آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

ورجند

قرية من أعمال همذان. من عجائبها أن من به علّة البواسير ، والأطباء عجزوا عن معالجتها ، يمشي إلى ورجند يعالجه أهلها فيبرأ بأيّام قلائل. قالوا : إنّ لأهلها في ذلك يدا باسطة ، من مشى إليها عالجوه ، وذلك برقية عندهم وحشيش يدخنونه بالحشيشة ، ويقرأون عليه الرقية فينتفع في أيّام قلائل. وهو مشهور عندهم.

هراة

مدينة عظيمة من مدن خراسان. ما كان بخراسان مدينة أجلّ ولا أعمر ، ولا أحصن ولا أكثر خيرا منها. بها بساتين كثيرة ومياه غزيرة. بناها الاسكندر ، ولمّا دخل بلاد الشرق ذاهبا إلى بلاد الصين أمر كلّ قوم ببناء سور يحصنهم عن الأعداء. وعلم أن أهل هراة قوم شماس عندهم قلّة القبول ، فعيّن لهم مدينة بطولها وعرضها وسمك حيطانها وعدد أبوابها ، ليوفّيهم أجورهم عند عوده.

فلمّا رجع قال : ما أمرت على هذه الهيئة ؛ وأظهر الكراهية وما أعطاهم شيئا.

ومن عجيب ما ذكر أن هراة كانت في يد سلاطين الغور بني سام ، فجاءها خوارزمشاه محمّد نزل عليها يحاصرها ، وكانت العجلة تمشي على سورها لفرط عرضه. فأمر خوارزمشاه بنصب المنجنيق عليها ، وأشار بمقرعته إلى برج من أبراجها ، فكما أشار إليه انهار ذلك البرج ، فاستخلصها من ذلك الموضع وعدّ ذلك من عجيب آثار دولته.

ومن عجائبها أرحية مبنيّة على الريح تديرها الريح بنفسها كما يديرها الماء ، ويحمل منها إلى سائر البلدان كلّ ظريف سيما الأواني الصفريّة المطعمة بالفضّة وأنواع الدبابيج والحواصل ، ومن المأكول الزبيب والمشمش ؛ قال الأديب الزوزني :

هراة أردت مقامي بها

لشتّى فضائلها الوافرة :

٤٨١

نسيم الشّمال وأعنابها

وأعين غزلانها السّاحره!

ولم تزل هراة من أحسن بلاد الله حتى أتاها عين الزمان عند ورود التتر ، فخربوها حتى أدخلوها في خبر كان ، وحكى من كان بها أن التتر لمّا نزلوا عليها راسلهم أحد أعيان المدينة أن يفتح لهم بابا من أبوابها ، على شرط أن يأمن هو وأهله ، فأجابوه إليه. فلمّا فتح لهم دفعوا إليه رجلا ليقف على باب داره ويمنع التتر من دخولها. وكان لصاحب الدار نسيب بعث إليه أن عجل إلى داري بأهلك فإنّها مأمن. فقال النسيب : ان حالوا بيننا وبينكم فأرسل الرجل التتري إلينا ليحملنا إليكم. فأرسله إليهم ، فلمّا غاب عن باب داره نزل عليها قوم من التتر وقتلوا كلّهم ، فلمّا جاء الرجل التتري بالنسيب وجد القوم قتلوا عن آخرهم ، فتركهم ومرّ على وجهه وقتل النسيب أيضا ، ولم ينج منهم أحد.

وينسب إليها إبراهيم ستنبه من البراهمة الأربعة الذين يشفع بهم إلى الله تعالى وهم : إبراهيم بن أدهم بمكّة ، وإبراهيم الخواص بالريّ ، وإبراهيم شيبان بقرميسين ، وإبراهيم ستنبه بقزوين.

حكى إبراهيم بن دوحة قال : دخلت مع إبراهيم ستنبه بادية مكّة ، وكان معي دينار ذهب فقال لي : اطرح ما معك ، فطرحته. ثمّ قال لي : اطرح ما معك ، فما كان معي إلّا شسع نعل فطرحته. فما احتجت في الطريق إلى شسع إلّا وجدته بين يديّ ، فقال : هكذا من يعامل الله صدقا!

وحكى بعضهم قال : كنّا عند مسجد أبي يزيد البسطامي فقال لنا : قوموا نستقبل وليّا من أولياء الله تعالى ، فمشينا فإذا هو إبراهيم ستنبه الهروي ، فقال له أبو يزيد : وقع في خاطري أن أستقبلك وأشفع لك إلى ربّي! فقال له إبراهيم :لو شفعت لجميع الخلق ما كان كثيرا ، فإنّهم كلّهم قطعة من طين ، فتحيّر أبو يزيد من حسن جواب إبراهيم وقال : اللهمّ ارفع درجاتهم وانفعنا بمحبّتهم ومحبّة أمثالهم!

٤٨٢

همذان

مدينة مشهورة من مدن الجبال. قيل : بناها همذان بن فلوج بن سام بن نوح ، عليه السلام. ذكر علماء الفرس أنّها كانت أكبر مدينة بأرض الجبال ، وكانت أربعة فراسخ في مثلها فالآن لم تبق على تلك الهيئة ، لكنها مدينة عظيمة لها رقعة واسعة ، وهواء لطيف وماء عذب وتربة طيّبة ، ولم تزل محلّ سرير الملوك.

ولا حدّ لرخصها وكثرة الأشجار والفواكه بها. أهلها أعذب الناس كلاما وأحسنهم خلقا وألطفهم طبعا. ومن خصائصها ألّا يكون الإنسان بها حزينا ولو كان ذا مصائب. والغالب على أهلها اللهو والطرب لأن طالعها الثور ، وهو بيت الزهرة ، والغالب على أكثرهم البلاهة ، ولهذا قال قائلهم :

لا تلمني على ركاكة عقلي

إن تيقّنت أنّني همذاني!

