الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي

الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

المؤلف:

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي


المحقق: عبدالرحمن بن حسين شايم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٣

والجواب : أن فائدتها بيان مرتبة الشافع وزيادة مسرة المشفوع له ومنافعه ، ونعارضهم بقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧] فنقول : لا فائدة في هذا الاستغفار وبالزيادة في قوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ١٧٣].

قالوا : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» ، ونحوه كما رواه أبو هريرة (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأنا اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة من مات إن شاء الله من أمتي لا يشرك بالله شيئا» أخرجه البخاري ومسلم ومالك (٢) في الموطأ والترمذي.

والجواب : أن هذه الأحاديث لو صحت لم تخرج عن رتبة الآحاد ، فإن التواتر من حقه كثرة الرواة ، واستواء الطرفين والأوساط في ذلك ، والمسألة قطعية على أن الحديث التالي للحديث الأول وما يشابهه ممكن التأويل بتخفيف جزء من العقاب لا يفضي إلى خلاف ما قضى به رب الأرباب ، هذا مع الصحة التي بها تعارض القاطع ، والذي يحسم المادة أن شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للفاسق كيف تليق بخلائقه الشريفة الفائقة أن يقول لرب العزة يوم القيامة : يا رب قد كنت أنزلت عليّ كتابا في الدنيا وبعثتني رسولا إلى الجن والإنس ؛ لأعلّمهم ما شرعت لهم ، وآمرهم بطاعتك وأعدهم عليها ثوابك ، وأنهاهم عن معصيتك ، وأتوعدهم عليها بعقابك ، وأنا الآن أسألك ألّا تفي بذلك ، وأن تصيّر المسيء مع المحسن والمجرم مع المسلم مع قوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم : ٣٥] هذا مما لا يستحسنه عاقل ، فكيف به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الأعظم حلما وعقلا.

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الملقب بأبي هريرة ، نشأ يتيما ضعيفا في الجاهلية ، وقدم المدينة ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بخيبر فأسلم سنة ٧ ه‍ وتوفي عام ٥٩ ه‍.

(٢) هو مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري أبو عبد الله ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، مولده : عام ٩٣ ه‍ بالمدينة وتوفي بها عام ١٧٩ ه‍.

١٤١

(المسألة السادسة والعشرون) : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد استشكل الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ جعلها من أصول الدين قال : وأقرب ما يمكن تمحله أن يقال : لما كان باب الوعد والوعيد ينطوي على ذكر الطاعات والمعاصي ، وما يقتضيه وما يجب من التوبة عن ترك الطاعة ، وفعل المعصية ، وذكر أسماء فاعليها وأحكامهم ، حسن وناسب أن يردف بذكر الأمر بوجوب الطاعة والحث عليها ، والنهي عن المعصية ، وأن لا يترك لمريدها سبيلا إليها ، فكما أن في ذلك الباب ذكر أحكام فاعلي الطاعة والمعصية وما ينبغي من حسن المعاملة ، فهذا كلام في بعض ما ينبغي أن يعاملهما به غيرهما من الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي ، ولو إلى حد القتال بعد تحسين المقال.

واعلم : أنه لا خلاف (أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) على كل مكلف وجوب كفاية ، سواء كان ثم إمام أولا ، ولا اعتداد بما يعزى إلى الحشوية من الخلاف في وجوبه قولا وفعلا ، وأما الإمامية فلم يخالفوا إلا في كيفية وجوبه ، وإلا فقد قالوا بوجوبه قولا لكنهم قالوا : لا يجب فعلا إلا في زمن الإمام.

وقال الأصم : لا يجبان إلا إذا كان ثم إمام مجمع عليه ، وإنما يجبان على قدر الطاقة والإمكان ، فإن لم يقدر ولم يستطع فلا وجوب عليه لقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ٦١] وعلى مراتبه ، فيبدأ بالقول اللين ، فإن حصل به المقصود من الامتثال وإلا تعداه إلى القول الخشن والوعيد ، فإن نفع وإلا فالعصا ثم السيف ، والوجه في هذا الترتيب أن الغرض بالأمر والنهي هو أن يقع المعروف وأن لا يقع المنكر ، فإذا تم الغرض بالأمر فلا وجه للتعدي إلى الوجه الصعب ، ولقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت : ٣٤] ونحوها.

والذي يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة كثيرة منها قوله

١٤٢

تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة : ٧٨ ، ٧٩] ونحن متعبدون بشرائع من قبلنا ما لم تنسخ على الأصح.

وما ثبت في النهي عن المنكر ثبت في الأمر بالمعروف ، وقال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١٠٤] فأمر الله تعالى أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فأوجبه على الكفاية ؛ إذ الأمر يقتضي الوجوب على الراجح ، وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ٧١] فحكم سبحانه على المؤمنين بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم ، فمفهومه من لم يكن كذلك فليس بمؤمن ، كما أن من لم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة فليس بمؤمن. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل» قيل : عن البلد ، وقيل : عن المكان ، والمراد أن تنتقل إن لم يمكن التغيير.

وفي الترمذي عن حذيفة (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» إلى غير ذلك مما يدل على الوجوب قطعا.

ثم إن المصنّف أطلق القول بالوجوب ، وهو تابع للمتقدمين من المعتزلة فإنهم أطلقوا ، وأما المتأخرين كأبي علي وأبي هاشم وطبقتهم فإنهم فصلوا ، فجعلوا الأمر بالواجب واجبا ، والأمر بالمندوب مندوبا ، قالوا : لأنه لا يزيد حال الأمر على حال المأمور به ، فإذا جاز للمأمور أن يترك المندوب جاز للآمر أن يترك الأمر به ، فأما المنكر فلا ينقسم ؛ لأنه قسم واحد ، وهو ما يستحق عليه العقاب فيجب فيه النهي إذا تكاملت الشروط الآتية ، وإنما يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من قال

__________________

(١) حذيفة : هو حذيفة بن اليمان ، صحابي من الطبقة الثالثة في الفقه والحديث.

