آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

على شاطئهلا أيّاما ، ويهلّل الله ويمجّده. قلنا : من تظنّه؟ قال : أظنّه الخضر ، عليه السلام. فغاب عنّا فلم ندر كيف أخذ. قال : وكنت أخرجت معي عدة من الغوّاصين فغاصوا في الماء ، فرأوا حبّا من صفر مطبقا رأسه مختوما برصاص ، فأمرت به ففتح ، فخرج منه رحل من صفر على فرس بيده رمح مطرد من صفر ، فطار في الهواء وهو يقول : يا نبيّ الله لا أعود! ثمّ غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا مثل هذا ، فضجّوا خوفا من قطع الزاد. فأخذت الطريق التي سلكتها أوّلا حتى عدت إلى قيروان ، والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلم له جنوده والسلام.

قال : فلمّا قرأ عبد الملك كتاب موسى ، وكان عنده الزهري ، قال له :ما تظنّ بأولئك الذين صعدوا السور؟ قال الزهري : يا أمير المؤمنين لأن لتلك المدينة جنّا قد وكلوا بها! قال : فمن أولئك الذين يخرجون من الحباب ويطيرون؟قال : أولئك مردة الجنّ الذين حبسهم سليمان بن داود ، عليه السلام ، في البحار ؛ هذا ما رواه ابن الفقيه.

وقال أبو حامد الأندلسي : دور مدينة النحاس أربعون فرسخا وعلوّ سورها خمسمائة ذراع فيما يقال. ولها كتاب مشهور في كتابها أن ذا القرنين بناها ، والصحيح أن سليمان بن داود ، عليه السلام ، بناها. وليس لها باب ظاهر وأساسها راسخ ، وانّ موسى بن نصير وصل إليها في جنوده ، وبنى إلى جانب السور بناء عاليا متّصلا به ، وجعل عليه سلّما من الخشب متّصلا بأعلى السور ، وندب إليه من أعطاه مالا كثيرا. وأن ذلك الرجل لمّا رأى داخل المدينة ضحك وألقى نفسه في داخل المدينة ، وسمعوا من داخل المدينة أصواتا هائلة ، ثمّ ندب إليه آخر وأعطاه مالا كثيرا وأخذ عليه العهد أن لا يدخل المدينة ويخبرهم بما يرى ، فلمّا صعد وعاين المدينة ضحك وألقى نفسه فيها ، وسمعوا من داخلها أصواتا هائلة أيضا ، ثمّ ندب إليه رجلا شجاعا وشدّ في وسطه حبلا قويّا ، فلمّا عاين المدينة ألقى نفسه فيها فجذبوه حتى انقطع الرجل من وسطه. فعلم أن

٥٦١

في المدينة جنّا يجرّون من علا على السور فأيسوا منها وتركوها.

وذكر أبو حامد الأندلسي في وصف مدينة النحاس قصيدة منها :

وتقبّل الملكوت ربعي حيث ما

فلك البروج يجرّ في سجداته

أرض بحيرة التي دانت بها

جنّ الفلا والطّير في غدواته

والرّيح يحمله الرّخاء فإنّما

شهرين مطلعها إلى روحاته

كالطّود مبهمة بأسّ راسخ

أعيا البريّة من جميع جهاته

والقطر سال بها فصاغ مدينة

عجبا يحار الوهم دون صفاته

حصن النّحاس أحاط من جنباتها

وعلى غلوّ السّهم في غلواته

فيها ذخائره وجلّ كنوزه

والله يكلأها إلى ميقاته

في الأرض آيات فلا تك منكرا

فعجائب الأشياء من آياته

مراغة

مدينة كبيرة مشهورة من بلاد آذربيجان قصبتها. وهي كثيرة الأهل عظيمة القدر غزيرة الأنهار كثيرة الأشجار وافرة الثمار. بها آثار قديمة للمجوس ومدارس وخانقاهات حسنة.

حدّثني بعض أهلها أن بها بستانا يسمّى قيامتاباذ ، فرسخ في فرسخ ، وأن أربابه لا يقدرون على تحصيل ثمرتها من الكثرة ، فتتناثر من الأشجار. وبقرب قيامتاباذ جمّة يفور الماء الحارّ عنها ، يأتيها أصحاب العاهات يستحمّون بها وتنفعهم. وهي عيون عدّة أكثر ما يأتيها الزمنى والجربى. فإذا انفصل هذا الماء عن الجمّة ، ويجري على وجه الأرض ، يصير حجرا صلدا.

وخارج المدينة غار يدخله الإنسان ، يرى فيه شبه البيوت والغرف ، فإذا أمعن يرى فيه شيئا صليبا لا يقرب منه أحد إلّا هلك ، يزعمون أنّه طلسم على كنز ، والله أعلم.

٥٦٢

وبها جبل زنجقان ، وهو جبل بقرب مراغة به عين ماء عذب ، يعجن به الدقيق فيربو كثيرا ، ويحسن خبزه والخبّازون يخمّرون أدقّتهم به ، ويصير هذا الماء حجرا ينعقد منه صخور ضخام يستعملها الناس في أبنيتهم.

ومن مفاخرها القاضي صدر الدين المعروف بالجود والكرم ، وفنون الخيرات وصنوف المبرّات ، من خيراته سور مدينة قزوين الذي عجز عن مثله أعظم ملوك زماننا ، فإنّه بنى أبواب المدينة بالآجرّ في غاية العلوّ ، وبقيّة السور بالطين ، وشرفاتها بالآجرّ ، والمدينة في غاية السعة.