وحكي أن دارا لمّا تأهّب لمحاربة الإسكندر أحكم عمارة همذان ، وجعل في وسطها حصنا لحرمه وخزانته ، ووكل بها اثني عشر ألف رجل من ثقاته لحفظها متى قصدها قاصد ، وذهب إلى قتال الإسكندر. فلمّا قتل دارا في القتال بعث الإسكندر إلى همذان قائدا اسمه صقلاب في جيش كثيف ، فحاصرها ، فلمّا عجز عنها أخبر الإسكندر بحصانة الموضع وعجزه عنه ، فكتب إليه الإسكندر أن صوّر المدينة بجبالها ومياهها وعيونها وابعث بالصورة إليّ ، وأقم هناك حتى يأتيك أمري. ففعل صقلاب ذلك فأرسلها الإسكندر إلى أستاذه أرسطاطاليس وقال له : دبّر لي فتح هذه المدينة.

فأمره أرسطاطاليس أن يحبس مياهها حتى يجتمع منها شيء كثير ثمّ يرسلها إلى المدينة. ففعل صقلاب ذلك كما قال ، فهدم سورها وحيطانها فدخلها صقلاب وسبى ونهب ، وبقيت المدينة تلّا ، وأمّا المدينة الموجودة في زماننا هذا فلا شكّ في أنّها أحسن البلاد وأنزهها وأطيبها ، ولهذا لم تزل محلّ الملوك ، ولكلّ ملك من ملوك الجبال بها قصر يأتيه فصل الربيع والصيف. فإنّها في هذين الفصلين تشبه الجنّة

٤٨٣

في طيب هوائها وبرودة مائها ، وكثرة فواكهها وأنواع رياحينها ؛ قال محمّد ابن بشّار :

ولقد أقول تيامني وتشامي

وتواصلي ديما على همذان

فإذا تبجّست الثّلوج تبجّست

عن كوثر شبم وعن حيوان

بلد نبات الزّعفران ترابه

وشرابه عسل بماء قنان

فكسا الرّبيع بلادها من روضة

يفترّ عن نفل وعن حوذان

حتى تعانق من خزاماه الّذي

بالجلهتين شقائق النّعمان

بها ناحية ماوشان ، وهي كورة بقرب همذان. فراسخ في فراسخ يمشي إليها أهل همذان أوان الصيف وقت إدراك المشمش.

وحكي أن أعرابيّا أقام بهمذان سنين فسئل عن همذان فقال : أقمت بها سبعا كانوا يقولون الصيف يجيء وما جاء ، وذلك لأن الأعرابي رأى صيف الحجاز وصيف همذان يكون مثل شتاء الحجاز.

وحكى عبد القاهر بن حمزة الواسطي صفة همذان في الشتاء فقال : خصّ الله همذان في الشتاء من اللعن بأوفره ومن الطرد بأكثره ، فما أكدر هواءها وأشدّ بردها وأذاها وأكثر مؤونتها وأقلّ منفعتها! سلّط الله تعالى عليها الزمهرير الذي أعدّه للكفّار والعتاة من أهل النار ، فإذا هاجت الرياح العواصف وحدثت البروق والرعود القواصف وقعت الثلوج والدمق ، وعمّ الاضطراب والقلق ، وانقطعت السبل وعمّ طرقاتها الوحل ، فترى وجوه أهلهم متشقّقة وشعورهم من البرد متفتّقة ، وأنوفهم سائلة وحواسهم زائلة ، وأطرافهم خضرة وروائحهم قذرة ، ولحاهم دخانية وألوانهم باذنجانيّة. وهم في في شتائهم في الأليم من العذاب والوجيع من الحظّ والعقاب. وأيّ عذاب أشدّ من مقاساة العدوّ الحاصر والكلب الكلب الحاضر؟ قال أحمد بن بشّار يصف همذان :

٤٨٤

لقد أتى همذان البرد فانطلق

وارحل على شعب شمل غير متّفق

أرض يعذّب أهلوها ثمانية

من الشّهور بأنواع من الوهق

فإن رضيت بثلث العمر فارض بها

وقد تعدّ إذا من أجهل الحمق

إذا ذوى البقل هاجت في بلادهم

من جربيائهم مشّاقة الورق

فالبرد يرمي سهاما ليس يمنعها

من المروق بلبس الدّرع والدّرق

حتّى تفاجئهم شهباء معضلة

تستوعب النّاس في سربالها اليقق

أمّا الغنيّ فمحصور يكابدها

طول الشّتاء مع اليربوع في نفق

والمملقون بها سبحان ربّهم

ممّا يقاسون من برد ومن أرق

فكلّ غاد بها أو رائح تعب

ممّا يكابد من برد ومن دمق

فالماء كالصّخر والأنهار جامدة

والأرض عضّاضة بالضرس في الطّرق

فإذا انتقلت الشمس إلى برج الحمل ، وقد امتلأت دروبهم من الثلج حتى سدّ عليهم الطرق ، جمعوا مياههم وأرسلوها إلى المدينة ، وحيطانها كلّها صخريّة ، فدخل الماء دروبهم ، ويحمل ما فيه من الثلج ويذهب به ، ويكون ذلك اليوم عيدا عظيما عندهم يسمّونه حمل بندان ، فصعدوا سطوحهم بالغناء والرقص في كلّ محلّة ، واتّخذوا من الثلوج شبه قلاع يرقصون عليها ، والماء يدخل عليهم ويرميهم ، وهم على تلّ الثلج ، فيقعون في وسط الماء والثلج ، فيدخل الماء دربا دربا حتى تنقى المدينة كلّها من الثلج.

