الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي

الإصباح على المصباح في معرفة الملك الفتاح

المؤلف:

ابراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي


المحقق: عبدالرحمن بن حسين شايم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٣

(ولا بدّ فيها) من أحد وجهين : إما الاستحقاق ، ولا شبهة في ذلك كعقاب أهل النار ونحوه ، وإما لمجموع (العوض) للمؤلم (والاعتبار) ، ولا يكفي في حسن الألم أحد الأمرين : إما العوض ، أو الاعتبار.

وقد ذهب عبّاد (١) إلى أن الاعتبار كاف في حسن الألم ، فإن كان كلامه على عمومه بحيث أنه يقول : يحسن منه تعالى إيلام الأطفال ونحوهم ؛ لمجرد أن يحصل بذلك اعتبار للمكلفين ، أو بعضهم ، أو إيلام مكلف لمجرد اعتبار يحصل لغيره فقد أبعد في مقالته (والدليل على) بطلان (ذلك) أنها (لو خلت عن العوض) وكانت كما قال (لكانت ظلما ؛ لأنه يكون ضررا عاريا عن جلب نفع للمؤلم ، أو دفع ضرر عنه أو استحقاق ، وهذه هي صفة الظلم ، والظلم قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح).

وأيضا فلو أجزنا ذلك لأجزنا جميع أنواع الظلم ، فإنه لا يكاد يخلو شيء منها عن نفع لغير المظلوم ، وإن أراد أن الألم يحسن لمجرد اعتبار يحصل للمؤلم.

قال الإمام عز الدين بن الحسن ـ عادت بركاته ـ : وهو اللائق بعلمه وفهمه ، فمذهبه في غاية القوة ، وأي نفع للمكلف أعظم من تأدية الألم هذا إلى كونه من أهل الجنة والسعادة الأبدية ، انتهى.

(و) قال أبو علي (٢) في القديم : إن العوض كاف في حسن الآلام ، قلنا له : (لو خلت الآلام من الاعتبار لكانت عبثا ؛ لأن العبث هو الفعل الواقع من العالم به

__________________

(١) عباد بن سليمان : هو الصيمري.

(٢) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المتكلم ، أخذ العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري ، وله مقالات مشهورة في الأولين ، قال الحاكم الجشمي : هو الذي سهل علم الكلام وذلّله ، وله شرح على مسند ابن أبي شيبة وتفسير القرآن مائة جزء (مفقود) قيل : جملة مصنفاته مائة ألف ورقة وخمسين ألف ورقة ، الورقة نصف كراس ، وقرأ عليه أبو الحسن الأشعري وخالفه ، وجرت بينهما مناظرات طويلة ، ولأبي علي عناية في الرد على الفلاسفة والملحدة وتقرير العدل والتوحيد ، ولد سنة ٢٣٥ ه‍ وتوفي في شعبان سنة ٣٠٢ ه‍ وذكر محقق الأساس أنه توفي سنة ٣٠٣ ه‍.

١٠١

عاريا عن عوض مثله) ، وهذا المعنى حاصل في الألم لو خلى من الاعتبار ؛ لأنه كان يمكن ويحسن إيصال نفع العوض إلى المؤلم من دون الألم ، وله أن يجيب بأن فائدته أن يصير العوض مستحقا وليس المستحق كالمتفضل به ، (و) إذا كان عبثا فلا شك أن (العبث قبيح والله يتعالى عن فعل القبيح).

والذي يدل من السمع أنه لا بد في الآلام من العوض قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير : ٥] ولا وجه لحشرها إلا للعوض ، والذي يدل على أنه لا بد من الاعتبار قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فلو لم يكن مرادا لله تعالى لما أمر به ، والله أعلم.

(فثبت بهذه الجملة أن جميع الآلام والنقائص لا بد فيها من العوض والاعتبار).

١٠٢

(المسألة الثامنة عشرة : في القرآن الكريم)

قال الإمام عز الدين بن الحسن ـ عادت بركاته ـ : وجه الصحة في ذكر الكلام في القرآن في باب العدل ، أن العدل لما كان كلاما في أن الله لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب ، والقرآن لطف لنا وبيان لما كلفناه ، واللطف والبيان واجبان على الله تعالى ذكر في باب العدل ؛ لأنه من قبيل الواجب على الله تعالى.

قال الإمام يحيى ـ عليه‌السلام ـ في حد القرآن الكريم : هو الكلام الذي نزل به جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبدنا بتلاوته المنقول نقلا متواترا.

إذا عرفت ذلك ، وأن القرآن جنس من الكلام ، فلنتكلم على ذكر حقيقة الكلام وفاعله وهو المتكلم.

