الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي

الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

المؤلف:

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي


المحقق: عبدالرحمن بن حسين شايم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٣

بذلك مما لا يردّ ولا يخفى ، (وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق) بشهادة المعجز كما تقدم.

وقد ورد به القرآن الكريم ، قال تعالى بعد ذكر الفجّار : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار : ١٦] والفجار يشمل الفساق والكفار بالإجماع ، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده من الآيات الآتي ذكرها في المسألة التي بعد هذه.

وكذلك السنة فإنّها دالة على ذلك (كما قد وردت به الأخبار) الصحيحة ، فمن جملة ذلك ما رواه أبو الدرداء (١) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يلقى على أهل النار الجوع ، فيعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة ، فيتذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد ، فإذا دنت من وجوههم شوى وجوههم ، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون : ادعوا خزنة جهنم عساهم يخففون عنا ، فيقولون لهم : ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا : بلى ، قالوا : فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ، فيقولون : ادعوا مالكا ، فيقولون : يا مالك ليقضي علينا ربك؟ فيجيب إنكم ماكثون ، (قال الأعمش : ثبت أن ما بين دعائهم وإجابة مالك لهم مقدار ألف عام) ، فيقولون : ادعوا ربكم فلا تجدون خيرا منه ، فيقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ، قال : فيجيبهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون ، فعند ذلك يئسوا من كل خير ، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل» أخرجه الترمذي (٢).

__________________

(١) هو عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي ، أبو الدرداء صحابي من الحكماء الفرسان القضاة ، كان قبل البعثة تاجرا ، مات بالشام عام ٣٢ ه‍ وروى عنه أهل الحديث ١٧٩ حديثا.

(٢) هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ، مثلث الفوقية والميم مضمومة ومكسورة ، نسبة إلى مدينة قديمة على طريق (جيحون) نهر بلخ ، سمع الحديث عن البخاري وغيره وكان ثبتا حجة ، وفاته بترمذ أواخر

١٢١

وعن ابن عمر (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ثم يقوم مؤذن بينهم ، يا أهل الجنة : لا موت ، ويا أهل النار : كل خالد فيما هو فيه» (٢) أخرجه البخاري (٣) ومسلم ، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على ذلك (وهو إجماع المسلمين) في الصدر الأول ، ومن كان قبل هؤلاء المخالفين حتى أحدثوا هذا القول ، والإجماع حجة قاطعة كما وردت بذلك الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا (خلود الكفار في النار) ، وبطل قول المخالفين ، على أن قولهم إنكار لما علم من الدين ضرورة كما ذكر في صدر المسألة فلا نشتغل بالحجاج فيه.

__________________

رجب سنة سبع وستين ومائتين.

(١) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن ، صحابي نشأ في الإسلام ، شهد فتح مكة ، ومولده ووفاته فيها ، وكفّ بصره في آخر حياته ، وهو آخر من توفي بمكة من الصحابة عام ٧٣ ه‍.

(٢) في شمس الأخبار بمعناه واللفظ مختلف ، قال الجلال : أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارمي ومسلم والترمذي والنسائي ، عن أبي سعيد وأبي هريرة.

(٣) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، مولده في شوال سنة ١٦٤ ه‍ سمع الحديث ببلدة بخارى ، ثم رحل إلى عدة أماكن وسمع الكثير ، وألف الصحيح ، وفاته بسمرقند ليلة عيد الفطر سنة ٢٥٦ ه‍.

١٢٢

(المسألة الثالثة والعشرون : أنّه يجب على المكلف أن يعلم أن من توعده الله من الفساق بالنار)

كمرتكبي الفواحش التي هي غير مخرجة من الملة ، كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك (فإنه إذا مات مصرا على فسقه غير تائب منه فإنه صائر إلى النار ومخلد فيها خلودا دائما).

وهذه المسألة هي أم مسائل الوعيد ، والمختصة بالنزاع الشديد ، عظيمة الأخطار متشعبة الخلاف بين علماء الأمصار ، فالجمهور من العدلية المعتزلة والزيدية والإمامية والخوارج وغيرهم : أن كل واحد من فساق هذه الأمة وأهل الكبائر يستحق العذاب بالنار في الآخرة ، ولا بدّ أن يدخلها ويعذب فيها ويخلد فيها أبد الآبدين ، وما هم عنها بغائبين ، وخالفت في ذلك المرجئة ، فقطع بعضهم على أنهم غير داخلين في الوعيد ، وتوقف البعض الآخر.

وقد جرى اصطلاح أصحابنا على أن كل من قال بخروج الفساق ، أو توقف أو قطع بعدم دخولهم النار فإنه مرجئ ، والاتفاق على أن المرجئة مذمومون ملعونون ، وأن الإرجاء اسم ذم كالقدرية لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا».

وروى الحاكم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكل أمة يهود فيهود هذه الأمة المرجئة» إلى غير ذلك ، ولكن اختلف في مسماه وموضوعه ، فالأصحاب بنوا على ما ذكرناه ، وإن كانوا يقولون الإرجاء الحقيقي مذهب الواقفة ، منهم الذين لا يقطعون بشيء قيل : لأن الإرجاء التردد.

وقال الفقيه حميد في العمدة : لأنه الوقف والشك.

