آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

العزّ لك ، والجلال لكبريائك ، والعظمة لثنائك ، والدوام لبقائك ، يا قديم الذات ومفيض الخيرات. أنت الأوّل لا شيء قبلك ، وأنت الآخر لا شيء بعدك ، وأنت الفرد لا شريك لك ، يا واهب العقول وجاعل النور والظلمات ، منك الابتداء وإليك الانتهاء ، وبقدرتك تكوّنت الأشياء ، وبإرادتك قامت الأرض والسموات ، أفض علينا أنوار معرفتك ، وطهّر نفوسنا عن كدورات معصيتك ، وألهمنا موجبات رحمتك ومغفرتك ، ووفقنا لما تحبّ وترضى من الخيرات والسعادات ، وصلّ على ذوي الأنفس الطاهرات والمعجزات الباهرات ، خصوصا على سيّد المرسلين وإمام المتّقين ، وقايد الغرّ المحجّلين محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم ، أفضل الصلوات ، وعلى آله وأصحابه الطيّبين والطيّبات ، وعلى الذين اتبعوهم بإحسان من أهل السنّة والجماعات.

يقول العبد زكرياء بن محمّد بن محمود القزويني ، تولّاه الله بفضله ، بعد حمد الله حمدا يرضيه ، ويوجب مزيد فضله وأياديه : إني قد جمعت في هذا الكتاب ما وقع لي وعرفته ، وسمعت به وشاهدته من لطايف صنع الله تعالى ، وعجايب حكمته المودعة في بلاده وعباده ؛ فإنّ الأرض جرم بسيط متشابه الأجزاء ، وبسبب تأثير الشمس فيها ، ونزول المطر عليها ، وهبوب الرياح بها ، ظهرت فيها آثار عجيبة ، وتختصّ كلّ بقعة بخاصيّة لا توجد في غيرها : فمنها ما صار حجرا صلدا ، ومنها ما صار طينا حرّا ، ومنها ما صار طينة سبخة. ولكلّ واحد

٥

منها خاصيّة عجيبة وحكمة بديعة ، فإن الحجر الصلد يتولّد فيه الجواهر النفيسة كاليواقيت والزبرجد وغيرهما ، والطين الحرّ ينبت الثمار والزروع بعجيب ألوانها وأشكالها وطعومها وروايحها ، والطينة السبخة يتولّد منها الشبوب والزاجات والاملاح بفوايدها ، وكذلك الإنسان حيوان متساوي الآحاد بالحدّ والحقيقة ، لكن بواسطة الالطاف الإلهيّة تختلف آثارهم ، فصار أحدهم عالما محقّقا ، والآخر عابدا ورعا ، والآخر صانعا حاذقا. فالعالم ينفع الناس بعلمه ، والعابد ببركته ، والصانع بصنعته ؛ فذكرت في هذا الكتاب ما كان من البلاد مخصوصا بعجيب صنع الله تعالى ، ومن كان من العباد مخصوصا بمزيد لطفه وعنايته ، فإنّه جليس أنيس يحدثك بعجيب صنع الله تعالى ، ويعرّفك أحوال الأمم الماضية ، وما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومآثر الآداب ، ويفصح بأحوال البلاد كأنّك تشاهدها ، ويعرب عن أخبار الكرام كأنّك تجالسهم :

جليس أنيس يأمن الناس شرّه

ويذكر أنواع المكارم والنّهى

ويأمر بالإحسان والبرّ والتّقى

وينهى عن الطّغيان والشرّ والأذى

ومن انتفع بكتابي هذا وذكرني بالخير ، جعله الله من الأبرار ورفع درجاته في عقبى الدار. وأسأل الله تعالى العفو عمّا طغى به القلم أو همّ أوسها بذلك أو لمّ ، إنّه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. ولنقدّم على المقصود مقدّمات لابدّ منها ، لحصول تمام الغرض ، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