١٤٣

بالوجوب (إذا تكاملت شروطهما) ، وشروطهما خمسة :

الأول : أن يعلم الذي يأمر بمعروف وينهى عن منكر أنّ الذي يأمر به معروف والذي ينهى عنه منكر ، وإلا لم يأمن أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ، ولأن الآمر لزيد مثلا بأن يفعل كذا لوجوبه يتضمن الإخبار بالوجوب إذ لو لم يكن حاكما بوجوبه لما أمر به ، وكذلك في النهي فإذا كان الخبر لا يحسن إلا مع العلم فكذلك ما يتضمنه وينبي عنه.

فإن قيل : أليس مما يجب علينا فيه الأمر والنهي المسائل الاجتهادية التي طريقها الظن ، بحيث أنا نظن وجوبها أو قبحها ولا نعلم ذلك ، ومقتضى ما ذكرتم وشرطتم أن يرتفع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها لكونها غير معلومة؟

والجواب : أنّ الظن إنما هو في مسائلها فمتى دلت عليها الأدلة الظنية بعد توفية الاجتهاد حقه صار الوجوب والقبح فيها معلومين ؛ لأن دليل وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد قطعي ، ونظيره ما إذا حصلت قرينة تقتضي الظن بأن الطعام مسموم ، وأن في سلوك هذه الطريق لحوق ضرر ، فإنه حينئذ يعلم بالعقل علما يقينا وجوب تجنب الطعام.

والطريق الثاني : أن يعلم أو يغلب على ظنه أن لأمره أو نهيه تأثيرا ، فإن علم أو غلب على ظنه العكس فاتفقوا على أنه لا يجب ، واختلفوا في الحسن ، فقيل : يحسن وينزّل منزلة استدعاء الغير إلى الدين وإقامة الحجة عليه وإزالة علته ، وقيل : يصير عبثا فيقبح ، وفرق هؤلاء بينه وبين الاستدعاء إلى الدين وأمر الله ونهيه من علم أنه لا يأتمر ولا ينتهي ، أن الغرض بهذا الاستدعاء وأمر الله ونهيه يعود إلى التمكن والإعلام وإزاحة العلة ، وذلك حاصل ، وإن علم أنه لا يقبل والغرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقع المعروف وأن لا يقع المنكر ، فإذا علم أو غلب في ظنه زوال الغرض صار الأمر والنهي عبثا ، فيزول الحسن مع زوال الوجوب ، وأما إذا لم يعلم ولم يغلب

١٤٤

على ظنه أحد الأمرين بل جوّز أن يكون لأمره تأثير وألّا يكون فههنا يجب ، وقيل : يحسن فقط ، وفي كلام الإمام القاسم ـ رحمه‌الله ـ ما يقضي بعدم اشتراط هذا الشرط ؛ لأنه قال ما معناه : إن كان المأمور والمنهي جاهلين بأن المأمور به معروف ، والمنهي عنه منكر وجب ، وإن لم يظن التأثير ، لإن إبلاغ الشرائع واجب إجماعا ، وإن كانا عارفين أيضا وجب لمثل قوله تعالى : (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٦٤] والمعذرة لا تكون إلا عما لا يجب.

وأيضا فلا معنى لقول من قال : بأنه إذا لم يعلم أو يظن التأثير يصير عبثا إذ أقل درجاته أن يكون من الذكر الحسن ، وقد صدر ذلك من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ، وذلك معروف لمن نظر بعين البصيرة فأين العبث؟ ويؤيد ذلك قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف : ١٥٨] فإنه أمر الناس جميعا بالإيمان به والاتباع له ، وقد قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] فقد دعا إلى الإيمان من علم أنه لا يؤمن ، والله أعلم.

والثالث : أن يعلم أو يغلب في ظنه أنه إن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر أدى إلى تضييعهما ، نحو أن يرى آلات الملاهي المعتادة موضوعة والخمر حاضر ، أو من يريد الشرب واقفا أو يشاهد الغير يصلي مع أن وقت الصلاة قد آذن بالزوال ؛ لأن الغرض وقوع المعروف وألا يقع المنكر ، فمتى علم أو غلب في ظنه زوال هذا الغرض لم يجب ولم يحسن إلا لغرض الوعظ والتذكير والزجر عن مثله ، والأمر بالتوبة عنه ونحو ذلك.

الرابع : أن لا يخاف تلفا ينزل به أو بأطرافه أو بماله المجحف أو الضرر به أو حبسه الطويل الذي يختار الضرر عنده والضرر حدوث علة أو زيادتها أو استمرارها ، قيل : أو بطء برئها ، فإن خاف ذلك لم يجب عليه اتفاقا ؛ لأن عند خوف التلف نحو قد أباح له

١٤٥

الشرع ما هو منكر ، كأكل الميتة وشرب الخمر ، والأخذ من مال الغير ما لا يضر به ، والتلفظ بكلمة الكفر ونحو ذلك ، فبالأولى أن يباح له ترك الأمر والنهي عند مثل هذا الخوف.

واختلفوا في الحسن إذا زال الوجوب فقيل : لا يحسن ، وقيل : يحسن مطلقا ؛ لأن فيه إعزازا للدين ، وقيل : يحسن إن صدر ممن يقتدى به وله رتبة عالية ، وإن أدى إلى هلاكه وعلى ذلك جرت أحوال كثير من أئمتنا عليهم‌السلام نحو الحسين (١) وزيد (٢) ومن حذا حذوهم ، فإنهم قاتلوا في قلة من الأنصار حتى أدّى إلى الاستئصال ، فصاروا قدوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعدهم ، وليس صدوره ممن هو كذلك كصدوره ممن لا ينظر إليه ولا يلتفت عليه.

