آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

أنت سؤلي ومنيتي

دلّني كيف حيلتي؟

قد تعشّقت وافتضح

ت وقامت قيامتي!

محنتي فيك أنّني

لا أبالي بمحنتي

يا شفائي من السّقام

وإن كنت علّتي

تعبي فيك دائم

فمتى وقت راحتي؟

وحكي انّه كان محبوسا في المارستان ، فدخل عليه جماعة فقال : من أنتم؟فقالوا : أحبابك جئناك زائرين! فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون فقال : لو كنتم أحبابي لصبرتم على بلائي! توفي الشبلي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن سبع وثمانين سنة.

شغنسة

مدينة بالأندلس بقرب وادي الحجارة ؛ قال العذري : من عجائبها الجبل الذي هو مطلّ عليها ، إذا كسر حجره يخرج من كسره زفت أسود شبه القار ، ومن أراد يجمع منه ما شاء. وليس للهوامّ بها كثير فعل.

شلب

مدينة بالأندلس بقرب باجة ؛ قال العذري : لها بسيط يتّسع وبطائح تنفسح ، وبها جبل عظيم منيف كثير المسارح والمياه.

من عجائبها ما ذكره خلق لا يحصى عددهم أنّه قلّ أن يرى من أهل شلب من لا يقول شعرا ولا يتعانى الأدب ، ولو مررت بالحرّاث خلف فدّانه وسألته الشعر لقرض في ساعته أي معنى اقترحت عليه ، وأيّ معنى طلبت منه صحيحا!

٥٤١

شنترة

مدينة بالأندلس بقرب الأشبونة على ساحل البحر ، وعليها ضبابة دائمة لا تنقشع. من عجائبها تفّاحها ، فإنّ بها تفّاحا دورة واحدة منها ثلاثة أشبار ، وهي الآن بيد الفرنج. ملكوها سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.

شنترين

مدينة بالأندلس بقرب باجة على ساحل البحر. أرضها في غاية الكرم. مبنيّة على نهر باجة ، وللنهر فيض في بطائحها كفيض النيل بمصر. زرع أهلها على نداوته في مواضع فيضه بعد فوات أوان الزرع في غيرها من البلاد ، فيدرك بالعاجل.

وبها يوجد العنبر الجيّد الذي يقذفه البحر إلى ساحله في بعض الأوقات ، يحمل منها إلى سائر البلاد.

ومن عجائبها ما ذكر أن دابّة تخرج من البحر هناك وتحتك بحجارة على ساحل البحر فيسقط منها وبرة على لون الذهب ولين الخزّ وهي قليلة عزيزة جدّا فيجمعها الناس وينسج منها الثياب فيحجر عليها ملوكهم ولا تنقل من بلادهم إلّا بالخفية ، وتزيد قيمة الثوب منها على ألف دينار لحسنه وعزّته.

شنت مريّة

مدينة قديمة بالأندلس. ومعنى شنت مرية بلغة الفرنج مدينة مريم. وبها كنيسة ؛ قال أحمد بن عمر العذري : انّها بناء رفيع وسوار عظيمة من فضّة ، لم ير الراؤون مثلها في طول مفرط وعرض لم يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها.

وبها عين ماء إذا رآها الناظر من البعد لا يشكّ في أنّها جارية ، فإذا قرب منها ووقع البصر على منبعها لم يرها جارية أصلا ، فإذا تباعد عنها رآها جارية!

٥٤٢

وهذا أمر مشهور عنها لا يكاد يخفى على أحد من تلك البلاد أو على من دخلها ، قال عبد الله البطليوسي النحوي يهجوها :

أناخت بنا في أرض شنت مريّة

هواجس ظنّ خان والظنّ خوّان

رحلنا سوام الحمد عنها لغيرها

فلا ماؤها صاد ولا النّبت سعدان

شنقنيرة

أرض بالأندلس من أعمال لورقة. خصّها الله تعالى بالبركة وقوّة لم توجد في غيرها من الأراضي. وهي ما ذكره الغرناطي الأنصاري أنّها حسنة المنظر والمخبر ، كثيرة الريع طيّبة المرتع ، الحبّة من زرعها تتفرّع إلى ثلاثمائة قصبة ، ومسافة هذه الأرض أربعون ميلا من قرطاجنة إلى لورقة ، يرتفع من المكوك من بذره مائة مكوك. ليست هذه الخاصيّة لشيء من أراضي غيرها.

صغد

كورة بين بخارى وسمرقند ، إحدى جنان الدنيا ؛ قالوا : جنان الدنيا أربع :صغد سمرقند ، وغوطة دمشق ، وشعب بوّان ، وأبلّة البصرة. أمّا صغد سمرقند فإنّها قرى متّصلة ، خلال الأشجار والبساتين ، من سمرقند إلى قريب من بخارى ، لا يتبيّن القرية حتى يأتيها لا لتحاف الأشجار بها. وهي أطيب أرض الله ، كثيرة الأشجار متجاوبة الأطيار غزيرة الأنهار ، وزادت على غيرها من الجنان بلطافة الهواء وعذوبة الماء. وليس بصغد سمرقند مكان إذا علاه الناظر يقع بصره على صحراء غبراء أو جبال خالية غير شجراء.

وإنّها على واد يمينا وشمالا ، ومقدارها في المسافة خمسة أيّام تشتبك الخضرة والبساتين والرياض ، وقد حفّت بالأنهار الدائم جريها ، والحياض في صدور رياضها ، وخضرة الأشجار والزروع ممتدّة على حافتي واديها ، من وراء الخضرة من الجوانب المزارع تكتنفها ، ومن وراء المزارع مراعي سوائمها.