وحكي أنّه أراد أن يتّخذ لنفسه قبرا بقرب حجرة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فبعث إلى أمير المدينة وأعلمه ذلك ، فشرط أن يبعث إليه ملء جراب ذهبا. فقال القاضي : ابعث إليّ الجراب حتى أملأه ذهبا! فلمّا رأى أمير المدينة كبر همّته وسماحة نفسه بعث إليه اذن عناق ، ومكنه من ذلك. فلمّا توفي دفن في المدينة ، وموضع رأسه قريب من قدم رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.

وحكى الشيخ نور الدين محمّد بن خالد الجيلي ، وكان من الابدال ، في كتاب صنّفه في كراماته وعجائب حالاته قال : رأيت فوجا من الملائكة لا يدرك عددهم ومعهم تحف وهدايا ، فسألت : إلى من هذه الهدايا؟ قالوا : إلى قاضي مراغة. قلت : ما هو إلّا عبد مكرم! قالوا : ان هذه له لكرامته رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.

مربيطر

مدينة بالأندلس بقرب بلنسية ، قال صاحب معجم البلدان : إن فيها الملعب ذا العجائب ، لست أعرف كيف يكون ذلك ، وذاك أن الإنسان إذا نزل فيه صعد ، وإذا صعد عليه نزل ، إن صحّ ذلك فإنّه ذو العجائب جدّا.

٥٦٣

المستطيلة

قال أبو القاسم الجهاني : إنّها بلاد بأرض الروم على ساحل البحر. المطر بها دائم صيفا وشتاء بحيث أهلها لا يقدرون على دياس بيادرهم ، وإنّما يجمعونها في السنابل ويفركونها في بيوتهم. بها بزاة كثيرة عدد الغربان عند غيرهم ، لكنها ضعيفة رخوة لا تقدر على أخذ الدجاج وأمثالها.

المصّيصة

مدينة بأرض الروم على ساحل جيحان. كانت من ثغور الإسلام ، وهي الآن بيد أولاد ليون ، سمّيت بالمصّيصة بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح ، عليه السلام ؛ قال المهلبي : من خاصيّة هذه المدينة الفراء المصيصية التي لا يتولّد فيها القمل ، وإذا غسلتها لم تتغيّر عن حالها وتحمل إلى سائر البلدان ، وربّما بلغت قيمة الفروة منها ثلاثين دينارا.

ملطية

مدينة بأرض الروم مشهورة. بها جبل فيه عين ؛ حدّثني بعض التجار أن هذه العين يخرج منها ماء عذب ضارب إلى البياض ، يشربه الإنسان لا يضرّه شيئا ، فإذا جرى مسافة يسيرة يصير حجرا صلدا.

موغان

ولاية واسعة بها قرى ومروج بآذربيجان ، على يمين القاصد من اردبيل إلى تبريز ، وهي جروم وآذربيجان كلّها صرود كانت منازل التركمان لسعة رفغها وكثرة عشبها ، والآن اتّخذها التتر مشتاة وجلا عنها تركمانها ؛ قال أبو حامد الأندلسي : رأيت بها قلعة عظيمة لها رساتيق كثيرة ، وقد هرب عنها أهلها

٥٦٤

لكثرة ما بها من الثعابين والحيّات ، وقال : رأيت عند اجتيازي بها شجاعا عظيما ففزعت منه.

ميّافارقين

مدينة مشهورة بديار بكر ، كانت بها بيعة من عهد المسيح ، عليه السلام ، وبقي حائطها إلى وقتنا هذا. حكي أن ولاية هذه البلاد كانت لرجل حكيم اسمه مرّوثا من قبل قسطنطين الملك صاحب رومية الكبرى ، فمرضت لشابور ذي الأكتاف بنت ، وعجز أطباء الفرس عن علاجها ، فأشار بعض أصحابه باستدعاء مرّوثا لعلاجها. فبعث إلى قسطنطين يسأله فبعثه إليه فعالجها مرّوثا ، ففرح بذلك شابور وقال له : سل حاجتك! فسأل مرّوثا الهدّنة بينه وبين قسطنطين ، فأجابه إلى ذلك ، وكان يجري بينهما محاربات شديدة ، ولمّا أراد الانصراف قال له شابور : سل حاجة أخرى! فقال : إنّك قتلت خلقا كثيرا من النصارى ، فأسألك أن تأمر بجمع عظامهم لي! فأمر له بذلك ، فجمعوا من عظام النصارى شيئا كثيرا ، فأخذها معه إلى بلاده وأخبر قسطنطين بالهدنة وجمع العظام ، فسرّ بذلك وقال له : سل حاجتك! فقال : أريد أن يساعدني الملك على بناء موضع في بلادي. فكتب قسطنطين إلى كلّ من يجاوره المساعدة بالمال والرجال ، فعاد إلى مكانه وبنى مدينة عظيمة ، وجعل في وسط حائط سورها عظام شهداء النصارى التي جمعها من بلاد الفرس ، وسمّى المدينة مدور صالا ، معناه مدينة الشهداء ، واختار لبنائها وقتا صالحا لا تؤخذ عنوة ، وجعل لها ثمانية أبواب :منها باب يسمّى باب الشهوة ، له خاصيّة في هيجان الشهوة أو إزالتها ، لم يتحقّق عند الناقل ولا ان هذه الخاصية للدخول أو الخروج. وباب آخر يسمّى باب الفرح والغم بصورتين منقوشتين على الحجر. أمّا صورة الفرح فرجل يلعب بيده ، وأمّا صورة الغم فرجل قائم على رأسه صخرة فلا يرى بميّافارقين مغموم إلّا نادرا.

