آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

يسفي عليها الصّبا! فقالوا لها : فجعتنا بأموالنا فبيّني مقالتك! فقالت : انطلقوا إلى رأس الوادي لتروا الجرذ العادي يجرّ كلّ صخرة صيخاد بأنياب حداد وأظفار شداد! فانطلق عمران في نفر من قومه حتى أشرفوا على السدّ ، فإذا هم بجرذ أحمر فيقلع الحجر الذي لا يستقلّه رجال ويدفعه بمخاليب رجليه إلى ما يلي البحر ليفتح السدّ.

فلمّا رأى عمران ذلك علم صدق قول الكاهنة فقال لأهله : اكتموا هذا القول من بني عمّكم بني حمير لعلّنا نبيع حدائقنا منهم ونرحل عن هذه الأرض ، ثمّ قال لابن أخيه حارثة : إذا كان الغد واجتمع الناس أقول لك قولا خالفني ، وإذا شتمتك ردّها عليّ ، وإذا ضربتك فاضربني مثله! فقال : يا عم كيف ذلك؟ فقال عمران : لا تخالف فإن مصلحتنا في هذا.

فلمّا كان الغد واجتمع عند عمران أشراف قومه وعظماء حمير ووجوه رعيّته ، أمر حارثة أمرا فعصاه فضربه بمخصرة كانت بيده ، فوثب حارثة عليه واطمه ، فأظهر عمران الغضب وأمر بقتل ابن أخيه فوقع في حقّه الشفاعات.

فلمّا أمسك عن قتله حلف أن لا يقيم في أرض امتهن بها ، وقال وجوه قومه : ولا نقيم بعدك يوما! فعرضوا ضياعهم على البيع واشتراها بنو حمير بأعلى الأثمان ، فارتحل عن أرض اليمن فجاء السيل بعد رحيلهم بمدّة يسيرة ، وخربت البلاد كما قال تعالى : فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. فتفرّقوا في البلاد ، ويضرب بهم المثل فيقال : تفرّقوا أيادي سبا.

وكانوا عشرة أبطن : ستّة تيامنوا وهم كندة والأشعريون والأزد ومذحج وانمار وحمير ، وأربعة تشاءموا وهم عامرة وجذام ولخم وغسّان. وكانت هذه الواقعة بين مبعث عيسى ونبيّنا ، صلّى الله عليهما وسلّم.

٤١

سجلماسة

مدينة في جنوب المغرب في طرف بلاد السودان ، في مقطع جبل درن في وسط رمل ، بها نهر كبير غرسوا عليه بساتين ونخيلا مدّ البصر. حدّثني بعض الفقهاء من المغاربة وقد شاهدها : ان مزارعها اثنا عشر فرسخا من كلّ جانب لكن لا يزرع في كلّ سنة إلّا خمسها ، ومن أراد الزيادة على ذلك منعوه ، وذلك لأن الريع إذا كثر لا يبقى له قيمة فلا يشتري من الطّنّاء بشيء. وبها أصناف العنب والتمر وأمّا تمرها فستّة عشر صنفا ما بين عجوة ودقل.

ولنسائها يد صناع في غزل الصوف ، ويعمل منه كلّ عجيب حسن بديع من الأزر التي تفوق القصب ، ويبلغ ثمن الازار ثلاثين دينارا وأربعين كأرفع ما يكون من القصب ويتّخذن منه عقارات يبلغ ثمنها مثل ذلك مصبوغة بأنواع الألوان ، وأهل هذه المدينة من أغنى الناس وأكثرهم مالا لأنّها على طريق غانة التي هي معدن الذهب ، ولأهلها جرأة على دخول تلك البرية مع ما ذكر من صعوبة الدخول فيها ، وهي في بلاد التبر يعرف منها ، والله الموفق.

سرنديب

جزيرة في بحر هركند بأقصى بلاد الصين ؛ قال محمّد بن زكرياء : هي ثمانون فرسخا في ثمانين فرسخا ، لها ثلاثة ملوك كلّ واحد عاص على الآخر.

ومن عاداتهم أن يأخذوا من الجاني سبعة دراهم على جنايته ، والمديون إذا تقاعد عن اداء الدين بعث الملك إليه من يخطّ حوله خطّا أي مكان وجده ، فلا يجسر أن يخرج من الخطّ حتى يقضي الدين أو يحصّل رضاء الغريم. فإن خرج من الخطّ بغير إذن ، أخذ الملك منه ثلاثة أضعاف الدين ، ويسلّم ثلثه إلى المستحقّ ويأخذ الملك ثلثيه.

وإذا مات الملك يجعل في صندوق من العود والصندل ويحرق بالنار ،

٤٢

وترافقه زوجته حتى يحتزقا معا.

وبها أنواع العطر والافاويه والعود والنارجيل ودابّة المسك ، وأنواع اليواقيت ومعدن الذهب والفضّة ومغاص اللؤلؤ.

وعن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : خير بقعة ضربت إليها آباط الإبل مكّة ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ، وجزيرة سرنديب فيها نزل أبونا آدم ، عليه السلام ، بها جبل أهبط عليه آدم ، عليه السلام ، وهو ذاهب في السماء يراه البحريّون من مسافة أيّام ، وفيه أثر قدم آدم ، عليه السلام ، وهي قدم واحدة مغموسة في الحجر. ويرى على هذا الجبل كلّ ليلة مثل البرق من غير سحاب وغيم ولا بدّ له كلّ يوم من مطر يغسل موضع قدم آدم ، عليه السلام.