١٢٣

قال الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ : قلت : بل التحقيق أن الإرجاء هو التأخير ومنه قوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) [الأحزاب : ٥١] قال الجوهري (١) : أرجأت الأمر أخرته.

ومنه : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) [التوبة : ١٠٦] أي مؤخرون حتى ينزل الله فيهم ما يريد ومنه سميت المرجئة.

قلت : ويكون وجه التسمية تأخيرهم القطع بالعقوبة والتخليد ، والله أعلم.

وطوائف المخالفين يتبرءون من هذا الاسم ويقولون : الإرجاء المذموم قائلوه هو مذهب من زعم أن الإيمان قول بلا عمل ، لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن المرجئة فقال : «يقولون الإيمان قول بلا عمل» ويقولون فيما يحكم الأصحاب عليه أنه الإرجاء الحقيقي هو الرجاء ، انتهى.

وقد نص على الحديث القاسم ـ عليه‌السلام ـ والمرتضى (٢) ذكر في حقيقته ذلك ولفظه : وسألت عن المرجئي من هو؟ والمرجئي من زعم أن الإيمان قول بلا عمل ، وإنما سمي مرجئا ؛ لأنه أرجأ الحق ، ومعنى أرجأ الحق تركه ، وهو من الحقائق الدينية التي نصّ القاسم ـ عليه‌السلام ـ أنها لا تكون إلا عن الله.

واعلم : أن من المرجئة من قطع على أن الفساق لا يدخلون النار ، وهم الكرامية والخراسانية ومقاتل بن سليمان كما قالوا بذلك في أهل الشرك.

__________________

(١) هو أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ، أول من حاول الطيران ومات في سبيله ، لغوي من الأئمة ، وخطه يذكر مع خط ابن مقلة ، أشهر كتبه : الصحاح ، وله كتاب في العروض ومقدمة في النحو ، توفي عام ٣٩٣ ه‍.

(٢) محمد بن يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم الرسي ـ عليهم‌السلام ـ ، الإمام المرتضى ، المسمى جبريل أهل الأرض ولد سنة ٢٧٨ ه‍ وأخذ عن والده مؤلفاته وغيرها ، وكان عالما بالفقه وأصول الدين ، وله من المؤلفات في الفقه : كتاب الإيضاح والنوازل وغيرهما ، وله في علم الكلام مؤلفات ، وكان زاهدا ورعا ، قام بأمر الإمامة بعد أبيه ثم تنحى عنها لأخيه الناصر ، ومدة انتصابه ستة أشهر ، بعد اعتزاله أغلق على نفسه الباب واشتغل بالعلم والعبادة حتى توفي في شهر المحرم سنة ٣١٠ ه‍. عن ٣٢ سنة.

١٢٤

ومنهم من قطع بدخولهم وخروجهم ، وهم بشر المريسي (١) ومن قال بقوله.

ومنهم من قال : يستحق الفاسق العقوبة الدائمة ، إلا أنه يجوز أن يعفوا الله عمن شاء منهم وإذا عفى عن البعض عفى عن الكل ، وإلا أدى إلى المحاباة وهي لا تجوز على الله تعالى ، وهذا قول محمد بن شبيب (٢) من المعتزلة ومن قال بقوله.

ومنهم من قال : بدخول الفاسق النار إلا أن الطاعات التي صدرت منه تردّ عقابه من الدوام إلى الانقطاع ، وهذا قول الخالدي (٣) وأتباعه.

ومنهم من قال : بالوقف ومال إليه لتعارض آيات الوعد والوعيد ، وعدم المرجح لحمل أحدهما على الآخر ، وعدم العلم بالمخصص منهما فالوقف حينئذ هو الواجب وهذا قول أبي حنيفة (٤) وغيره.

ومنهم من توقف في دخولهم النار ، وإذا قدّر دخولهم قطع بخروجهم.

ومنهم من قطع بدخولهم وتوقف في خروجهم.

ومنهم من جوّز دخولهم النار وعدمه ، وجوّز إن دخلوا خروجهم وخلودهم ، وهذا هو مذهب المرجئة الخلّص ومذهبهم هو الإرجاء الحقيقي ، وبه قال أبو القاسم البستي

__________________

(١) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي المعتزلي الفقيه المتكلم أبو عبد الله الحنفي ، قال ابن خلكان : أخذ الفقه عن أبي يوسف ، وهو ممن قال : بخلق القرآن ، وهو مرجي ، وإليه تنسب الطائفة المرجئة ، وكان مناظرا للشافعي ويلحن ؛ لأنه كان لا يعرف النحو ، قال المسعودي : توفي سنة ٢١٩ ه‍ ، وفي القاموس : مرّيسة بالتشديد كسكينة ، منها بشر بن غياث المتكلم.

(٢) هو محمد بن شبيب من الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة ، أخذ عليه المعتزلة قوله بالإرجاء ، واعتذر عن ذلك بقوله : إنما وضعت هذا الكتاب في الإرجاء لأجلكم ، فأما غيركم فإني لا أقول فيه ذلك.

(٣) ذكر المهدي ـ عليه‌السلام ـ أنه من أهل الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة قال : ومنهم الخالدي وكان يميل إلى الإرجاء وتشدد فيه وكذلك قال الحاكم أبو سعيد قال المهدي ـ عليه‌السلام ـ : هو محمد بن إبراهيم بن شهاب وكان فقيها متكلما.