أما الكلام : فهو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة ، قلنا : ما انتظم تشبيها بالنظام الحقيقي لتواليه على السمع ، وقلنا : من الحروف ؛ لأن الحرف الواحد لا يكون كلاما ، وقلنا : المتميزة احترازا من صرير الباب وأصوات البهائم ، وقلنا : المسموعة احترازا من الكتابة ، ولا يعتبر فيه الإفادة ؛ لأنها إنما تعتبر في الكلام الاصطلاحي لا اللغوي ، وذلك متفق عليه.

وأما المتكلم : فهو عندنا فاعل الكلام بدليل أن من علمه فاعلا للكلام علمه متكلما ومن لم يعلمه فاعلا له لم يعلمه متكلما.

والخلاف في ذلك مع أبي الحسين وابن الملاحمي فقالا : المرجع بالكلام إلى صفة للجسم ، وقال أبو علي : الكلام معنى زائد على الحروف والأصوات يسمع معها تقارن الملفوظ والمكتوب والمحفوظ ، وقال بعض الأشعرية : بل الكلام معنى في نفس المتكلم ، وتسمية هذا المسموع كلاما مجاز وهذه مباهتة.

وقال بعضهم : بأنّ هذا المسموع كلام ، ويدعون إثبات كلام آخر قائم بالنفس

١٠٣

ويجعلون هذا الاسم مشتركا بينهما ، قال القرشي : وهذا بعيد عن التحصيل ؛ لأن من ينفي الكلام النفسي كيف يسلم أن الاسم موضوع عليه بالاشتراك ، وأيضا فالعرب لا يعقلون الكلام النفسي فضلا عن أن يضعوا له عبارة أو يشركوا بينه وبين غيره فيها ، يوضحه أنه إذا أطلق لفظ الكلام فإنما يسبق أفهامهم إلى هذا المسموع.

واعلم : أنه لا خلاف في (أنّ هذا القرآن المتلو في المحاريب ، الموجود بين المسلمين) هو القرآن ، ومحل الخلاف هل هو (كلام الله تعالى دون أن يكون كلاما لغيره) أولا؟

فالذي عليه أهل العدل بل جميع الفرق المقرة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه كلام الله ووحيه ، وتنزيله ، أي : كلامه عرفا لا لغة ؛ لأن المتكلم لغة : المحدث للكلام والمتفوه ، به ومخرجه من العدم إلى الوجود ، والمتلو ليس كذلك بل المحدث له والمتكلم هو المتفوه به ، وهو الذي يمدح على قراءته ويذم ويثاب ويعاقب بحسب اختلاف الأحوال.

والمتكلم في العرف : من كان أنشأ ذلك الكلام ونظم ألفاظه ، وإن احتذى غيره على ذلك ونطق به كما نطق به المبتدئ وذلك ظاهر ، وخالف في ذلك الأشعرية والكلابية والمطرفية (١) والباطنية (٢) ، فهؤلاء جميعا قالوا : إن هذا القرآن ليس بكلام الله لا لغة ولا عرفا ، ثم افترقوا فقالت الأشعرية : كلام الله معنى قديم قائم بذاته والمتلو عبارة عنه ، ومثله قالت الكلابية إلا أنهم بدلوا لفظة قديم بأزلي ، ولفظ العبارة

__________________

(١) المطرفية : يعدون من فرق الزيدية المنفصلة عنها ، وهم أصحاب مطرف بن شهاب ، وقد انقرضت هذه الفرقة وكانت تنحو في كثير من آرائها منحى الطبائعية ، وقد ورد التعريف بهم وذكر بعض أقوالهم وتفنيدها في شرح الأساس الكبير.

(٢) الباطنية : قال الإمام المهدي ـ عليه‌السلام ـ : والباطنية في الحقيقة خارجون عن الإسلام لما سيأتي من تحقيق مذهبهم في الصانع وإنكارهم المعاد الجسماني ، وقد علم من دين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ضرورة ، لكن انتحلوه ظاهرا فعدوا من فرقهم ، وأصول مذهبهم تعود إلى مذاهب الفلاسفة أو المجوس ؛ لأن نشوء مذهبهم يشهد لذلك كما سنحققه ، ولا فرقة من فرق الملحدة أعظم ضررا منهم ولا أقل تحصيلا ، ولا يكاد يعرف مذهبهم لتسترهم وإحداثهم كل وقت مذهبا حكى ذلك الحاكم ا. ه.

١٠٤

بالحكاية ، وقالت المطرفية : بل كلام الله صفة قائمة بقلب ملك يقال له : ميخائيل ، وبعضهم قال : إن الله أجبر الملك عليه ، وبعضهم قال : إن الملك صفت طبيعته وخلصت جوهريته ، فاستنبط القرآن ، والذي بيننا حكاية ذلك ، وقالت الباطنية : هو كلام الرسول حصلت معانيه بالفيض في النفس الكلية إلى نفسه الجزئية فصاغ هذا القرآن وهو لفظه ، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل : أن المعقول هو هذه الحروف والأصوات ، بدليل أن من علمها وصفها بأنها كلام وإن جهل المعنى النفسي ، ومن جهلها لم يصفها بأنها كلام ، وإن علم المعني النفسي.