ويقال إن الياقوت الأحمر يوجد على هذه الجبال يحدّره السيل منها إلى الحضيض وقطاع الماس أيضا والبلّور. وقالوا : أكثر أهل سرنديب مجوس وبها مسلمون أيضا ، ودوابّها في غاية الحسن لا تشبه دوابّنا إلّا بالنوع ، وبها كبش له عشرة قرون.

منها الشيخ الظريف سديد الدين السرنديبي ، ورد قزوين وأهل قزوين تبرّكوا به. وكان قاضي قزوين يدخل مع الولاة في الأمور الديوانيّة والعوامّ يكرهون ذلك ، فربّما عملوا غوغاة ونهبوا دار القاضي وخرّبوها ، فلمّا سكن السرنديبي قزوين وتبرّك القوم به ، كلّما كرهوا من القاضي وخرّبوها ، فلمّا سكن السرنديبي قزوين وتبرّك القوم به ، كلّما كرهوا من القاضي شيئا ذهبوا إلى السرنديبي وقالوا : قم ساعدنا على القاضي! فإذا خرج السرنديبي تبعه ألوف ، فالقاضي لقي من السرنديبي التباريح.

فطلبه ذات يوم ، فلمّا دخل عليه تحرّك له وانبسط معه وسأله عن حاله ثمّ قال : إني أرى في هذه المدينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متروكا ، ولست أرى من لا يأخذه في الله لومة لائم غيرك. وأخرج من داره قميصا غسل مرارا وعمامة عتيقة ، وأركبه على دابّة وغلمان الاحتساب في خدمته ،

٤٣

وكلّ من سمع بهذا استحسن وصار السرنديبي محتسبا.

فإذا في بعض الأيّام جاء شخص إلى السرنديبي وقال : في موضع كذا جماعة يشربون. فقام بأصحابه وذهب إليهم فأراق خمورهم وكسر ملاهيهم.

وكان القوم صبيانا جهّالا قاموا إليه وضربوه وضربوا أصحابه ضربا وجيعا ، فجاء السرنديبي إلى القاضي وعرّفه ذلك ، فالقاضي غضب وحولق وقال : ابصروا من كانوا أولئك ، فقالوا : ما نعرف منهم أحدا.

ثمّ بعد أيّام قالوا للسرنديبي : في بستان كذا جماعة يشربون ، فذهب إليهم بأصحابه وأراق خمورهم وكسر ملاهيهم ، فقاموا وقتاوا أصحاب السرنديبي وجرحوه ، فعاد السرنديبي إلى بيته وأخذ القميص والعمامة وذهب إلى القاضي وقال : اخلع هذا على غيري فإني لست أهلا لذلك ، فقال القاضي : لا تفعل يا سديد الدين ولا تمنع الثواب! فقال له : دع هذا الكلام ، أنت غرضك اني أقتل وأجرح على يد غيرك ، وإني قد عرفت المقصود ولا أنخدع بعد ذلك.

سفالة

آخر مدينة تعرف بأرض الزنج ، بها معدن الذهب ، والحكاية عنها كما مرّ في بلاد التبر من أن التجّار يحملون إليها الأمتعة ، ويضعونها في أرض قريبة منهم ويرجعون. ثمّ ان أهل سفالة وهم سودان يأتون ويتركون ثمن كلّ متاع بجنبه ، والذهب السّفالي معروف عند تجّار الزنج.

وبها الحواي وهو صنف من الطير يعيد ما سمع بصوت رفيع ولفظ صحيح أصحّ من الببغاء ، ولا يبقى أكثر من سنة ، وبها ببغاء بيض وحمر وخضر ، وقال محمّد بن الجهم : رأيت قوما يأكلون الذباب ويزعمون أنّه دافع للرمد ولا يرمدون شيئا البتّة.

٤٤

سلوق

مدينة بأرض اليمن ؛ قال ابن الحايك : كانت مدينة عظيمة ولها آثار عظيمة باقية ، يوجد بها قطاع الذهب والفضّة والحليّ ، وكان بها صنّاع الدروع المحكمة النسج ، قال الشاعر :

نقل السّلوقيّ المضاعف نسجه

ويوقد بالصّفّاح نار الحباحب

وبها الكلاب الضّواري ، وذاك لأن الكلاب بها يسفدها الذئاب ، فتأتي بالكلاب السلوقيّة وهي أخبث الكلاب ؛ قال الشاعر :

منهم ضوار من سلوق كأنّها

حصن تجول تجرّر الأرسانا

سمهر

قرية بالحبشة ، بها صنّاع الرماح السّمهريّة ، وهي أحسن الرّماح ؛ قاله الصولي ، وقال غيره : إنّ هذه القرية في جوف النيل يأتيها من أرض الهند على رأس الماء كثير من القنا ، يجمعها أهل هذه القرية يستوقدون رذاله ويثقّفون جيّده ويبيعونه ، وهو بأرض الحبشة معروف يحمل منها إلى سائر البلاد ، والله الموفّق.

سندابل

قصبة بلاد الصين ودار المملكة ، يشقّها نهر أحد شقيّه للملك والشقّ الآخر للعامّة ؛ قال مسعر بن مهلهل : دخلتها وهي مدينة عظيمة قطرها مسيرة يوم ، ولها ستّون شارعا ، كلّ شارع ينفذ إلى دار الملك ، ولها سور ارتفاعه تسعون ذراعا ، وعلى رأس السور نهر عظيم يتفرّق ستّين جزءا ، كلّ جزء ينزل على

٤٥

باب من أبوابها ، تلقاه رحى يصبّ إليها ثمّ إلى غيرها حتى يصبّ في الأرض. ثمّ يخرج نصفه تحت السور يسقي البساتين ، ويدخل نصفه المدينة ويدور في الشوارع كلّها ، وكلّ شارع فيه نهران : داخل يسقيهم ، وخارج يخرج بفضلاتهم.