الخامس : ألا يعلم أو يغلب في ظنه أن أمره ونهيه يؤدي إلى تضييع واجب آخر أو فعل منكر آخر ، فإن علم أو غلب في ظنه ذلك فقيل : لا يجب ولا يحسن ؛ لأن في ذلك مفسدة ، ولأنه يكون في حكم المعين على المنكر الآخر ، وقيل : لا يسقط بل يحسن ؛ لأنه يكون بذلك مقيما للحجة معزا للدين ، ومتى فعل المأمور أو المنهي منكرا آخر أو ضيّع معروفا فإنما أتي من قبل نفسه ، ولا يوصف الآمر الناهي بأنه معين له ؛ لأن الإعانة تحتاج إلى الإرادة.

وفي الأساس : أنها إذا حصلت القدرة والتأثير للآمر الناهي ، وظن الانتقال إلى منكر

__________________

(١) هو الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب السبط الأصغر ، أبوه الوصي ، وجده النبي ، وأمه فاطمة البتول ، وجدته خديجة بنت خويلد ، أول من آمنت بالله وصدقت بكلماته ـ صلوات الله عليه ـ م وسلامه ، استشهد ـ عليه‌السلام ـ وله ست وخمسون سنة ، قتله أجناد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في كربلاء يوم الجمعة عاشر محرم سنة إحدى وستين.

(٢) هو الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهم‌السلام ـ مؤسس المذهب الزيدي ، ولد عام ٧٦ ه‍ تقريبا ، ودعى في محرم ١٢٢ ه‍ وهو فاتح باب الجهاد ، وبه تسمى المذهب الزيدي ، واستشهد لخمس بقين من محرم عام ١٢٢ ه‍.

١٤٦

غيره لا يرخص في الترك ؛ لأن هذا منكر معلوم ، وذلك مجوّز مظنون ، وهو كلام جيد.

وقيل : إن كان ما يقع من المنكر أو يضيع من الواجب أعظم مما نهى عنه أو أمر به لم يحسن ؛ لأن الغرض بالأمر والنهي تقليل المنكر وتكثير المعروف وإلا حسن ووجب.

وقيل : إن كان المنكر الذي يحصل عند الأمر والنهي ضررا يرجع إلى الآمر الناهي لم يزل الحسن ، وإن زال الوجوب ، لقوله تعالى : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) [لقمان : ١٧] ومعلوم أن الذي يصيبه منكر آخر ، وأيضا فمعلوم من حال الأنبياء أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، مع علمهم بأنه يلحقهم من المضار في ذلك ما يقضي بكفر فاعله أو فسقه.

وذهب القاسم ـ عليه‌السلام ـ إلى أن ما يلحق الآمر الناهي من نحو تشريد وانتهاب مال غير مرخّص في الترك لما ذكر من الآية ، ولقوله : «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (١).

وكالجهاد (والذي يدل على ذلك) المذهب الذي هو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة كثيرة منها ، (قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [آل عمران : ١٠٤] فأمر الله تعالى أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فأوجبه على الكافة ؛ إذ الأمر يقتضي الوجوب على الأرجح ، وقال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة : ٧٨ ، ٧٩] ونحن متعبدون بشرع من قبلنا ما لم ينسخ على الأصح ، وما ثبت في النهي عن المنكر ثبت في الأمر بالمعروف ، وقال تعالى :

__________________

(١) في الجامع الصغير ورمز لمن أخرجه قال : عن أبي سعيد الخدري (حم ، طب ، هب) أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة (حم ، ن ، هب) أحمد والنسائي والبيهقي في الشعب.

١٤٧

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ٧١] فحكم سبحانه على المؤمنين بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم ، فمفهومه أن من لم يكن كذلك فليس بمؤمن ، كما أن من لم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة فليس بمؤمن ، (وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم سلطانا جائرا لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم») ، وفي الترمذي عن حذيفة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتأمرون بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (١) إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على الوجوب قطعا ، (فثبت بذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان).

__________________

(١) في الجامع الصغير للسيوطي بلفظ : «لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» ورمز لمن أخرجه البزار ، ط ، س ، عن أبي هريرة قال : وإسناده صحيح.

١٤٨

(المسألة السابعة والعشرون : في إمامة علي عليه‌السلام)

وينبغي أن نذكر طرفا صالحا يشتمل على ماهية الإمامة ووجوبها ، وقد قدمنا في جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فن علم الكلام وعدهما من أبوابه ما ينبغي أن يؤتى بمثله في مسألة الإمامة ، وقيل : إنما جعلت بابا من أبوابه ؛ لأن الإمامة خالفة النبوة ، وعليها مدار كثير من أحكام الإسلام ، ولهذا ذكر أصحابنا أن العلم بها جملة من فروض الأعيان وتفصيلا من فروض الكفايات.

والإمام في اللغة : المتقدم في أمر من الأمور على وجه يقتدى به.

وفي الاصطلاح : رئاسة عامة لشخص واحد في أمور مخصوصة على وجه لا يكون فوق يده يد أخرى.