وأيضا فإن كلامه تعالى لا يخلو إما أن يكون من جنس الكلام المعقول فيما بيننا وهو أن يتركب من جنس الأصوات والحروف أو مخالفا لذلك.

فإن كان من جنس الأصوات والحروف فلا شبهة في حدوثه ، وإن كان مخالفا لذلك لم يصح أن يكون كلاما وأن يفهم منه شيء ، فالمثبت لكلام مخالف للكلام المعقول فيما بيننا ، فإنه في حكم من يثبت جسما مخالفا للأجسام المخالفة للمعقول فيما بيننا ، ويثبت مع الله تعالى جسما قديما مخالفا لسائر الأجسام.

وأيضا (فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدين بذلك ويخبر به ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدين إلا بالحق ، ولا يخبر إلا بالصدق ، وذلك معلوم ضرورة عند كل من عرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثاره وروى أخباره) ، فإنه كان يعتقد ويرى أن القرآن الذي أتى به هو كلام الله تعالى دون أن يكون كلاما له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لغيره من المتكلمين ، ويخبر الناس بذلك ، واستمر على هذا إجماع المسلمين بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن حدث مذهب هذه الطوائف.

(و) أيضا ف (قد قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة : ٦] ولا شك أن الكلام المسموع هو القرآن ، قالوا : ذلك مجاز ، قلنا : هلمّ الدليل ، فالأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولو سلم جعل

١٠٥

للتفاسير ما له من الأحكام ؛ إذ هي عبارة عنه ولا قائل به.

قالوا : لو لم يكن متكلما فيما لم يزل بكلام قديم أو لذاته ، لكان أخرسا أو ساكتا كالشاهد.

والجواب : أن المرجع بالخرس إلى فساد آلة الكلام وبالسكوت إلى تسكينها عنه.

وأيضا فإذا اعتمد على الشاهد في ذلك فمعلوم أنّ الشاهد إذا لم يكن متكلما بهذه الحروف والأصوات كان أخرسا أو ساكتا ، فيلزم إذا لم يكن الباري متكلما فيما لم يزل أن يكون أخرسا (١) أو ساكتا.

وأما قول غير الأشعرية فهو أجدر بالضعف من مقالتهم ولا نحتاج في رده إلى تكلف ؛ إذ هو من التمحلات التي لا دليل عليها ، والله أعلم.

__________________

(١) في الأصل : أخرس ، والصواب : أخرسا.

١٠٦

(المسألة التاسعة عشرة : في أن هذا القرآن الذي هو كلام الله تعالى محدث).

ولا شك أنا إذا قلنا : القرآن محدث ، فإنما نريد به هذه الأصوات والحروف المتلوة في ألسنة الناس.

فأما الكلام النفسي فلسنا نثبته ، فضلا عن أن نقول فيه بقدم أو حدوث ، وأهل التمييز من المجبرة لا يكلمونا في ذلك ؛ لأنهم يعرفون بحدوث هذا الذي نتلوه ، ولكنهم يدّعون أن القرآن معنى قائم بالنفس غير هذا الذي نسمعه ، فموضع مكالمتهم نفي هذا المعنى النفسي وقد تقدم.

وأما غير المميزين كالكرامية والحنابلة وبعض أهل الحديث ، فيعترفون بأن القرآن هو هذه الحروف والأصوات المسموعة ، ويدعون أنه قديم ، (والذي يدل على) بطلان قولهم في (ذلك) من جهة العقل : (أنه مرتب منظوم في الوجود يوجد بعضه في أثر بعض) ، فوجب القطع بأنه محدث ، (و) ذلك لأن (المرتب على هذا الوجه يجب أن يكون محدثا وذلك ظاهر) ، فإن الألف من الحمد متقدم على اللام ، واللام على الحاء وكذلك سائره ، وكل ما تقدمه غيره فهو محدث ، وكذلك ما يتقدم على المحدث بأوقات محصورة فهو محدث ، (وقد) جاء بتأييد ذلك الكتاب ، ف (قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)) [الأنبياء : ٢] (و) مثله ما (قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ)) [الشعراء : ٢٦] ولا شك أن المراد بالذكر القرآن بدليل : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ، وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وقوله : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٢١] ، وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس : ٦٩] ، ومثل : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] وغير ذلك ، والسبب في قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ) الآية ، يشهد بذلك ؛ لأنهم كانوا يلعبون ويلغون عند نزول القرآن وتلاوته ، وقال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً

١٠٧

مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] فوصفه بأنه منزل ، والقديم لا يصح عليه النزول ، ووصفه بالحسن والحسن من صفات الأفعال ، ووصفه بالحديث ، والحديث نقيض القديم باعتبار أصل وضعه ، وإن كان المراد به في الآية الكلام ، لكنه لم يسم حديثا إلا لكونه محدثا فيدل على حدوثه ، وقال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الأحقاف : ١٢] ردا على الذين قالوا : هذا إفك قديم. وما كان قبله غيره فهو محدث.