٦

المقدمة الاولى

في الحاجة الداعية إلى إحداث المدن والقرى

اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده كساير الحيوانات ، بل يضطرّ إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعيّة التي يتوقف عليها المطعم والملبس ، فإنّهما موقوفان على مقدّمات كثيرة لا يمكن لكلّ واحد القيام بجميعها وحده. فإن الشخص الواحد كيف يتولّى الحراثة فإنّها موقوفة على آلاتها ، وآلاتها تحتاج إلى النجّار ، والنجّار يحتاج إلى الحداد ، وكيف يقوم بأمر الملبوس وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف والغزل والنسج ، وتهيئة آلاتها ، فاقتضت الحكمة الإلهيّة الهيئة الاجتماعيّة ، وألهم كلّ واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدّمات ، حتى ينتفع بعضهم ببعض ، فترى الخبّاز يخبز الخبز ، والعجّان يعجنه ، والطحّان يطحنه ، والحرّاث يحرثه ، والنجّار يصلح آلات الحرّاث ، والحدّاد يصلح آلات النجّار ، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على البعض.

وعند حصول كلّها يتمّ الهيئة الاجتماعيّة ، ومتى فقد شيء من ذلك فقد اختلّت الهيئة الاجتماعيّة ، كالبدن إذا فقد بعض أعضائه فيتوقف نظام معيشة الإنسان.

ثمّ عند حصول الهيئة الاجتماعيّة لو اجتمعوا في صحراء لتأذّوا بالحرّ والبرد والمطر والريح ، ولو تستروا بالخيام والخرقاهات لم يأمنوا مكر اللصوص والعدوّ ، ولو اقتصروا على الحيطان والأبواب كما ترى في القرى التي لا سور لها ، لم يأمنوا صولة ذي البأس ، فألهمهم الله تعالى اتّخاذ السور والخندق والفصيل ،

٧

فحدثت المدن والأمصار والقرى والديار. ثمّ إن الملوك الماضية لمّا أرادوا بناء المدن ، أخذوا آراء الحكماء في ذلك ، فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في البلاد ، وأفضل مكان في الناحية ، وأعلى منزل في المكان من السواحل والجبال ومهبّ الشمال ، لأنّها تفيد صحّة أبدان أهلها وحسن أمزجتها ، واحترزوا من الآجام والجزائر وأعماق الأرض ، فإنّها تورث كربا وهرما.

واتّخذوا للمدن سورا حصينا مانعا ، وللسور أبوابا عدّة حتى لا يتزاحم الناس بالدخول والخروج ، بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه. واتّخذوا لها قهندزا لمكان ملك المدينة والنادي لاجتماع الناس فيه ، وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمّامات ، ومراكض الخيل ، ومعاطن الإبل ، ومرابض الغنم ، وتركوا بقيّة مساكنها لدور السكان ، فأكثر ما بناها الملوك العظماء على هذه الهيئة ، فترى أهلها موصوفين بالأمزجة الصحيحة والصور الحسنة والأخلاق الطيّبة ، وأصحاب الآراء الصالحة والعقول الوافرة ، واعتبر ذلك بمن مسكنه لا يكون كذلك مثل الديالم والجيل والأكراد ، والتركمان وسكان البحر في تشويش طباعهم وركاكة عقولهم واختلاف صورهم.

ثمّ اختصّت كلّ مدينة لاختلاف تربتها وهوائها بخاصيّة عجيبة ، وأوجد الحكماء فيها طلسمات غريبة ، ونشأ بها صنف من المعادن والنبات والحيوان لم يوجد في غيرها ، وأحدث بها أهلها عمارات عجيبة ، ونشأ بها أناس فاقوا أمثالهم في العلوم والأخلاق والصناعات ، فلنذكر ما وصل إلينا من خاصيّة بقعة بقعة ، إن شاء الله تعالى.

٨

المقدمة الثانية

في خواصّ البلاد

وفيها فصلان : الفصل الأوّل في تأثير البلاد في سكّانها ؛ قالت الحكماء : إن الأرض شرق وغرب وجنوب وشمال ، فما تناهى في التشريق وتحجّ منه نور المطلع فهو مكروه لفرط حرارته وشدّة إحراقه ، فإن الحيوان يحترق بها ، والنبات لا ينبت ، وما تناهى في التغريب أيضا مكروه لموازاته التشريق في المعنى الذي ذكرناه ، وما تناهى في الشمال أيضا مكروه لما فيه من البرد الشديد الذي لا يعيش الحيوان معه ، وما تناهى في الجنوب أيضا كذلك لفرط الحرارة ، فإنّها أرض محترقة لدوام مسامتة الشمس إيّاها. فالذي يصلح للسكنى من الأرض قدر يسير هو أوساط الإقليم الثالث والرابع والخامس ، وما سوى ذلك فأهلها معذّبون ، والعذاب عادة لهم ، وقالوا أيضا : المساكن الحارّة موسّعة للمسام ، مرخية للقوى ، مضعفة للحرارة العزيزيّة ، محلّلة للروح ، فتكون أبدان سكّانها متخلخلة ضعيفة ، وقلوبهم خائفة ، وقواهم ضعيفة لضعف هضمهم.