وفي برج يعرف ببرج عليّ بن وهب في الركن الغربي القبلي في أعلاه صليب منقور

٥٦٥

كبير ، يقال إنّه يقابل البيت المقدس ، وعلى بيعة قمامة بالبيت المقدس صليب مثله ، قيل إن صانعهما واحد ، وبنى بيعة في وسط البلد على اسم بطرس وبولس ، وهي باقية إلى زماننا في المحلّة المعروفة بزقاق اليهود ، فيها جرن من رخام أسود فيه منطقة الزجاج ، فيها دم يوشع بن نون ، عليه السلام ، وهو شفاء من كلّ داء ، وإذا طلي به البرص أزاله ، قيل : ان مرّوثا جاء به من رومية الكبرى ، أعطاه إيّاه قسطنطين عند عوده.

هرقلة

مدينة عظيمة بالروم ، كرسي ملك القياصرة ، بناها هرقل أحد القياصرة.

غزاها الرشيد سنة إحدى وتسعين ومائة. نزل عليها يحاصرها ، فإذا رجل خرج من أهلها شاكي السلاح ونادى : يا معشر العرب ، ليخرج منكم العشرة والعشرون مبارزة! فلم يخرج إليه أحد لأنّهم انتظروا إذن الرشيد ، وكان الرشيد نائما ، فعاد الرومي إلى حصنه ، فلمّا أخبر الرشيد بذلك تأسّف ولام خدمه على تركهم إيقاظه.

فلمّا كان الغد خرج الفارس وأعاد القول فقال الرشيد : من له؟ فابتدر جلّة القوّاد ، وكان عند الرشيد مخلد بن الحسين وإبراهيم الفزاري ، قالا : يا أمير المؤمنين إن قوادك مشهورون بالبأس والنجدة ، ومن قتل منهم هذا العلج لم يكن فعلا كبيرا ، وإن قتله العلج كانت وصمة على العسكر كبيرة ، فإن رأى الأمير أن يأذن لنا حتى نختار له رجلا فعل. فاستصوب الرشيد ذلك ، فأشاروا إلى رجل يعرف بابن الجزري ، وكان من المتطوّعة ، معروف بالتجارب مشهور في الثغور بالنجدة ، فقال له الرشيد : أتخرج إليه؟ فقال : نعم ، وأستعين بالله عليه.

فأدناه الرشيد وودّعه واتبعه وخرج معه عشرون من المتطوّعة. فقال لهم العلج وهو يعدّهم واحدا واحدا : كان الشرط عشرين وقد ازددتم رجلا ، ولكن لا بأس! فنادوه : ليس يخرج إليك إلّا واحد. فلمّا فصل منهم ابن الجزري

٥٦٦

تأمّله العلج وقال له : أتصدقني فيما أسألك؟ قال : نعم. قال : بالله أنت ابن الجزري؟ قال : نعم. فقال : ملأ كفؤ! ثمّ أخذا في شأنهما حتى طال الأمر بينهما ، وكاد الفرسان ينفقان تحتهما ، وزجّا برمحيهما وانتضيا بسيفيهما ، وقد اشتدّ الحرّ ، فلمّا أيس كلّ واحد منهما عن الظفر بصاحبه ولّى ابن الجزري ، فدخل المسلمين كآبة وغطغط الكفّار ، فاتبعه العلج فتمكّن ابن الجزري منه ، فرماه بوهق واستلبه عن ظهر فرسه ثمّ عطف عليه ، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه ، فكبّر المسلمون تكبيرا وانخذل المشركون وبادروا إلى الحصن ، وأغلقوا الأبواب ، فصبّت الأموال على ابن الجزري فلم يقبل منها شيئا ، وسأل أن يعفى ويترك بمكانه. وأقام الرشيد عليها حتى استخلصها وسبى أهلها وخربها ، وبعث فيسقوس الجزية عن رأسه أربعة دنانير ، وعن كلّ واحد من البطارقة دينارين.

هزار اسب

مدينة كبيرة وقلعة حصينة بأرض خوارزم. الماء محيط بها وهي كالجزيرة ليس إليها إلّا طريق واحد.

تنسب إليها رحمة بنت إبراهيم الهزار اسبية المشهورة بأنّها ما تناولت ثلاثين سنة طعاما. وحكى أبو العباس عيسى المروزي أنّها إذا شمّت رائحة الطعام تأذّت ، وذكرت أن بطنها لا صق بظهرها ، فأخذت كيسا فيه حبّ القطن ، وشدّته على بطنها لئلّا يقصف ظهرها. وبقيت إلى سنة ثمان وستين ومائتين.

وادي الحجارة

ناحية بقرب طليطلة ؛ قال العذري : لا يدخلها أحد من غير أهلها بصبي ابنا له ويعيش فيها ، هذا قول العذري. وجاز أن يكون مراده أن الصبي لا يعيش وجاز أن يكون مراده أن الأب لا يعيش ، والله أعلم بصحة ذلك.

٥٦٧

وشلة

قرية بآذربيجان من قرى خويّ. بها عين من شرب من مائها يسهل في الحال جميع ما في بطنه ، حتى لو تناول شيئا من الحبوب وشرب من ذلك الماء عليه يخرج في الحال.

والوطة

مدينة بجزيرة ميورقة ، كبيرة حصينة طيبة الأرض ، رخيصة الأسعار.

بها مياه غزيرة وأشجار كثيرة ؛ قال العذري : بها أرحية عجيبة وذاك أن المياه إذا قلّت لا تدير الرحا ، فعمدوا إلى عود غلظ دورته نحو عشرة أشبار ، وطوله سبعة أذرع ، وشقّوه بنصفين ويحفرون وسط الشقّين إلّا نصف ذراع من آخره ، ويضمّون أحدهما إلى الآخر ، ويفتحون في آخره كوّة مقدار حافر حمار ثمّ ينصبونه على الساقية ، ويقومونه على الدولاب ، فيخرج الماء من الثقبة التي في العود بالقوّة ، ويضرب أمشاط الدولاب ويدوّر الرحا.