٥٤٣

وفي كلّ مدينة وقرية قصورها وقهندزها تلوح في أوساطها كالثوب الديباج الأخضر وقد طرّز بمجاري مياهها ، وزيّنت بتبييض قصورها. وهي أزكى بلاد الله وأحسنها أشجارا وأثمارا ، وفي عامة مساكن أهلها البساتين والمياه الجارية.

ومساحة الصغد ستة وثلاثون فرسخا في ستة وأربعين فرسخا. قصبتها سمرقند.

طراز

مدينة في أقصى بلاد الشاش ممّا يلي تركستان. وهي حدّ بلاد الإسلام لأنّك إذا جزتها دخلت في خرقاهات الخرلخية. وطراز مدينة طيّبة التربة عذبة الماء لطيفة الهواء كثيرة الخيرات ، أشبه شيء بالجنّة لأن أهلها في غاية حسن الصورة ليس في تلك النواحي أحسن منهم صورة ، رجالهم ونساؤهم إلى حدّ يضرب بحسن صورتهم المثل ؛ قال أبو الحسن بن زيد البيهقي :

ظبي أباح دمي وأسهر ناظري

من نسل ترك من ظباء طراز

للحسن ديباج على وجناته

وعذاره المسكيّ مثل طراز

مع طوق قمريّ ونغمة بلبل

وجمال طاووس وهمّة باز

طرطوشة

مدينة قديمة بالأندلس بقرب مدينة بلنسية مشتركة على نهر ابره. وهي برية وبحريّة ، وهي مدينة داخلة في مدينة ، من عجائب المدينة الداخلة ما حكاه العذري أنّها لا يدخلها جيش أصلا. وذكر أيضا أن البعوض ما كان يدخلها فيما مضى من الزمان ، حتى ان الواقع على سورها إذا أخرج يده عن السور وقع عليها البعوض ، وإذا ضمّها سقط البعوض عنها.

وبها موضع يعرف بمغراوة به نار مستكنّة في الأرض غير بادية للعيون ، لكنه يبدو على الموضع اواد ، فمن أراد أن يحقّقه أدخل في الموضع عودا ، فإنّه يحترق في ساعة ويصير جمرة.

٥٤٤

وبها جبل كثير الخير والبركة ، وهو جبل منيف به جميع أنواع الثمار ، وفي أعلاه مروج كثيرة المياه والمراعي ، وبه شجر يشبه خشبه خشب الساج تتّخذ منه الآلات والظروف.

وبها معدن الكحل الطيب الذي هو غاية ومعدن الزجاج. وفي واديها الحوت الطيب من البوري والشوري الذي يكون في الواحد قنطار ، ويخرج منه السمور وفيه أرحاء في الغوارب يكون بيت الرحا في الغارب ، والدولاب يدور خارج الغارب بالماء ، فإن شاء صاحبها ينقل الغارب من موضع إلى موضع. ومثل هذا بالموصل كثير في دجلة ، وهم يسمّونه الغربة.

طرّكونة

مدينة عظيمة قديمة بالأندلس ، على شاطىء البحر الشامي بقرب طرطوشة ؛ قال العذري : تحت مدينة طرّكونة سراديب واسعة ، وفيها بنيان كثيرة ، قال : حدّثني شيخ مسنّ يقال له ابن زيدان انّه نزل في هذه البنيان ، فضلّ فيها هو وأصحابه ثلاثة أيّام ، فوجد فيها بيوتا مملوءة قمحا وشعيرا من الزمان الأوّل ، وقد تغيّر لونها ، ولولا ضوء رأوه في اليوم الثالث ما خرجوا أبدا ، والمدينة الآن مع الافرنج.

طلبيرة

مدينة قديمة بقرب طليطلة ، مبنية على قلّة جبل عظيم ، من عجائبها عين ينبع منها ماء كثير ، يدور عليه عشرون رحا.

طليطلة

مدينة كبيرة بالأندلس ، من أجلّ مدنها قدرا وأكثرها خيرا ، تسمّى مدينة الملوك. ومن طيب تربتها ولطافة هوائها تبقى الغلات في مطاميرها سبعين سنة

٥٤٥

لا تتغيّر.

وبها القنطرة العجيبة التي وصفها الواصفون أنّها قوس واحد من أحد طرفي الوادي إلى الطرف الآخر ، لم ير على وجه الأرض قوس قنطرة أعظم منها إلّا قنطرة صور ؛ قال محمّد بن عبد الرحيم الغرناطي : بقرب طليطلة نهر عظيم ، بنت الجنّ على ذلك قنطرة من الصخر عالية من الجبل إلى الجبل كأنّها قوس قزح ، كلّ صخرة منها مثل بيت كبير ، وقد شدّت تلك الحجارة بجذوع من حديد ، وأذيب عليه الرصاص الأسود وهي أزج واحد ، يتعجّب الناظرون منها لجودة بنائها ، وماء ذلك النهر لا ينقطع أبدا.

وبها حجر المطر ، وهو ما أخبر به بعض المغاربة أن بقرب طليطلة حجرا إذا أراد القوم المطر أقاموه فلا يزال يأتي المطر إلى أن يلقوه. وكلّما أرادوا المطر فعلوا ذلك.

وبها صورة ثورين من حجر صلد ؛ قال العذري : ان طارقا لمّا غزا طليطلة ركب على الثيران ، وكان ذلك الموضع معسكره ، فلعلّ ذلك شيء من الطلسمات.