ومن عجائبها أسد من صخر على باب المدينة عظيم جدّا. حكى الكيا شيرويه أن سليمان بن داود ، عليه السلام ، اجتاز بموضع همذان ، قال : ما بال هذا الموضع مع كثرة مائه وسعة ساحته لا تبنى به مدينة؟ قالوا : يا نبيّ الله إن ههنا لا يكون مقام الناس لأن البرد به شديد والثلج به يقع قدر قامة رمح. فقال ، عليه السلام ، لصخر الجني : هل من حيلة؟ فقال : نعم يا نبيّ الله ؛ فاتّخذ

٤٨٥

أسدا من صخر ونصبه طلسما للبرد وبنى مدينة همذان.

وقال غيره : إنّه من عمل بليناس صاحب الطلسمات حين طلبه قباذ ليطلسم بلاده ، وكان الفارس يغرق في الثلج بهمذان ، فلمّا عمل هذا الأسد قلّ ثلجها.

وقالوا : عمل على يمين الأسد طلسما للحيّات فقلّت ، وآخر للعقارب فنقصت ، وآخر للبراغيث فهي قليلة بها جدّا ؛ قال ابن حاجب يذكر الأسد :

ألا أيّها اللّيث الطّويل مقامه

على نوب الأيّام والحدثان

أقمت فما تنوي البراح بحيلة

كأنّك بوّاب على همذان

أراك على الأيّام تزداد جدّة

كأنّك منها آخذ بأمان

أقبلك كان الدّهر أم كنت قبله

فنعلم أم ربّيتما بلبان؟

بقيت فما تفنى وآمنت عالما

سطا بهم موت بكلّ مكان

فلو كنت ذا نطق جلست محدّثا

تحدّثنا عن أهل كلّ زمان

ولو كنت ذا روح تطالب مأكلا

لأفنيت أكلا سائر الحيوان

أحبّبت شرّ الموت أم أنت منظر

وإبليس حتى يبعث الثّقلان؟

فلا هرما تخشى ولا الموت تتّقي

بمضرب سيف أو شباة سنان

وحكي انّه لمّا كان سنة تسع عشرة وثلاثمائة ، عصى أهل همذان على مرداويج الديلمي ، وكان صاحب الجبال ، فدخل همذان ونهبها ، وسأل عن الأسد فقيل : انّه طلسم لدفع الآفات عن المدينة. فأراد حمله إلى الري فلم يتمكّن من ذلك ، فأمر بكسر يديه بالفطّيس. وقيل : إنّما كسر يديه لأن الدوابّ كانت تنفر منه.

وحكي أن المكتفي بالله نظر إليه فاستحسنه ، فأمر بنقله على عجلة تجرّها الفيلة إلى بغداد ، فهمّ عامل البلد بذلك ، فاجتمع وجوه تلك البلاد وقالوا :هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة. فكتب العامل بذلك إلى الخليفة وصعب عليه بعثه فعفا عنهم.

٤٨٦

وحكي أن في زماننا عدا رجل في وسط همذان ويقول : يا قوم ادركوا الأسد فإني رأيته يهرب. فخرج من المدينة خلق كثير فرأوا الأسد بحاله ، فيقول بعضهم : عدا من ثمّ إلى ههنا. وهذا دليل على بلاهة القوم.

وينسب إليها أبو الفضل بديع الزمان. كان أديبا فاضلا ظريفا ، والمقامات التي جمعها دلّت على غزارة فضله وفصاحة كلامه ولطافة طبعه. ولهذا قال أبو القاسم الحريري : إن البديع سبّاق غايات وصاحب آيات.

وحكي أن صديقا له كتب إليه يشكو ويقول : إن الزمان قد فسد! فأجابه البديع : أتزعم أن الزمان قد فسد؟ ما تقول لي متى كان صالحا : أفي الدولة العبّاسيّة وقد رأينا آخرها وقد سمعنا أوّلها؟ أم في الأيّام المروانيّة وفي أخبارها ما يكسع الشول بأغبارها؟ أم في الأيّام الحربيّة والسيف يغمد في الطلى والرمح يركز في الكلى؟ أم في الأيّام الهاشميّة وعليّ ، عليه السلام ، يقول : ليت لي بعشرة منكم واحدا من بني فراس بن غنم؟ أم في أيّام عثمان وقد قام النفير بالحجاز وشخصت العيون من الإعجاز؟ أم في الخلافة العدوية وصاحبها يقول : بعد النزول إلى النزول؟ أم في الخلافة التيمية وأبو بكر يقول : طوبى لمن مات في نأنأة الاسلام؟ أم في عهد الرسالة وقد قيل فيه : اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهلية ولبيد يقول :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب؟

أم قبل الجاهلية وأخو عاد يقول :

بلاد بها كنّا ، وكنّا نحبّها

إذ النّاس ناس والبلاد بلاد؟

أم قبل ذلك وقد روي عن أبينا آدم ، عليه السلام ، أنّه قال :

تغيّرت البلاد ومن عليها

ووجه الأرض مغبرّ قبيح؟

أم قبل خلق أبينا آدم وقد قالت الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فاعلم

٤٨٧

أن الزمان ما فسد لكن القياس قد اطرد. وقال البديع :

همذان لي بلد أقول بفضله

لكنّه من أقبح البلدان!

صبيانه في القبح مثل شيوخه

وشيوخه في العقل كالصّبيان!

توفي البديع سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.