(٤) هو النعمان بن ثابت التيمي بالولاء ، الكوفي إمام الحنفية ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، ولد بالكوفة عام ٨٠ ه‍ وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ، ثم انقطع للتدريس والإفتاء ، توفي عام ١٥٠ ه‍.

١٢٥

وكثير من المرجئة ، وإليه ذهب جملة أهل الإرجاء من العدلية.

وقال الغزالي : بل المرجئة الخالصة هم القاطعون بأنّ الفساق لا يعذبون ولا يدخلون.

هكذا حقق الحكاية لمذهبهم الإمام عز الدين ـ عليه‌السلام ـ في المعراج مع شيء من الاختصار.

(والدليل) لنا (على ذلك) ، وهو تخليد الفسّاق في النار الكتاب والسنة ، أما الكتاب : ف (قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] فوعد الله سبحانه كل عاص على سبيل العموم بالخلود في النار أبدا.

(والخلود هو الدوام) في لغة العرب ، وكذلك التأبيد وإن استعمل في غير ذلك فعلى سبيل المجاز ، والخلاف في ذلك مكابرة.

قالوا : سياق الآية في الكفار بدليل قوله : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) [الجن : ٢٤].

قلنا : خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها ، فلا يلزم إذا كان آخر الآية وهو قوله : (حَتَّى إِذا رَأَوْا) محمولا على الكفار وخاصا بهم أن يخص أول الآية ، بل يجب ترك أولها على عمومه ، وحمل آخرها على ما يصح حمله عليه.

(و) منها : (قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ)) [الانفطار : ١٣ ـ ١٦] فحكم بعدم غيبوبة الفجار عن النار ، والفجار يطلق على الكفار والفساق ، وقد ورد إطلاق الفاجر على الفاسق في السنة كثيرا (وهاتان الآيتان عامتان) كما ذكر ، وحينئذ فإنهما (تدلان على دخول كل عاص النار ، وعلى دخول كل فاسق وفاجر النار وخلودهم فيها) ، ومثلهما قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ

١٢٦

نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف : ٤٠] فإنه تعالى حكم على الذين كذبوا بالآيات واستكبروا عنها بعدم دخول الجنة حتى يلج الجمل في ثقب الإبرة ، وكما أن ولوجه فيه محال ، فكذلك دخولهم الجنة محال ، ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل ذلك الجزاء المذكور نجزي كل من أجرم ، ولا شك أن المجرم هو المذنب والفاسق مذنب قطعا ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف : ٧٥] فإنه لم يكتف بذكر الخلود حتى أردفه بلا النافية للتفتير عنهم ، وهي تقتضي العموم في جميع الأحوال إلى غير ذلك من الآيات التي يطول تعدادها كقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤](وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢](وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) [الفرقان : ٦٩].

وأما السّنة : فالأخبار مشحونة بالوعيد العظيم على من سرق وزنا واغتاب وقتل النفس ، ومنه : (ومن تحسّى سما ، ووجى نفسه بحديدة) إلى غير ذلك.

والوارد من الأحاديث النبوية في الوعيد على أنواع المعاصي أكثر من أن تحصر ، وأجل من أن تذكر في ضمن غيره وتسطر.

وللمخالفين شبه عقلية وسمعية ، أما العقلية : فهو أن قالوا : الغرض بالوعيد الزجر والتخويف ، وذلك حاصل مع تجويز العفو.

والجواب : أن مع القطع على لحوق العقاب يكون أبلغ في اللطف والزجر ، قالوا : مدح الله العفو ورغب فيه فهو أحق بذلك.

وأيضا فمن توعد من الملوك ثم عفى عدّ ذلك عدلا ومدح عليه.

والجواب عن الأول : أنه مسلّم لو لم يعارضه ما يقبح العقل العفو عنده وهنا قد عارضه ذلك ، وهو أنه تعالى لو عفى لكان قد ساوى بين من أحسن وأساء ، والمعلوم أن المساواة قبيحة عقلا ، فيكون العفو قبيحا.

١٢٧

وأيضا فإنما يستحسن حيث لا يقتضي كذبا ، فأما إذا اقتضى إخلاف القول الذي هو كذب فلا يسلّم ، فيحمل ما رغب الله فيه ومدح عليه على ما لا يقتضي مساواة بين محسن ومسيء ، ولا يقتضي الكذب للدليل القاضي بذلك.

وعن الثاني : بأنّ الملك إذا توعد غيره فإما أن يتوعده بأن يظلمه أو يتوعده بما له أن يوصله كالحدود ورد المظلمة ، إن توعده بالظلم وهو الأغلب في الشاهد ؛ لأن أحدنا لا يستحق على غيره عقوبة ، وإنما يستحق عليه أعواضا ، والعقوبة على الله تعالى ، فمتى أخلف وعيده والحال هذه لم يسم ذلك عفوا ؛ لأن العفو إنما يكون عما يستحقه ، وإن توعده بما له أن يوصله إليه كالحدود ونحوها لم يسلم أن الخلف فيه يسمى عفوا ولا حسنا ولا يمدح عليه ، ولكنه يقال على هذا الطرف أن الحدود ونحوها يجب عليه أن يوصلها ، والله سبحانه لا يجب عليه إيصال العقاب ، فوزان المسألة ما كان للسلطان أن يوصله أو لا يوصله كما لو توعده باستيفاء دين له أو عقوبة له أن يسقطها ، كالتعزير ، والخصم حينئذ يوافق أن عدم تنفيذ ذلك عدل وحسن يستحق المدح والثناء.