وكان بها بيت الملوك. كلّ من مات من ملوكها ترك تاجه في ذلك البيت ، وكتب عليه عمر صاحبه ومدّة ولايته ، وكان بها بيت آخر من ملك من ملوكها قفل عليه قفلا ، ووصّى لمن يكون بعده أن لا يفتح ذلك البيت ، حتى انتهى الملك إلى رجل اسمه لذريق ، دخل البيت الأوّل فوجد فيه أربعة وعشرين تاجا على عدد ملوكهم ، ووجد على باب البيت الآخر أربعة وعشرين قفلا ، ظنّ أن فيه مالا فأراد فتحه فاجتمعت الأساقفة والشمامسة وعظموا ذلك ، وسألوه أن يسلك مسلك الملوك الذين كانوا قبله ، فأبى إلّا فتحه ، فقالوا له : أيّها الملك ، انظر فيما يخطر ببالك من مال تراه فيه لندفعه إليك ولا تفتحه. فأبى إلّا فتحه.

فلمّا فتحه إذا في البيت صور العرب على خيولهم بعمائمهم ونعالهم ، وإذا فيه مكتوب : الملك فينا ما دام هذا البيت مقفلا ، فإذا فتح فقد ذهب الملك! فندم لذريق على فتح الباب ، فدخلت العرب بلدهم في السنة التي فتح فيها

٥٤٦

الباب في أيّام الوليد بن عبد الملك. ولمّا فتحوها وجدوا بها مائدة سليمان بن داود ، عليه السلام ، من ذهب ، فلم يمكن نقلها لعظمها. فأمر الوليد أن يضرب منها حلي الكعبة وميزابها ففعل ، وما زالت بيد المسلمين إلى أن استولى عليها الفرنج في شهور سنة سبع وسبعين وأربعمائة ، وإلى الآن بيدهم.

غرناطة

مدينة بالأندلس قديمة بقرب البيرة ، من أحسن مدن بلاد الأندلس وأحصنها ، ومعناها الرمانة بلغة الأندلسيّين ، يشقّها نهر يعرف بنهر قلوم ، وهو النهر المشهور الذي يلفظ من مجراه برادة الذهب الخالص.

بها جبل الثلج مطلّ عليها ، على ذروته توجد أيّام الصيف صنوف الرياحين والرياض المونقة ، وأجناس الأفاويه وضروب العقاقير. وبها شجرة الزيتون التي هي من عجائب الدنيا ؛ قال أبو حامد الأندلسي : بقرب غرناطة بالأندلس كنيسة عندها عين ماء وشجرة زيتون ، والناس يقصدونها في يوم معلوم من السنة ، فإذا طلعت الشمس ذلك اليوم أخذت تلك العين بإفاضة الماء ، ففاضت ماء كثيرا ، ويظهر على الشجرة زهر الزيتون ثمّ ينعقد زيتونا ، ويكبر ويسودّ في يومه ذلك اليوم ، فيأخذ من ذلك الزيتون من قدر على أخذه ، ومن ذلك الماء للتداوي.

وقال محمّد بن عبد الرحيم الغرناطي إنّها بغرناطة. وحدّثني الفقيه سعيد بن عبد الرحمن الأندلسي انّها بسقورة. وقال العذري : انّها بلورقة. والقائلون كلّهم أندلسيون ، والمواضع المذكورة كلّها من أرض الأندلس ، فجاز ان كلّ واحد منهم اضافه إلى موضع قريب منه.

غنجرة

مدينة في داخل الروم. بها نهر يسمّى المقلوب لأنه آخذ من الجنوب إلى الشمال بخلاف سائر الأنهار. حكي عنها انّه وقعت بها في سنة اثنتين وأربعين

٥٤٧

وأربعمائة ليلة الاثنين الخامس من آب زلزلة هائلة ، وتتابعت إلى اليوم. سقط منها أبنية كثيرة ، وخسف هناك حصن وكنيسة حتى لم يبق لهما أثر ، وتبع من ذلك الخسف ماء حارّ كثير شديد الحرارة ، حتى غرق منه سبعون ضيعة ، وهرب خلق كثير من أهل تلك الضياع إلى رؤوس الجبال ، وبقي ذلك الماء على وجه الأرض تسعة أيّام ثمّ نضب.

فاراب

مدينة من بلاد ما وراء النهر. ينسب إليها الحكيم الأفضل أبو نصر بن طرخان الفارابي ، وهو أوّل حكيم نشأ في الإسلام. فهم كلام أرسطاطاليس ونقله إلى اللغة العربيّة ، وقد خصّه الله تعالى بمزيد فطانة حتى أحكم أنواع الحكمة حتى علم الموسيقى والكيمياء ، فكان يمشي في البلاد متنكّرا من خوف الملوك ، فإنّهم كانوا يطلبونه ، فإذا وصل إلى مدينة وأعجبته تلك المدينة سكنها مدّة ، ويشتري بها دارا وبستانا وجواري وعبيدا ، فإذا ملّ عنها زوّج الجواري من العبيد ووهب الأملاك لهم وفارقها ، ولا يرجع إليها أبدا.

وكان معاصرا للصاحب بن عبّاد ، وزير مجد الدولة بن بويه ، وكان الصاحب شديد الطلب له ؛ حكي أن الصاحب أو غيره ظفر به ذات مرّة ، وقد عرفوه واحترموا جانبه وأبو نصر انبسط معهم ، وكان حاذقا بعلم الموسيقى فأخذ في بعض مجالسهم شيئا من الملاهي ، وضرب ضربا فضحك القوم كلّهم ، ثمّ ضرب ضربا فبكى القوم كلّهم ، ثمّ ضرب ضربا فنام القوم كلّهم ، ثمّ قام وفارقهم وهرب.

