قادرة ، وليست تلك الصفات عدم صفة نقص كما يقوله البعض منهم ، وقد حكى عن بعضهم أنه مذهب الآل.

فإن قلت : فما هذه النعوت للجلال المقدس ، فإنه لا بد من اعتبار أمر فيها يصح إطلاقه على الله تعالى سوى ما أفاده الآخر ، وما الدليل على بطلان ما ذهب إليه من تقدم من المخالفين؟

قلنا : الأمر كذلك فإنه من حيث صح الفعل منه بغير واسطة سمّي قادرا ومن حيث صح منه الإحكام سمي عالما ، فاعتبار الأمر هو هذا كما يدل عليه قول علي ـ عليه

__________________

ـ أنهم سليمان بن جرير الإمامي وبعض أصحابه ، وليس هذا القول قول الكرامية كما نسبه إليهم بعضهم.

التاسع : أنها غير الله وأنها محدثة بعلم محدث ، وهو قول هشام بن الحكم ومن معه من الرافضة وجهم بن صفوان ومن معه من المجبرة.

العاشر : قول الباطنية أقماهم الله ، وهو في التحقيق خارج عن أقوال المنتمين إلى الإسلام ، وهو أنهم لا يصفونه جل وعلا بنفي ولا إثبات فلا يوصف عندهم بوجود ولا عدم.

واعلم : أن قول الآل ـ عليهم‌السلام ـ أن صفاته ذاته عزوجل ، ليس المراد أن هناك ذاتا وصفة كما يتوهمه من لم يرسخ علمه في هذه الطريقة ، بل الذات المقدس وصفاته عزوجل عبارة عن شيء واحد بالحقيقة ، والتغاير إنما هو باعتبار المفهوم ، فعالم باعتبار تعلق الذات بالمعلومات من حيث كونها معلومات ، وقادر كذلك من حيث كونها مقدورات ، وهكذا سائرها ، فالتعدد حقيقة في متعلق الصفات لا في الصفات ، فليست إلا عبارة عن الذات ، ومرجع الكلام عند التحقيق إلى إثبات مدلولات الصفات وثمراتها وآثارها بالذات المقدس العلي ، لا بمعنى ولا لأمر ولا مزية ، وليس هذا كقول أبي الحسين فإنه يقول : الصفات أمور اعتبارية ، وهي التعلق ، وقدماء الآل ـ عليهم‌السلام ـ يقولون : هي الذات من حيث التعلق لا التعلق نفسه ، وبينهما فرق واضح ، وعلى هذا فالمضاف هو المضاف إليه في قدرة الله وعلمه وجميع صفاته ، كما في وجهه ونفسه وذاته ونحو ذلك ، فلا معنى لاعتراض بعض الأئمة المتأخرين على إمام الأئمة الهادي إلى الحق المبين ـ عليه‌السلام ـ ، وقد رد السيد الإمام المحقق المفتي صاحب البدر الساري ـ رضي الله عنه ـ وغيره ، ولو حقق النظر لما سطر ما سطر ، لكل جواد كبوة ، ولكل صارم هفوة ، انتهى ملخصا مع تقديم وتأخير وحذف ، وقد أطلنا الكلام لتمام الفائدة.

٥٤

السّلام ـ : (الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين ، والباطن بجلال عزه عن فكر المتوهمين).

ولصعوبة هذا المقام قال مثبتوا المعاني ليست بعرض ، ولا هي هو ولا هي غيره ، وقال أهل المزايا : لا توصف بوجود ولا عدم ، ولا حدوث ولا قدم ، ولا هي شيء ولا لا شيء ، وأهل التعلق قالوا : المرجع بها إلى تعلق مخصوص من القادر والمقدور ، والعالم والمعلوم ، وصحة أن يقدر ويعلم في حي ، وهو قريب من كلام الآل ، فعرفت تلاشي الأقوال السالفة وأنها لا تكاد تعقل فضلا عن أن يحكم بها العقل.

قال بعض المحققين : وعندي في ذلك الوقف وهو ترك الخوض في تلك الصفات ، والكلام في حقائق تلك السمات ، لما ورد من النهي عن التفكر في الذات بالنص ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما رواه المتكلمون : «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروا قدره» (١) ، وهذا يعم التفكر في ذاته وصفاته سواء جعلت تعبيرا أو غير ذلك على وجه التعمّق وإدراك الكنه.