وأمّا المساكن الباردة فإنّها مصلبّة للبدن مسددة للمسام مقوية للحرارة العزيزيّة ، فتكون أبدان سكّانها صلبة ، وفيهم الشجاعة وجودة القوى والهضم الجيّد. فإن استيلاء البرد على ظاهر أبدانهم يوجب احتقان الحرارة العزيزيّة في باطنهم.

وأمّا المساكن الرطبة فلا يسخّن هواؤهم شديدا ولا يبرد شتاؤهم قويّا ، وسكّانها موصوفون بالسحنة الجيّدة ، ولين الجلود وسرعة قبول الكيفيّات والاسترخاء في الرياضات وكلال القوى.

٩

وأمّا المساكن اليابسة فتسدّد المسام وتورث القشف والنحول ويكون صيفها حارّا وشتاؤها باردا ، وأدمغة أهلها يابسة لكن قواهم حادّة.

وأمّا المساكن الحجريّة فهواؤها في الصيف حارّ وفي الشتاء بارد ، وأبدان أهلها صلبة ، وعندهم سوء الخلق والتكبّر والاستبداد في الأمور ، والشجاعة في الحروب.

وأمّا المساكن الآجاميّة والبحريّة فهي في حكم المساكن الرطبة وأنزل حالا وقد جرى ذكر المساكن الرطبة.

الفصل الثاني : في تأثير البلاد في المعادن والنبات والحيوان.

أمّا المعادن فالذهب لا يتكوّن إلّا في البراري الرملة والجبال الرخوة ، والفضّة والنحاس والرصاص والحديد لا يتكوّن إلّا في الأحجار المختلطة بالتراب اللين ، والكبريت لا يتكوّن إلّا في الأراضي الناريّة ، والزيبق لا يتكوّن إلّا في الأراضي المائية ، والأملاح لا تنعقد إلّا في الأراضي السبخة ، والشبوب والزاجات لا تتكوّن إلّا في التراب العفص ، والقار والنفط لا يتكوّن إلّا في الأراضي الدهنة ، أمّا تولّد الأحجار التي لها خواص فلا يعلم معادنها وسببها إلّا الله تعالى.

وأمّا النبات فإنّ النخل والموز لا ينبتان إلّا بالبلاد الحارّة ، وكذلك الأترج والنارنج والرمان والليمون ، وأمّا الجوز واللوز والفستق فلا ينبت إلّا بالبلاد الباردة ، والقصب على شطوط الأنهار ، وكذا الدلب والمغيلان بالأراضي الصلبة والبراري القفار ، والقرنفل لا ينبت إلّا بجزيرة بأرض الهند ، والنارجيل والفلفل والزنجبيل لا ينبت إلّا بالهند ، وكذلك الساج والآبنوس والورس لا ينبت إلّا باليمن ، والزعفران بأرض الجبال بروذراورد ، وقصب الذريرة بأرض نهاوند ، والترنجبين يقع على شوك بخراسان.

وأمّا الحيوان فإنّ الفيل لا يتولّد إلّا في جزائر البحار الجنوبيّة ، وعمرها بأرض الهند أطول من عمرها بغير أرض الهند ، وأنيابها لا تعظم مثل ما تعظم بأرضها ، والزرافة لا تتولّد إلّا بأرض الحبشة ، والجاموس لا يتولّد إلّا بالبلاد

١٠

الحارّة قرب المياه ، ولا يعيش بالبلاد الباردة ، وعير العانة ليس له سفاد في غير بلاده كما يكون ذلك في بلاده ، ويحتاج أن يؤخذ من حافره ولا كذلك في بلاده ، والسنجاب والسمور وغزال المسك لا يتولّد إلّا في البلاد الشرقيّة الشماليّة ، والصقر والبازي والعقاب لا يتفرّخ إلّا على رؤوس الجبال الشامخة ، والنعامة والقطا لا يفرّخان إلّا في الفلوات ، والبطوط وطيور الماء لا تفرّخ إلّا في شطوط الأنهار والبطائح والآجام ، والفواخت والعصافير لا تفرّخ إلّا في العمارات ، والبلابل والقنابر لا تفرّخ إلّا في البساتين ، والحجل لا يفرّخ إلّا في الجبال ، هذا هو الغالب فإن وقع شيء على خلاف ذلك فهو نادر. والله الموفق للصواب.