قلنا : رئاسة عامة احترازا من الخاصة ، كرئاسة الرجل على أهل بيته ، والمراد بعمومها أنّها تعم الأمة كافة ، ولا تتعلق ببعضهم دون بعض ، ولا جهة دون جهة ، ولا بوقت دون وقت ، وقولنا : لشخص واحد احترازا من النبوة ، فإنها قد تثبت لاثنين فأكثر ، والفارق بينهما هو الإجماع ، قيل : ووجهه أن مع كثرة الأئمة يحصل التشاجر والمنازعة ، ولهذا قال عمر يوم السقيفة جوابا للأنصار وقد قال قائلهم : منا أمير ومنكم أمير : سيفان في غمد إذا لا يصلحان ، بخلاف النبوة فلا يحصل فيها شيء من ذلك للعصمة ، قيل : ولأنّ النبوة لطف ، والألطاف تختلف ، فمن الجائز أن يكون اللطف في بعثة نبي واحد ، وأن يكون في بعثة نبيين أو ثلاثة ، وقلنا : في أمور مخصوصة نحو أخذ الزكوات طوعا وكرها ، وتجييش الجيوش ، وإقامة الجمعات ، وحفظ بيضة الإسلام ، وإقامة الحدود ونحو ذلك ، وقلنا : على وجه لا يكون فوق يده يد ، احترازا ممن يتولى من جهة الإمام ، فإنه ينفّذ هذه الأحكام ، لكن يد الإمام فوق يده.

وقد اختلف في وجوب الإمامة ، والظاهر من كلام أكثر العلماء أنها واجبة ،

١٤٩

ويحتجون لذلك بإجماع الصحابة ، حيث فزعوا إلى نصب إمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ظهر من اهتمامهم بتأدية هذا الأمر الواجب حتى اشتغلوا به عن تجهيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدّموه عليه وآثروه بالنظر ، ثم لما دنت الوفاة من أبي بكر اشتغل بذلك في مرضه وأمعن النظر فيه ، وعقد الولاية لمن يقوم بالأمر بعده ، ثم لمّا اتفقت قضية عمر جعل المهم له النظر في ذلك ، مع معاناته لأسباب الموت وصير الأمر شورى ، ولما اتفق مهلك عثمان انثال الناس إلى علي ـ عليه‌السلام ـ وبادروا إلى بيعته من غير تراخ ولا مهلة ، وفي جميع هذه الأحوال لم يسمع من دان ولا عال أن قال : لا حاجة بنا إلى هذا ونحن في غنية عنه ، أو قال : ليس هذا بلازم لنا ولا واجب علينا ، ولا أنكر أحد قول أبي بكر : لا بد لهذا الأمر ممن ينظمه ويقوم به ، ولا قول غيره في هذا المعنى ، وهذا الدليل هو أقوى ما يعتمد عليه في وجوب الإمامة ، واستقواه كثير من العلماء ، وبنوا على أنه دليل قطعي برهاني ، وقد أورد عليه إشكالات ، وأجيب بجوابات نتركها الجميع اختصارا.

ومما استدلّ به على الوجوب ، قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ونحوه ، وقد أجمعت الأمة على أن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو من ناب من قبله ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أربعة إلى الولاة : الحدود والجمعات والفيء والصدقات» فيجب نصب الإمام ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به ولم يرد الأمر مشروطا به فإنه يجب تحصيله ، وهذا الدليل هو الذي اعتمده القاسم بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وأبو علي وأبو هاشم في بعض كتبهما ، ولسنا بصدد تصحيح المقالة في ذلك حتى نورد ما ورد عليه من الإشكالات وحلها ، إذ ليس ذلك إلا كالمقدمة لما قال المصنف من أن (الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل علي بن أبي طالب) ، وهذا كلام أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وأكثر الزيدية ما عدا الصالحية منهم ، فذهبت هي والمعتزلة وسائر الفرق إلى أنه أبو بكر ، وتتفق الزيدية جميعا على أن عليا هو الأفضل والأولى بالإمامة ، (والدليل) لنا (على ذلك) النص والوصاية ، والتفضيل والعصمة ، وإجماع أهل البيت ـ عليهم

١٥٠

السلام ـ ، وكفى به دليلا ، أما النص فـ (قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)) [المائدة : ٥٥] (١) ووجه الاستدلال بهذه الآية أنها نزلت في علي ـ عليه‌السلام ـ فقط ، فقد أثبت الله له فيها الولاية كما أثبتها لنفسه ولرسوله ، والولاية هنا هي ملك التصرف ، وذلك معنى الإمامة.

وهذه الدلالة تنبني على ثلاثة أصول : أحدها : أنها نزلت في علي ، والثاني : أن المراد بها الرئيس الذي يلي التصرف ، والثالث : أن ذلك هو معنى الإمامة.

أما الأصل الأول : وهو أن الآية نزلت في علي ـ عليه‌السلام ـ وصفة ذلك ما روي أن سائلا كان يسأل في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس بين قائم وراكع فلم يعطه أحد شيئا ، فقال : اللهم إني أشهدك أني سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم أعط شيئا ، وعلي في حال الركوع فأشار إليه بخاتمه فنزعه وأخذه السائل ، ونزلت الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج والناس بين قائم وراكع ، فبصر بالسائل فقال : «هل أعطاك أحد شيئا؟» قال : نعم ، وأشار إلى علي ـ عليه‌السلام ـ فتلا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية.

وعن سلمة بن كهيل (٢) قال : تصدق علي بخاتمه فنزلت : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ)

__________________

(١) سبب نزول الآية الكريمة : أخرجه الهادي ـ عليه‌السلام ـ في الأحكام ، وفي تفسير آل محمد في جوابات نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم ، وأخرجه المؤيد بالله في أماليه بسنده إلى كامل أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ عبد الله بن الحسن ـ عليه‌السلام ـ ، وأخرجه أيضا من طريق الناصر للحق الحسن بن علي ووالده علي بن الحسن سندا إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، وأخرجه صاحب جامع آل محمد عن الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين ـ عليهم‌السلام ـ ، وأخرجه الإمام المرشد بالله ـ عليه‌السلام ـ في أماليه بسنده إلى ابن عباس ، ورواه الإمام المرشد بالله بسنده إلى أبي هريرة ، ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن أبي جعفر الباقر ، وعن ابن عباس من ثلاث طرق ، وعن جابر بن عبد الله وعن عبد الله بن أوفى ، وعن أبي سعيد وعن أبي هريرة ، وروى ذلك الحلي في كتاب العمدة عن ابن عباس وعن أبي جعفر.