وقال علي ـ عليه‌السلام ـ : (من تفكر في غير الذات وحد ، ومن تفكر في الذات ألحد).

وقال ـ عليه‌السلام ـ : (العقل آلة أعطيها العبد ؛ لاستعمال العبودية لا لإدراك الربوبية).

وكما قال بعض المحققين : إن العجز عن معرفة الله تعالى ذاتا وصفة ضروري ؛ لأن كلما لم نشاهد ولا مثل له في الشاهد استحال تصوره ، وما استحال تصوره أي العلم به تصورا استحال أن يعرف إلّا على جهة الإجمال ، وإن تصوره متصور من غير معرفة وقع في الخطأ.

واعلم أن أحدا لم ينب عن الله تعالى كما أنبأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارض به رائدا وإلى النجاة

__________________

(١) هو في مجمع الزوائد ، وفي تفسير ابن كثير ، وابن عدي في الضعفاء ، والطبراني في الأوسط وغيرهم.

٥٥

قائدا ، وقد قال أمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ في صفة ملك الموت والعجز عن صفته : (فكيف يصح وصف الإله لمن عجز عن وصف مخلوق مثله ، إلى أن قال : هيهات من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز).

ومن كلام الحسن (١) ـ عليه‌السلام ـ : أصف إلهي بما وصف به نفسه ، وأعرفه بما عرّف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس .. ، وفي هذا الكلام إشارة إلى أنها توقيفية كما أشار إليه والده ـ عليه‌السلام ـ من قبل.

واعلم أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة المعرفة التفصيلية ، أو على وجه الإحاطة على حد علمه مما لا تدركه عقولنا ، قال القاسم ـ عليه‌السلام ـ : وقد قال الله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠](لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وهذا مذهب علي ـ عليه‌السلام ـ حيث قال في امتناع معرفته على العقول : (لم تحط به الأوهام ـ أي العقول ـ بل تجلّى لها بها وإليها حاكمها) ومعناه امتنع من العقول بمعرفة العقول بعجزها عن إدراكه والإحاطة به ، وإليها حاكمها : أي جعلها محكّمة في ذلك ؛ لأنه نزّلها منزلة الخصم المدعي ، والخصم لا يحكم إلا حيث يصح.

__________________

(١) هو السبط الأكبر ، الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب ـ عليهما‌السلام ـ توفي وعمره ستة وأربعون سنة ٥٠ من الهجرة.

٥٦

(المسألة السابعة)

وهي الأولى من مسائل النفي ، ومسائل النفي ثمان ، لكن أربع منها داخل فيما سبق ، وهي : أنه تعالى ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت ولا معدوم ولا محتاج ولا مشبه للمحدثات ولا مرئي ولا ثاني له ، فالأربع الأول قد تقررت بإثبات القادرية والعالمية والوجودية له تعالى وأنها واجبة في حقه تعالى فإنه يستحيل ثبوت أضدادها مع ثبوتها ووجوبها.

وأما الأربع الأخر فهذا موضع (١) الكلام عليها ، ولا خلاف بين المتكلمين في تأخير مسألة نفي الثاني ؛ إذ هي كلام في أنه لا ثاني له يشاركه في صفاته الإثباتية والنفييّة ، وما لم تعين من المسائل لا يحسن الكلام على نفي المشاركة فيها ؛ إذ لا يعلم نفي المشاركة في أمر إلا بعد العلم به.

وأما مسألة نفي الرؤية فيحسن تأخيرها عن الأولتين ؛ لأنها كلام في نفي صفة له مع غيره ، إذ مضمونها أنه تعالى لا يرى ، وأن غيره لا يراه بخلافهما فإنهما كلام في نفي صفة يختص نفيها بذاته تعالى.

أما مسألة نفي الحاجة والتشبيه فقد وقع الخلاف فيهما ، والذي ذهب إليه العترة وصفوة الشيعة (٢) والمعتزلة وغيرهم (أن الله تعالى لا يشبه الأشياء) فليس بجسم ولا عرض ، ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما من التحيز والحلول ، والتنقل في الأمكنة والجهات ، ونحو ذلك من توابعها.