١١

المقدمة الثالثة

في أقاليم الأرض

قال أبو الريحان الخوارزمي : إذا فرضنا أن دائرة معدل النهار تقطع كرة الأرض بنصفين : يسمّى أحد النصفين جنوبا ، والآخر شمالا. وإذا فرضنا دائرة تعبر عن قطبي معدّل النهار وتقطع الأرض ، صارت كرة الأرض أربعة أرباع : ربعان جنوبيّان ، وربعان شماليّان ، فالربع الشمالي المكشوف يسمّى ربعا مسكونا ، والربع المسكون مشتمل على البحار والجزائر والأنهار والجبال والمفاوز والبلدان والقرى ، على أن ما بقي منها تحت قطب الشمال قطعة غير مسكونة من افراط البرد وتراكم الثلوج ، وهذا الربع المسكون قسموه سبعة أقسام ، كلّ قسم يسمّى إقليما ، كأنّه بساط مفروش من الشرق إلى الغرب طولا ، ومن الجنوب إلى الشمال عرضا ، وإنّها مختلفة الطول والعرض ، فأطولها وأعرضها الإقليم الأوّل ، فإن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثلاثة آلاف فرسخ ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من مائة وخمسين فرسخا ، وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع ، فإن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ألف وخمسمائة فرسخ ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من خمسين فرسخا.

وأمّا سائر الأقاليم فمختلف طولها وعرضها ، وعلى الصفحة المقابلة صورة كرة الأرض بأقاليمها.

وهذه القسمة ليست قسمة طبيعيّة ، لكنّها خطوط وهميّة وضعها الأوّلون الذين طافوا بالربع المسكون من الأرض ، ليعلموا بها حدود الممالك والمسالك ، مثل افريدون النّبطي واسكندر الرومي واردشير الفارسي ، وإذا جاوزوا الأقاليم

١٢

السبعة فمنعهم من سلوكها البحار الزاخرة والجبال الشامخة ، والأهوية المفرطة التغيّر في الحرّ والبرد ، والظلمة في ناحية الشمال تحت مدار بنات النعش ، فإن البرد هناك مفرط جدّا ، لأنّ ستّة أشهر هناك شتاء وليل ، فيظلم الهواء ظلمة

شديدة ويجمد الماء لشدّة البرد ، فلا حيوان هناك ولا نبات. وفي مقابلتها من ناحية الجنوب تحت مدار سهيل يكون ستّة أشهر صيفا نهارا كلّه ، فيحمى الهواء ويصير نارا سموما يحرق كلّ شيء ، فلا نبات ولا حيوان هناك.

١٣

وأمّا جانب المغرب فيمنع البحر المحيط السلوك فيه لتلاطم الأمواج. وأمّا جانب المشرق فيمنع البحر والجبال الشامخة ، فإذا تأمّلت وجدت الناس محصورين في الأقاليم السبعة ، وليس لهم علم بحال بقية الأرض. فلنذكر ما وصل إلينا بقعة بقعة في إقليم إقليم ، مرتبة على حروف المعجم ، والله الموفق للسداد والهادي إلى سواء الصراط.

١٤

الاقليم الاول

فجنوبيّه ما يلي بلاد الزنج والنوبة والحبشة ، وشماليّه الإقليم الثاني ، وأوله حيث يكون الظلّ نصف النهار إذا استوى الليل والنهار قدما واحدة ونصفا وعشرا وسدس عشر قدم ، وآخره حيث يكون ظلّ الاستواء فيه نصف النهار قدمين وثلاثة أخماس قدم. وقد يبتدىء من أقصى المشرق من بلاد الصين ، ويمرّ على ما يلي الجنوب من الصين جزيرة سرنديب ، وعلى سواحل البحر في جنوب الهند ، ويقطع البحر إلى جزيرة العرب ويقطع بحر قلزم إلى بلاد الحبشة ، ويقطع نيل مصر وأرض اليمن إلى بحر المغرب ؛ فوقع في وسطه من أرض صنعاء وحضرموت ، ووقع طرفه الذي يلي الجنوب أرض عدن ، ووقع في طرفه الذي يلي الشمال بتهامة قريبا من مكّة.