وأنشد عبد الله بن محمّد بن زنجويه لنفسه في بعض الصور المطلسمة ، وقد ذكرنا كلّ واحدة منها في موضعها بشرحها :

أأرقت للبرق اللّموع اللّائح

وحمائم فوق الغصون صوادح؟

بل قد ذهلت بليث غاب دائبا

مذ كان عن همذان ليس بنازح

موف على صمّ الصّخور كأنّه

يبغي الوثوب على الغزال السّانح

تمضي الدّهور وما تروم فريسة

نعل الطّمرّ الكسرويّ القارح

شبديز إذ هو واقف في طاقه

يعلوه برويز بحسن واضح

برويز عن شبديز ليس برائح

واللّيث عن همذان ليس بنازح

وكذا بتدمر صورتان تناهتا

في الحسن شبّهتا ببدر لائح

لا يسأمان عن القيام ، وطالما

صبرا على صرف الزّمان الكالح

وبأرض عاد فارس يسقيهم

بالعين عذبا كالفرات السّائح

في الأشهر الحرم العظيمة حقّها

يغنون عن شرب الزّعاق المالح

فإذا انقضى الشّهر الحرام تطفّحت

تلك الحياض بماء عين الدّافح

وبأرض وادي الرّمل بين مهامه

يلقاك قبل الحتف نصح النّاصح

طرف هنالك باسط بيمينه

أن ليس بعدي مسلك للسّائح

خذها إليك مقالة من صادق

فيها عجائب من صحيح قرائح

٤٨٨

يل

ضيعة من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها.

بها جبل يقال له يله بشم ؛ حدّثني من صعد هذا الجبل قال : رأيت عليها صور حيوانات مسخها الله تعالى حجرا صلدا : منها راع متكىء على عصاه يرعى غنمه ، وامرأة تحلب بقرة ، وغير ذلك من صور الإنسان والبهائم ، مسخ الله تعالى كلّها حجرا ؛ وهذا شيء يعرفه جميع أهل قزوين.

وبها عين تخرج من شعب جبل ، وماؤها غزير حارّ جدّا يجتمع في حوض هناك ، يقصدها الزمنى والجربى وغيرهم من أصحاب العاهات ، ينفعهم نفعا بيّنا. وأهل تلك البلاد يسمّونها يله كرماب.

يمكان

مدينة حصينة في وسط الجبال بقرب بذخشان ، لا قدرة لأحد عليها ، قهرت الصعوبة مسلكها.

بها معادن الفضّة والبلخش الذي يشبه اللعل ؛ حكى الأمير حسام الدين أبو المؤيد بن النعمان أن الحكيم الناصر خسرو تحصّن بها ، وكان ملكا لبلخ ، فخرج عليه أهل بلخ ، فانتقل إلى يمكان لحصانتها ، واتّخذ بها عمارات عجيبة من القصور والبساتين والحمامات. وذكر انّه نزل في بعض تلك القصور فرأى في إيوان عظيم صورا وتماثيل تتحرّك ، فمنعه أهل القصر أن ينظر إليها. وذكروا أن من ينظر إليها يصاب في عقله أو بدنه. وقال : كان صغار مماليك ينظرون إليها يخبرون بأشياء تأباها العقول! وقال : رأيت خلف ذلك القصر بستانا كنت طول الليل أسمع منه أصواتا عجيبة ، لا تشبه أصوات الحيوانات المعهودة ، منها ما كان طيّبا ومنها ما كان كريها.

وحكي أن بها حمّاما من عجائب الدنيا من بناء ناصر خسرو ، لا يدرى

٤٨٩

كيف بناؤه ، ولا يصدق السامع وصفها حتى يراها. وهي باقية في زماننا ، وصفتها أن من دخل مسلخها رأى بيتا مربعا منقّشا بصور حيوانات لا يرى باب الحمام ، لكن يرى على حيطانها أربعا وعشرين حلقة مغلقة ، فيسأل الحمامي عن باب الحمام فيقول : أي حلقة جذبتها ينفتح لك باب الحمام. فيجذب إحداها فينفتح باب وتنكسر صورة الحيوان التي على الباب لأن بعضها على الباب وبعضها على الجدار ؛ فلهذا لا يعرف الغريب باب الحمام ، فإذا دخل من باب من تلك الأبواب أيّها كان ، ينتهي إلى قبّة على مثال المسلخ إلّا أن حلقها سبع عشرة ، فأيّ حلقة يجذب يفتح له باب ، فإذا دخله يفضي به إلى قبّة أخرى على مثال ما قبلها ، إلّا أن حلقها اثنتا عشرة ، فأيّ حلقة منها يجذب يفضي إلى قبّة على مثال ما تقدّم ، إلا أن فيها تسع حلق ، فأي حلقة منها يجذب يفضي إلى قبّة إلى مثال ما قبلها ، إلّا أن حلقها سبع حلق ، وهي القبّة الأخيرة ، أحد أبوابها يفضي إلى الحمام وذلك يعرفه الحمامي : فإن فتح غيره يرى نفسه في المسلخ وهو البيت الأوّل المربّع.

وذكر الأمير أبو المؤيد أنّه شاهد هذا الحمام مرارا على هذه الهيئة ، وأنّه أشهر شيء بخراسان وهو باق إلى زماننا. وإنّما صار أمر هذا الحمام مشهورا بخراسان لأنّه عامّ لا يمنع أن يدخله أحد ويستحمّ به ، فيدخله كلّ أحد للاستحمام ومشاهدة العجب ولا يؤخذ ممّن دخله أجرة الحمام. وله آلات من السطول والطاسات والمآزر والطين والأمشاط والمناشف ، وجميع ما يحتاج إليه المستحمّ.

فإذا استحمّ وخرج يؤتى له بجلاب ومأكول على قدره ، ولا يقبلون من المستحمّ شيئا وإن أصرّ على ذلك ، بل له أوقاف كثيرة وانّها بيد أحفاد الناصر خسرو.

ومن عجائبها أمر آخر وهو أن ثلاثين بيتا منها يضيء بجام واحد ، ولا يمكنون أحدا أن يرى سطحها البتّة ، ولا يهتدي أحد إلى كيفيّة بنائها إلّا من عرف ذلك بحقيقة.