وقيل : ان الصاحب بن عبّاد كان بالري ، فدخل عليه أبو نصر متنكّرا فما عرفه. وحكي أن أبا نصر كان في قفل يمشي في بلاد الشام ، فوقع عليهم اللصوص فسلّم إليهم ماله وخيله فأبوا إلّا قتله ، فنزل عن الدابّة وتستّر بالمجن ، وكان حاذقا في الرمي ، فقاتل حتى قتل في سنة أربعين وثلاثمائة.

٥٤٨

فبرة

مدينة قديمة بأرض الأندلس بقرب قرطبة ، قال العذري : بها مغارة عجيبة لا يعرف قدرها البتّة يقال لها باب الرياح ، إذا وقفت عليه وعلقت فيه ثوبا رفعته الريح في الجوّ. وقال أيضا : إن بعض ملوك بني أميّة أمر أن يردم ذلك الغار بالتبن ، فحشدوا أهل الناحية وأمروهم بذلك حتى استوى الردم إلى أعلى الغار ، وقعد الناس على فم الغار فتحرّك بهم الردم وساخ من ساعته ، ونجا الناس. ولم يعلم أين ذهب ذلك التبن ، إلّا أنّهم رأوا بعض منابع ذلك الجبل أخرج منه بعض ذلك التبن.

فراغة

مدينة بالأندلس بقرب لاردة. وهي مدينة حسنة البنيان ذات مياه وبساتين كثيرة. وإنّها حسنة المنظر طيبة المخبر. بها سراديب تحت الأرض كثيرة ، وهي عندهم ملجأ من العدوّ إذا طرقهم. وصفتها أنّها بئر ضيّقة الرأس واسعة الأسفل ، وفي أسفلها أزقّة كثيرة مختلفة كنافقاء اليربوع ، فلا يوصل إليها من أعلى الأرض ولا يجسر الطالب على دخولها ، وإن انتشر فيها الدخان دخلوا في الأزقّة وسدّوا أبوابها حتى يرجع الدخان عنهم ، وإن طمّوها يكون لها باب آخر خرجوا منه ، وتسمّى هذه السراديب عندهم الفجوج ، ويخرج في عملها الأموال بالوصية وغيرها. وإن ذلك عندهم من أبواب البرّ.

فرمنتيرة

جزيرة في البحر المحيط ، طولها عشرون ميلا وعرضها ثلاثة أميال ، وانّها في وسط البحر. وهواؤها طيّب وتربتها كريمة ومياه آبارها عذبة. وبها عمارات ومزارع. ولطيب هوائها وتربتها لا يوجد فيها شيء من الهوام أصلا ، لأن

٥٤٩

الهوامّ والحشرات تولدها من العفونات ، ولا عفونة بها. وحكي أن بها منبت الزعفران الجيّد الغاية الذي لا يوجد في موضع خير منه.

فهمين

قلعة بأرض الأندلس بقرب طليطلة حصينة جدّا. بها بئر شرب أهل القلعة منها ، ولم يعرف فيها علق أصلا ، فكثر فيها الطين بطول زمان. فاحتاجوا إلى كسحها فأخرجوا منها طينا كثيرا ، فكثر ماؤها إلّا انّه تولّد فيها علق كثير تعذر معه شرب مائها ، لأن العلق كان ينشب بحلق شارب الماء ، فوجدوا في وسط الطين المخرج منها علقا من النحاس ، فرموه في البئر فانقطع العلق منها.

قادس

جزيرة بقرب الأندلس ، طولها اثنا عشر ميلا. بها آبار مياهها عذبة ، وفيها آثار قديمة غيّرها الزمان : منها الطلسم المشهور الذي عمل لدفع البربر عن جزيرة الأندلس ، وهو ما حكي أن صاحب هذه الجزيرة كان من ملوك الروم قبل الإسلام ، وكانت له بنت ذات جمال ، فخطبها ملوك تلك النواحي فقالت البنت : لا أتزوّج إلّا بمن يعمل في جزيرتي طلسما يمنع البربر من دخولها أو يسوق الماء إليها من البرّ بحيث يدور الرحا عليها! فشرع ملكان أحدهما في عمل الطلسم والآخر في سوق الماء إليها من البرّ ، فقيل لها : بمن تتزوّجين؟ فقالت : أتزوّج بالسابق منهما!

أمّا صاحب الماء فقد اتّخذ في وسط البحر بناء محكما ، وثقه بالحجارة والرصاص بحيث لا يشرب شيئا من ماء البحر ، وسرّح الماء إليه من نهر من البرّ حتى وصل إلى جزيرة قادس ، وأثره في البحر إلى الآن ظاهر لكنّه مهدوم بطول المدّة.

وأمّا صاحب الطلسم فقد اتّخذ تمثالا من الحديد مخلوطا بالصفر على صورة

٥٥٠

رجل بربري ، له لحية متلحّف بوشاح ورداء مذهّب قد تعلّق من منكبه إلى أنصاف ساقيه ، وقد جمع فضلتيه بيده اليسرى منضمة إلى صدره ، ويده اليمنى ممدودة بمفتاح قفل في يده ، قابض عليه مشيرا إلى البحر كأنّه يقول : لا عبور! وهو قائم على رأس بناء عال ، طوله نيف وستون ذراعا ، وطول الصورة قدر ستّة أذرع ، وذكر أن البحر الذي تجاه الصورة ، ويسمّى الابلاية ، لم ير ساكنا ولا تجري فيه السفن بعد ذلك.