(٢) سلمة بن كهيل : ممن تابع الإمام زيد بن علي ـ عليه‌السلام ـ واشتهر بالرواية عنه وعداده في الزيدية وثقات محدثي الشيعة ، أخرج له من أئمتنا الهادي ـ عليه‌السلام ـ والخمسة ، ومن غيرهم البخاري ومسلم والأربعة ، ووثقه أحمد والعجلي وغمزه بالتشيع ، أفاده سيدي عبد الله بن الإمام ـ رحمه‌الله ـ.

١٥١

الآية ... ، رواه ابن أبي حاتم (١) ، وروى نحوه ابن جرير (٢) عن مجاهد (٣) وعن الضحاك (٤) عن ابن عباس (٥) قال : كان علي ـ عليه‌السلام ـ قائما يصلي فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية ... ، رواه ابن مردويه (٦) ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، وأخرج نحو الرواية الأولى وفيها قال : فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك وهو يقول : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [المائدة : ٥٦] إلى غير ذلك من الروايات ، ومما يدل على نزولها إجماع أهل البيت ، رواه القرشي.

وفي الأساس : لوقوع التواتر بذلك من المفسرين وأهل التواريخ وإطباق العترة وشيعتهم على ذلك ، انتهى.

وما يدل على ذلك ، أن الله تعالى وصفه بصفة لم توجد في غيره ، وهو إيتاء الزكاة حال الركوع.

قال الإمام المنصور بالله : وبالاتفاق أن أحدا من لدن آدم ـ عليه‌السلام ـ لم يؤت الزكاة حال الركوع إلا علي ـ عليه‌السلام ـ ، وقد ثبت بالنقل الظاهر المشهور في

__________________

(١) ابن أبي حاتم : هو عبد الرحمن بن إدريس بن أبي حاتم الحنظلي ، منسوب إلى دار حنظلة بالري ، ولد سنة ٢٤٠ ، أخذ على أبي حاتم وأبي زرعة ، ورحل إلى الشام ومصر وأصبهان ، روى عن جماعة كثيرة ، وروى عنه أمم ، وله تصانيف : التفسير ، وعلل الحديث ، والمسند وغيرها ، توفي في المحرم سنة ٣٢٧ ه‍.

(٢) هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري أبو جعفر المؤرخ المفسر ، ولد في آمل طبرستان عام ٢٢٤ ه‍ ، واستوطن بغداد وتوفي بها ، من مؤلفاته : جامع البيان في تفسير القرآن ، والمسترشد ، توفي عام ٣١٠ ه‍.

(٣) مجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ، ثقة إمام في التفسير وفي العلم ، ثقة من العاشرة ، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة ، وله ثلاث وثمانون سنة ا. ه. تقريب.

(٤) هو أبو القاسم بن مزاحم البلخي المفسر ، كان مؤدبا للصبيان ، توفي سنة ١٠٥ ه‍.

(٥) ابن عباس : هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، ودعا له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه ، لازم أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وانقطع إليه ، ومقاماته مشهورة وفضله وعلمه كذلك ، توفي سنة ثمان وستين بالطائف ـ رحمه‌الله ـ.

(٦) ابن مردويه :

١٥٢

كتب أكثر المفسرين وأهل التواريخ ، ومن طرق أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ورواياتهم أنها نزلت في علي ، وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع ، انتهى كلام المنصور.

قال الإمام الناطق بالحق أبو طالب (١) ـ عليه‌السلام ـ في كتاب زيادات شرح الأصول ما هذا لفظه : ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أن الآية نزلت في علي ـ عليه‌السلام ـ.

وقال في محاسن الأزهار للفقيه حميد ـ رحمه‌الله تعالى ـ بإسناده ، قال : قال عمر بن الخطاب : أخرجت مالي صدقة فتصدقت بها عني وأنا راكع أربع وعشرون مرة على أن ينزل فيّ مثل ما نزل في علي ـ عليه‌السلام ـ فما نزل ، وإذا ثبت أنها نزلت في علي ـ عليه‌السلام ـ لما ذكر من الإجماع ومن النقل المتواتر لم يكن لما أورد من التشكيك ثمرة فلا حاجة لنا إليه.

وأما الأصل الثاني : وهو أن المراد بالولي في الآية الرئيس الذي يلي التصرف ، فالذي يدل على ذلك أن هذه اللفظة وإن كانت مشتركة بين المود والناصر والأولى والرئيس الذي يلي التصرف ، فقد صار الغالب عليها بعرف الاستعمال الرئيس ؛ لأنها متى أطلقت فقيل : فلان ولي القوم سبق إلى الفهم أنه رئيسهم الذي يلي التصرف ، وعلى هذا ورد قوله تعالى : (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤].

وعلى الجملة فذكر الولاية بمعنى الرئاسة في اللغة أكثر من أن يحصر ، وكلمة ولي

__________________

(١) هو الإمام يحيى بن الحسين بن محمد بن هارون البطحاني الهاشمي الحسني ، الإمام أبو طالب الناطق بالحق أخو المؤيد بالله كانا شمسي العترة وقمري الأسرة ، ولأبي طالب من المصنفات : المجزي في أصول الفقه ، (مجلدان) وكتاب جامع الأدلة في أصول الفقه أيضا ، وفي الكلام : كتاب الدعامة في الإمامة ، وقد طبع بعنوان : نصرة مذهب الزيدية ، ونسبه محققه الدكتور : ناجي حسن إلى الصاحب بن عباد ، وهو خطأ وقع فيه المحقق ، وكتاب مبادئ الأدلة ، وفي الفقه : التحرير وشرحه ، وهو اثنى عشر مجلدا ، والتذكرة ، وكتاب الإفادة في تاريخ الأئمة السادة ، وغيرها كالأمالي ، مولده ـ عليه‌السلام ـ : سنة ٣٤١ ه‍ ، وبويع له بعد موت أخيه سنة ٤١١ ه‍ ، وتوفي سنة ٤٢٤ ه‍ عن نيف وثمانين سنة.