قالوا : قال الله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] قالوا : فإن كان قوله : كن قديما فهو المطلوب ، وإن كان محدثا احتاج إلى كن آخر فيتسلسل.

والجواب : لا شك أن لفظ (كن) حرفان يتقدم بعضهما على بعض ويعدم ثاني وجودها وذلك لا يتأتى في القديم.

وأيضا فالآية على مذهبنا أدل ؛ لأنه تعالى أخبر بأنه إذا أراد شيئا قال له كن ، وإذا للشرط والشرط إنما يدخل في المستقبل ، فيجب أن تكون الإرادة حادثة وأن يكون لفظ (كن) مقارنا لها.

قالوا : القرآن يشتمل على أسماء الله تعالى ، والاسم هو المسمى ، فيجب أن يكون القرآن قديما ، واستدلوا على أن الاسم هو المسمى بقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وكذلك فأحدنا يقول : طلقت زينب وأعتقت سعدا ، والطلاق إنما يقع على الشخص المسمى ، وكذلك إذا حلف أحدنا فقال : والله وبالله ، ويقول باسم الله ، قال الشاعر :

إلى الحول ثم السلام عليكما

ومن بيك حولا كاملا فقد اعتذر

والجواب : لو كان الاسم هو المسمى لكان إذا ذكر أحدنا النار احترق فمه ، قال :

لو أن من قال نارا أحرقت فمه

لما تفوّه باسم النار مخلوق

١٠٨

بل الاسم عبارة عن اللفظ الموضوع للمسمى ، فهو غير المسمى ، مثاله : رجل ، فالاسم عبارة عن هذا اللفظ ، وهذا اللفظ هو عبارة عن مسماه المعروف.

وأيضا فلو كان الاسم هو المسمى ، فمعلوم أن لله أسماء كثيرة مختلفة وكان يجب أن يتعدد بتعدد أسمائه لاختلافها.

وأيضا فالقرآن عندهم قائم بذات الله تعالى ، وأسماء الله من جملة القرآن فيجب أن يكون الله من جملة القرآن حتى يكون أمرا ونهيا ، وهذا واضح السقوط.

١٠٩

(المسألة العشرون : في النّبوة)

والنبوة : فعولة فحروفها أصول إلا الواو الأولى ، والنبوة مصدر ، فإن همزت فهي بمعنى الإنباء ؛ لأن النبي مخبر عن الله ، وإن لم تهمز فهي من النبو نبا المكان ينبو إذا ارتفع.

وحقيقة النبوة : تحمل إنسان لما يتحمله عن الله إلى الخلق من غير واسطة بشر.

قلنا : تحمل الإنسان ، احترازا من تحمل الملائكة إلى الأنبياء فلا تسمى نبوة ، وقلنا : من غير واسطة احترازا من العلماء ، فإنهم وإن تحملوا عن الله تعالى إلى الخلق ولكن بواسطة بشر ، هم الأنبياء.

ولا فرق عند أصحابنا بين الرسول والنبي ، والخلاف في ذلك معزو إلى الحشوية وإلى الإمامية (١) والزمخشري (٢) وقاضي القضاة قالوا : قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الحج : ٥٢] والعطف يقتضي المغايرة.

قلنا : لا يدل على المغايرة كما في قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] لأن اللفظين إذا اختلفت فائدتهما من وجه صح عطف أحدهما على الآخر للتأكيد ، وإن كان معناهما واحد في الحقيقة ، ولفظ النبي يفيد الرفعة بنفسه ، ولفظ الرسول يفيدها بواسطة لحمله الرسالة وصبره على المشاق فيها.

واحتجوا أيضا لما (٣) روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سئل عن الأنبياء؟ فقال : «مائة ألف وأربعة

__________________

(١) الإمامية : أحد فرق الشيعة ، وهم من يقول : بإمامة الأئمة الاثني عشر.

(٢) هو جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي أبو القاسم المعتزلي ، إمام التفسير والمعاني والبيان والنحو واللغة ، له المصنفات العديدة في كل فن ، وكثير منها مطبوع ، ولد في ٢٧ رجب ٤٦٧ ه‍ بزمخشر وجاور بمكة وصاحب علي بن موسى بن وهاس بمكة ، ودخل بغداد واتفق بالإمام أبي السعادات الحسني ، توفي بجرجانية خوارزم سنة ٥٣٨ ه‍.