وفيها من الزروع والبقول والفواكه والخيرات وأنواع الطيب كالقرنفل والدارصيني. وبها أنواع الجواهر كاليواقيت ونحوها والذهب الكثير. وأهلها حسان الوجوه قصار القدود عظام الرؤوس ، لباسهم الحرير وحليهم عظام الفيل والكركدن ، وأبوابهم آبنوس ، وفيهم عبدة الأوثان والمانويّة والمجوس ويقولون بالتناسخ.

ومنها خاقان ، ملك الصين الموصوف بالعدل والسياسة ، له سلسلة من ذهب أحد طرفيها خارج القصر ، والطرف الآخر عند مجلس الملك ليحرّكها المظلوم فيعلم الملك. ومن عادته ركوب الفيل كلّ جمعة والظهور للناس ، ومن كان مظلوما يلبس ثوبا أحمر ، فإذا وقعت عليه عين الملك يحضره ويسأله عن ظلامته.

ومن ولد في رعيّته أو مات يكتب في ديوان الملك لئلّا يخفى عليه أحد.

وبها بيت عبادة عظيم ، فيه أصنام وتماثيل ، ولأهلها يد باسطة في الصناعات الدقيقة ، يعبدون الأوثان ولا يذبحون الحيوان ، ومن فعل أنكروا عليه.

ولهم آداب حسنة للرعيّة مع الملك وللولد مع الوالد : فإن الولد لا يقعد في حضور أبيه ولا يمشي إلا خلفه ولا يأكل معه.

قال ابن الفقيه : أهل الصين يقولون بالتناسخ ويعملون بالنجوم ، ولهم كتب يشتغلون بها ، والزنا عندهم مباح ، ولهم غلمان وقفوهم للواطة. كما أن الهند وقفوا الجواري على البدّ للزنا ، وذلك عند سفلتهم لا عند أهل التمييز.

والملك وكلّ بالصّنّاع ليرفع إلى الملك جميع المعمول ، فما أراد من ذلك اشتراه لخزانته ، وإلّا يباع في السوق ، وما فيه عيب يمزّقه.

وحكي أنّه ارتفع ثوب إلى الملك فاستحسنه المشايخ كلّهم إلّا واحدا ، فسئل عن عيبه فقال : إن هذا الثوب عليه صورة الطاووس ، وقد حمل قنو موز ،

٤٦

والطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز ، فلو بعث الملك هذا الثوب هدية إلى بعض الملوك يقولون : أهل الصين ما يعرفون أن الطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز.

الشّحر

ناحية بين عدن وعمان على ساحل البحر. ينسب إليها العنبر الشّحريّ لأنّه يوجد في سواحلها. وبها غياض كثيرة يوجد بها النسناس.

حكى بعض العرب قال : قدمت الشحر فنزلت عند بعض رؤسائها وسألت عن النسناس فقال : إنّا لنصيده ونأكله ، وهو دابّة كنصف بدن الإنسان له يد واحدة ورجل واحدة ، وكذلك جميع الأعضاء ، فقلت : أنا أحبّ أن أراه ، فقال لغلمانه : صيدوا لنا شيئا منه. فلمّا كان من الغد جاءوا بشيء له وجه كوجه الإنسان إلّا أنّه نصف الوجه ، وله يد واحدة في صدره ، وكذلك رجل واحدة ، فلمّا نظر إليّ قال : أنا بالله وبك. فقلت لهم : خلّوا عنه. فقالوا :لا تغترّ بكلامه فإنّه مأكولنا ، فلم أزل بهم حتى أطلقوه فمرّ مسرعا كالريح.

فلمّا جاء الرجل الذي كنت عنده قال لغلمانه : أما قلت لكم صيدوا لنا شيئا؟ فقالوا : فعلنا لكن ضيفك خلّى عنه. فضحك وقال : خدعك والله! ثمّ أمرهم بالغدو إلى الصيد ، فغدوا بالكلاب وكنت معهم فصرنا إلى غيضة في آخر الليل ، فإذا واحد يقول : يا أبا مجمر إن الصبح قد أسفر واللّيل قد أدبر والقيض قد حضر فعليك بالوزر. فقال الآخر : كلي ولا تراعي ، فأرسلوا الكلاب عليهم ، فرأيت أبا مجمر وقد اعتوره كلبان وهو يقول :

الويل لي ممّا به دهاني

دهري من الهموم والأحزان

قفا قليلا أيّها الكلبان

واسمعا قولي وصدّقاني

إنّكما حين تحارباني

ألفيتماني خضلا عناني

لو بي شبابي ما ملكتماني

حتى تموتا أو تركتماني

٤٧

فالتقياه وأخذاه ، فلمّا حضر الرجل على عادته أتوا بأبي مجمر مشويّا ، وذكر خبر النسناس في وبار أبسط من هذا.