١٥٣

وإن كانت مشتركة كما ذكرتم ولم تسلموا ، سبق الرئاسة إلى الأفهام ، فإنه يجب حملها على كل معانيها الغير الممتنعة على قاعدة أئمتنا والجمهور بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] وهي من الله معظم الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار.

ومما يوضح أن المراد بالولي الوالي للتصرف في أمورهم : أنّ الله تعالى أخبر أنه ولينا ، وإنما أراد بذلك أنه المالك للتصرف علينا ، ثم عطف رسوله فأثبت له من ذلك ما أثبت لنفسه من ملك التصرف على المؤمنين ، ثم ثلث بأمير المؤمنين ، فوجب أن يثبت له مثل ذلك ليصح معنى العطف في الكلام ، كما أن القائل إذا قال : رأيت زيدا وعمرا أفاد رؤية عمرو كما يقضي أول الكلام برؤية زيد.

قال الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ : هكذا قرره الفقيه حميد ، وهو كلام جيّد.

وأما الأصل الثالث : وهو أن ذلك معنى الإمامة : فالذي يدل على ذلك أنا لا نعني بالإمامة إلا الرئاسة في أمور مخصوصة ، وهذا واضح والذي يمكن الخصم أن يقول هاهنا أن الآية وإن اقتضت ثبوت ولاية له ـ عليه‌السلام ـ ، فإنها اقتضت ولاية مطلقة وتصرفا مطلقا ، وليس تقتضي الولاية في الأمور المخصوصة ، وليس يلزم من ثبوت الولاية المطلقة ثبوت الولاية المقيدة كما لا يلزم من ثبوت الولاية في النكاح ثبوت الولاية التي هي الإمامة ، ويمكن الجواب : أنها إذا اقتضت ثبوت الولاية المطلقة لشخص معين اقتضى ذلك عموم الولاية في كل شيء ، إلا ما خصه الدليل والإجماع ، وقد أخرج ما عدا هذه الأمور المخصوصة بالإمامة ، حتى لو لا الإجماع لثبتت له الولاية في أمور المسلمين كلها دينها ودنيويها.

(و) أما الدليل الثاني مما يدل على إمامته ـ عليه‌السلام ـ : (ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي (١) يوم غدير خم) لما قفل من حجة الوداع ونزل بواد

__________________

(١) صواب العبارة : في علي.

١٥٤

يقال له : خم فيه غدير ماء ينسب إليه ، فنزل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك الغدير وكسح له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت دوحات حوله وأمر مناديا فنادى : الصلاة جامعة ، ثم أخذ بيدي علي ـ عليه‌السلام ـ وقال : («ألستم تعلمون أني أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» (١) وفي رواية : «وانصر من نصره واخذل من خذله».

ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثبت لعلي ـ عليه‌السلام ـ كونه مولى لجميع المؤمنين كما أنّ الله تعالى مولاهم ورسوله ، والمولى هنا هو السيد الرئيس الذي يلي التصرف ، وهذه الدلالة تنبني على ثلاثة أصول : أحدها : في بيان صحة الخبر ، وثانيها : في أن المولى هاهنا هو الرئيس الذي يلي التصرف ، وثالثها : أنّ ذلك هو معنى الإمامة.

أما الأصل الأول ، وهو الذي يدل على صحته : فالذي يدل على ذلك وجهان : أحدهما : إجماع العترة الطاهرة ، وحكم المجمع على صحته ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله ، حكم المتواتر في نقله.

والثاني : النقل الظاهر المشتهر المتلقى بالقبول المخرّج في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث ، عن بعضهم أن طرق هذا الحديث خمس وسبعون طريقا.

__________________

(١) قال مولانا أبو الحسين : مجد الدين بن محمد ـ حفظه الله ـ في اللوامع (ج / ١ ص ٣٨ : وقد رواه الإمام الحسين بن الإمام ـ عليهما‌السلام ـ في الهداية عن ثمانية وثلاثين صحابيا بأسمائهم غير الجملة كلها من غير طرق أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ.

وقال السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير : إن خبر الغدير يروى بمائة وثلاث وخمسين طريقا. انتهى.

وأما عن غيرهم (أعني أئمة الآل) فقد أجمع على تواتره حفّاظ جميع الطوائف وقامت به وبأمثاله حجة الله على كل موالف ومخالف ، وقد قال الذهبي : بهرتني طرقه فقطعت بوقوعه ، وعدّه السيوطي في الأحاديث المتواترة ، وقال الغزالي في سر العالمين : لكن أسفرت الحجة وجهها ، وأجمع الجماهير على خطبة يوم الغدير ، وذكر الحديث ، واعترف ابن حجر في صواعقه أنه رواه ثلاثون صحابيا ، وذكره ابن حجر العسقلاني في تخريجه أحاديث الكشاف عن سبعة عشر صحابيا ، وقال المقبلي في أبحاثه : فإن كان هذا معلوما وإلا فما في الدنيا معلوم. انتهى.

١٥٥

وذكر الإمام المنصور بالله (١) أنه مأثور عن مائة رجل منهم العشرة ، وأن بعض أهل العلم أفرد له كتابا جعل طرقه مائة طريق وخمس طرق ، قال ولا يوجد خبر قط نقل بطرق مثل هذه الطرق.