والله المستعان وعليه التكلان.

٤٩٠

الاقليم الخامس

أوّله حيث يكون الظلّ نصف النهار ، إذا استوى الليل والنهار ، خمسة أقدام وثلاثة أخماس قدم وسدس خمس قدم ، وآخره حيث يكون الظلّ نصف النهار شرقا أو غربا ستّة أقدام ، ونصف عشر وسدس عشر قدم. ويبتدىء من أرض الترك المشرقين ويمرّ على أجناس الترك المعروفين إلى كاشغر وفرغانة وسمرقند وخوارزم وبحر الخزر إلى باب الأبواب وبرذعة وإلى ميّافارقين وارمينية وبلاد الروم.

وأطول نهار هؤلاء في أوّل الإقليم أربع عشرة ساعة ونصف وربع ، وفي أوسطه خمس عشرة ساعة ، وفي آخره خمس عشرة ساعة وربع. وطول وسطه من المشرق إلى المغرب سبعة آلاف ميل وستمائة وسبعون ميلا وبضع عشرة دقيقة ، وعرضه مائتان وأربعة وخمسون ميلا وثلاثون دقيقة ، ومساحتها مكسر ألف ألف وثمانية وأربعون ألفا وخمسمائة وأربعة وثمانون ميلا واثنتا عشرة دقيقة ، ولنذكر أحوال بعض المدن الواقعة فيه مرتبة على حروف المعجم :

آمد

مدينة حصينة مبنية بالحجارة من بلاد الجزيرة على نشز من الأرض ، ودجلة محيطة بها من جوانبها إلّا من جهة واحدة على شكل الهلال. وفي وسطها عيون وآبار عمقها ذراعان. وإنّها كثيرة الأشجار والبساتين والثمار والزروع.

من عجائبها ما ذكره ابن الفقيه أن بأرض آمد جبلا من بعض شعابه صدع فيه سيف ، من أدخل يده في ذلك الصدع وقبض على قائم ذلك السيف ، اضطرب

٤٩١

السيف في يده وارتعد هو ، وان كان من أشدّ الناس. وذكر أن هذا السيف يجذب الحديد أكثر من جذب المغناطيس ، فإذا حكّ به سيف أو سكين جذبه ، وحجارة ذلك الصدع ما يجذب ؛ هذا ما ذكره ابن الفقيه ولست أعرف انّه باق إلى الآن أم لا.

ومن العجب أن في سنة سبع وعشرين وستمائة انهزم جلال الدين خوارزمشاه عن التتر ، فانتهى إلى آمد فجاءه من أخبره بأن التتر خلفك قريب منك. فقال : إن هذا المخبر من عند صاحب آمد يريد إبعادنا من أرضه. فما أصبح إلّا والتتر محيط بهم ، فانصبّوا إلى آمد هاربين من التتر فقتلهم أهل آمد من السور ، وفي تلك الواقعة قتل جلال الدين خوارزمشاه. فلمّا رجع التتر جاء الملك الكامل بعساكره وحاصرها ، وأخذها من صاحبها ، وزال ملك صاحبها بشؤم ما عمل بالهاربين من التتر اللائذين به.

أبروق

موضع ببلاد الروم يزار من الآفاق ؛ قال الهروي : بلغني أمره فقصدته فوجدته في لحف جبل يدخل إليه من باب ، ويمشي الداخل تحت الأرض إلى أن ينتهي إلى موضع مكشوف واسع تبين فيه السماء من فوقه ، وفي وسطه بحيرة حولها بيوت الفلّاحين ومزروعهم خارج الموضع. وهناك مسجد وبيعة ، فإن جاءهم مسلم يمشي إلى المسجد ، وإن جاءهم نصراني يمشي إلى البيعة. والزوّار يأتون إلى هذا الموضع كثيرا ، ويدخلون إلى بهو فيه جماعة مقتولون ، فيهم آثار طعن الأسنة وضرب السيوف ، ومنهم من فقدت بعض أعضائه ، وعليهم ثياب من القطن لم تتغيّر!

وهناك أيضا امرأة على صدرها طفل حلمة ثديها في فيه ، وخمسة أنفس قيام ظهورهم على حائط الموضع ، وهناك أيضا موضع عال عليه سرير ، وعلى السرير اثنا عشر رجلا فيهم صيّ مخضوب اليدين والرجلين بالحنّاء ، فالروم

٤٩٢

يزعمون أنّهم منهم ، والمسلمون يقولون انّهم من الغزاة استشهدوا في أيّام عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه.

أرّان

ناحية بين آذربيجان وأرمينية وبلاد ابخاز. بها مدن كثيرة وقرى. قصبتها جنزة وشروان وبيلقان. بها نهر الكرّ وهو نهر بين أرمينية وأرّان ، يبدأ من بلاد خزران ثمّ يمرّ ببلاد الأبخاز من ناحية اللان ، فيمرّ بمدينة تفليس يشقّها ، ثمّ بجنزة وشمكور ويجري على باب برذعة ، ثمّ يختلط بالرسّ ، والرس أصغر منه وينصبّ في بحر الخزر على ثلاثة فراسخ من برذعة ، موضع الشور ماهيج الذي يحمل إلى الآفاق مملّحا. وهو نوع من السمك طيّب مختصّ بذلك الموضع.