وحكي أن صاحب سوق الماء سبق صاحب الطلسم فقال صاحب الجزيرة : لا تظهروا سبقه حتى لا يبطل علينا عمل الطلسم. فلمّا فرغ الصانع من الطلسم قيل له : قد سبقت! فالقى نفسه من أعلى الموضع الذي عليه الطلسم فمات.

فحصل لصاحب الجزيرة الماء والطلسم فما زال الأمر على ذلك. كان البحر مضطربا والجزيرة محفوظة إلى سنة أربعمائة ، فوقع المفتاح من يد الصورة ، فحمل إلى صاحب مدينة سبتة فوزنه ، فكان فيه ثلاثة أرطال ، فسكن البحر حينئذ وعبرت السفن فيه. وذكر أيضا أن الطلسم هدم في سنة أربعين وخمسمائة ، هدموه رجاء أن يوجد تحته شيء من المال ، فلم يوجد شيء فيه.

قاليقلا

مدينة بأرمينية تنسب إلى امرأة اسمها قالي ، فكأنّه قال قالي بنت ، كما يقال دارابجرد ، وصوّرت صورة نفسها على باب المدينة.

يجلب منها البسط والزلالي التي يقال لها قالي. ولأهلها يد باسطة في صنعتها ، ومنها تحمل إلى سائر البلاد.

بها بيعة الشعانين ؛ قال ابن الفقيه : انّها بيعة للنصارى فيها بيت كبير مخزن مصاحفهم وصلبانهم ، فإذا كانت ليلة الشعانين يفتح باب في ذلك الموضع معروف ، يخرج منه تراب أبيض فلا يزال يخرج ليلته إلى الصباح فينقطع حينئذ ، فيأخذه الراهب ويدفعه إلى الناس. وخاصيته دفع السموم ولدغ العقارب والحيات ،

٥٥١

يداف منه وزن دانق في ماء فيشربه الملسوع فيسكن في الوقت ألمه.

وفيه أعجوبة أخرى ، وذلك انّه ان بيع منه شيء لم ينتفع به صاحبه ، ويبطل عمله.

قرطبة

مدينة عظيمة في وسط بلاد الأندلس. كانت سرير ملك بني أميّة ، دورتها أربعة عشر ميلا وعرضها ميلان ، على النهر الأكبر الذي يعرف بوادي الكبير وعليه جسران.

ومسجدها الجامع من أكبر مساجد الإسلام وأجمعها لمحاسن العمد والبنيان ، طوله أربعمائة ذراع وعرضه ثلاثمائة ، وعمده ورخام بنيانه بفسيفساء وذهب ، وبحذائه سقايات وحياض فيها من الماء الرضراض.

وبها كنيسة الأسرى ، وهي مقصودة معتبرة عند النصارى ؛ قال العذري : إن المسلمين همّوا بفتح قرطبة فأسروا راعيا من رعاتها وسألوه عنها ، فذكر أنّها حصينة جدّا إلّا أن فيها ثغرة فوق باب القنطرة. فلمّا جنّهم الليل ذهبوا إلى تلك الثغرة ودخلوا منها ، وجاؤوا إلى باب المدينة الذي يقال له باب القنطرة ، وقتلوا الحراس وفتحوا الباب ودخلوا المدينة. فلمّا علم صاحب قرطبة أن المسلمين دخلوا خرج مع وجوه المدينة وتحصّن بهذه الكنيسة ، فحاصرهم المسلمون ثلاثة أيّام. فبينا هم كذلك إذ خرج العلج على فرس أصفر هاربا حتى أتى خندق المدينة ، فتبعه أمير المسلمين واسمه مغيث. فلمّا رأى مغيثا حرّك فرسه فسقط واندقّت رقبته فأسره مغيث ورجع إلى بقيّة العلوج فأسرهم وقتلهم ، فسميّت الكنيسة كنيسة الأسرى.

وبها جبال معدن الفضّة ومعدن الشادنج ، وهو حجر يقطع الدم ، ومعدن حجر التوتيا ومعدن الشبوب ، وتجلب من قرطبة بغال قيمة واحد منها تبلغ خمسمائة دينار لحسن شكلها وألوانها ، وعلوّها وصحّة قوائمها.

٥٥٢

قسطلونة

مدينة قديمة بالأندلس بقرب بسطة. بها جبل فيه غار يتقاطر الماء من أعلاه في حفيرة تحته لطيفة نقطة نقطة ، ويجتمع في تلك الحفيرة بذوبانها ولا يغيض ، فإن شرب من ماء تلك الحفيرة عدد كثير لم ينقص ؛ قال العذري : أخبرني بهذا جماعة شاهدوها ، وهذا أمر شائع مستفيض في ذلك الموضع ؛ قال : وفي هذا الغار ميت لا يغيّره طول الأزمنة ولم يعرف له خبر.

قلعة اللّان

إنّها قلعة في غاية الحصانة بأرض اللان على قلّة جبل. وهي من القلاع الموصوفة بالحصانة ، تسمّى باب اللان ؛ قالوا : لو أن رجلا واحدا يمنع جميع ملوك الأرض عنها يصحّ له ذلك ، لتعلّقها بالجوّ وعسر الطريق. ولها قنطرة عجيبة البناء عظيمة ، وعجبها ممّا يبصر لا ممّا يذكر ، فإن اللفظ لا يعطي معنى.

عجبها بناها سندباذ بن كشتاسف بن لهراسف ، والقلعة على صخرة صمّاء بها عين ينبع الماء العذب من الصخرة الصمّاء. بها عجيبان : القنطرة والعين في وسط القلعة من الصخرة الصمّاء.