(٣) هكذا في الأصل ، والصواب : بما روي ، تمت.

١١٠

وعشرون ألفا ، قيل : فكم الرسل منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشرة» وفي رواية : «ثلاثمائة وثلاثة وستون» ، فإن الخبر آحادي ، والمسألة قطعية.

فإن قيل : ما الدليل على صرف العطف عن ظاهره ، فإن ظاهر العطف هو تغاير الذوات فقد عدلتم عن الظاهر فهلمّ الدليل.

قلنا : لا نسلم أن العطف ظاهر في ذلك ، بل وفي التغاير في الصفات سلّمنا ، فالذي صرف عن الظاهر هو الدليل العقلي ، وهو أنه إذا نبّأ الله نبيا لا يمكن أن يدل على نبوته إلا بالمعجزة إذ لا طريق إليه غيرها ، ولا بد إليها من طريق وإلا كانت النبوة عبثا ، والنبي لا بد فيه من معنى الإرسال ولا يصح أن يكون رسولا إلى نفسه ، ولا يتصور فرق بينه وبين الأفاضل من أمته أهل وقته إلا بكونه يوحى إليه ويظهر المعجز علي يديه ويهتدي إلى ما لا يهتدي إليه غيره ويهدي إليه.

فقول الحشوية إنه يسمى بعض الأشخاص نبيا من غير وحي ولا معجزة ولا شريعة متجددة ولا إحياء مندرسة بل يفارق سائر البشر بالتنويرات والإلهامات ، باطل لما ذكرنا ، وكذلك ما قاله الزمخشري وقاضي القضاة : إن النبي من بعث لتقرير شريعة جاء به (١) غيره وإحياء ما اندرس منها كيوشع وأكثر أنبياء بني إسرائيل المقررون لشريعة موسى المجددون لمندرسها.

فإنا نقول : إن أوحي إليهم بها من غير واسطة بشر كما أوحي إلى موسى فلا فرق بينهم وبين موسى ، وإلا كانوا كغيرهم ، والله أعلم.

واعلم : أن المهم المقصود من هذا الباب ، والقطب الذي يدور عليه رحى الكلام في النبوات : هو (أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبي صادق) ، فإن هذه المسألة أصل للقواعد الشرعية ، وعمدة مسائل أصول الدين بعد معرفة توحيد الله وعدله ، وعليها مدار العلم بجميع

__________________

(١) هكذا في الأصل ، والأولى : جاء بها ، تمت.

١١١

أنبياء الله وملائكته وأحوال الآخرة وجميع التكاليف العلمية إلا ما قضى به العقل منها قضية مطلقة ، ولهذا ينبغي أن ترمق إليه عيون الجد ، وسنفرغ في الاطلاع على حقائقه بقدر المختصر فنقول :

واعلم : أن جميع من يثبت الصانع يقول بنبوة نبيا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا اليهود والنصارى ، والمجوس والبراهمة ، وعبّاد الأوثان والنجوم ، فإنهم أنكروا نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا فرقة من اليهود نسبوا إلى البله فإنهم يقولون : هو رسول إلى العرب فقط ، وإنما نسب هؤلاء إلى البله لكونهم اعترفوا بأنه رسول ، والرسول صادق في الذي جاء به ، وقد جاء بأنه رسول إلى الناس كافة فلا بد من تصديقه ، ووجه كونه ليس بنبي عند اليهود قيل : لأنه جاء بنسخ الشرائع ، وقال بعضهم : لأنه ليس له معجز ، (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح : (أنّ المعجز ظهر على يديه عقيب دعوى النبوة) ، قيل : والمعجز هو ما لا يطيقه بشر ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداء ، سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام ، أم لا ، كحنين الجذع ، وقيل : هو الفعل الناقض للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة ، وهذا الحد أولى لدخول الكرامات في الحد الأول كنزول المطر عند دعوة الأولياء ونحو ذلك ، (وكل من ظهر المعجز على يديه عقيب دعوى النبوة فهو نبي صادق) ، فهذان أصلان ، (والذي يدل على) الأصل الأول وهو : (أن المعجز ظهر على يديه عقيب دعوى النبوة أنه) ، جاء بمعجزات كثيرة قد دونت فيها أسفار عديدة و (جاء) من جملة ذلك (بالقرآن) وهو المعجز العظيم ولذلك فالمؤلفين (١) يقدّمونه على سائر المعجزات ؛ لأنه أوقع في النفوس ، وأوضح في الدلالة لوجوه لا يعقلها إلا العالمون ، (و) لمّا جاء بالقرآن (جعله معجزا له ، ولم يسمع من غيره) قبله (وتحدى به فصحاء العرب) وقرعهم بالعجز عن ذلك (ولم يأتوا بشيء من ذلك) الذي تحداهم به ، (وإنما لم يأتوا به لعجزهم عنه ، فوجب أن يكون القرآن معجزة

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : فالمؤلفون.