شعب

جبل باليمن فيه بلاد وقرى ، يقال لأهلها الشّعبيّون ، قتل بها الشّنفرى فقال تأبّط شرّا وهو خال الشنفرى :

إنّ بالشّعب من دون سلع

لقتيلا دمه ما يطلّ

منها أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي ، كان عالما ورعا فريد دهره ، ولّي القضاء من قبل عبد الملك بن مروان ، بعثه إلى الروم رسولا فأدخلوه على الملك من باب لصّ حتى ينحني للدخول ، فيقولون : خدّم للملك ، فعرف الشعبي ذلك فدخله من خلفه ، فلمّا رأى صاحب الروم كمال عقله وحسن جوابه وخطابه قال له : أمن بيت الخلافة أنت؟ قال : لا ، أنا رجل من العرب.

فكتب إلى عبد الملك : عجبت من قوم عندهم مثل هذا الرجل وولّوا غيره أمرهم! فقال عبد الملك للشعبي : حسدني عليك أراد أن أقتلك! فقال الشعبي : إنّما كهر أمير المؤمنين لأنّه لم يرك! فقال : لله درّك ما عدا ما في نفسي.

وحكي أن الشعبي جلس يوما للقضاء فاحتكم إليه زوجان ، وكانت المرأة من أجمل النساء ، فأظهرت المرأة حجّتها. فقال للزوج : هل لك ما تدفع هذه؟ فأنشأ يقول :

فتن الشّعبيّ لمّا

رفع الطّرف إليها

فتنته بدلال

وتخطّى حاجبيها

قال للجوّار قرّب

ها وقرّب شاهديها

فقضى جورا على الحص

م ولم يقض عليها

٤٨

قال الشعبي : دخلت على عبد الملك بن مروان ، فلمّا نظر إليّ تبسّم وقال :

فتن الشّعبيّ لمّا رفع الطّرف إليها

ثمّ قال : ما فعلت بقائل هذا؟ قلت : أوجعت ظهره ضربا يا أمير المؤمنين لما هتك حرمتي! فقال : أحسنت والله وأجملت!

وحكي أن الشعبي دخل على قوم وهم يذكرونه بالسوء فقال :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

وسبّه رجل فقال : يا هذا إن كنت صادقا غفر الله لي ، وإن كنت كاذبا غفر الله لك!

توفي سنة أربع ومائة عن اثنتين وثمانين سنة.

شمخ

قرية بأرض اليمن ، من عجائبها أن بها شقّا ينفذ إلى الجانب الآخر ، فمن لم يكن ولد رشدة لا يقدر على النفوذ فيه.

حكى رجل من مراد قال : وليّت صدقات ، فبينا أنا أقسمها إذ قال لي رجل : ألا أريك عجبا؟ قلت : نعم. فأدخلني شعب جبل ، فإذا أنا بسهم من سهام عاد كأكبر ما يكون من رماحنا مفوّقا ، تشبّث بذروة الجبل وعليه مكتوب :

ألا هل إلى أبيات شمخ بذي اللوى

لوى الرّمل من قبل الممات معاد

بلاد بها كنّا وكنّا نحبّها

إذ النّاس ناس والبلاد بلاد

ثمّ أخذ بيدي إلى الساحل ، فإذا بحجر يعلوه الماء طورا ويظهر أخرى ، وعليه مكتوب : يا ابن آدم ، يا عبد ربّه ، اتّق الله ولا تعجل في رزقك ،

٤٩

فإنّك لن تسبق رزقك ، ولن ترزق ما ليس لك ، ومن لم يصدّق فلينطح هذا الحجر حتى ينفجر!

شيلا

بلدة من أواخر بلاد الصين في غاية الطيب ، لا يرى بها ذو عاهة من صحّة هوائها وعذوبة مائها وطيب تربتها. أهلها أحسن الناس صورة وأقلّها أمراضا ، وذكر أن الماء إذا رشّ في بيوتها تفوح منه رائحة العنبر ، وهي قليلة الآفات والعلل ، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتلّ إنسان في غيرها ثم نقل إليها زالت علله.

قال محمّد بن زكرياء الرازي : من دخلها استوطنها ولا يخرج عنها لطيبها ووفور خيراتها وكثرة ذهبها. والله الموفق.

صنعاء

قصبة بلاد اليمن ، أحسن مدنها بناء وأصحّها هواء وأعذبها ماء ، وأطيبها تربة وأقلّها أمراضا ، ذكر أن الماء إذا رشّ في بيوتها تفوح منه رائحة العنبر ، وهي قليلة الآفات والعلل ، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتلّ إنسان في غيرها ونقل إليها يبرأ ، وإذا اعتلّت الإبل وأرعيت في مروجها تصحّ ، واللحم يبقى بها أسبوعا لا يفسد.

بناها صنعاء بن ازال بن عنير بن عابر بن شالح ، شبّهت بدمشق في كثرة بساتينها ، وتخرّق مياهها وصنوف فواكهها.

قال محمّد بن أحمد الهمذاني : أهل صنعاء في كلّ سنة يشتّون مرّتين ويصيّفون مرّتين ، فإذا نزلت الشمس نقطة الحمل صار الحرّ عندهم مفرطا ، فإذا نزلت أوّل السرطان زالت عن سمت رؤوسهم ، فيكون شتاء ، فإذا نزلت أوّل الميزان يعود الحرّ إليهم مرّة ثانية فيكون صيفا ، وإذا صارت إلى الجدي شتّوا مرّة ثانية ، غير أن شتاءهم قريب من الصيف في كيفيّة الهواء.