قيصريّة

مدينة عظيمة في بلاد الروم ، بناها ملك الروم من الحجارة ، وهي كثيرة الأهل عظيمة العمارة ، والآن هي كرسي ملك بني سلجوق وهم ملوك مسلمون.

بها آثار قديمة يزورها الناس. وبها موضع يقولون انّه حبيس محمّد بن الحنفية.

وبها جامع أبي محمّد البطّال ، وكان بها حمام بناه بليناس الحكيم لقيصر ملك الروم من عجائب الدنيا. كان يحمى بسراج.

وبها موضع بين قيصرية واقصرا يشبه بيدرا مسخ حجرا ، فصبرة الحنطة

٥٥٣

انقلبت حجرا أحمر ، وصبرة التبن انقلبت حجرا أبيض اللون. وحولها تماثيل حجريّة تشبه تماثيل الحيوانات من الإنسان والهائم ، لكنها تغيّرت وفنيت بطول الوقت ، وبقرب قيصرية جبل فيه من الحيات ما لا يحصى ، إلّا أنّها لا تخرج منه لطلسم عمله الحكماء ، فلا يخرج منه شيء البتّة.

كشّ

مدينة بقرب سمرقند حصينة. لها قهندز وربض ؛ قال الاصطخري : مدينة كش ثلاثة فراسخ في مثلها جرومية تدرك بها الثمار أسرع من سائر بلاد ماوراء النهر ، غير أنّها وبيئة ، وعماراتها حسنة جدّا.

وفي عامة دورها الماء الجاري والبستان. بها شوك الترنجبين يحمل منها إلى البلاد كلّها. وفي جبالها العقاقير الكثيرة. ومنها يرتفع الملح المستحجر.

ومن مفاخرها أبو إسحق الكشّيّ المشهور بالجود والكرم. ومن العجائب ما حكي عنه أنّ بعض أصدقائه شكا إليه سوء حاله وكثرة ديونه ، فسأله أبو إسحق عن مقدار دينه ووزن في الحال وقال : اصرف هذا في دينك! ثمّ وزن مثلها وقال : اصرف هذا في مصالحة شأنك! وجعل يعتذر إليه اعتذار المذنب.

فلمّا ذهب الرجل بكى بكاء شديدا ، فسئل عن بكائه فقال : بكائي على غفلتي عن حال صديقي حتى افتقر إلى رفع الحال إليّ والوقوف موقف السؤال.

كند

من قرى خجند بما وراء النهر ، يقال لها كند باذام ، وباذام هو اللوز لأن بها لوزا كثيرا. بها اللوز الفريك ، وهو لوز عجيب ينقشر إذا فرك باليد.

٥٥٤

لبلة

مدينة بالأندلس قديمة بقرب اشبيلية ، كثيرة الخيرات فائضة البركات ، بها آثار قديمة ، بها نهر لهشر ، وبهذا النهر ثلاث عيون : إحداها عين لهشر وهي أغزرها ماء وأعذبها ، والثانية عين الشبّ فإنّها تنبعث بالشبّ ، والثالثة عين الزاج فإنّها تنبعث بالزاج ، فإذا غلبت عين ماء لهشر صار الماء عذبا ، وإذا غلبت عين الشبّ أو الزاج حال طعم الماء.

قال العذري : سور المدينة قد عقد بناؤه على تصاوير أربعة : صنم يسمّى درديا وعليه صنم آخر ، وصنم يسمّى مكيخا وعليه صنم آخر. والمدينة مبنية على هذه الأصنام وما علا من البناء موضوع على أعناقها. ومدينة لبلة انفردت بهذه البنية على سائر المدن.

وبها صيد البرّ والبحر جميعا. ويجلب منها العصفر الجيد ، والعنّاب الذي لا نظير له في الآفاق ، ويعمل بها الأديم الجيد الذي يحاكي الطائفي.

لشبونة

مدينة بالأندلس قديمة في غربي قرطبة قريبة إلى البحر. بها جبال فيها أوكار البزاة الخلّص ، ولا تكون في غيرها. ولعسلها فضل على كلّ عسل بالأندلس يشبه السكر ، إذا لفّ في خرقة لا يلوثها.

وبها معدن التبر الخالص ، ويوجد بساحلها العنبر الفائق ، ملكها الفرنج سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، وهي إلى الآن بيدهم.

لورقة

مدينة كبيرة بالأندلس ، قاعدة كورة تدمير. هي أكرم بقاع الأندلس وأكثرها خيرا سيما الفواكه ، فإن بها من أصناف الفواكه ما لا يوجد في غيرها

٥٥٥

حسنا وكثرة ، سيما الكمثرى والرمان والسفرجل. ومن قوّة أرضها ما ذكره العذري أن بها عنبا وزن العنقود منه خمسون رطلا بالبغدادي ، وان الحبّة من الحنطة تصيب هناك مائة حبّة.

وبأرض لورقة يسقي نهر كنيل مصر ، يبسط على الأرض فإذا غاض يزرع عليه ، ويبقى طعامها في المطامير خمسين سنة وأكثر ولا يتغيّر ، وكثيرا ما تصيبها آفة الجراد. وحكي انّه كانت في بعض كنائسها جرادة من ذهب ، وكانت لورقة آمنة من جائحة الجراد ، فسرقت تلك الجرادة فظهر الجراد في ذلك العام ، ولم يفقد بعد ذلك. وأيضا لم توجد بها علّة البقر التي تسمّى اللقيس إلى أن وجد في بعض الأساس ثوران من صفر ، أحدهما قدام الآخر ، يلتفت إليه.