وبقرب والوطة فتق كأنّه بئر ينزل الناس فيه بالمصابيح إلى أسفله ، فيجدون فيه ساقية ماء وبعدها ظلمة تأخذ بالنفس ولا يبقى فيها المصباح ، وإذا ألقي في تلك الساقية شيء يخرج إلى البحر ويوجد فيه.

ياسي جمن

موضع بين خلاط وارزن الروم. به عين يفور منها الماء فورانا شديدا ، يسمع صوته من بعيد ، وإذا دنا منه شيء من الحيوان يموت في الحال ، فيرى حولها من الطيور والوحوش الموتى ما شاء الله. وقد وكلوا بها من يمنع الغريب من الدنوّ منها.

٥٦٨

يونان

موضع كان بأرض الروم. به مدن وقرى كثيرة ، وإنّها منشأ الحكماء اليونانيّين ، والآن استولى عليها الماء. من عجائبها أن من حفظ شيئا في تلك الأرض لا ينساه أو يبقى معه زمانا طويلا. وحكى التجار أنّهم إذا ركبوا البحر ووصلوا إلى ذلك الموضع يذكرون ما غاب عنهم. ولهذا نشأ بهذه الأرض الحكماء الفضلاء الذين لم يوجد أمتالهم في أرض أخرى إلّا نادرا.

ينسب إليها سقراط أستاذ أفلاطون ، وكان حكيما زاهدا في الدنيا ونعيمها راغبا في الآخرة وسعادتها. دعا الناس إلى ذلك فأجابه جمع من أولاد الملوك وأكابر الناس ، فاجتمعوا عليه يأخذون منه غرائب حكمته ونوادر كلامه. فحسده جمع فاتّهموه بمحبّة الصبيان ، وذكروا أنّه يتهاون بعبادة الأصنام ، ويدعو الناس إلى ذلك ، وسعوا به إلى الملك وشهد عليه جمع بالزور عند قاضيهم ، وحكم قاضيهم عليه بالقتل فحبس ، وعنده في الحبس سبعون فيلسوفا من موافق ومخالف يناظرونه في بقاء النفس بعد مفارقة البدن ، فصحّح رأيه في بقاء النفس. فقالوا له : هل لك أن نخلّصك عن القتل بفداء أو هرب؟ فقال : أخاف أن يقال لي لم هربت من حكمنا يا سقراط؟ فقالوا : تقول لأني كنت مظلوما! فقال : أرأيتم أن يقال ان ظلّمك القاضي والعدول فكان من الواجب أن تظلمنا وتفرّ من حكمنا ، فماذا يكون جوابي؟ وذاك أن القوم كان في شريعتهم أنّه إذا حكم عدلان على واحد يجب عليه الانقياد وان كان مظلوما ، فلذلك انقاد سقراط للقتل ، فازمعوا على قتله بالسمّ. فلمّا تناول السمّ ليشربه بكى من حوله من الحكماء حزنا على مفارقته. قال : إني وإن كنت أفارقكم إخوانا فضلاء فها أنا ذاهب إلى إخوان كرم حكماء فضلاء! وشرب السمّ وقضى نحبه.

وينسب إليها أفلاطون أستاذ أرسطاطاليس ، فكان حكيما زاهدا في الدنيا ويقول بالتناسخ. فوقع في زمانه وباء أهلك من الناس خلقا كثيرا ، فتضرّعوا إلى

٥٦٩

الله تعالى من كثرة الموت وسألوا نبيّهم ، وكان من أنبياء بني إسرائيل ، عن سبب ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه أنّهم متى ضعّفوا مذبحا لهم على شكل المكعب ارتفع عنهم الوباء ، فأظهروا مذبحا آخر بجنبه وأضافوه إلى المذبح الأوّل فزاد الوباء.

فعادوا إلى النبيّ ، عليه السلام ، فأوحى الله تعالى إليه أنّهم ما ضعّفوا بل قرنوا به مثله ، وليس هذا تضعيف المكعب. فاستعانوا بأفلاطون فقال : إنّكم كنتم تردّون الحكمة وتمتنعون عن الحكمة والهندسة فأبلاكم الله تعالى بالوباء عقوبة ، لتعلموا أن العلوم الحكمية والهندسيّة عند الله بمكانة. ثمّ لقن أصحابه انّكم متى أمكنكم استخراج خطّين من خطّين على نسبة متوالية توصّلتم إلى تضعيف المذبح ، فإنّه لا حيلة فيه دون استخراج ذلك ، فتعلّموا استخراج ذلك فارتفع الوباء عنهم.

فلمّا تبيّن للناس من أمر الحكمة هذه الأعجوبة تلمذ لأفلاطون خلق كثير ، منهم أرسطاطاليس ، واستخلفه على كرسي الحكمة بعده ، وكان أفلاطون تاركا للدنيا لا يحتمل منه أحد ولا يعلم الحكمة إلّا من كان ذا فطانة ونفس خيّرة ، والتلميذ يأخذ منه الحكمة قائما لاحترام الحكمة.

وحكي أن الإسكندر ذهب إليه وكان أفلاطون أستاذ أستاذه ، فوقف إليه وهو في مشرقة قد أسند ظهره إلى جدار يأوي إليه ، فقال له الإسكندر : هل من حاجة؟ فقال : حاجتي أن تزيل عني ظلّك فقد منعتني الوقوف في الشمس! فدعا له بذهب وكسوة فاخرة من الديباج والقصب ، فقال : ليس بأفلاطون حاجة إلى حجارة الأرض وهشيم النبات ولعاب الدود ، وإنّما حاجته إلى شيء يكون معه أينما توجّه.