٥٠

قال عمران بن أبي الحسن : ليس بأرض اليمن بلد أكبر من صنعاء ، وهو بلد بخطّ الاستواء ، بها اعتدال الهواء لا يحتاج الإنسان إلى رحلة الشتاء والصيف وتتقارب ساعات نهارها.

وكان من عجائب صنعاء غمدان الذي بناه التبابعة ؛ قالوا : بانيه ليشرخ ابن يحصب ؛ قال ابن الكلبي : اتّخذه على أربعة أوجه : وجه أحمر ووجه أبيض ووجه أصفر ووجه أخضر ، وبنى في داخله قصرا على سبعة سقوف بين كلّ سقفين أربعون ذراعا ، فكان ظلّه إذا طلعت الشمس يرى على ماء بينهما ثلاثة أميال ، وجعل في أعلاه مجلسا بناه بالرخام الملوّن ، وجعل سقفه رخامة واحدة ، وصيّر على كلّ ركن من أركانه تمثال أسد ، إذا هبّت الريح يسمع منها زئير الأسد ، وإذا أسرجت المصابيح فيه ليلا كان سائر القصر يلمع من ظاهره كما يلمع البرق ، وفيه قال ذو جدن الهمداني :

وغمدان الذي حدّثت عنه

بناه مشيّدا في رأس نيق

بمرمرة وأعلاه رخام

تحام لا يعيّب بالشّقوق

مصابيح السّليط يلحن فيه

إذا أمسى كتوماض البروق

فأضحى بعد جدّته رمادا

وغيّر حسنه لهب الحريق

وقال أميّة بن أبي الصّلت يمدح سيف بن ذي يزن في قصيدة آخرها :

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا

في رأس غمدان دارا منك محلالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فصارا بعد أبوالا

وذكر أن التبابعة إذا قعدوا على هذا القصر وأشعلوا شموعهم يرى ذلك على مسيرة أيّام.

حكي أن عثمان بن عفّان ، رضي الله عنه ، لمّا أمر بهدم غمدان قالوا له :إن الكهنة يقولون هادم غمدان مقتول! فأمر بإعادته ، فقالوا له : لو أنفقت

٥١

عليه خراج الارض ما أعدته كما كان ، فتركه ، ولمّا خربه وجد على خشبة من أخشابها مكتوبا : اسلم غمدان ، هادمك مقتول. فهدمه عثمان بن عفّان فقتل.

ووجد على حائط ايوان من مجالس تبع مكتوبا :

صبرا الدّهر نال منك فهكذا مضت الدهور

فرح وحزن بعده لا الحزن دام ولا السّرور

وبصنعاء جبل الشبّ وهو جبل على رأسه ماء يجري من كلّ جانب وينعقد حجرا قبل أن يصل إلى الأرض ، وهو الشبّ اليمانيّ الأبيض الذي يحمل إلى الآفاق.

ومن عجائب صنعاء ما ذكر أنّه كان بها قبّة عظيمة من جمجمة رجل.

وبها نوع البرّ حبّتان منه في كمام ، ليس في شيء من البلاد غيرها ، وبها الورس وهو نبت له خريطة كالسمسم ، زرع سنة يبقى عشرين سنة.

وحكي أن أمير اليمن لمّا آل إلى الحبشة ، بنى أبرهة بن الصبّاح بها كنيسة لم ير الناس أحسن منها ، وسمّاها القلّيس ، وزيّنها بالذهب والفضّة والجواهر ، وكتب إلى النجاشي : إني بنيت لك كنيسة ليس لأحد مثلها من الملوك ، وأريد أصرف إليها حجّ العرب. فسمع ذلك بعض بني مالك بن كنانة فأتاها وأحدث فيها ، فسأل أبرهة عنه ، فقالوا : إنّه من أهل البيت الذي يحجّ إليه العرب.

فغضب وآلى ليسيرنّ إلى الكعبة ويهدمنّها ، ثمّ جاء بعسكره وفيلته ، فأرسل الله تعالى عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجّيل فجعلهم كعصف مأكول.

وبها الجنّة التي أقسم أصحابها لنصرمنّها مصبحين ، وهي على أربعة فراسخ من صنعاء ، وكانت تلك الجنّة لرجل صالح ينفق ثمراتها على عياله ، ويتصدّق على المساكين ، فلمّا مات الرجل عزم أصحابه على أن لا يعطوا للمساكين شيئا ، فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين ، فلمّا رأوها قالوا

٥٢

إنّا لضالّون ، يعني ما هذا طريق بستاننا ، فلمّا رأوا الجنّة محترقة قالوا : بل نحن محرومون. ويسمّى ذاك الوادي الضّروان ، وهو واد ملعون ، حجارته تشبه أنياب الكلاب ، لا يقدر أحد أن يطأها ، ولا ينبت شيئا ولا يستطيع طائر أن يطير فوقه ، فإذا قاربه مال عنه ؛ قالوا : كانت النار تتّقد فيها ثلاثمائة سنة.

الصّين

بلاد واسعة في المشرق ممتدّة من الإقليم الأوّل إلى الثالث ، عرضها أكثر من طولها ، قالوا : نحو ثلاثمائة مدينة في مسافة شهرين. وانّها كثيرة المياه كثيرة الأشجار كثيرة الخيرات وافرة الثمرات ، من أحسن بلاد الله وأنزهها ، وأهلها أحسن الناس صورة وأحذقهم بالصناعات الدقيقة ، لكنّهم قصار القدود عظام الرؤوس ، لباسهم الحرير ، وحليهم عظام الفيل والكركدن ، ودينهم عبادة الأوثان.