ويكون أطول نهار هؤلاء اثنتي عشرة ساعة ونصف الساعة في ابتدائه ، وفي وسطه ثلاث عشرة ساعة ، وفي آخره ثلاث عشرة ساعة وربع الساعة. وطوله من المشرق إلى المغرب تسعة آلاف ميل وسبعمائة واثنان وسبعون ميلا وإحدى وأربعون دقيقة ، وعرضه أربعمائة ميل واثنان وأربعون ميلا واثنتان وعشرون دقيقة وأربعون ثانية ، ومساحته مكسرا أربعة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وعشرون ألف ميل وثمانمائة وسبعة وسبعون ميلا وإحدى وعشرون دقيقة ، ولنذكر بعض بلادها مرتبا على حروف المعجم.

إرم ذات العماد

بين صنعاء وحضرموت ، من بناء شدّاد بن عاد ، روي أن شداد بن عاد كان جبّارا من الجبابرة ، لما سمع بالجنّة وما وعد الله فيها أولياءه من قصور

١٥

الذهب والفضّة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار ، والغرف التي فوقها غرف ، قال : إني متّخذ في الأرض مدينة على صفة الجنّة ، فوكل بذلك مائة رجل من وكلائه ، تحت يد كلّ وكيل ألف من الأعوان ، وأمرهم أن يطلبوا أفضل فلاة من أرض اليمن ، ويختاروا أطيبها تربة. ومكّنهم من الأموال ومثّل لهم كيفيّة بنائها ، وكتب إلى عمّاله في سائر البلدان أن يجمعوا جميع ما في بلادهم من الذهب والفضّة والجواهر ؛ فجمعوا منها صبرا مثل الجبال ، فأمر باتّخاذ اللبن من الذهب والفضّة ، وبنى المدينة بها ، وأمر أن يفضّض حيطانها بجواهر الدرّ والياقوت والزبرجد ، وجعل فيها غرفا فوقها غرف ، أساطينها من الزبرجد والجزع والياقوت. ثمّ أجرى إليها نهرا ساقه إليها من أربعين فرسخا تحت الأرض فظهر في المدينة ، فأجرى من ذلك النهر سواقي في السكك والشوارع ، وأمر بحافتي النهر والسواقي فطليت بالذهب الأحمر ، وجعل حصاه أنواع الجواهر الأحمر والأصفر والأخضر ، ونصب على حافتي النهر والسواقي أشجارا من الذهب ، وجعل ثمارها من الجواهر واليواقيت.

وجعل طول المدينة اثني عشر فرسخا وعرضها مثل ذلك ، وصيّر سورها عاليا مشرفا ، وبنى فيها ثلاثمائة ألف قصر ، مفضّضا بواطنها وظواهرها بأصناف الجواهر. ثمّ بنى لنفسه على شاطىء ذلك النهر قصرا منيفا عاليا ، يشرف على تلك القصور كلّها ، وجعل بابه يشرع إلى واد رحيب ، ونصب عليه مصراعين من ذهب مفضّض بأنواع اليواقيت.

وجعل ارتفاع البيوت والسور ثلاثمائة ذراع. وجعل تراب المدينة من المسك والزعفران.

وجعل خارج المدينة مائة ألف منظرة أيضا من الذهب والفضّة لينزلها جنوده.

ومكث في بنائها خمسمائة عام ، فبعث الله تعالى إليه هودا النبي ، عليه السلام ، فدعاه إلى الله تعالى ، فتمادى في الكفر والطغيان. وكان إذ ذاك تمّ ملكه سبعمائة سنة ، فأنذره هود بعذاب الله تعالى وخوّفه بزوال ملكه ، فلم يرتدع عمّا كان