وأما شبههم السمعية ، فأقواها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] ففي ظاهرها تصريح بمغفرة ما دون الشرك لو لا قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) وهي أعظم مستند المرجئة وأبلغ متمسكاتهم ، ولهذا قال صاحب زهر الكمائم : هذه الآية سيوف وخناجر على حناجر المعتزلة.

وقال الإمام المهدي ـ عليه‌السلام ـ : ولعمري أن هذه الآية الكريمة كالمصرحة بأنه سبحانه يغفر ما دون الشرك من غير توبة ، ولكنه لما قال : (لِمَنْ يَشاءُ) صارت مجملة ، ووجه الاستدلال بها أن الله لا يغفر أن يشرك به تفضلا ؛ لأنه قد ثبت أنه يغفره بالتوبة.

قالوا : فيجب أن يكون التقدير : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) تفضلا وذلك عام في الصغائر والكبائر.

١٢٨

وأيضا فلو حمل ما دون ذلك على الصغائر أو الكبائر مع التوبة لكان لا وجه لتعلقه بالمشيئة ؛ لأنه إنما يعلق على المشيئة في وضع اللسان ما لم يكن مستحقا ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال : فلان يقضي الدين لمن يشاء من المستحقين ، ويحسن أن يقال : الملك يخلع على من يشاء.

وأيضا فإنه تعالى أضاف الغفران إلى نفسه ، والذي يتعلق به من المغفرة ليس إلا مغفرة أصحاب الكبائر دون التائب وأصحاب الصغائر ، فإن التائب لتوبته وصاحب الصغيرة باجتنابه الكبائر (١).

وأيضا فما دون الشيء إنما يستعمل فيما قاربه ، فيكون المراد الكبائر ، كما أن القائل إذا قال : الألف فما دونه لم يحمل ما دونه على العشرة ، وإنما يحمل على تسع مائة ونحوها.

وقد أجيب عن هذه الآية بأجوبة كثيرة منها : ما ذكره جار الله الزمخشري ـ رحمه‌الله تعالى ـ فقال : الفعل المنفي وهو غفران الشرك والمثبت وهو غفران ما دونه موجهان إلى قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) فكأنه قيل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب ، وبالثاني من تاب ، ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ، ويبذل القنطار لمن يشاء ، يريد لا يبذل الدينار لمن لا يستحقه ويبذل القنطار لمن يستحقه ، وحكي في سبب نزولها أنه جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيخ من العرب فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته ، وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ، وما توهمت طرفة عين أني لم أعجز الله هربا ، وإني لنادم مستغفر تائب ، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت. قال : وهذا الحديث (٢) ينصر من فسّر من يشاء بالتائب من ذنبه.

__________________

(١) ترك خبر إنّ ، وصواب العبارة ما في المعراج بعد قوله : باجتنابه الكبائر ، قد أزالا ما استحقاه من العقوبة.

(٢) رواه القرطبي في تفسيره ، والشوكاني في فتح القدير قال : وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيرهما عن الضحاك أن شيخا .. إلخ.

١٢٩

انتهى.

وأيضا فإنما يقتضي ظاهرها أنه إنما يغفر ما دون ذلك لمن يشاء تفضلا ، فمن أين أنه قد شاء أن يغفر الكبائر تفضلا ، وهو محل النزاع لا سيما وغفرانها يكشف عن الكذب في آيات الوعيد.

قال الرازي معترضا لاحتجاج أصحابه بهذه الآية : ولئن سلمنا دلالة الآية على غفران الكبيرة فإن الله تعالى لو قال : إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ، ولا أكل أموال اليتامى ، ولا الفرار من الزحف ، ولا قتل المؤمن بغير حق ، ويغفر ما دون ذلك لكنا نقطع على أنه ليس المراد بما دون ذلك شيئا من هذه الكبائر ، وقد توعد تعالى على هذه الذنوب في غير هذه الآية ، فوجب أن لا يختلف الحكم الذي ذكرناه ؛ لأن القرآن كله كالكلمة الواحدة في البعد عن التناقض والاختلاف ، وأيضا فلا تعلق لواحد من فرق المرجئة.

أما من قال : لا وعيد على مرتكبي الكبائر من أهل الصلاة كما ينسب إلى مقاتل وغيره ، فيقال له : إذا لم يكن عليه وعيد مستحق فلا معنى للغفران ؛ لأن الذنب ساقط.

وأما من قال : إن الفاسق يعذب عذابا منقطعا كما يحكى عن المريسي ، فيقال له : الآية عندك تقضي بالغفران وأنت قطعت على نزول العقاب فأين الغفران؟

وأما من قال : بالوقف ، وهم الجمهور من المرجئة ، فيقال لهم : ظاهر الآية عندكم تقتضي القطع على المغفرة لمن عدا المشركين وأنتم تتوقفون ، وقوله : (لِمَنْ يَشاءُ) لا يقتضي الوقف ؛ لأن الذي علّق بالمشيئة هو تعيين المغفور له ، فأما المغفرة فمطلقة ، وإذا كان ظاهرها يقتضي ما لا يقول به أحد من الأمة وجب صرفها إلى الصغائر أو الكبائر مع التوبة.