وفيهم مانويّة ومجوس ، ويقولون بالتناسخ ولهم بيوت العبادات.

من عجائب الصين الهيكل المدوّر ؛ قال المسعودي : هذا الهيكل بأقصى بلاد الصين وله سبعة أبواب ، في داخله قبّة عظيمة البنيان عالية السمك ، وفي أعلى القبّة شبه جوهرة كرأس عجل يضيء منها جميع أقطار الهيكل ، وان جمعا من الملوك حاولوا أخذ تلك الجوهرة فما تمكّنوا من ذلك ، فمن دنا منها قدر عشرة أذرع خرّ ميتا ، وإن حاول أخذها بشيء من الآلات الطوال ، فإذا انتهت إليها هذا المقدار انعكست. وكذلك إن رمى إليها شيئا ، وإن تعرّض أحد لهمدم الهيكل مات ، وفي هذا الهيكل بئر واسعة الرأس ، من أكبّ عليها وقع في قعرها ، وعلى رأس البئر شبه طوق مكتوب عليه : هذه البئر مخزن الكتب التي هي تاريخ الدنيا وعلوم السماء والأرض ، وما كان فيها وما يكون ، وفيها خزائن الأرض لكن لا يصل إليها إلّا من وازن علمه علمنا ، فمن قدر عليه علمه كعلمنا ، ومن عجز فليعلم أنّه دوننا في العلم.

والأرض التي عليها هذا الهيكل أرض حجريّة عالية كجبل شامخ لا يرام

٥٣

قلعه ، ولا يتأتى نقبه ، وإذا رأى الناظر إلى تلك الهيكل والقبّة والبئر وحسن بنيتها ، مال قلبه إليها وتأسف على فساد شيء منها.

ومن عجائب الصين ما ذكر صاحب تحفة الغرائب ان بها طاحونة يدور حجرها التحتاني ، والفوقاني ساكن ، ويخرج من تحت الحجر دقيق لا نخالة فيه ، ونخالة لا دقيق فيها ، كلّ واحد منهما منفرد عن الآخر.

وبها قرية عندها غدير فيه ماء في كلّ سنة يجتمع أهل القرية ويلقون فرسا في ذلك الغدير ، والناس يقفون على أطرافه ، كلّما أراد الفرس الخروج من الماء منعوه ، وما دام الفرس في الماء يأتيهم المطر ، فإذا أمطروا قدر كفايتهم وامتلأ الغدير ، أخرجوا الفرس وذبحوه على قلّة جبل ، وتركوه حتى يأكله الطير ، فإن لم يفعلوا ذلك في شيء من السنين لم يمطروا.

وبأرض الصين الذهب الكثير والجواهر واليواقيت في جبل من جبالها ، وبها من الخيرات الكثيرة من الحبوب والبقول والفواكه والسكر ، وفي جزائرها أشجار الطيب كالقرنفل والدارصيني ونحوها ، قالوا : القرنفل تأتي بها السيول من جبال شامخة لا وصول إليها وبها من الهوام والحشرات والحيّات والعقارب شيء كثير ، ولا تظهر بالصيف لأنّها ملتفّة بأشجارها ، تأكل من ثمارها وأوراقها وتظهر في الشتاء.

ولأهل الصين يد باسطة في الصناعات الدقيقة ، ولا يستحسنون شيئا من صناعات غيرهم ، وأيّ شيء رأوا أخذوا عليه عيبا ، ويقولون : أهل الدنيا ، ما عدانا ، عمي إلّا أهل كابل ، فإنّهم عور! وبالغوا في تدقيق صنعة النقوش حتى انّهم يصوّرون الإنسان الضاحك والباكي ، ويفصلون بين ضحك السرور والخجالة والشماتة. وإذا أراد ملكهم شيئا من المتاع ، يعرضه على أرباب الخبرة ولا يتركه في خزائنه إلّا إذا وافقوا على جودته.

وحكي أن صانعا اتّخذ ثوبا ديباجا عليه صورة السنابل وقعت عليها العصافير ، فعرضها الملك على أرباب الخبرة واستحسنوها إلّا صانع واحد ؛ قال : العصافير

٥٤

إذا وقعت على السنابل أمالتها ، وهذا المصوّر عملها قائمة لا ميل فيها. فصدّقه الحاضرون وتعجّبوا من دقّة نظره في الصنعة.

ومن خواص بلاد الصين انّه قلّما يرى بها ذو عاهة كالأعمى والزمن ونحوهما ، وان الهرّة لا تلد بها.

وقال محمّد بن أبي عبد الله : رأيت في غياض الصين إنسانا يصيح صياح القردة ، وله وبر كوبر القرد ، ويداه تنالان ساقيه إذا بسطهما قائما. ويكون على الأشجار يثب من شجرة إلى شجرة وبينهما عشرة أذرع.

وقال ابن الفقيه : بالصين دابّة المسك ، وهي دابّة تخرج من الماء في كلّ سنة في وقت معلوم ، فيصطاد منها شيء كثير ، وهي شديدة الشبه بالظباء ، فتذبح ويؤخذ الدم من سرّتها ، وهو المسك ، ولا رائحة له هناك حتى يحمل إلى غيرها من الأماكن.

وبها الغضائر الصيني التي لها خواصّ ، وهي بيضاء اللون شفّافة وغير شفّافة ، لا يصل إلى بلادنا منها شيء ، والذي يباع في بلادنا على أنّه صيني معمول بلاد الهند ، بمدينة يقال لها كولم ، والصيني أصلب منه وأصبر على النار ، وخزف الصين أبيض ؛ قالوا : يترشّح السمّ منه ، وخزف كولم أدكن.