١٦

عليه. وعند ذلك وافاه الموكلون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها ، فعزم على الخروج إليها في جنوده ، وخرج في ثلاثمائة ألف رجل من أهل بيته ، وخلّف على ملكه مرثد بن شدّاد ابنه ، وكان مرثد ، فيما يقال ، مؤمنا يهود ، عليه السلام. فلمّا انتهى شدّاد إلى قرب المدينة بمرحلة جاءت صيحة من السماء ، فمات هو وأصحابه وجميع من كان في أمر المدينة من القهارمة والصنّاع والفعلة ، وبقيت لا أنيس بها فأخفاها الله ، لم يدخلها بعد ذلك إلّا رجل واحد في أيّام معاوية يقال له عبد الله بن قلابة ، فإنّه ذكر في قصة طويلة ملخّصها أنّه خرج من صنعاء في طلب إبل ضلّت ، فأفضى به السير إلى مدينة ، صفتها ما ذكرنا ، فأخذ منها شيئا من المسك والكافور وشيئا من الياقوت ، وقصد الشام وأخبر معاوية بالمدينة ، وعرض عليه ما أخذه من الجواهر ، وكانت قد تغيّرت بطول الزمان. فأحضر معاوية كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال : هذا إرم ذات العماد التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، بناها شداد بن عاد ، لا سبيل إلى دخولها ولا يدخلها إلّا رجل واحد صفته كذا وكذا. وكانت تلك الصفة صفة عبد الله ابن قلابة ؛ فقال له معاوية : أمّا أنت يا عبد الله فأحسنت النصح ، ولكن لا سبيل لها. وأمر له بجائزة.

وحكي أنّهم عرفوا قبر شدّاد بن عاد بحضرموت ، وذلك أنّهم وقعوا في حفيرة ، وهي بيت في جبل منقورة مائة ذراع في أربعين ذراعا ، وفي صدره سرير عظيم من ذهب ، عليه رجل عظيم الجسم ، وعند رأسه لوح فيه مكتوب :

اعتبر يا أيّها المغرور بالعمر المديد

أنا شدّاد بن عاد صاحب القصر المشيد

وأخو القوّة والبأساء والملك الحسيد

دان أهل الأرض طرّا لي من خوف وعيدي

فأتى هود وكنّا في ضلال قبل هود

١٧

فدعانا لو قبلناه إلى الأمر الرّشيد

فعصيناه ونادينا : ألا هل من محيد؟

فأتتنا صيحة تهوي من الأفق البعيد

فشوينا مثل زرع وسط بيداء حصيد

والله الموفّق للصواب.

البجّة

بلاد متّصلة بأعلى عيذاب في غرب منه ، أهلها صنف من الحبش ، بها معادن الزمرذ. يحمل منها إلى سائر الدنيا ، ومعادنه في جبال هناك ، وزمرذها أحسن أصناف الزمرذ الأخضر السّلقي الكثير المائية ، يسقى المسموم منه فيبرأ ، وإذا نظرت الأفعى إليه سالت حدقتها.

بكيل

مخلاف باليمن ؛ قال عمارة في تاريخه : بهذا المخلاف نوع من الشجر لأقوام معيّنين في أرض لهم ، وهم يشحّون به ويحفظونه من غيرهم مثل شجر البلسان بأرض مصر ؛ وليس ذلك الشجر إلّا لهم يأخذون منه سمّا يقتل به الملوك ، وذكر أن ملوك بني نجاح ووزراءهم أكثرهم قتلوا بهذا السمّ.

بلاد التّبر

هي بلاد السودان في جنوب المغرب ؛ قال ابن الفقيه : هذه البلاد حرّها شديد جدّا. أهلها بالنهار يكونون في السراديب تحت الأرض ، والذهب ينبت في رمل هذه البلاد كما ينبت الجزر بأرضنا ، وأهلها يخرجون عند بزوغ الشمس ويقطفون الذهب ، وطعامهم الذّرة واللوبيا ، ولباسهم جلود الحيوانات ،

١٨

وأكثر ملبوسهم جلد النمر ، والنمر عندهم كثير.

ومن سجلماسة إلى هذه البلاد ثلاثة أشهر ، والتجار من سجلماسة يمشون إليها بتعب شديد ، وبضايعهم الملح وخشب الصنوبر وخشب الأرز ، وخرز الزجاج والاسورة والخواتيم منه ، والحلق النحاسيّة.

وعبورهم على براري معطشة ، فيها سمايم بماء فاسد لا يشبه الماء إلّا في الميعان ، والسمايم تنشف المياه في الأسقية ، فلا يبقى الماء معهم إلّا أيّاما قلائل.