وينسب إليها أرسطاطاليس ، ويقال له المعلّم الأوّل ، لأنّه نقّح علم الحكمة وأسقط سخيفها وقرّر إثبات المدّعى وطريق التوجيه ، وكانوا قبله يأخذون الحكمة تقليدا. ووضع علم المنطق وخالف أستاذه أفلاطون وأبطل التناسخ ، قيل له : كيف خالفت الأستاذ؟ فقال : الأستاذ صديقي والحقّ أيضا صديقي ،

٥٧٠

لكن الحقّ أحبّ إليّ من الأستاذ.

وكان أستاذ الإسكندر ووزيره فأخذ الإسكندر برأيه الأرض كلّها. حكي أن أرسطاطاليس سئل : لم حركة الإقبال بطيئة وحركة الإدبار سريعة؟ فقال : لأن المقبل مصعد ، والصعود يكون من مرقاة إلى مرقاة ، والمدبر كالمقذوف من علو إلى سفل.

وحكى الحكيم الفاضل أبو الفتح يحيى السهروردي الملقّب بشهاب الدين في بعض تصانيفه : بينا أنا بين النائم واليقظان رأيت في نور شعشعاني بمثل إنساني ، فإذا هو المعلّم ، فسألته عن فلان وفلان من الحكماء فأعرض عني ، فسألته عن سهل بن عبد الله التستري وأمثاله فقال : أولئك هم الفلاسفة حقّا ، نطقوا بما نطقنا فلهم زلفى وحسن مآب!

وحكي أن الإسكندر قال لأرسطاطاليس : قد ورد الخبر بفتح المدينة التي أنت منها فماذا ترى؟ قال أرسطاطاليس : أرى أن لا يبقى على واحد منهم كيلا يرجع أحد يخالفك! فقال الإسكندر : أمرت أن لا يؤذى أحد فيها احتراما لجانبك. فكلام الوزير عجب وكلام الملك أعجب منه.

وينسب إليها ديوجانس ، وكان حكيما تاركا للدنيا ، مفارقا لشهواتها ولذّاتها ، مختارا للعزلة ولا يرضى باحتمال منه من أحد ، حكي أنّه كان نائما في بستان في ظلّ شجرة ، فدخل عليه بعض الملوك فركله برجله وقال له : قد ورد الخبر بفتح بلدتك! فقال : أيّها الملك فتح البلاد عادة الملوك ، لكن الركل من طباع الدوابّ! وحكي أنّه رأى صيّادا يكلّم امرأة حسناء فقال له : أيّها الصيّاد ، احذر أن تصاد! وحكي أنّه رأى امرأة حسناء خرجت للنظارة يوم عيد فقال : هذه ما خرجت لترى إنّما خرجت لترى! وحكي انّه رأى رجلا مع ابنه ، والابن شديد الشبه بأبيه ، فقال للصبي : نعم الشاهد أنت لأمّك! وحكي انّه نظر إلى شابّ حسن الصورة قبيح السيرة فقال : بيت حسن فيه ساكن قبيح!

وينسب إليها بطليموس صاحب العلم المجسطي الذي عرف حركات الأفلاك

٥٧١

وسير الكواكب بالبراهين الهندسيّة ، فذكر أن بعض الأفلاك يتحرّك من المغرب إلى المشرق ، وبعضها من المشرق إلى المغرب ، وبعضها سريع الحركة ، وبعضها بطيء الحركة ، وبعضها يدور رحوية ، وبعضها يدور دولابية ، وبعضها يدور حمائلية. وان حركات الكواكب تابعة لحركات أفلاكها ، ومن الأفلاك بعضها محيطة بكرة الأرض وبعضها غير محيطة ، وبعضها مركزها مركز الأرض وبعضها مركز خارج من مركز الأرض. وأقام على ذلك كلّه البراهين الهندسيّة ومسح الأفلاك برجا برجا ، ودرجة درجة ، وثانية ثانية حتى يقول : في يوم كذا وفي ساعة كذا يكون الكسوف أو الخسوف ، ويقع كما قال. وأعجب من هذا أنّه يبيّن بالبراهين الهندسيّة أن ما بين السماء والأرض من المسافة كم يكون ميلا ، وأن كلّ فلك من الأفلاك تحتها كم يكون ميلا ، ودورتها كم تكون ميلا ، وقطرها كم يكون ميلا. ومن أعجب الأشياء وضع الاصطرلاب والتقويم.

فسبحان من علّم الإنسان ما لم يعلم!

وينسب إليها بطلميوس صاحب الأحكام النجوميّة. يزعم أنّه حصل له بالتجربة مرّة بعد أخرى وقوع الحوادث بحركات الأفلاك وسير الكواكب ، وليس على ذلك برهان كما في المجسطي ، لكن هو يزعم غلبة الظن ، وأنّه موقوف على مقدمات وشرائط كثيرة قلّما تحصل لأحد في زماننا. ومن أراد شيئا من ذلك فلينظر في أحكام جاماسب وزير كشتاسف ، ملك الفرس ، فإنّه كان قبل مبعث موسى ، عليه السلام ، وحكم بمبعث موسى وعيسى ونبيّنا ، عليه السلام ، وبإزالة الملّة المجوسيّة وخروج الترك ، وأمثال ذلك من الحوادث الكثيرة.

وينسب إليها بليناس صاحب الطلسمات. وإنّها مأخوذة من أجرام سماوية وأجرام أرضيّة في أوقات مخصوصة ، وكتابنا هذا كثير فيه من ذكر الطلسمات.