وزعموا أن الكرّ نهر سليم أكثر ما يقع فيه من الحيوان يسلم. ومن ذلك ما حكى بعض فقهاء نقجوان قال : وجدنا غريقا من الكرّ يجري به الماء ، فبادر القوم إلى إمساكه فأدركوه وقد بقي فيه رمق ، فحملوه إلى اليبس فاستقرّ نفسه وسكن جاشه. قال لنا : أي موضع هذا؟ قالوا : نقجوان. قال : إني وقعت في الماء في موضع كذا ، وكان بينه وبين نقجوان مسيرة خمسة أيّام أو ستّة ، وطلب طعاما فذهبوا لإحضار الطعام فانقضّ عليه الجدار الذي كان قاعدا تحته ، فتعجّب القوم من مسامحة النهر وتعدّي الجدار!

أرزنجان

بلدة من بلاد أرمينية آهلة طيّبة كثيرة الخيرات ، أهلها مسلمون ونصارى ، وبها جبل فيه غار ينزل الماء من سقفه ، ويصير ذلك الماء حجرا صلدا.

٤٩٣

أرزن الروم

مدينة مشهورة من مدن ارمينية بقرب خلاط قديمة البناء. بينها وبين خلاط موضع يسمّى ياسي جمن ، به عين يفور الماء منها فورانا شديدا ، يسمع صوته من بعيد ، فإذا دنا الحيوان منها يموت في الحال. وحولها من الحيوانات الموتى ما شاء الله ، وقد وكّلوا بها من يمنع الغريب من الدنو منها.

بها عين الفرات وهي عين مباركة مشهورة. زعموا أن من اغتسل بمائها في الربيع يأمن من أمراض تلك السنة.

ارطانة

من قرى بلنسية. بها عين ارطانة ، وهي عين ينبع ماؤها من غار على فمه حوض ، يظهر في ذلك الحوض أنّه يكثر تارة ويقلّ أخرى كالمدّ والجزر ، وذلك يرى في كلّ يوم مرارا.

أرميّة

بلدة كبيرة من بلاد آذربيجان ، كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. بقربها بحيرة تعرف ببحيرة أرميّة ، وإنّها كريهة الرائحة لا نبات عليها ولا سمك فيها.

استدارتها خمسون فرسخا ، مادتها من أودية من جبال تلك البلاد ، وفي وسط البحيرة جزيرة ، وعلى تلك الجزيرة قلعة حصينة ، وحواليها قرى ورساتيق ومزارع. وفي أكثر الأوقات كان صاحب تلك القلعة عاصيا على ولاة آذربيجان ، إذ لا سبيل إليها قهرا. ويخرج من هذه البحيرة ملح بحلو شبه التوتيا ، وعلى ساحلها ممّا يلي الشرق عيون ينبع ماؤها ويستحجر إذا أصابها الهواء ، وفيها حيوان يقال له كلب الماء.

وينسب إليها الشيخ أبو أحمد الملقّب بتاج الدين الأرموي ، كان عديم المثل

٤٩٤

في زمانه بالأصول والفقه والحكمة والأدب ، ذا عبارة فصيحة وتقرير حسن وطبع لطيف وكلام ظريف. كان الاجتماع به سببا للذّات النفس من كثرة حكاياته الطيّبة والأمثال اللطيفة ، والتشبيهات الغريبة والمبالغات العجيبة. وكثيرا ما كان يقول : ان دفع التتر عن هذه البلاد لكثرة صدقات الخليفة المستنصر بالله فإن الصدقة تدفع البلاء ، ولولا ذلك لكان من دفع العساكر الخوارزمشاهية كيف يقف له عسكر العراق؟ وكان الأمر كما قال. فلمّا مضى المستنصر وقلّت الصدقة جاؤوا وظفروا.

وحكي أن الشيخ دخل يوما على ابن الوزير القمّي ، وكان ابن الوزير دقيق النظر كثير المآخذ ، قال للشيخ : أراك تقتني المماليك المرد وليس هذا طريقة المشايخ! قال الشيخ : لا. قعودي بين يديك من طريقة

المشايخ ، وإنّما هذا لذلك لولا ميلي إلى شيء من زينة الدنيا ما قعدت بين يديك.

أرمينية

ناحية بين آذربيجان والروم ، ذات مدن وقلاع وقرى كثيرة. أكثر أهلها نصارى. بها عجائب كثيرة ذكر أكثرها عند مدنها وقراها. والذي نزيده ههنا : بها جبل الحارث والحويرث ، لا يقدر أحد على ارتقائهما ؛ قالوا : إنّهما مقبرة ملوك أرمينية ومعهم أموالهم وذخائرهم. بليناس الحكيم طلسمها لئلّا يظفر بها أحد.

وحكى ابن الفقيه انّه كان على نهر الرسّ بأرمينية ألف مدينة ، فبعث الله تعالى إليهم نبيّا اسمه موسى ، وليس بموسى بن عمران ، فدعاهم إلى الله تعالى فكذّبوه وعصوا أمره ، فدعا عليهم فحوّل الله تعالى الحارث والحويرث من الطائف وأرسلهما عليهم ، فيقال إن أهل الرسّ تحت هذين الجبلين.

وبها البحيرة ؛ قال مسعر بن مهلهل : هذه البحيرة منتنة قليلة المنافع ، عليها قلاع حصينة وجانب من هذه البحيرة يأخذ إلى موضع يقال له وادي الكرد. فيه

٤٩٥

طرائف من الأحجار وعليه ممّا يلي سيماس جمّة يقال لها عين زراوند ، وهي جمّة شريفة جليلة القدر كثيرة المنفعة ، وذلك لأن الإنسان أو الدابة إذا ألقي فيها وبه كلوم وقروح يندمل ويلتحم ، وإن كان فيها عظام موهّنة مرضّضة كامنة وشظايا غامضة ، تتفجّر أفواهها وينقّيها عن كلّ وسخ ويلحمها. قال مسعر ابن مهلهل : عهدي بمن تولّيت حمله إليها وبه علل من جرب وسلع وقولنج وحزاز ، وضربان في الساقين واسترخاء في العصب ، وفيه سهم قد نبت اللحم على نصله كنّا نتوقّع موته ساعة فساعة ، فأقام بها ثلاثا فخرج النصل من خاصرته وعوفي من بقيّة العلل. قال : ومن شرف هذه الجمّة أن الإنسان إذا شرب منها أمن الخوانيق وأسهل السوداء من غير مشقّة.