فيحتالون بأن يستصحبوا معهم جمالا فارغة من الأحمال ، ويعطشونها قبل ورودهم الماء الذي يدخلون منه في تلك البراري ، ثمّ أوردوها على الماء نهلا وعللا حتى تمتلي أجوافها ، ويشدون أفواهها كي لا تجتر فتبقى الرطوبة في أجوافها ، فإذا نشف ما في أسقيتهم واحتاجوا إلى الماء ، نحروا جملا جملا وترمّقوا بما في بطونها ، وأسرعوا بالسير حتى يردوا مياها أخرى ، وحملوا منها في أسقيتهم.

وهكذا ساروا بعناء شديد حتى قدموا الموضع الذي يحجز بينهم وبين أصحاب التبر ، فعند ذلك ضربوا طبولا ليعلم القوم وصول القفل. يقال : انّهم في مكان وأسراب من الحرّ وعراة كالبهائم لا يعرفون الستر. وقيل : يلبسون شيئا من جلود الحيوان ، فإذا علم التجار أنّهم سمعوا صوت الطبل أخرجوا ما معهم من البضائع المذكورة ، فوضع كلّ تاجر بضاعته في جهة منفردة عن الأخرى وذهبوا وعادوا مرحلة فيأتي السودان بالتبر ، ووضعوا بجنب كلّ متاع شيئا من التبر وانصرفوا. ثمّ يأتي التجار بعدهم فيأخذ كلّ واحد ما وجد بجنب بضاعته من التبر ويترك البضاعة ، وضربوا بالطبول وانصرفوا ، ولا يذكر أحد من هؤلاء التجّار أنّه رأى أحدا منهم.

١٩

بلاد الحبشة

هي أرض واسعة شمالها الخليج البربري ، وجنوبها البرّ. وشرقها الزنج ، وغربها البجة. الحرّ بها شديد جدّا ، وسواد لونهم لشدّة الاحتراق ، وأكثر أهلها نصاري يعاقبة ، والمسلمون بها قليل. وهم من أكثر الناس عددا وأطولهم أرضا ، لكن بلادهم قليلة وأكثر أرضهم صحارى لعدم الماء وقلّة الأمطار ، وطعامهم الحنطة والدخن ، وعندهم الموز والعنب والرمان ، ولباسهم الجلود والقطن.

ومن الحيوانات العجيبة عندهم : الفيل والزرافة. ومركوبهم البقر ، يركبونها بالسرج واللجام مقام الخيل ، وعندهم من الفيلة الوحشيّة كثير وهم يصطادونها.

فأمّا الزرافة فإنّها تتولّد عندهم من الناقة الحبشيّة والضبعان وبقر الوحش ، يقال لها بالفارسيّة «اشتركاوپلنك» رأسها كرأس الإبل ، وقرنها كقرن البقر ، وأسنانها كأسنانه ، وجلدها كجلد النمر ، وقوائمها كقوائم البعير ، وأظلافها كأظلاف البقر ، وذنبها كذنب الظباء ، ورقبتها طويلة جدّا ، ويداها طويلتان ورجلاها قصيرتان.

وحكى طيماث الحكيم أنّه بجانب الجنوب ، قرب خطّ الاستواء في الصيف ، تجتمع حيوانات مختلفة الأنواع على مصانع الماء من شدّة العطش والحرّ ، فيسفد نوع غير نوعه فتولد حيوانات غريبة مثل الزرافة ، فإنّها من الناقة الحبشيّة والبقرة الوحشيّة والضبعان ، وذلك أن الضبعان يسفد الناقة الحبشيّة فتأتي بولد عجيب من الضبعان والناقة ، فإن كان ذلك الولد ذكرا ويسفد البقرة الوحشيّة أتت بالزرافة.

ولهم ملك مطاع يقال له أبرهة بن الصبّاح. ولمّا مات ذو يزن ، وهو آخر الأذواء من ملوك اليمن ، استولى الحبشة على اليمن ، وكان عليها أبرهة من قبل النجاشي ، فلمّا دنا موسم الحجّ رأى الناس يجهزّون للحجّ ، فسأل عن ذلك ، فقالوا : هؤلاء يحجّون بيت الله بمكّة. قال : فما هو؟ قالوا : بيت من حجارة.

٢٠