وطرائف الصين كثيرة : الفرند الفائق والحديد المصنوع الذي يقال له طاليقون ، يشترى بأضعافه فضّة ، ومناديل الغمر من جلد السمندل ، والطواويس العجيبة ، والبرادين الغرّة التي لا نظير لها في البلاد.

ظفار

مدينة قرب صنعاء ، كان بها مسكن ملوك حمير ، وفيها قيل : من دخل ظفار حمّر أي تكلّم بالحميريّة ، وسببه أنّه دخل رجل من العرب على ملك من ملوك حمير ، وهو على موضع عال ، فقال له الملك : ثب ، فوثب الرجل من العلو فانكسرت رجله ، ومعنى ثب بالحميريّة اقعد ، فقال الملك : ليس عندنا

٥٥

عربيّة ، من دخل ظفار حمّر.

ينسب إليها الجزع الظفاري الجيّد ، وحكي انّه مكتوب على سور ظفار على حجر منها بقلم الأوائل : يوم شيّدت ظفار قيل لمن أنت؟ قالت : لحمير الأخيار! ثمّ سئلت بعد ذلك ، فقالت : للأحبش الأشرار! ثمّ سئلت بعد ذلك ، فقالت : للفرس الأخيار! ثمّ سئلت بعد ذلك فقالت : لقريش التجّار! ثمّ سئلت بعد ذلك فقالت : لحمير سنجار ، وقليلا ما يلبث القوم فيها ثمّ يأتيهم البوار ، من أسود يلقيهم في البحر ويشعل النار في أعلى الديار.

وبها اللّبان الذي لا يوجد في الدنيا إلّا في جبالها ، وانّه غلّة لسلطانها ، وانّه من شجر ينبت في تلك المواضع مسيرة ثلاثة أيّام في مثلها فيأتيها أهل ظفار ويجرحون أشجارها بالسكّين فيسيل منها اللبان ، فيجمعونه ويحملونه إلى ظفار ، فيأخذ السلطان قسطه ويعطيهم الباقي.

عمان

كورة على ساحل بحر اليمن في شرقي هجر ، تشتمل على مدن كثيرة ، سمّيت بعمان بن بغان بن إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، والبحر الذي يليه منسوب إليه يقال بحر عمان.

روى ابن عمر عن النبي ، صلّى الله عليه وسلّم ، أنّه قال : إني لأعلم أرضا من أرض العرب يقال لها عمان على شاطىء البحر ، الحجّة منها أفضل أو خير من حجّتين من غيرها.

وعن الحسن البصري هو المراد من قوله تعالى : يأتين من كلّ فجّ عميق ، يعني من عمان ، وعن النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم : من تعذّر عليه الرزق فعليه بعمان. وأمّا حرّها فممّا يضرب به المثل.

بها اجتماع الخوارج الإباضية في زماننا هذا ، وليس بها من غير هذا المذهب إلّا غريب ، وهم أتباع عبد الله بن اباض الذي ظهر في زمن مروان

٥٦

ابن محمّد ، آخر بني أميّة ، وقد قتل وكفي شرّه.

وحكى ابن الأثير في تاريخه : إنّه في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة خرج بعمان طائر من البحر أكبر من فيل ، ووقف على تلّ هناك وصاح بصوت عال ولسان فصيح : قد قرب! قد قرب! قد قرب! ثمّ غاص في البحر ، فعل ذلك ثلاثة أيّام ثمّ غاب ولم ير بعد ذلك.

غانة

مدينة كبيرة في جنوب بلاد المغرب ، متّصلة ببلاد التبر ، يجتمع إليها التجّار ومنها يدخلون بلاد التبر ، ولولاه لتعذّر عليهم ذلك ، وهي أكثر بلاد الله ذهبا لأنّها بقرب معدنها ، ومنها يحمل إلى سائر البلاد ، وبها من النمور شيء كثير ، وأكثر لباس أهلها جلد النمر.

وحكى الفقيه أبو الربيع الملتاني أن في طريق غانة من سجلماسة إليها أشجارا عظيمة مجوّفة ، يجتمع في تجاويفها مياه الأمطار فتبقى كالحياض ، والمطر في الشتاء بها كثير جدّا ، فتبقى المياه في تجاويف تلك الأشجار إلى زمان الصيف ، فالسابلة يشربونها في مرورهم إلى غانة ، ولولا تلك المياه لتعذّر عليهم المرور إليها ، ويتّخذون أقتاب البعران من خشب الصنوبر ، فإن مات البعير فقتب رحله يفيء بثمنه.

غدامس

مدينة بالمغرب في جنوبيّه ضاربة في بلاد السودان ، يجلب منها الجلود الغدامسيّة ، وهي من أجود الدباغ لا شيء فوقها في الجودة ، كأنّها ثياب الخزّ في النعومة.

بها عين قديمة يفيض الماء منها ، ويقسمها أهل البلد قسمة معلومة ، فإن أخذ أحد زائدا غاض ماؤها ، وأهل المدينة لا يمكنون أحدا يأخذ زائدا خوفا من النقصان. وأهلها بربر مسلمون صالحون.

٥٧

قاع

برية بين عمان وحضر موت ، من العجائب أن التاجر يمرّ بها إلى عمان بسلعته ليبيعها ، فيسمع في تلك البرية : فلان بن فلان معه سلعة تساوي كذا دينارا أو درهما! فيدخل عمان لم يزد على ذلك شيء أصلا ، والله الموفق.