وحكى صاحب تحفة الغرائب أن بأرض أرمينية بيت نار ، له سطح من الصاروج وميزاب من النحاس ، وتحت الميزاب حوض كبير من الرخام ، وفي البيت مجاورون كلّما قلّ المطر بتلك الناحية أوقدوا نارهم ، وغسلوا سطح البيت بماء نجس حتى ينصبّ من الميزاب إلى الحوض ، ثمّ يرشون البيت بذلك الماء النجس ، فعند ذلك تستر السماء بالغمام وتمطر حتى يغسل السطح والميزاب والحوض ، ويمتلىء من الماء الطاهر.

الأشبونة

مدينة بالأندلس بقرب باجة طيّبة. بها أنواع الثمرات وضروب صيد البر والبحر. وهي على ضفة البحر تضرب أمواج البحر حائط سورها ؛ قال أحمد ابن عمر العذري ، وهو صاحب الممالك والمسالك الأندلسيّة : على أحد أبواب الأشبونة المعروف بباب الجمّة جمّة قريبة من البحر ، يجري بماء حارّ وماء بارد ، فإذا فار البحر واراها. وقال أيضا : بقرب الأشبونة غار عظيم تدخل أمواج البحر فيه ، وعلى فم الغار جبل عال ، فإذا ترادفت أمواج البحر في الغار ترى الجبل يتحرّك بتحرّك الموج ، فمن نظر إليه رآه مرّة يرتفع ومرّة ينخفض.

٤٩٦

وبقربها جبل يوجد فيه حجر البرادي ، وهو حجر يضيء بالليل كالمصباح.

قال : أخبر من صعد هذا الجبل ليلا قال كان هذا الحجر فيه يضيء كالمصباح.

قال : وهذا الجبل معدن الجزع.

اشبيلية

مدينة بالأندلس بقرب لبلة كبيرة. تباينت بلاد الأندلس بكلّ فضيلة وامتازت عنها بكلّ مزية من طيب الهواء وعذوبة الماء ، وصحّة التربة والزرع والضرع وكثرة الثمرات من كلّ نوع وصيد البرّ والبحر ، بها زيتون أخضر يبقى مدّة لا يتغيّر به حال ولا يعروه اختلال ، وقد أخذ في الأرض طولا وعرضا فراسخ في فراسخ ، ويبقى زيته بعذوبته أعواما. وكذلك بها عسل كثير جدّا وتين يابس.

ينسب إليها الشيخ الفاضل محمّد بن العربي الملقّب بمحيي الدين. رأيته بدمشق سنة ثلاثين وستمائة. وكان شيخا فاضلا أديبا حكيما شاعرا عارفا زاهدا.

سمعت أنّه يكتب كراريس فيها أشياء عجيبة. سمعت أنّه كتب كتابا في خواصّ قوارع القرآن.

ومن حكاياته العجيبة ما حكى انّه كان بمدينة اشبيلية نخلة في بعض طرقانها ، فمالت إلى نحو الطريق حتى سدّت الطريق على المارّين ، فتحدّث الناس في قطعها حتى عزموا أن يقطعوها من الغد ؛ قال : فرأيت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، تلك الليلة في نومي عند النخلة ، وهي تشكو إليه وتقول : يا رسول الله ان القوم يريدون قطعي لأني منعتهم المرور! فمسح رسول الله ، عليه السلام ، بيده المباركة النخلة فاستقامت ، فلمّا أصبحت ذهبت إلى النخلة فوجدتها مستقيمة ، فذكرت أمرها للناس فتعجّبوا منها واتّخذوها مزارا متبرّكا به!

٤٩٧

أفرنجة

بلدة عظيمة ومملكة عريضة في بلاد النصارى ، بردها شديد جدّا وهواؤها غليظ لفرط البرد. وإنّها كثيرة الخيرات والفواكه والغلّات ، غزيرة الأنهار كثيرة الثمار ، ذات زرع وضرع وشجر وعسل ، صيودها كثيرة الأنواع.

بها معادن الفضّة ، وتضرب بها سيوف قطاعة جدّا ، وسيوف افرنجة أمضى من سيوف الهند.

وأهلها نصارى. ولهم ملك ذو بأس وعدد كثير وقوّة ملك ، له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام ، وهو يحميها من ذلك الجانب ، كلّما بعث المسلمون إليها من يفتحها يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها. وعساكره ذوو بأس شديد لا يرون الفرار أصلا عند اللقاء ، ويرون الموت دون ذلك ، لا ترى أقذر منهم وهم أهل غدر ودناءة أخلاق ، لا يتنظّفون ولا يغتسلون في العام إلّا مرّة أو مرّتين بالماء البارد ، ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطّع. ويحلقون لحاهم وإنّما تنبت بعد الحلق خشنة مستكرهة.

سئل واحد عن حلق اللحى فقال : الشعر فضلة أنتم تزيلونها عن سوءاتكم فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟

أفسوس

مدينة مشهورة بأرض الروم ، وهي مدينة دقيانوس الجبّار الذي هرب منه أصحاب الكهف ، وبين الكهف والمدينة مقدار فرسخين ، والكهف مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس ، فيه رجال موتى لم يتغيّروا وعددهم سبعة : ستّة منهم نيام على ظهورهم ، وواحد منهم في آخر الكهف مضطجع على يمينه ، وظهره إلى جدار الكهف ، وعند أرجلهم كلب ميت لم يسقط من أعضائه شيء ، وهو باسط ذراعيه بالوصيد كافتراش السباع ، وعلى الكهف مسجد يستجاب

٤٩٨

فيه الدعاء ، يقصده الناس ، وأهل المدينة يرون بالليل على الكهف نورا عظيما ، ويعرفون أن ذلك النور من سكان الكهف.