١١٢

ظاهرة على يديه عقيب دعوى النبوة) ، فهذه ثمانية أصول.

أما كونه ـ عليه‌السلام ـ ادعى النبوة فلا شك أنه معلوم ضرورة لجميع المكلفين.

وأما أنه أتى بالقرآن ولم يسمع من غيره ، وجعله معجزة له ، فإنه يعلمه كل مكلف مع البحث والمخالطة لأهل العلم أو من يتصل بهم ، أو الإقامة في أمصار المسلمين وهجرهم ، وليس كالأول إذ من المعلوم جهل كثير من المسلمين بذلك.

فإن قيل : ما أنكرتم أن الله بعث نبيا وأظهر القرآن فقتله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادعى النبوة لنفسه؟

قلنا : لو أجزنا ذلك لما وثقنا بنسبة شعر الشعراء وخطب الخطباء ، ولا وثقنا بنبوة نبي قط ولا شيء من الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل ، ثم كيف يبعث الله نبيا ثم يمكن غيره منه قبل التبليغ.

وأيضا فقد ظهر عليه ـ عليه الصلاة والسلام وعلى آله ـ غير القرآن من المعجزات مما يدل على أن القرآن معجز له.

وأما الأصل الخامس : وهو أنه تحدى العرب بالإتيان بمثله وقرعهم بالعجز عن ذلك ، (فإنه معلوم ضرورة).

أيضا لكن (لمن كان له أدنى فحص وتفتيش ممن عرف أحواله ـ عليه‌السلام ـ وسيره وسمع أخباره علم بالتواتر أنه كان يغشى مجامع العرب ومشاهدهم ويتلوه عليهم ويحدثهم به) ويلتمس منهم المعارضة ، (والأمر في ذلك ظاهر)

(والقرآن) أيضا (مشحون بآيات التحدي) قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) [الطور : ٣٤] ثم أنزلهم مرتبة ثانية فقال : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [هود : ١٣] ثم أنزلهم مرتبة ثالثة فقال :

١١٣

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ثم أخبر أنهم لا يأتون بشيء مما تحداهم به حتى (قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)) [الإسراء : ٨٨].

فإن قيل : ما أنكرتم أنه إنما كان التحدي عن المشركين لئلا يعارضوه؟

قلنا : نحن نعلم أنها نقلت على حد نقل القرآن ، فلو جوزنا في بعض الآيات أنها كتمت لجوّزنا في سائرها ، وأيضا فالتحدي شامل للمشركين والمؤمنين ، فلو علم المؤمنون شيئا لنفروا عنه.

وأما الأصل السادس : وهو أنهم لم يأتوا بشيء مما تحداهم به فذلك ظاهر أيضا ، فإنه لو عورض لوجب أن يكون اشتهار المعارضة أولى من اشتهار القرآن ؛ لأن القرآن يصير كالشبهة وتلك المعارضة كالحجة ، ومتى كان الأمر كذلك كانت الدواعي متوفرة إلى إسقاط أبّهة المدعي وإبطال رونقه وكان اشتهار المعارضة أولى من اشتهار الأصل.

وأما الأصل السابع : وهو أنهم إنما لم يعارضوه (فلم يأتوا بمثله لعجزهم عنه ؛ لأن دواعيهم كانت متوفرة إلى معارضته ليبطلوا به نبوته) ولا صارف لهم عن ذلك وكانوا يعلمون أنّ أمره يبطل بالمعارضة فلو قدروا عليها لفعلوها.

أما أن دواعيهم كانت متوفرة إلى إبطال أمره عليهم فذلك لا يشتبه على عاقل ، فإنه ـ عليه‌السلام ـ ادعى الرئاسة عليهم في الدنيا والآخرة فيما يتصل بالنفس ، كإقامة الحدود من قتل وغيره وإتعابها في طاعته والجهاد معه ونحو ذلك ، وفي المال كأخذ الحقوق والاستعانة ونحو ذلك ، وادعى أنه على الحق وهم على الباطل ، وسفه أحلامهم وسبّ آلهتهم ، ووعدهم وأوعدهم ، ولا شيء أعظم من هذه الأشياء في تحريك طباع البشر.

١١٤

ودعائهم إلى إبطال أمره لا سيما العرب ، فإنّ لهم من الحمية والأنفة ما ليس لغيرهم من الأمم.

وأما أنه لا صارف لهم عن ذلك ، فلأنه إن كان صارف دين ، فليس من الدين ترك المعارضة ؛ لأنها تميز الحق لهم من الباطل لا سيما وعندهم أنهم كانوا على الحق ، وإن كان صارف دنيا من رغبة أو رهبة فذلك باطل ؛ لأنه كان ـ عليه‌السلام ـ فقيرا مضطهدا.