وقد ذكره الترمذي في جامعه من رواته زيد بن أرقم (٢) وأحمد بن حنبل (٣) عن رواية البراء بدون الزيادة : «وانصر من نصره» ، وفيه فلقيه عمر وقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

قال أصحابنا : هذا الخبر متواتر ، وقال المنصور بالله في الشافي : وقد تجاوز هذا حد التواتر.

وأما الأصل الثاني : وهو أن المولى هنا السيد والرئيس ، فإنه أقرب إلى معنى ذلك من الولي ، وقد تقدم ما قلنا فيه ، ولو سلمنا أنه غير غالب فيما ذكر فقد حصل في الحال وللفظ قرائن تدل على أن المراد ما ذكرنا ، أما القرائن الحالية فهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل يوم الغدير نزول مهم بأمر عظيم ، وليس إلا للإخبار بأنّ عليا ـ عليه‌السلام ـ مولى لمن هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مولاه ، وذلك إنما يكون إذا أراد الرئاسة وولاية التصرف ؛ لأن ما عدا هذا من المعاني مما يعلم بطلانه ، نحو كونه معتقا لمن أعتق ، وكونه ابن عم للناس ، ومنه ما هو داخل تحت ما ذكرنا من كونه ناصرا لهم ومودا ؛ لأن الأخبار بمثل ذلك لا تحتمل تعظيم الموقف والنزول في غير وقته وموضعه إن احتمل أن يدخل تحت كونه رئيسا لهم يلي التصرف ؛ لأن رئيس القوم أشد الناس عناية في نصرتهم ومودتهم ، وجلب النفع إليهم معروف عند أهل كل زمان.

__________________

(١) المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان.

(٢) هو زيد بن أرقم الخزرجي الأنصاري الصحابي ، غزى مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سبع عشر غزوة ، وشهد صفين مع علي ـ عليه‌السلام ـ ، ومات بالكوفة ، له في كتب الحديث ٧٠ حديثا.

(٣) أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، حافظ حجة إمام جليل عند أهل الحديث ، ثبت في روايته ، لا يتطرق إليه وهم في روايته ، روى عن أمم ، وروى عنه خلائق ، خرج له من أئمتنا المؤيد بالله وأبو طالب والمرشد بالله ـ عليهم‌السلام ـ ، ومن غيرهم البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم.

١٥٦

وأما القرينة اللفظية : فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قرر ثبوت ولايته بقوله : «ألست أولى بكم من أنفسكم» والمراد وجوب طاعته على الأمة مطابقة لما أثبته الله من الولاية بقوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] عقب ذلك بقوله : «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» أي من كنت أولى به فعلي أولى به ، ليتطابق الكلام وينخرط في سلك الانتظام ، (وإذا ثبت ذلك فهو صريح) على إمامته ـ عليه‌السلام ـ بما ذكرنا.

وأما الأصل الثالث : وهو أن ذلك معنى الإمامة : فالذي يدل على ذلك أنا لا نعني بالإمامة إلا الرئاسة في هذه الأمور المخصوصة ، وهذا ظاهر.

(ومما يدل على ذلك) من السنة أيضا (ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال له : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي») (١) ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه أثبت لعلي ـ عليه‌السلام ـ جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة ، (ولا شك أن منازل هارون أنه خليفته على قومه) كما قال الله تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) [الأعراف : ١٤٢] وهذه الدلالة تنبني على أربعة أصول : أحدها : أن الخبر صحيح ، وثانيها : في أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثبت لعلي جميع المنازل إلا النبوة ، وثالثها : أن من جملة المنازل الخلافة ، ورابعها : أن ذلك هو معنى الإمامة.

أما الأصل الأول في صحته : فعليها دليلان : أحدهما : إجماع العترة الطاهرة ، والثاني : النقل الظاهر المشهور.

__________________

(١) قال مولانا وشيخنا أبو الحسين مجد الدين بن محمد ـ حفظه الله ـ في اللوامع (ج ١ ص ٩٨ وما بعدها) : وأما سائر الفرق فقال المنصور بالله عبد الله بن حمزة ـ عليهم‌السلام ـ : فيه من الكتب المشهورة عند المخالفين أربعون إسنادا من غير رواية الشيعة وأهل البيت. انتهى.

وقال الحاكم : هذا حديث المنزلة الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول : خرّجته بخمسة آلاف إسناد. انتهى.

ورواه ابن أبي شيبه ، ورواه في مسند أحمد بعشرة أسانيد ، ومسلم فوق سبع طرق ، ورواه البخاري ومسلم في صحيحهما وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم صاحب المستدرك والطبراني والخطيب والعقيلي والشيرازي وابن النجار.

١٥٧

قال المنصور بالله : فيه من الكتب المشهورة الصحيحة عند المخالفين أربعون إسنادا من غير رواية أهل البيت وغيرهم من الشيعة ، ثم قال بعد ذلك : والخبر مما علم ضرورة ، قال في العمدة (١) : واختلف علماؤنا ـ رحمهم‌الله ـ في العلم به ، فمنهم من ادعى كونه معلوما بالاضطرار ، وأجراه مجرى الخبر الأول في كونه متواترا ، ومنهم من قضى بصحته ، ولم يقض بكونه متواترا ، بل سلك في صحته طريقة الإجماع ، وهذا بعد الاتفاق على كونه معلوم الصحة ، قال في تعليق الشرح : والإجماع على صحته يقع به العلم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله ، وإن لم يحصل من طريق التواتر.

قال الإمام عز الدين : قلت : وممن صرح بتواتره العلامة المحدث يوسف بن عبد البر (٢) ، فإنه ذكر الحديث في مختصره لسيرة ابن هشام (٣) ، قال : والآثار بذلك متواترة صحاح ، انتهى.