قلعة الشرف

قلعة حصينة باليمن قرب زبيد لا يمكن استخلاصها قهرا لأنّها بين جبال لا يوصل إليها إلّا في مضيق لا يسع إلّا رجلا واحدا مسيرة يوم وبعض يوم ، ودونه غياض ، أوى إليه عليّ بن المهدي الحميري المستولي على زبيّد سنة خمسين وخمسمائة ، والله الموفق.

كاكدم

مدينة بأقصى المغرب جنوبيّ البحر متاخمة لبلاد السودان ، منها صنّاع أسلحة.

منها الرماح والدرق اللمطية من جلد حيوان يقال له اللمط ، لا يوجد إلّا هناك ، وهو شبه الظباء أبيض اللون ، إلّا أنّه أعظم خلقا ، يدبغ جلده في بلادهم باللبن وقشر بيض النعام سنة كاملة ، لا يعمل فيه الحديد أصلا ، إن ضرب بالسيوف نسبت عنه ، وإن أصابه خدش أو بتر يبلّ بالماء ويمسح باليد فيزول عنه ، يتّخذ منه الدرق والجواشن قيمة كل واحد منها ثلاثون دينارا ، وحكى الفقيه علي الجنحاني : انّه مرّ بقرب كاكدم بتلّ عال ، والناس يقولون من صعد هذا التلّ اختطفه الجنّ ، وعنده مدينة النحاس التي اشتهر ذكرها ، وسيأتي ذكرها في موضعه إن شاء الله تعالى.

٥٨

كله

بلدة بأرض الهند في منتصف الطريق بين عمان والصين ، موقعها في المعمورة في وسط خطّ الاستواء ، إذا كان منتصف النهار لا يبقى لشيء من الأشخاص ظلّ البتّة.

بها منابت الخيزران ، منها يحمل إلى سائر البلاد.

كنام

قال عبد الله بن عمرو بن العاص : هي أرض بين الصين والهند من عجائب الدنيا ، بها بطّة من نحاس على عمود من نحاس أيضا ، فإذا كان يوم عاشوراء نشرت البطّة جناحيها ومدّت رقبتها فيفيض من الماء ما يكفيهم لزروعهم ومواشيهم إلى القابل.

كوّار

ناحية من بلاد السودان جنوبي فزّان ، بها عين الفرس ، قيل : إن عقبة ابن عامر ذهب إلى كوّار غازيا ، فنزل ببعض منازلها فأصابهم عطش حتى أشرفوا على الهلاك ، فقام عقبة وصلّى ركعتين ودعا الله تعالى ، فجعل فرس عقبة يبحث في الأرض حتى كشف عن صفاة فانفجر منها الماء ، وجعل الفرس يمصّه ، فرأى عقبة ذلك فنادى في الناس أن احتفروا ، فحفروا وشربوا فسمّي ذلك الماء ماء الفرس ، وافتتح كوار وقبض على ملكها ، ومنّ عليه وفرض عليه مالا.

لنجوية

جزيرة عظيمة بأرض الزنج ، بها سرير ملك الزنج ، وإليها تقصد المراكب من جميع النواحي ، من عجائبها كروم بها تطعم في كلّ سنة ثلاث مرّات ، كلّما انتهى أحدها أخرج الآخر.

٥٩

مأرب

كورة بين حضر موت وصنعاء ، لم يبق بها عامرا إلّا ثلاث قرى يسمّونها الدروب ، كلّ قرية منسوبة إلى قبيلة من اليمن ، وهم يزرعونها على الماء الذي جاء من ناحية السدّ ، يسقون أرضهم سقية واحدة ويزرعون عليه ثلاث مرّات في كلّ عام ، فيكون بين زرع الشعير وحصاده في ذلك الموضع نحو شهرين.

وكان بها سيل العرم الذي جرى ذكره في سبأ.

ذكروا أن مياه جبالها تجتمع هناك وسيول كثيرة ، ولها مخرج واحد ؛ فالأوائل قد سدّوا ذلك المخرج بسدّ محكم ، وجعلوا لها مثاعب يأخذون منها قدر الحاجة ، فاجتمعت المياه بطول الزمان وصار بحرا عظيما خارج السدّ ، وداخله عمارات وبساتين ومزارع ، فسلّط الله تعالى الجرذ على السدّ يحفره بأنيابه ويقلعه بمخاليبه ، حتى سدّ الوادي الذي نحو البحر وفتح ممّا يلي السدّ ، فغرقت البلاد حتى لم يبق إلّا ما كان على رؤوس الجبال ، وذهبت الحدائق والجنان والضياع والدور والقصور ، وجاء السيل بالرمل فطمّها ، وهي على ذلك إلى اليوم ، كما أخبر الله تعالى ، فجعلهم الله أحاديث ومزّقهم كلّ ممزّق.

والعرم المسنّاة بنتها ملوك اليمن بالصخر والقار حاجزا بين السيول والضياع ، ففجرته فأرة ليكون أظهر في الأعجوبة ؛ قال الأعشى :

ففي ذلك للمؤتسي أسوة

ومأرب عفّى عليها العرم

رخام بنته لهم حمير

إذا ما نأى ماؤهم لم يرم

فأروى الحروث وأعنابها

على سعة ماؤهم إن قسم

فكانوا بذلكم حقبة

فمال بهم جارف منهدم

٦٠