وأما أنهم كانوا يعلمون أن أمره ـ عليه‌السلام ـ يبطل بالمعارضة ؛ فلأنه ـ عليه‌السلام ـ قد كان يصرح بذلك ، ولأن كل عاقل يعلم أن كل من ادعى التميز على غيره لمكان أمر يأتي به فإن دعواه تبطل عند الإتيان بمثل ما أتى به.

وأما أنهم لو قدروا على المعارضة لفعلوها ؛ فلأنا نعلم بالضرورة أنّ من توفرت دواعيه إلى الشيء ، ولا صارف له عنه ، وغير ممنوع منه ، وهو قادر عليه فإنه يمنعه لا محالة حتى إن لم يفعله ، فإنه غير قادر عليه.

فإن قيل : إنهم اشتغلوا عن المعارضة بالقتال؟

قلنا : ليس أحد من العقلاء يؤثر الأمر الصعب على الأمر السهل ، (فلما عدلوا إلى المحاربة الشاقة الصعبة التي لا تدل على صحة صحيح ولا بطلان باطل ، دل ذلك على عجزهم عن معارضة القرآن فثبت) بتقرير هذه الأصول (أنه معجز دالّ على نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وهذا هو الأصل الثامن ، وذلك لحصول حقيقة المعجز فيه ، وهو كونه ناقضا لعادتهم في الفصاحة ومتعلقا بدعوى النبوة ، وبهذا التقرير تم الأصل الأول.

وأما الأصل الثاني : وهو أن كل من ظهر المعجز على يديه عقيب دعوى النبوة فهو نبي صادق ، وذلك لأن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول لمن ظهر على يديه ،

١١٥

وتصديق الكاذب كذب ، والكذب قبيح ، والله لا يفعل القبيح ، فإذا بطل أن يكون من ظهر المعجز على يديه كاذبا ثبت أنه صادق إذ لا واسطة بينهما.

وأما احتجاج اليهود بقول موسى : (شريعتي لا تنسخ أبدا وتمسكوا بالسبت أبدا) ، فإنها رواية مغمورة آحادية لا ينبغي التعويل عليها فلا تقاوم الأدلة القطعية ، وإن سلمنا أنها صحيحة قطعية ، فإنه يصح نسخ ما قيّد بالتأبيد وقد نسخها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول الله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وغير ذلك من الآيات الظاهرة ، وإذا تظاهرت الأدلة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ثبت بهذه الجملة أن محمدا نبي صادق).

١١٦

(باب الوعد والوعيد)

حقيقة الوعد : الخبر عن إيصال نفع أو دفع ضرر إلى الغير في مستقبل الزمان من المخبر إلى المخبر.

فقولنا : الخبر جنس الحد القريب ، وقولنا : عن إيصال نفع ، أو دفع ضرر فصل له عن عكس ذلك ، فإنه وعيد وعما ليس كذلك من الأخبار ، وقولنا : في المستقبل يفصله عن الأخبار في إيصال نفع أو دفع ضرر في الماضي فليس بوعد ، وقولنا : من المخبر إلى المخبر يفصله عن البشارة وهي الإخبار بإيصال ذلك من غير المخبر.

والوعيد : هو الخبر عن إيصال ضرر أو تفويت نفع ... إلخ الحد المتقدم ، والاحترازات فيه تعرف مما ذكر آنفا.

ثم اعلم : أنه لا يجوز خلف الوعد على الله تعالى للمثابين ؛ لأن ذلك أخو الكذب ، وهو يتعالى عنه ؛ لأنه لا يفعل القبيح ، خلافا للمجبرة ، ويحسن منه العفو عن التائب لارتداعه اتفاقا ولا يحسن العفو عن العاصي غير التائب وفاقا للبلخي (١) وابن المعتمر (٢) وخلافا للبصرية. قلنا : يصير كالإغراء وهو قبيح عقلا.

__________________

(١) هو عبد الله بن أحمد بن محمود العكي أبو القاسم البلخي المعتزلي ، إمام معتزلة بغداد ، أخذ الكلام عن أبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط ، روى الحديث قليلا وليس بذاك فيه ، له كتاب السند وله كتاب الطبقات والمقالات ، وصحب الإمام محمد بن زيد الداعي وكتب له ، وقال : ما كتبت لأحد إلا استصغرت نفسي إلا محمد بن زيد فكأني أكتب لرسول الله ، وصحب الناصر ، توفي ببلخ في أيام المقتدر.

(٢) هو أبو سهل بشر بن المعتمر الهلالي رئيس معتزلة بغداد من الطبقة السادسة.

١١٧

وكذا لا يجوز إخلاف الوعيد من الله تعالى للمعاقبين ؛ لأنه كذب والكذب قبيح. وقد حقق فيما سيذكر من المسائل.