وينسب إليها فيثاغورس صاحب علم الموسيقى. زعموا أنّه وضع الألحان على أصوات حركات الفلك بذكائه وصفاء جوهر نفسه. استخرج أصول النغمات وهو أوّل من تكلّم في هذا العلم ، وفائدته أن المريض الذي عدم نومه أو قراره

٥٧٢

يلهى بهذه الأصوات ، فربّما يأتيه النوم أو يخفّ عنه بعض ما به بسبب اشتغاله بسماع تلك الأصوات ، وكذلك الحزين الذي يغلب عليه الحزن يشغل بشيء من هذه الألحان ، فيخفّ عليه بعض ما به.

وينسب إليها اقليمون ، وهو صاحب الفراسة ، والفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفيّة ، وإنّها كثيرة تظهر للإنسان على قدر ذكائه كما قال تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسّمين. فإنّك إذا رأيت إنسانا مصفرّ اللون ترى أنّه مريض ، فإن لم تجد آثار المرض تعلم انّه خائف. وإذا رأيت رجلا كبير الرأس تعلم انّه بليد تشبيها بالحمار ، وإذا رأيت رجلا عريض الصدر دقيق الخصر تعلم أنّه شجاع لأنّه شبيه بالأسد. ومن هذا الطريق وهذا علم منسوب إلى الحكيم اقليمون.

وينسب إليها أوقليدس واضع الأشكال الهندسيّة والبراهين اليقينيّة ، والمقالات العجيبة والأشكال الموقوفة. بعضها على بعض على وجه لا يفهم الثاني ما لم يفهم الأوّل ، ولا الثالث ما لم يفهم الثاني ، وعلى هذا الترتيب فلا يستعدّ لهذا الفن من العلوم إلّا كلّ ذي فطانة وذكاء ، فإنّه من العلوم الدقيقة.

وينسب إليها أرشميدس واضع علم أعداد الوفق على وجه عجيب ، وهو أن يخرج شكلا جميع أضلاعه متساوية طولا وعرضا وأقطاره كذلك ، ويكون جميع سطوره متساوية بالعدد. زعموا أن لهذه الأشكال خواص إذا ضربت في أوقات معيّنة. وأمّا شكل ثلاثة في ثلاثة فمجرب لسهولة الولادة ، وهو أوّل الأشكال وآخرها ألف في ألف. قال أيضا مجرب لظفر العسكر إذا كان ذلك على رايتهم.

وينسب إليها بقراط صاحب الأقوال الكليّة في قوانين الطبّ ، لأن تجربته دلّت على ذلك ، والذي اختاره من القواعد في غاية الحسن قلّما ينتقض شيء منه.

وكان خبيرا بعلم الطب بكلياته وجزئياته.

وينسب إليها جالينوس صاحب علم الطب والمعالجات العجيبة بذكاء نفسه

٥٧٣

وألقي إليه في نومه. حكي أنّه رأى طيرا سقط من الجوّ يضرب بجناحيه ثمّ أخذ شيئا من الماء في منقاره ، وصبّ ذلك في منفذ ذرقه فانفصل منه ذرقه وطار ، فوضع الحقنة على ذلك عندما يكون الاحتباس في الامعاء. وحكي انّه كان على إصبعه جرح ، بقي مدّة لم يقبل المعالجة ، فرأى في نومه أن علاجه فصد عرق تحت كتفه من الجانب المخالف ، ففعل ذلك فعوفي. وحكي أنّه قيل لجالينوس : كيف خرجت على أقرانك بوفور العلم؟ فقال : لأن ما أنفق أولئك في الخمر أنا أنفقت في الزيت.

وحكي أنّه أصابه في آخر غمره إسهال شديد فقيل له : كيف عجزت عن حبس هذه وأنت أنت؟ فدعا بطشت ملأه ماء فرمى فيه دواء انعقد الماء فيه فقال : أقدر على حبس الماء في الطشت ، وما أقدر على حبس بطني ، لتعلموا أن العلم والتجربة لا ينفعان مع قضاء الله تعالى! قال الشاعر :

أرسطو مات مدفوقا ضئيلا

وأفلاطون مفلوجا ضعيفا

مضى بقراط مسلولا ضعيفا

وجالينوس مبطونا نحيفا

هؤلاء فضلاء الناس ، ماتوا أسوأ ميتة ، لتعلموا أنه هو القاهر فوق عباده. والله الموفق.

٥٧٤

الاقليم السادس

أوّله حيث يكون الظلّ نصف النهار عند الاستواء سبعة أقدام وستّة أعشار وسدس عشر قدم ، ويفضل ظلّ آخره على أوّله بقدم واحد فقط. ويبتدىء من مساكن ترك المشرق من قانى وتون وخرخيز وكيماك والتغزغز وأرض التركمان وبلاد الخزر واللان والسرير ، يمرّ على القسطنطينيّة والرومية الكبرى ، وبلاد المان وافرنجة وشمال الأندلس ، حتى ينتهي إلى بحر المغرب. وأطول نهار هؤلاء في أوّل الإقليم خمس عشرة ساعة ونصف ، وآخره خمس عشرة ساعة ونصف وربع. وطوله في وسطه من المشرق إلى المغرب سبعة آلاف ميل ومائة وخمسة وسبعون ميلا ، وثلاث وستّون دقيقة. وعرضه مائتا ميل وخمسة عشر ميلا وتسع وثلاثون دقيقة. وتكسيره ألف ألف ميل وستّة وأربعون ألف ميل وعشرون ميلا ، وكذا دقائق ، ولنذكر شيئا من أحوال المدن الواقعة فيه مرتبة على حروف المعجم. والله الموفق.