فلمّا أخذ من ذلك الموضع وقعت اللقيس في ذلك العام.

ومن عجائبها شجرة زيتونة في كنيسة في حومة جبل ، في كلّ سنة في وقت معلوم تنوّر وتعقد وتسودّ وتطيب في يوم آخر ، وهي مشهورة عرفها الناس ؛ حكى العذري أن هذه الشجرة قطعها أصحابها ، وهم نصارى ، وإنّما فعلوا ذلك لكثرة الواردة عليهم بسببها وتزاحم الناس ، فبقيت مقطوعة زمانا ثمّ لقحت بعد ذلك ، وهي الآن باقية ؛ كذا ذكره العذري في شهور سنة خمسين وأربعمائة.

وقال أيضا : أخبرني إبراهيم بن أحمد الطرطوشي قال : سمعت ملك الروم يقول إني أريد أن أرسل إلى أمير المؤمنين بالأندلس هدية ، فإن من أعظم حوائجي عنده انّه صحّ عندي أن في الفاتحة الكريمة كنيسة ، وفي الدار منها زيتونة إذا كانت ليلة الميلاد تورّقت وعقدت وأطعمت من نهارها. اعلم أن لشهيدها محلّا عظيما عند الله ، فأتضرّع إلى معاليه في تسلية أهل تلك الكنيسة ومداراتهم حتى يسمحوا بعظام ذلك الشهيد ، فإن حصل لي هذا كان أجلّ من كلّ نعمة.

وبها وادي الثمرات ؛ ذكر العذري أن هناك أرضا تعرف بوادي الثمرات يرد إليه ماء واد هناك يسقيه ، فينبت التفاح والكمثرى والتين والزيتون ونحوها سوى شجر التوت من غير غرس أصل ؛ لقد حدّث بذلك جماعة من ثقات الناس.

٥٥٦

مالطة

جزيرة بقرب جزيرة الأندلس ، عظيمة الخيرات كثيرة البركات ، طولها نحو ثلاثين ميلا ، وهي آهلة وبها مدن وقرى وأشجار وأثمار ، غزاها الروم بعد الأربعين والأربعمائة. حاربوهم وطلبوا منهم الأموال والنساء ، فاجتمع المسلمون وعدّوا أنفسهم وكان عدد عبيدهم أكثر من عدد الأحرار ، فقالوا لعبيدهم : حاربوا معنا فإن ظفرتم فأنتم أحرار وما لنا لكم ، وإن توانيتم قتلنا وقتلتم! فلمّا وافى الروم حملوا عليهم حملة رجل واحد ، ونصرهم الله فهزموهم ، وقتلوا من الروم خلقا كثيرا ، ولحق العبيد بالأحرار ، واشتدّت شوكتهم فلم تغزهم الروم بعد ذلك أبدا.

ينسب إليها ابن السمنطي الشاعر المالطي. كان آية في نظم الشعر على البديهة ؛ قال أبو القاسم بن رمضان المالطي : اتّخذ بعض المهندسين بمالطة لملكها صورة تعرف بها أوقات ساعات النهار ، وكانت ترمي بنادق على الصناج ، فقلت لعبد الله ابن السمنطي : اجز هذا المصراع : جارية ترمي الضنج ؛ فقال :

بها القلوب تبتهج

كأنّ من أحكمها إلى السّماء قد عرج

وطالع الأفلاك عن سرّ البروج والدّرج

كأنّه يقرأها من حفظه.

ما وراء النهر

يراد به ما وراء نهر جيحون. من أنزه النواحي وأخصبها وأكثرها خيرا.

وليس بها موضع خال عن العمارة من مدينة أو قرى أو مزارع أو مراع. هواؤها أصحّ الأهوية ومياهها أعذب المياه وأخفّها ، والمياه العذبة عمّت جميع جبالها وضواحيها ، وترابها أطيب الأتربة ، وبلادها بخارى وسمرقند وجند وخجند.

٥٥٧

وأهلها أهل الخير والصلاح في الدين والعلم والسماحة ، فإن الناس في أكثر ما وراء النهر كأنّهم في دار

واحدة ، وما ينزل أحد بأحد إلّا كأنّه نزل بدار نفسه من غريب وبلدي. وهمّة كلّ امرىء منهم على الجود والسماح فيما ملكت يده من غير سابقة معرفة أو توقع مكافأة.

حكى الاصطخري انّه نزل منزلا بالصغد ، فرأى دارا ضربت الأوتاد على بابها ، فقالوا : إن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة ، ولم يمنع من دخوله واصل ليلا ولا نهارا! والغالب عليهم بناء الرباطات وعمارة الطرق ، والوقف على سبيل الجهاد وأهل العلم ، وليس بها قرية ولا منهل ولا مفازة إلّا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. وقال : بلغني أن بما وراء النهر أكثر من عشرة آلاف رباط ، في أكثرها إذا نزل الناس به طعام لهم وعلف لدوابّهم إن احتاجوا.

وجميع ما وراء النهر ثغر من حدود خوارزم إلى اسبيجاب ، وهناك الترك الغزّية من اسبيجاب إلى فرغانة الترك الخلخية ، ولم يزل ما وراء النهر على هذه الصفة إلى أن ملكها خوارزم شاه محمّد بن تكش سنة ستمائة ، وطرد الخطاة عنها وقتل ملوك ما وراء النهر المعروفين بالخانية ، وكان في كلّ قطر ملك يحفظ جانبه ، فلمّا استولى على جميع النواحي عجز عن ضبطها ، فسلّط عليها عساكره حتى نهبوها وأجلى الناس عنها ، فبقيت تلك الديار التي وصفت بالجنان لحسنها خاوية على عروشها ، ومياهها مندفقة معطلة ، وقد ورد عقيب ذلك عساكر التتر في سنة سبع عشرة وستمائة وخرّبوا بقاياها. والآن بقي بعض ما كان عليها. فسبحان من لا يعتريه التغيّر والزوال ، وكلّ شيء سواه يتغيّر من حال إلى حال!