وأيضا فإن الآية مجملة لم يبين الله تعالى فيها من الذي يشاء له المغفرة وبيانها في

١٣٠

قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] إلى غير ذلك مما تحتمله الآية.

ولئن سلمنا فبهذه الاحتمالات تكون ظاهرا ، فلا يقاوم القاطع وهي آيات الوعيد الصريحة.

وأقول : إن الآية تحتمل وجها يبين ما ذكر ، وهو أنه تعالى توعد أهل الكتاب في الآية التي قبلها بتعجيل العقوبة إن لم يؤمنوا ، فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أي نمسخهم قردة وخنازير (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧] ثم حذرهم سبحانه وتعالى بأنه لا يقع منه غفران للشرك في حالة من الحالات ، بل يستحق من أشرك تعجيل العقوبة أيضا كما استحقها من تقدم ذكره ، فأتى بالنفي الداخل على المضارع الذي هو في معنى النكرة ، فلو لم يعجل عقوبة الشرك لكان غفرانا ، كما قال تعالى حاكيا : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [هود : ٣] فجعل المتاع الحسن إلى الموت من موجبات المغفرة ، ثم قال سبحانه : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] فلا يعاجل بعض المرتكبين للكبائر بالعقوبة بل يغفرها بتأخير العقوبة في الدنيا كما قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] وبهذا يندفع الإشكال ولله الحمد.

ومما احتجوا به قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣].

والجواب : أنه إنما نهى تعالى عن القنوط الذي هو الإياس من رحمة الله تعالى بإهمال التوبة واعتقاد أن الذنب لا تمحوه التوبة ، ولذلك أمر سبحانه وتعالى بالتوبة عقيبها تحقيقا لغفران الذنوب بها ، وأنها باب مفتوح لا يغلق عن المذنب فقال : (وَأَنِيبُوا إِلى

١٣١

رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٤].

وأيضا فالظاهر يقتضي غفران الشرك فما خصصوا به غفران الشرك خصصنا بمثله غفران الفسق ، والمعنى : (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) بالتوبة ؛ لأنه قد تكرر ذكر هذا القيد في القرآن فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه ؛ لأن القرآن في حكم كلام واحد لا يجوز فيه التناقض ، وقد ذكر مثل ذلك جار الله في كشافه ، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا وبغيره من الأدلة الواضحة (خلود كل فاسق وفاجر في النار).

(المسألة الرابعة والعشرون) : في المنزلة بين المنزلتين

وهذه مسألة الأسماء والأحكام ، وإنما سميت المنزلة بين المنزلتين ؛ لأن معنى ذلك لغة الشيء بين الشيئين في العلو والانحطاط ، وقيل : الشيء بين الشيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه.

وأما اصطلاحا : فكون صاحب الكبيرة ممن ليس بكافر له أسماء وأحكام بين أسماء المؤمن والكافر وأحكامهما ، ووجه تسمية هذه بالمنزلة بين المنزلتين : كونها كلاما في إثبات منزلة للفاسق في أسمائه وأحكامه بين منزلتي المؤمن والكافر في أسمائهما وأحكامهما ، ووجه تسميتها بمسألة الأسماء والأحكام أنها كلام في أسماء المكلفين وأحكامهم ، ووجه الحاجة إليها أن المكلفين لما كانوا على ضربين ، ضرب يستحق العذاب ، وهو فريقان : فريق يستحق العقاب العظيم ، وفريق يستحق عقابا دون ذلك ، ومنهم من يستحق الثواب ، وهم فريقان : فريق يستحق الثواب العظيم ، وفريق يستحق ثوابا دون ذلك فاحتجنا إلى معرفة كل فريق وحكمه لنجري عليه اسمه ونعامله معاملته.

وقد ذهب أهل الحق إلى (أن أصحاب الكبائر من هذه الأمة ، كشارب الخمر

١٣٢

والزاني ومن يجري مجراهم يسمّون فسّاقا وفجارا) ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وهل يسمون مع ذلك مؤمنين أو كفارا أو منافقين؟

فذهب المرجئة إلى الأول ، ومنهم من قال : إن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل لاعتقادهم أن الإيمان هو التصديق فقط.

وذهب الخوارج إلى الثاني ، واتفقت على وصفهم بأنهم كفار ، واختلفت في أنهم هل يوصفون بأنهم مشركون؟ فمنعه الإباضية (١) ، وأجازه سائرهم.

وذهب الحسن إلى الثالث ، (و) إذا عرفت ذلك ، وأنهم (لا يسمون مؤمنين) فليس حكمهم حكم المؤمنين على الإطلاق ، (ولا) حكم ال (منافقين) ، (و) ليسوا (كفارا) على الإطلاق ، بل لهم اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين ، وهو معنى قولهم المنزلة بين المنزلتين.

وقد حكي عن الناصر (٢) ـ عليه‌السلام ـ تسميتهم كفار نعمة. قال الوالد العلامة محمد بن عز الدين : وهو قياس قول من جعل نحو العبادات شكرا ، وقد صرّح بهذا المرتضى والإمام أحمد بن سليمان (٣) مع تسميته فاسقا أيضا.

__________________

(١) الإباضية : فرقة من فرق الخوارج منسوبون إلى عبد الله بن يحيى الإباضي.