أبولدة

مدينة بأرض الفرنج عظيمة مبنية بالحجارة. لا يسكنها إلّا الرهبان ولا تدخلها امرأة لأنّه أوصى شهيدها بذلك ، واسم شهيدها باج الب ، زعموا أنّه كان أسقفا بافرنجة ، فتشاجر أهلها وأتى هذا الموضع ، وبنى هذه المدينة. وهي كنيسة عظيمة معتبرة عند النصارى ؛ حكى الطرطوشي قال : ما رأيت في جميع بلاد النصارى أعظم منها ولا أكثر ذهبا وفضّة. وأكثر أوانيها كالمجامر والكؤوس والأباريق والقصاع من الذهب والفضّة.

٥٧٥

وبها صنم من فضّة على صورة شهيدها ، وجهه إلى المغرب ، وبها صنم آخر من ذهب وزنه ثلاثمائة رطل ، ملصق ظهره بلوح واسع عريض جدّا ، قد كلّل بالياقوت والزمّرد ، وهو مفتوح اليدين على شكل المصلوب ، وهو صورة المسيح ، عليه السلام. وبها من صلبان الذهب والفضّة وألواح الآثار كلّها من الذهب والفضّة قد كلّل بالياقوت.

اشت

مدينة بأرض الإفرنج ، حكى العذري أن بهذه المدينة عادة عجيبة ، وهي أن أهلها إذا اشتروا متاعا كتبوا ثمنه عليه وتركوه في دكانهم ، فمن وافقه بذلك الثمن أخذه وترك ثمنه مكانه. ولحوانيتهم حرّاس ، فمن ضاع منه شيء غرّموا الحارس قيمته.

أفرنجة

أرض واسعة في آخر غربي الإقليم السادس. ذكر المسعودي أن بها نحو مائة وخمسين مدينة. قاعدتها باريس. وإن طولها مسيرة شهر وعرضها أكثر ، وإنّها غير خصبة لكونها رديئة المحرث قليلة الكرم معدومة الشجر. وأهلها الإفرنج وهم نصارى ، أهل حرب في البرّ والبحر ، ولهم صبر وشدّة في حروبهم لا يرون الفرار أصلا ، لأن القتل عندهم أسهل من الهزيمة ، ومعاشهم على التجارات والصناعات.

افش

مدينة في بلاد الإفرنج مبنية بالصخور المهندمة على طرف نهر يسمّى نهر افش. بها جمّة غزيرة الماء جدّا. عليها بيت واسع الفضاء يستحمّ فيه أهلها على بعد من الجمّة ، خوفا من شدّة سخونة الماء الذي يفور من الجمّة.

٥٧٦

انطرحت

مدينة بأرض الفرنج عظيمة واسعة الرقعة. أرضها سبخة لا يصلح فيها شيء من الزروع والغراس ، ومعاشهم من المواشي ودرّها وأصوافها. وليس ببلادهم حطب يشعلونه بحاجاتهم ، وإنّما عندهم طين يقوم مقام الحطب ، وذاك أنّهم يعمدون في الصيف إذا خفّت المياه إلى مروجهم ، ويقطعون فيها الطين بالفؤوس على شكل الطوب ، فيقطع كلّ رجل منها مقدار حاجته ويبسطه في الشمس ينشف ، فيكون خفيفا جدّا ، فإذا عرض على النار يشتعل ، وتأخذ فيه النار كما تأخذ في الحطب. وله نار عظيمة ذات وهج عظيم كنار كير الزجّاجين ، وإذا احترقت قطاعة لا جمر لها بل لها رماد.

ايرلاندة

جزيرة في شمالي الإقليم السادس وغربيه ؛ قال العذري : ليس للمجوس قاعدة إلّا هذه الجزيرة في جميع الدنيا ، ودورها ألف ميل ، وأهلها على رسم المجوس وزيّهم ، يلبسون برانس قيمة الواحد منها مائة دينار. وأمّا أشرافهم فيلبسون برانس مكلّلة باللآلىء.

وحكي أن في سواحلها يصيدون فراخ الأبلينة ، وهو نون عظيم جدّا ، يصيدون أجراءها يتأدّمون بها. وذكروا ان هذه الأجراء تتولّد في شهر أيلول فتصاد في تشرين الأوّل والثاني وكانون الأوّل والثاني ، في هذه الأشهر الأربعة ، وبعد ذلك يصلب لحمها فلا يصلح للأكل.

أمّا كيفيّة صيدها فقد ذكر العذري أن الصيّادين يجتمعون في مراكب ، ومعهم نشيل كبير من حديد ذو أضراس حداد ، وفي النشيل حلقة عظيمة قويّة ، وفي الحلقة حبل قويّ ، فإذا ظفروا بالجرو صفّقوا بأيديهم وصوّتوا ، فيتلهّى الجرو بالتصفيق ويقرب من المراكب مستأنسا بها ، فينضمّ أحد الملّاحين إليها

٥٧٧

ويحكّ جبهته حكّا شديدا ، فيستلذّ الجرو بذلك ، همّ يضع النشيل وسط رأسه ويأخذ مطرقة من حديد قويّة ، ويضرب بها على النشيل بأتمّ قوّة ثلاث ضربات ، فلا يحسّ بالضربة الأولى وبالثانية ، والثالثة يضطرب اضطرابا شديدا ، فربّما صادف بذنبه شيئا من المراكب فيعطبها ، ولا يزال يضطرب حتى يأخذه اللغوب.

ثمّ يتعاون ركاب المراكب على جذبه حتى يصير إلى الساحل. وربّما أحسّت أمّ الجرو باضطرابه فتتبعهم ، فيستعدّون بالثوم الكثير المدقوق ويخوّضون به الماء ، فإذا شمّت رائحة الثوم استبعثتها ورجعت القهقرى إلى خلف ، ثمّ يقطعون لحم الجرو ويملّحونه. ولحمه أبيض كالثلج وجلده أسود كالنقس.