وكان من بداية أمرهم ما حكى وهب بن منبّه أن سليمان بن داود ، عليه السلام ، لمّا قبض ، ارتدّ ملك الروم إلى عبادة الأصنام ، ودقيانوس أحد قواده رجع أيضا معه ، ومن خالفه عذّبه بالقتل والحرق والصلب. فاتّفق أن بعض الفتيان من أولاد البطارقة خرجوا ذات يوم لينظروا إلى المعذّبين من الموحّدين ، فقدر الله هدايتهم وفتح أبصارهم ، فكانوا يرون الرجل الموحّد إذا قتل هبطت إليه الملائكة من السماء وعرجوا بروحه ، فآمنوا ومكثوا على ذلك حتى ظهر أمر إسلامهم. فأرسل الملك إلى آبائهم وعتب عليهم بسبب إسلام أولادهم ، فقالوا : أيّها الملك ، نحن تبرّأنا منهم شأنك وشأنهم! فأحضرهم الملك وقال لهم : لكم المهل ثلاثة أيّام ، وإني شاخص في هذه الأيّام من البلد ، فإن وجدتكم في اليوم الرابع عند رجوعي مخالفين لطاعتي عذبتكم عذاب من خالفني ؛ فلمّا كان اليوم الثالث اجتمع الفتية وقالوا : إنّما يومنا هذا هو وليلته ، وعزموا على الهرب في تلك الليلة ، فلمّا جنّهم الليل حمل كلّ واحد شيئا من مال أبيه وخرجوا من المدينة يمشون ، فمرّوا براعي غنم لبعض آبائهم فعرفهم فقال : ما شأنكم يا سادتي؟ فأظهروا أمرهم للراعي ودعوه إلى التوحيد ، فأجابهم فأخذوه معهم.

وتبع الراعي كلبه ، فساروا ليلتهم وأصبحوا على باب كهف دخلوا فيه وقالوا للراعي : خذ شيئا من الورق وانطلق إلى المدينة ، واشتر لنا طعاما فإن القوم لا علم لهم بخروجك معنا. فأخذ الدراهم ومضى نحو المدينة وتبعه كلبه ، وكان على باب المدينة صنم لا يدخل أحد المدينة إلّا بدأ بالسجود لذلك الصنم قبل دخوله ، فبقي الراعي متفكّرا في السجود للصنم ، فألهم الله الكلب ان عدا بين يديه حتى دخل المدينة ، وجعل الراعي يعدو خلفه ويقول : خذوه خذوه! حتى جاوز الصنم ولم يسجد. فلمّا انتهى إلى السوق واشترى بعض حوائجه

٤٩٩

سمع قائلا يقول : ان راعي فلان أيضا تبعهم. فلمّا سمع ذلك فزع وترك استتمام ما أراد شراءه ، وخرج من المدينة مبادرا حتى وافى أصحابه فأخبرهم بما كان من أمره. فأكلوا طعامهم وأخذوا مضاجعهم فضرب الله على آذانهم.

فلمّا رجع الملك أخبروه بهربهم ، فخرج يقفو آثارهم حتى انتهى إلى باب الكهف ووقف على أمرهم فقال : يكفيهم من العذاب أن ماتوا جوعا! فأهلك الله دقيانوس وأنزل على باب الكهف صخرة وبعث إلى أهل ذلك العصر ثلاثة عشر نبيّا ، فدعوا الناس إلى التوحيد ، فأجابهم إلى ذلك خلق كثير ، وكان الملك الذي أحيا الله الفتية في أيّامه موحّدا. فلمّا كانت السنة التي أراد الله فيها احياء الفتية ، انطلق رجل من أهل المدينة وأقام بذلك المكان يرعى غنمه ، فأراد أن يتّخذ لغنمه حظيرة فأمر أعوانه بتنحية الصخرة التي كانت على باب الكهف ، فعند ذلك قام الفتية كمن يبيت ليلة صافية الألوان نقية الثياب ، ورأوا كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد ، وكان ذلك بعد ثلاثمائة سنة بحساب الروم ، وزيادة تسع بحساب العرب ، لأن حساب الروم شمسيّة وحساب العرب قمريّة ، يتفاوت في كلّ مائة سنة ثلاث سنين.

وكان انتباههم آخر النهار ودخولهم أوّل النهار ، فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم؟

قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم! لأنّهم رأوا الشمس غير غاربة فقالوا بعض يوم ، فلمّا نظروا إلى طول شعورهم وأظافيرهم قالوا : ربّكم اعلم بما لبثتم. فقالوا للراعي : إنّك أتيت البارحة بطعام قليل لم يكفنا ، فخذ شيئا من هذا الورق وانطلق إلى المدينة واشتر لنا طعاما! فانطلق خائفا حتى أتى باب المدينة وقد أزيل عنه الصنم ، ثمّ دخل المدينة وجعل يتصفّح وجوه الناس فما كان يعرف أحدا.

فانتهى إلى سوق الطعام ودفع إليه الورق فردّه عليه وقال : هذا عتيق لا يروح اليوم! فناوله ما كان معه وقال : خذ حاجتك منها. فلمّا رأى صاحب الطعام ذلك همس إلى جاره وقال : احسب ان هذا قد وجد كنزا! فلمّا رآهما يتهامسان ظنّ أنّهما عرفاه فترك الدراهم وولى هاربا ، فصاح به الناس أن خذوه فإنّه

٥٠٠