قلت : وممن صرح بتواتره ، والإجماع على صحته. الإمام الأعظم القاسم بن محمد ـ عليه‌السلام ـ.

وأما الأصل الثاني : وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثبت لعلي ـ عليه‌السلام ـ جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة : فذلك ينبني على أن لفظ المنزلة تقتضي الاستغراق ؛ إذ الاستثناء معيار العموم بدليل أنه لو قال : لا نبي بعدي ولا أحد يلي من الأمر ما وليت ، ولا يخلفني على أمتي لصح.

وأما الأصل الثالث : وهو أن من منازل هارون من موسى الخلافة : فإن منازل هارون من موسى كثيرة ، وهي موجودة في علي ـ عليه‌السلام ـ منها الأخوة ، ومنها

__________________

(١) كتاب في أصول الدين للفقيه حميد الشهيد لا يزال مخطوطا.

(٢) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي ، أبو عمر من كبار حفاظ الحديث ، مؤرخ أديب بحاثة ، ورحل رحلات طويلة ، وتوفي بشاطبة عام ٤٦٣ ه‍ من مؤلفاته : الاستيعاب.

(٣) هو عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري ، مؤرخ ، ولد ونشأ بالبصرة ، توفي بمصر عام ٢١٣ ه‍ من مؤلفاته : السيرة النبوية.

١٥٨

المؤازرة وشد الأزر ، ومنها أن هارون كان أحب الناس إلى موسى.

أما الأخوة : فدليلها ما هو معلوم مشهور من مؤاخاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين كل اثنين من الصحابة وجعل عليا أخاه.

وأما المؤازرة وشد الأزر : فلأنه كان أحسن الناس بلاء في الإسلام ، وهذا مما لا شك فيه.

وأما المحبة : فلحديث الطير وغيره ، ولما بينهما من حصول أسباب المحبة من المؤازرة والأخوة والنسب والمصاهرة ، ومن جملة منازل هارون من موسى الخلافة كما قال تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) [الأعراف : ١٤٢] فيجب ثبوت جميع هذه المنازل إلا النبوة ، ومن جملتها الخلافة.

وأما ما يعترض به هذا الخبر من أنه إنما كان يثبت ذلك لعلي ـ عليه‌السلام ـ لو كان عاش هارون بعد موسى كما عاش علي ـ عليه‌السلام ـ بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلأنا نقول : لو عاش هارون بعد موسى لكان خليفة بالاتفاق ، فكذلك علي ـ عليه‌السلام ـ ، ولا يشترط الاتفاق في العمر ، كمالا يشترط الاتفاق في الطول والقصر ونحو ذلك.

وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إلا أنه لا نبي بعدي» إشارة إلى أنّ عليا يفارق هارون في هذه الجملة التي هي كونه يعيش بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما ما يقال : أنه كان يلزم أن يشارك علي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مدة حياته في الأمور المذكورة ومن جملتها الخلافة.

فالجواب : أن تلك المشاركة في الولاية مخصوصة بالإجماع ، على أنه ليس لأحد تصرف في حياته.

أما الأصل الرابع : وهو أن ذلك معنى الإمامة : فالذي يدل على ذلك أنه لا فرق في عرف الشرع بين الإمامة والخلافة.

١٥٩

(فثبت ذلك لعلي ـ عليه‌السلام ـ) أي كونه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ودل على أنه الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل).

تنبيه : اعلم : أن هذه النصوص الثلاثة هي التي يعتمدها أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ لظهورها ولتأديتها إلى العلم ، فأما ما يوصل إلى الظن من النصوص فهي كثيرة ، كحديث الطائر وهو ما رواه أنس بن مالك (١) قال : أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائر مشوي فقال : «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء علي ـ عليه‌السلام ـ فدق الباب ، فقلت : من هذا؟ فقال : أنا علي ، فقلت : إن النبي على حاجة ، حتى فعل ذلك ثلاثا ، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما حبسك؟ فقال : قد جئت ثلاث مرات ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنس : ما حملك على ذلك؟ قال : كنت أحب أن يكون رجلا من قومي» (٢) وفي رواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سمع صوت علي قال : «وإليّ» أي وكما أنه أحب خلق الله إليه فهو أحبهم إلي ، وأنه لما اعتذر أنس بذلك قال : إن الرجل ليحب قومه. قال الإمام عز الدين : واعلم أن هذا الخبر من أجلّ الفضائل وأبلغها ، وأدلها على فضل علي ـ عليه‌السلام ـ.

وقال الفقيه حميد : لأنه ـ عليه‌السلام ـ لا يكون أحبهم عند الله إلا وهو أكثرهم ثوابا وأكرمهم عنده تعالى ، وهو عندهم خبر صحيح مشهور ، وممن أخرجه الترمذي في

__________________

(١) هو أنس بن مالك الغضير بن ضمضم النجاري الخزرجي أبو ثمامة صاحب رسول الله وخادمه ، مولده بالمدينة ، مات بالبصرة عام ٩٢ ه‍.

(٢) رواه أئمة العترة ، منهم الإمام المنصور بالله أخرجه في الشافي ، والأمير الحسين في الينابيع وقال : هذا الخبر مما احتج به أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ يوم الشورى بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه منهم منكر ، قال في المحيط : وروي عن أنس ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي ذر ، وأبي رافع مولى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وسفينة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وهو متلقى بالقبول من جل الصحابة ، ا. ه. ورواه ابن المغازلي عن ابن عباس وعن سفينة وعن علي من حديث المناشدة ، وعن أنس من طرق أكثر من عشر ، ورواه الكنجي عن أنس من ثلاث طرق ، وقال : رواه المحاملي كذلك ، أي عن سفينة ، وذكر أن الحاكم أخرجه عن ستة وثلاثين نفسا وذكر عددهم في مناقبه.

١٦٠