مدينة النّحاس

ويقال لها أيضا مدينة الصفر. لها قصّة عجيبة مخالفة للعادة جدّا ، ولكني رأيت جماعة كتبوها في كتب معدودة كتبتها أيضا ومع ذلك فإنّها مدينة

٥٥٨

مشهورة الذكر.

قال ابن الفقيه : ذهب العلماء الأقدمون إلى أن مدينة النحاس بناها ذو القرنين وأودعها كنوزه وطلسمها ، فلا يقف عليها أحد ، وجعل في داخلها حجر البهتة وهو مغناطيس الناس ، فإن الإنسان إذا وقف حذاءه جذبه كما يجذب المغناطيس الحديد ، ولا ينفصل عنه حتى يموت ، وانّه في مفاوز الأندلس.

ولمّا بلغ عبد الملك بن مروان خبر مدينة النحاس وخبر ما فيها من الكنوز ، وان إلى جانبها بحيرة فيها كنوز كثيرة وأموال عظيمة ، كتب إلى موسى بن نصير عامل المغرب ، وأمره بالمصير إليه والحرص على دخولها ، وان يعرفه حالها ، ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك ، فحمله إلى موسى وهو بالقيروان ، فلمّا قرأه تجهز وسار في ألف فارس نحوها ، فلمّا رجع كتب إلى عبد الملك : بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله الأمير صلاحا يبلغ به خير الدنيا والآخرة. أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهّزت لأربعة أشهر وسرت في مفاوز الأندلس ، ومعي ألف رجل ، حتى أو غلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست ، وعفت فيها الآثار وانقطعت عنها الأخبار ، فسرت ثلاثة وأربعين يوما أحاول مدينة لم ير الراؤون مثلها ، ولم يسمع السامعون بنظيرها. فلاح لنا بريق شرفها من مسيرة ثلاثة أيّام ، فأفزعنا منظرها الهائل وامتلأت قلوبنا رعبا من عظمها وبعد أقطارها. فلمّا قربنا منها إذا أمرها عجيب ومنظرها هائل ، فنزلنا عند ركنها الشرقي ثمّ وجهت رجلا من أصحابي في مائة فارس وأمرته أن يدور حول سورها ليعرف بابها ، فغاب عنّا يومين ثمّ وافى اليوم الثالث فأخبرني انّه ما وجد لها بابا ولا رأى إليها مسلكا ، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها على بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها ، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه ، فأمرت عند ذلك باتّخاذ السلالم وشدّ بعضها إلى بعض بالحبال ، ونصبتها إلى الحائط ، وجعلت لمن يصعد إليها ويأتيني بخبر ما فيها عشرة آلاف درهم ، فانتدب لذلك رجل من أصحابي يتسنّم ويقرأ ويتعوّذ. فلمّا صار على سورها

٥٥٩

وأشرف على ما فيها قهقه ضاحكا ونزل إليها ، فناديناه أن أخبرنا بما فيها وبما رأيته فلم يجبنا. فجعلت لمن يصعد ويأتيني بخبر ما فيها وخبر الرجل ألف دينار ، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير ثمّ صعد. فلمّا استوى على السور قهقه ضاحكا ثمّ نزل إليها ، فناديناه أن أخبرنا بما ترى فلم يجبنا. فصعد ثالث وكان حاله مثل حال الرجلين ، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود ، فلمّا أيست عنها رحلت نحو البحيرة وسرت مع سور المدينة ، فانتهيت إلى مكان من السور فيه كتابة بالحميرية فأمرت بانتساخها فكانت :

ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومن

يرجو الخلود وما حيّ بمخلود!

لو انّ حيّا ينال الخلد في مهل

لنال ذاك سليمان بن داود

سالت له العين عين القطر فائضة

فيه عطاء جزيل غير مصرود

وقال للجنّ أنشوا فيه لي أثرا

يبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودي

فصيّروه صفاحا ثمّ ميل به

إلى البناء بإحكام وتجويد

وأفرغوا القطر فوق السّور منحدرا

فصار صلبا شديدا مثل صيخود

وصبّ فيه كنوز الأرض قاطبة

وسوف تظهر يوما غير محدود

لم يبق من بعدها في الأرض سابغة

حتى تضمّن رمسا بطن أخدود

وصار في قعر بطن الأرض مضطجعا

مضمّنا بطوابيق الجلاميد

هذا ليعلم أنّ الملك منقطع

إلّا من الله ذي التقوى وذي الجود

قال : ثمّ سرت حتى وافيت البحيرة عند غروب الشمس ، فإذا هي مقدار ميل في ميل ، كثيرة الأمواج ، فإذا رجل قائم فوق الماء فناديناه : من أنت؟فقال : أنا رجل من الجنّ! كان سليمان بن داود حبسه والذي في هذه البحيرة.

فأتيته لأنظر ما حاله ، قلنا له : فما بالك قائما فوق الماء؟ قال : سمعت صوتا فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كلّ عام مرّة ، وهذا أوان مجيئه ، فيصلي

٥٦٠