وقال هشام بن الحكم (٣) وغيره : بل جسم له أعضاء وجوارح ، وهو خمسة أشبار

__________________

(١) في الأصل فهذه مواضع ، والصواب فهذا موضع الكلام.

(٢) صفوة الشيعة : أي الزيدية.

(٣) قال محقق الأساس : هشام بن الحكم الرافضي من الشيعة المجسمة ، أدرك زمن المأمون الخليفة العباسي المعروف ٢١٨ ه‍ وله أتباع يعرفون بالهشامية.

٥٧

بشبر نفسه.

وقال بعض الحشوية (١) : أنه سبيكة ملقاة فوق العرش ، وقال مقاتل بن سليمان (٢) وداود الجوزجاني (٣) : أنه على العرش كبعض ملوك البشر لحم ودم ، وقال بعضهم : أنه فضاء منبت والأجسام كلها فيه ، قالوا : وهو لا يحتاج إلى مكان ؛ لأنه مكان في نفسه.

وحكي عن بعض الحنابلة (٤) القول : بأنه جسم طويل عريض عميق وعليه جل أهل الحشو.

وقالت الثنوية (٥) : أنه نور لا يتناهى .. ، إلى غير ذلك من خرافات أهل الزيغ ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح ، وهو القول : أن الله تعالى لا يشبه الأشياء (أنه لو أشبهها لكان محدثا مثلها أو كانت قديمة مثله ، ولا يجوز أن يكون تعالى محدثا ولا أن الأشياء سواه قديمة) لما مر من الدليل على أنه تعالى ليس بمحدث ، والدليل على حدوث العالم (وهذه الدلالة مبنية على أصلين : أحدهما : أنه لو أشبهها لكان محدثا مثلها ، أو كانت قديمة مثله ، والثاني : أن ذلك لا يجوز ، أما) الأصل (الأول فالذي يدل عليه أن من حق المثلين أن يشتركا في وجوب ما يجب ، وجواز ما يجوز ، واستحالة ما يستحيل

__________________

(١) الحشوية : قال الشرفي في شرح الأساس الكبير : وأما الحشوية فلا مذهب لهم منفرد ، وأجمعوا على الجبر والتشبيه ، وجسموا وقالوا بالأعضاء ، ويسمّون أنفسهم بأهل الحديث.

(٢) قارئ ومحدث ، توفي سنة ١٥٠ ه‍ وقيل بعد ذلك ، راجع الميزان.

(٣) (داود الجوزجاني). هكذا في الأصل ، والذي في كتب الرجال : داود الجواربي ، وقد ترجم له في لسان الميزان بأن قال : رأس في الرفض والتجسيم من مراقي جهنم ، وذكره محقق كتاب الانتصار للخياط ذكره في (ص ١٧٥) قال : قال السمعاني في كتاب الأنساب تحت نسبه : الهشامي ، بعد ذكر هشام بن سالم الجواليقي ومذهبه ، وعنه أخذ داود الجواربي قوله : أن معبوده له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية ، ا. ه. فأما أن يكون الجوزجاني غلط ، أو هو غير الجواربي فينظر.

(٤) الحنابلة : أتباع أحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة إمام أهل الأثر ، ولد سنة ١٦٤ ه‍ روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وأمم ، توفي سنة ٢٤١ ه‍ وله سبع وسبعون سنة.

(٥) هم كل من أثبت مع الله إلها غيره ، وتطلق على من قال بإلهين : إله خير وإله شر ، وهم فرق كثيرة.