(٢) هو الإمام الناصر للحق الحسن بن علي بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بالأطروش ، والناصر والكبير ، والناصر للحق أحد أئمة الزيدية وعظماء الإسلام ، كان عالما مجتهدا ، زاهدا ورعا ، شجاعا أديبا ، عظيم القدر ، ولد سنة ٢٣٠ ه‍ ونشأ في طلب العلم وقرأ من الكتب السماوية بضع عشرة كتابا ، وقام في أرض الديلم سنة ٢٨٤ ه‍ يدعو إلى الله عشرين سنة ، ودخل طبرستان سنة ٣٠١ ه‍ ، وأسلم علي يديه ألف ألف ما بين رجل وامرأة ، توفي بآمل في شعبان سنة ٣٠٤ ه‍ عن ٧٤ سنة ، قال الطبري : لم ير الناس مثل عدل الأطروش وحسن سيرته وإقامته الحق ، له مؤلفات كثيرة.

(٣) هو الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر أحمد بن الإمام الهادي ـ عليهم‌السلام ـ ، مولده سنة ٥٠٠ ه‍ كان ـ عليه‌السلام ـ فصيحا شاعرا ، علامة في فنون عديدة ، له تصانيف منها : أصول الأحكام جميع ما فيه ثلاثة آلاف حديث وثلاثمائة واثني عشر حديثا ، وحقائق المعرفة في علم الكلام وغيرهما ، وله كرامات مشهورة ، بيعته : سنة ٥٣٣ ه‍ وملك أكثر اليمن وعمي آخر عمره ، وتوفي بجيدان خولان الشام في شهر ربيع سنة ٥٦٦ ه‍ فخلافته ٣٣ سنة ، وعمره ٦٦ سنة.

١٣٣

(و) أما (الدليل على أن الفاسق لا يسمى كافرا) كما زعمت الخوارج : فهو (أن الكافر) المتصف بالكفر ، والكفر كان في الأصل التغطية ، والكافر المغطّي ، ومنه سمي البحر كافرا ؛ لأنه يستر ويغطي ما فيه ، وصار الكافر في الشرع (له أحكام مخصوصة وأسماء معلومة لا تجوز على الفاسق ، أما أحكامه : فنحو حرمة المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين) ونحو ذلك مما لا تجري على الفاسق بالإجماع ، وأراد بنحو ذلك سبي النساء والأولاد والقتل في حق بعض الكفار أو ضرب الجزية في حق البعض ، وهذا هو المعلوم من حال الصحابة بل ربما نصوا على فساد هذه المقالة ، كما روي أن أمير المؤمنين سئل عن الخوارج أكفار هم؟ فقال : من الكفر فروا ، قيل : فمسلمون؟ قال : لو كانوا مسلمين ما قاتلناهم ، كانوا إخواننا بالأمس فبغوا علينا ، فمنع من تسميتهم كفارا أو مؤمنين ، ولم ينكر عليه فكان إجماعا هذا إن لم يكن قوله حجة.

ولنا أيضا أن الله قد شرع اللعان بين الزوجين ، ومعلوم أن أحدهما فاسق إما المرأة بالزنا ، أو الزوج بالقذف ، فلو كان الفسق كفرا لوقعت البينونة بنفس الفسق فلا يصح اللعان إذ لا لعان بين أجنبيين وكان أيضا لا يحتاج إلى حكم.

وأيضا كان يلزم إذا شرب الزوج أو زنى أن يفرّق بينه وبين امرأته ، وأن يستتاب وإلا قتل كالمرتد ، وهم يلتزمون هذا ، ولو لم يلتزموه أيضا فهم محجوجون بالإجماع ، فإن المعلوم من حال الصحابة أنهم لم يحكموا بانفساخ نكاح شارب الخمر والقاذف ونحو ذلك ، ولا يسمع عن أحد منهم ، ولهم شبه عقلية لا يلتفت إليها لضعفها ولظهور بطلانها.

وأما الشبهة السمعية فمنها : قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٤ ، ١٥ ، ١٦] قالوا : الفاسق ممن يصلى النار فيجب أن يكون كافرا.

١٣٤

والجواب : أنّا نقول مسلّم أنه ممن يصلى النار ، فمن أين يصلى هذه النار المخصوصة التي وصفها الله تعالى ، وإنما هي نار منكرة غير معيّنة.

وأيضا فلسنا نحكم بدخوله النار لأجل هذه الآية ، بل لمثل قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) [هود : ١٠٦] والفاسق شقي وليس بأشقى.

قالوا : قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] والفاسق قد يكون فسقه بالحكم بغير ما أنزل الله.

قلنا : هي واردة في اليهود ، وإنما قصرت على السبب لمانع من العموم ، وهو ما قدمنا من الأدلة على أن الفاسق ليس بكافر ، ولما روي عن ابن عباس من أن الفاسقين والكافرين والظالمين أهل الكتاب.

هذا وأما قول المصنف : (وأما الأسماء فيقال : كافر وملحد ؛ لأنه جاحد لله تعالى ولرسوله ولجنته وناره ، ولا شك أن الفاسق لا يفعل شيئا من ذلك) فقد قال الشارح المحقق : ما كان ينبغي ؛ لأن إطلاق الكافر على الفاسق هو عين محل النزاع ، وأما ملحد فهو اسم لكافر مخصوص ، وهو الجاحد للصانع ، فعدم إطلاقه على الفاسق كعدم إطلاقه على من كفر بغير ذلك.