باكويه

مدينة بنواحي دربند بقرب شروان. بها عين نفط عظيمة تبلغ قبالتها في كلّ يوم ألف درهم ، وإلى جانبها عين أخرى تسيل بنفط أبيض كدهن الزئبق ، لا تنقطع نهارا ولا ليلا ، تبلغ قبالتها مثل الأولى.

من عجائبها ما ذكر أبو حامد الأندلسي أن بها أرضا ليس في ترابها حرارة كثيرة يجدها الإنسان ، والناس يصيدون الغزلان وغيرها ويقطعون لحمها ويجعلونه في جلودها مع الملح وما شاؤوا من الأبازير ، ويأخذون أنبوبة من القصب الغليظ النافذ ، ويشدّون القصب على جلد الصيد ويدفنونه تحت ذلك التراب ، ويتركون القصب خارجا فتخرج مائية اللحم كلّها من القصبة ، فإذا نفدت المائية علموا أن اللحم قد نضج فيخرجونه وقد تهرّأ.

وحكى بعض التجّار انّه رأى بها نارا لا تزال تضطرم ولا تنطفىء لأن موضعها معدن الكبريت. وحكى أبو حامد الأندلسي أن بقرب باكويه جبلا أسود في سنامه شقّ طويل ، يخرج منه الماء ويخرج مع ذلك الماء مثل صناج الدانق من النحاس وأكبر أو أصغر ، يحملها الناس إلى الآفاق للتعجّب.

٥٧٨

باني وأريشة

مدينتان بأرض الفرنج ، سمّيتا باسم بانيهما : أمّا باني فاسم ملك تلك الناحية في قديم الدهر ، وأريشة اسم زوجته. أمّا مدينة الباني فمدينة شريفة في وسطها سارية من رخام ، وعلى تلك السارية صورة باني كأنّه ينظر إلى البحر إلى إقبال مراكبه من إفريقية. وعلى ميل من مدينة باني مدينة أريشة ، وفي وسط المدينة سارية من رخام عليها صورة أريشة ، صوّر جميعا من رخام تذكرة لهما ، وسمّيت المدينتان باسميهما. والله الموفق.

برذيل

مدينة بناحية افرنجة كثيرة المياه والأشجار والفواكه والحبوب. أكثر أهلها نصارى. بها بنيان منيفة على سوار عظيمة ، وفي سواحل هذه المدينة يوجد العنبر الجيّد. وحكي أنّهم إذا أصابهم كلب الشتاء وامتنع عليهم ركوب البحر ، مشوا إلى جزيرة بقربهم يقال لها انواطى ، بها نوع من الشجر يسمّى مادقة ، فإذا أصابهم الجوع قشروا هذه الشجرة فوجدوا بين لحائها وخشبها شيئا أبيض فاقتاتوا بها الشهر والشهرين وأكثر حتى يطيب الهواء.

بها جبل مشرف عليها وعلى البحر المحيط وعليه صنم ، وذلك كأنّه يخبر الناس بترك التعرّض لسلوك البحر المحيط ، لئلّا يطمع أحد ممّن خرج من برذيل بركوب البحر الذي عنده طمع في سلوكه.

برطاس

ولاية واسعة بالخزر مفترشة على نهر اتل ، أهلها مسلمون ، لهم لغة مغايرة لجميع اللغات ، أبنيئهم من الخشب يأوون إليها في الشتاء ، وأمّا في الصيف فيفرشون في الخرقاهات.

٥٧٩

بها نوع من الثعالب في غاية الحسن ، كثير الوبر أحمر اللون ، جلودها الفراء البرطاسيّة. والليل عندهم قليل في الصيف يكون مقدار ساعة ، لأن السائر لا يتهيّأ له أن يسير فيه أكثر من فرسخ.

بلاد بجناك

هم قوم من الترك في الإقليم السادس في شماليه قرب الصقالبة. وهم قوم طوال اللحى اولو اسبلة طويلة. عندهم كثرة وقوّة ومنعة ، لا يؤدّون الخراج إلى أحد أصلا ، ويغير بعضهم على بعض كالسباع ، ويفترشون نساءهم بمرأى الناس ، لا يستقبحون ذلك كالبهائم ، ومأكولهم الدخن. وبلادهم مسيرة اثني عشر يوما.

بلاد بجا

هم قوم من الترك ، بلادهم مسيرة شهر ، وهم مشركون يسجدون لملكهم ويؤدون الاتاوة إلى الطحطاح ، ويعظّمون البقر ولا يأكلونها تعظيما لها. وبلادهم كثيرة العنب والتين والزعرور الأسود ، وفيها ضرب من الشجر لا تأكله النار ، ولهم أصنام من ذلك الخشب ، يأخذ الطرقيون من النصارى ذلك الخشب ، ويزعمون أنّه من الجذع الذي صلب عليه عيسى ، عليه السلام.

بلاد بغراج

قوم من الترك لهم اسبلة بغير لحى ، وبلادهم مسيرة شهر ، لهم ملك عظيم الشأن يذكر أنّه علويّ من ولد يحيى بن زيد ، وعندهم مصحف مذهب على ظهره أبيات في مرثية زيد ، وهم يعبدون ذلك المصحف ، وزيد عندهم ملك العرب ، وعليّ بن أبي طالب إله العرب ، ولا يملّكون أحدا إلّا من نسل ذلك العلوي. وإذا استقبلوا السماء فتحوا أفواهم وشخصوا أبصارهم ويقولون :

٥٨٠