٥٨

فيما يكون وجوبه وجوازه ، واستحالته راجعة إلى ذاته) كالقدم والحدوث مثلا بخلاف ما كان راجعا إلى العوارض للجسم ، كالسواد والبياض فلا يقدح في صحة تماثلها يكون بعضها أسود وبعضها أبيض ، وبعضها يصح حلول الحياة فيه ونحو ذلك ؛ لأن هذه عوارض للجسم غير واجبة له وعدم الاشتراك في العوارض لا يوجب المخالفة ، وكذلك وجوب القادرية عند وجود القدرة واستحالة الحياة عند فقد البنية ، إذ مثل هذه راجعة إلى غير الذات ، (ألا ترى أن الجوهرين لما كانا مثلين اشتركا في وجوب ما يجب لهما من التحيز والشغل للجهات ، وجواز ما يجوز عليهما من التنقل في الأمكنة ، واستحالة ما يستحيل عليهما من الكون في جهتين في وقت واحد ، وإنما وجب لكونهما مثلين ، ولهذا لم يجب في الجوهر والعرض لمّا لم يكونا مثلين) لا يقال : إن الجوهرية تقتضي القدم في حقه دوننا ؛ لأنا نقول : إما أن تقتضيه لا بشرط فيجب أن تقتضيه لنا أو إما أن تقتضيه بشرط فكان يصح حصوله لنا ؛ إذ لا يصح حصول المقتضي ويستحيل شرط الاقتضاء على الإطلاق (فثبت بما ذكر) الأصل (الأول) وهو أنه يلزم أن يكون تعالى محدثا كالأشياء ، أو أن تكون قديمة كالباري عند ادعاء المشابهة بينهما.

(وأما الأصل الثاني) وهو كونه تعالى محدثا كالأشياء ، أو هي قديمة مثله (فهو معلوم انتفاؤه) بما تقدم من كون الباري تعالى قديما ، إذ قد أقمنا عليه البرهان القطعي فلا يثبت كونه محدثا كالأشياء ، ومن كون هذه الأجسام والأعراض محدثة ، وقد بينا دليله القطعي فلا تثبت كونها قديمة ، وإذا علمنا التخالف بالأدلة القطعية لم يصح دعوى المشابهة بينهما في حال من الأحوال.

فإن قيل : لا مانع من دعوى أن يقال هو قديم محدث أو هي قديمة محدثة.

قلنا : ذلك معلوم الانتفاء (ضرورة ؛ إذ اجتماع النقيضين مستحيل تقتضيه فطرة العقول) وهذا الدليل من جهة العقل ، وأما الدليل من جهة السمع فلا شك أن

٥٩

القرآن والسنة مشحونان بنفي التشبيه نحو قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الصمد : ١] و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وهو معلوم ضرورة من الدين ، ووجه الاستدلال ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أنه لو كان جسما لم يكن واحدا ؛ لمماثلة الأجسام له ، وهذا مأخذ حسن ، والاستدلال بالسمع هنا إنما هو من طريق الجدل على من يقر بالسمع ، فأما من جهة العلم فقيل : إنه لا يصح ؛ لأن صحة السمع تنبني على العدل ، والعدل ينبني على إنه عالم لذاته وغني لذاته والجسم ليس كذلك.

واعلم : أن هذه الأدلة إنما توجّه إلى من يثبت له الجسمية حقيقة ، فأما من يخالف في العبارة فالمرجع في إبطال كلامه إلى الوضع ، وقد وجدنا أهل اللغة لا يستعملون الجسم إلا فيما كان طويلا عريضا عميقا ، ولو سلمنا استعماله في غيره لمنعنا إطلاقه على الله تعالى ؛ لإيهامه الخطأ ، وليس إذا صح أن نقول : شيء لا كالأشياء صح أن نقول : جسم لا كالأجسام ؛ لاختلاف الفائدة ، فإن فائدة قولنا : شيء ما يصح العلم به والخبر عنه ، وفائدة قولنا : جسم أنه طويل عريض عميق ، فإذا قلنا : شيء فالمراد أنه يصح العلم به والخبر عنه ، وإذا قلنا : لا كالأشياء فمرادنا أنه لا يشبه سائر الأشياء والذوات المحدثة ، وإذا قلنا : جسم فقد أفاد أنه طويل عريض عميق ، وإذا قلنا : لا كالأجسام نفينا بذلك الطول والعرض والعمق عنه ، فيكون في ذلك محض المناقضة والله أعلم.

(فصل : وإذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء لم يجب عليه ما يجب عليها من التحيز في الجهة وشغل المكان والنزول والصعود والزيادة والنقصان) والاستراحة ، والغم والسرور ، والألم واللذة ، وهذا مذهب أهل العدل وأكثر الفرق الإسلامية.

وحكي عن الفلاسفة القول بأنه ملتذ بإدراك ذاته وكماله ، وقد حكي عن الغزّالي وحاشاه.

وروي عن بعض قدماء المعتزلة أنه تعالى يجوز عليه الغم والسرور والأسف والغيرة ،

٦٠