(وأما الدليل على أنّ الفاسق لا يسمى منافقا أن المنافق) كما يقوله الحسن البصري (١) فهو وإن كان في الأصل اسما لمن يظهر أمرا ويبطن خلافه ، مأخوذ من النافقا أحد جحرة اليربوع حيث كان يخفي أحد جانبيه ويظهر الآخر ، فقد صار في الشرع يسمى به (من أبطن الكفر وأظهر الإسلام) ومعلوم أن الفاسق لا يكون كذلك ، فإن أحدنا يعلم من نفسه أنه يقدم على المعصية مع إقراره بالله تعالى ووعيده ،

__________________

(١) الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري أبو سعيد مولى أم سلمة ، أحد الأعلام كان إمام أهل البصرة ، ومن عظماء التابعين وكبارهم ، اشتهر بعلمه وزهده وتقواه ، وهو من أشهر المحدثين روى عن أمم ، وروى عنه أمم كثيرة.

١٣٥

ومع الخوف الشديد ، لكن يؤثر الشهوة ويؤمل العفو إن كان من أهل الإرجاء ، ويسوف التوبة إن كان من أهل الوعيد.

وأيضا فلا خلاف في أن كل منافق كافر فكان يلزم أن يكون الفاسق كافرا بل كما نص الله على أن المنافق كافر ، فقد نص الله على أنه من أشد الناس عقابا فقال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].

[شبهة] : قال : لو لم يكن في اعتقاده خلل ، وكان مؤمنا بالله وبوعده ووعيده لما ارتكب الكبيرة ، كما لو كان بين يديه نار مؤججة ، وقال له من يقدر عليه إذا واقعت الكبيرة أوقعتك في هذه النار ، وكذلك إذا علم في الجحر صرة دراهم وحية تهلك لسعتها فإنه لا يدخل يده للصرة والحال هذه.

والجواب : ما تقدم من أنا نعلم من حال الفاسق أنه لا خلل في اعتقاده حال إقدامه على المعصية وما ذكره من المثال ليس نظيرا للمسألة ؛ لأن من وصف حاله يكون ملجئا إلى ترك المعصية والحال هذه ، وليس هذا حال المكلف فإنه يجوّز العفو والتوبة ، ووزان مسألة الحية أن يكون معه ترياق يعلم أنه ينفع من اللسعة ، أو يجوز أن الحية لا تلسعه ، فإنه والحال هذه يدخل يده للصرة.

(وأما الدليل على أن الفاسق لا يسمى مؤمنا) كما تزعمه المرجئة ، (فهو أن المؤمن) وإن كان في أصل اللغة المصدّق فقد صار منقولا في الشرع إلى (من يستحق الثواب والمدح والتعظيم) ، فالإيمان كان في الأصل التصديق ، ثم صار موضوعا في الشرع للعمل بالأركان والتصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وأن اسم المؤمن في الشرع مشتق من الأمان بهذا المعنى ، ونقل الإيمان إلى ما ذكر هو مذهب أئمة الزيدية ومن تابعهم وقول الجلة من المعتزلة.

قال الإمام يحيى : وهو مذهب السلف وهو المختار ، والذي يدل على أنه يستحق عليه المدح الإجماع ، فلا نعلم في ذلك مخالفا وصحة توسطه بين أوصاف المدح ، ولأن الله تعالى ما ذكر المؤمن والإيمان في القرآن إلا مدحه ، وكل ذلك لا يصح في الفاسق ،

١٣٦

وقد دل الدليل السمعي على نقل اسم المؤمن إلى من يستحق الثواب ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٢ ، ٣] وإنما للحصر ، ثم أكد ذلك في أخر الآية بالحصر أيضا بما يقتضيه بلا مرية عند جهابذة الأصوليين ، وقال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ١ ، ٢] الآيات ، وقد يقال : أن الوصف في هذه الآيات للتقييد لا للتوضيح ، وإن سلّم أنه للتوضيح فهو محتمل ، والمحتمل لا يصح حجة ، وقال تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١] وذلك يدل على التنافي بين الاسمين ، وقال تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣] ، وقال في حق الزاني والزانية : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ، وقال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحجرات : ١٤ ، ١٥] فإنه لو كان الإيمان هو التصديق لما جعل فيه ما هو عمل قطعا وهو الجهاد في سبيل الله ، فلا يكون مؤمنا إلا من كان كذلك ، وذلك ظاهر ولله الحمد.

وكذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» (١) إلى غير ذلك من الأدلة.

ولهم شبه منها : أنه لو كان الإيمان فعل الطاعات ، واجتناب المقبحات لصح وصفه بالزيادة فيه والنقصان ، وهو باطل.

__________________

(١) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة ، والطبراني في الأوسط ، وعبد بن حميد ، والحكيم ، والضياء في المختارة عن أبي سعيد ، وابن عساكر عنه ، والطبراني في الأوسط عن عائشة ، وأحمد والبخاري والنسائي عن ابن عباس ، والطبراني في الكبير ، وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والحكيم والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن أبي أوفى ، والطبراني في الكبير عن عبد الله بن بن معقل ، والطبراني في الصغير عن علي ـ عليه‌السلام ـ ا. ه.