١١٨

(المسألة الحادية والعشرون : أنه يجب على المكلف أن يعلم أن من وعده الله بالجنة من المؤمنين فإنه إذا مات تائبا غير مصر على شيء من الكبائر فإنه صائر إلى الجنة ومخلد فيها دائما)

ولا خلاف في ذلك إلا رواية عن جهم (١) والبطيحي (٢) فإنهما نفيا معنى الدوام وهذا بالنظر إلى السمع.

أما الجواز فيجوز أن يخلف الله وعده بالنظر إلى الثواب بناء على قاعدتهم الفاسدة أنه لا يقبح منه قبيح ، (والدليل على ذلك) القول الصحيح (أن النبي كان يدين بذلك ويخبر به) ؛ لأن من المعلوم ضرورة أنه كان يدعو الخلق إلى طاعته ومبايعته ، ويعدهم على ذلك الجنة ، والقرآن الكريم ناطق بذلك في الآيات العديدة الظاهرة ، (وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق بشهادة المعجز ، وأيضا فإن الأمة أجمعت على دخول المؤمنين الجنة والخلود فيها ، والإجماع على ذلك ظاهر) فثبت بذلك أن المؤمنين يدخلون الجنة خالدين فيها أبدا.

__________________

(١) هو أبو محرز الجهم بن صفوان السمرقندي قال الذهبي : زرع شرا عظيما ، ومما ينسب إلى الجهم قوله : بنفي الصفات ، بالإضافة إلى قوله : بالجبر ، كان يقضي في عسكر الحارث بن سريج الخارج على أمراء خراسان ، فقبض عليه نصر بن سيار وقتله في سنة ١٢٨ ه‍ في آخر عهد بني أمية.

(٢) هو من طبقة جهم بن صفوان ووافقه في مسألة انقطاع الثواب.

١١٩

(المسألة الثانية والعشرون)

أنّه يجب على المكلف أن يعلم (أن من توعده الله بالنار من الكفار) فإنه وعيد مقطوع به ، و (إذا مات مصرا على كفره غير تائب منه فإنه صائر إلى النار ومخلد فيها خلودا دائما) ، وهذا مجمع عليه ، إلا ما يحكى عن مقاتل (١) وبعض الخراسانية ، وبعض الكرامية ، فذهبوا إلى أن المشرك لا يعاقب ، وأنه لا معنى للشرك لكنهم يسترون هذا المذهب.

قال الإمام عز الدين ـ عادت بركاته ـ : لا ينبغي أن يكون هذا مذهبا لأحد من المسلمين ، فإنه رد لما علم من ضرورة الدين ، ولعل الرواية عن مقاتل غير صحيحة ، وكيف يقول عاقل ممن يؤمن بالله أنه لا معنى للشرك ، وهذا مقاتل قال فيه ابن خلكان (٢) : كان إماما في التفسير ، انتهى.

وقال الشافعي (٣) ـ رحمه‌الله ـ : الناس عيال على مقاتل في التفسير ، انتهى.

(والدليل على ذلك) المذهب الصحيح مع كونه معلوما من ضرورة الدين ما يعلم ضرورة من (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدين بذلك ويخبر به) ، وتوعّده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكفار

__________________

(١) مقاتل بن سليمان البلخي مفسر مشهور توفي سنة ١٥٠ ، وقيل : بعد ذلك ، راجع ميزان الاعتدال للذهبي (ج / ٣ / ص ١٩٦) من الطبعة المصرية.

(٢) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي ، مؤرخ وأديب له من المؤلفات : وفيات الأعيان ، وأنباء أبناء الزمان مطبوع ، وهو من أشهر كتب التراجم ، ولد في أربيل عام ٦٠٨ ه‍ وانتقل إلى مصر فأقام فيها مدة ، وتولى نيابة قضائها ، كما تولى قضاء الشام مرتين ، وعزل عنها مرتين ، وولي التدريس في كثير من مدارس دمشق ، وتوفي فيها عام ٦٨١ ه‍ فدفن بسفح قاسيون.

(٣) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي أبو عبد الله ، شهرته معروفة ، وعلومه موصوفة ، وقد صنف فيه الزمخشري كتابا وغيره ، قال أبو عبيدة : ما رأيت رجلا قط أكمل من الشافعي ، أفتى وهو ابن خمس عشرة سنة ، قالوا : وهو أول من صنف في أصول الفقه واستنبطه ، وأما تشيعه فظاهر ، وهو أحد دعاة الإمام يحيى بن عبد الله ، وامتحن بسبب ذلك ، وله أشعار تدل على تشيعه ، ولد في اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة ، وتوفي بمصر آخر يوم من رجب سنة ٢٠٤ ه‍ ودفن بالقرافة الصغرى. في مصر.

١٢٠