١٣٧

والجواب : أنّا لا نسلّم بطلانه بل يصح دخول الزيادة فيه ، فمن كانت طاعته أكثر كان إيمانه أكثر ، وعلى هذا قال : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) وقال : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً).

قالوا : وردت آيات كثيرة تعطف الأعمال الصالحة على الإيمان نحو قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) ونحوها ، وحق العطف المغايرة؟

قلنا : إنّا لم ندّع أن كل لفظة اشتقت من الإيمان ، فإنها لا تستعمل إلا في المعنى الذي قلناه ، وأنه لا يجوز استعمالها في الذي وضعت له في الأصل ، فلا مانع من أن تكون هذه اللفظة التي ذكرها الله في هذه الآيات مبقّاة على أصل الوضع فلا يقدح في كلامنا ، ويكون العطف قرينة المجازية ، وغير ذلك من الآيات الواردة بلفظ الإيمان في حق من ليس بمؤمن شرعا ، مؤول بما ذكر كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] ونحو : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الحجرات : ٩] (فثبت بذلك) التقرير (أن الفاسق لا يسمى مؤمنا ولا كافرا ولا منافقا) وبطل ما قاله المخالفون.

١٣٨

(المسألة الخامسة والعشرون) في الشفاعة

ووجه اتصالها بالوعد والوعيد ظاهر ، فإنها من تتمة الكلام في إيصال عقاب ذوي الكبائر إليهم وخلودهم في النار ، ولا يصح ما تقدم إلا بتصحيح ما ذهب إليه الأصحاب فيها من أنها ليست للفساق ولا لمن يستحق النار ، وأنها لا تقتضي عدم دخولهم النار ، ولا خروجهم عنها بعد دخولها.

واختلف الناس في موضوعها ، فقال أهل الإرجاء : إنما تستعمل في دفع الضرر فقط ، وقال الجمهور : بل فيه وفي جلب النفع.

قال المهدي ـ عليه‌السلام ـ : ونعلم بتواتر النقل عن أهل اللغة أنهم يقولون : شفع فلان إلى فلان ليقضي دينه ، أو ليغني فقره أو نحو ذلك ، ولا يخالف أحد في ذلك ، بل هي في جلب المنافع أكثر ، قال الشاعر :

فذاك فتى إن جئته لصنيعة

إلى ماله لم تأته بشفيع

واعلم : أنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفاعة مقبولة ، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه يوم القيامة في قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وأنكرتها المطرفية وقد سبقهم الإجماع.

والمشهور عن الجمهور وهم الأكثر من الزيدية والمعتزلة : (أن شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تكون لمن يستحق النار من الكفار والفساق) أصلا ، (وإنما تكون للمؤمنين) سواء كانوا قد أتوا كبائر ثم تابوا عنها ، أو لم يواقعوا كبيرة رأسا (حتى يزيدهم الله بها شرفا) ونعيما إلى نعيمهم وسرورا إلى سرورهم.

قال المصنف : (أو تكون لمن يستوى حسناته وسيئاته) على القول بصحة ذلك (فيشفع له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليدخل الجنة) ، وإلى هذا القول الأخير ذهب أبو القاسم

١٣٩

البلخي ، وهو باطل بالدليل الدال على المنع من الاستواء ، ومن أجاز ذلك فبطلانه بأنه لا دليل على قصر الشفاعة على من كان له هذا الحكم دون غيرهم من أهل الجنة.

وقال أهل الإرجاء : بل الشفاعة للمصرين من أمته من أهل الكبائر ، والمطلوب بالشفاعة أن يعفو عنهم ويدخلوا الجنة تفضلا.

(والدليل على أن شفاعة النبي) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا تكون لأحد من الظالمين) أنها لو كانت لكانت إما أن تقبل وهو باطل ؛ لما تقدم من أن الفساق في النار على جهة الدوام ، وإما أن لا تقبل ، وهو باطل بالإجماع.

(قوله تعالى : (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)) [الأنبياء : ٢٨] فإذا كانت الملائكة لا تشفع إلا للمؤمنين فكذلك الأنبياء ، والاتفاق وقع على أن الفاسق غير مرضي على الإطلاق ، وإنما المرتضى على الإطلاق المؤمن الذي ليس بفاسق ، والآية دلت على أن الشفاعة لمن ارتضاه مطلقا غير مقيد.

وقال تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] فقد أخبر الله على سبيل القطع بأنه لا شفيع للظالمين يوم القيامة تقبل شفاعته ، ولا شك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبول الشفاعة ، فلا يشفع لفاسق ؛ لأن اللام لام الاستغراق والنكرة في سياق النفي للاستغراق ، والفاسق ظالم بلا خلاف بدليل قوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ١١] ولا يقال :

إنه تعالى لم ينف الشفاعة إلا عن جملة الظالمين وهو محل اتفاق ؛ لأنا نقول : لو شفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لظالم لما صدق العموم فبطل ما قلتموه ، قال تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [آل عمران : ١٩٢] ولا نصرة فوق دفع ضرر العقاب ، وقال في الذين كسبوا السيئات : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) [يونس : ٢٧].

شبهتهم أن المطيع مستغن بكونه من أهل الجنة عن الشفاعة فلا فائدة فيها.

١٤٠