آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

غائبا ، فرأتها أزواج كسرى وولائده ، علمن أن كسرى يختارها عليهن ، فأخذهن من الغيرة ما يأخذ الضرّات ، فاخترن لها أرضا سبخة وهواء رديّا وقلن :ان الملك أمرنا أن نبني لك هاهنا قصرا. وهي موضع قصر شيرين على طرف نهر عذب الماء.

وحكي أن شيرين كانت تحبّ اللبن الحليب ، وكان القصر بعيدا عن مرعى المواشي ، فإلى أن حمل إلى القصر زالت سخونته ، فطلبوا الحيلة في ذلك فاتّفق رأيهم على أن يتّخذوا جدولا حجريّا من المرعى إلى القصر ، فطلبوا صانعا يعمل ذلك ، فدلّوا على صانع اسمه فرهاذ ، فطلبت اتّخاذ جدول مسافته فرسخان من المرعى إلى القصر على أن يأتي اللبن منها إلى القصر بسخونته ، وكان القصر على نشز من الأرض والمرعى في منحدر ، فاتّخذ حائطا طوله أكثر من فرسخين وارتفاعه عند المرعى عشرون ذراعا ، وعند القصر مساويا لأرضه ، وركب على الحائط جدولا حجريّا ، وغطّى رأسه بالصفائح الحجريّة ، واتّخذ عند المرعى حوضا كبيرا ، وفي القصر أيضا مثله ، وهذا كلّه باق إلى زماننا ، رأيته عند اجتيازي به لا شكّ في شيء منه.

وذكر محمّد الهمذاني انّه كان سبب بناء قصر شيرين ، وهو أحد عجائب الدنيا ، أن كسرى أبرويز ، وكان مقامه بقرميسين ، أمر أن يبنى له باغ فرسخين في فرسخين ، وأن يجعل فيه من الطيور والوحوش حتى تتناسل فيه ، ووكّل بذلك ألف رجل أجرى عليهم الرزق حتى عملوا فيه سبع سنين. فلمّا تمّ نظر إليه الملك وأعجبه ، وأمر للصنّاع بمال. فقال في بعض الأيّام لشيرين : سليني حاجة ، فقالت : أريد أن تبني لي قصرا في هذا البستان لم يكن في ملكك لأحد مثله ، وتجعل فيه نهرا من حجارة يجري فيه الخمر! فأجابها إلى ذلك ونسي ، ولم تجسر شيرين على أن تذكره به ، فقالت للبلهبد المار ذكره : حاجتي في غناء ، ولك ضيعتي التي بأصفهان! فأجابها إلى ذلك وعمل شعرا وصوتا في ذلك. فلمّا سمع كسرى قال له : لقد ذكرتني حاجة شيرين. فأمر ببناء القصر وعمل النهر ،

٤٤١

فبني على أحسن ما يكون وأتقنه ، ووفت شيرين للبلهبد بالضيعة فنقل إليها عياله ، وله نسل بأصفهان ينتمون إلى بلهبد.

ودخل بعض الشعراء قصر شيرين فرأى تلك العمارات الرفيعة ، ورأى ايوان شيرين وصورتها وصورة جواريها على الحائط فقال :

يا طالبي غرر الأماكن

حيّوا الدّيار ببرزماهن

وسلوا السّحاب تجودها

وتسحّ في تلك الأماكن

واها لشيرين التي

قرعت فؤادك بالمحاسن!

واها لمعصمها المليح وللسّوالف والمغابن!

في كفّها الورق الممسّك والمطيّب والمداهن

وزجاجة تدع الحكيم إذا انتشى في زيّ ماجن

وشغفت حين رأيتها

واهتاج مني كلّ ساكن

فسقى رباع الكسرويّة

بالجبال وبالمدائن

دان يسفّ ربابه وتناله أيدي الحواضن

قمّ

مدينة بأرض الجبال بين ساوة وأصفهان ، وهي كبيرة طيّبة خصبة مصّرت في زمن الحجّاج بن يوسف سنة ثلاث وثمانين. أهلها شيعة غالية جدّا والآن أكثرها خراب. ومياههم من الآبار أكثرها ملح ، فإذا أرادوا حفرها وسعوا في حفرها وبنوا من قعرها بالأحجار إلى شفيرها ، فإذا جاء الشتاء أجروا ماء واديهم ومياه الأمطار إليها ، فإذا استقوه بالصيف كان عذبا طيّبا.

وبها بساتين كثيرة على السواقي ، وفيها الفستق والبندق. بها ملّاحة طلسمها بليناس في صخرة ليدوم جريان مائها ، ولا ينقطع ما لم يخطر عليه ، وماء هذه العين ينعقد ملحا ويأخذه كلّ مجتاز.

٤٤٢

أخبرني بعض الفقهاء أن بقرب قم معدن ملح ، من أخذ منه الملح ولم يترك هناك ثمنه يعرج حماره الذي حمل عليه ذلك الملح. وبها معدن الذهب والفضّة أخفوه عن الناس حتى لا يشتغلوا به ويتركوا الزراعة والفلاحة. وبها طلسم لدفع الحيّات والعقارب ، وكان أهل قم يلقون منها ضررا عظيما فانحازت إلى جبل هناك ، فإلى الآن لا يقدر أحد أن يجتاز بذلك الجبل من كثرة الحيّات والعقارب.

من عجائبها أن العود لا يكون له في هواء قم أثر كثير ، ولو كان من أذكى العود. وبها واد كثير الفهود. وحكي أنّه أتاهم في بعض الأوقات وال سنّي وقال لهم : بلغني أنّكم لشدّة بغضكم صحابة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، لا تسمّون أولادكم بأسمائهم ، فإن لم تأتوني منكم بمن اسمه عمر أو كنيته أبو بكر لأفعلن بكم! فداروا في جميع المدينة وفتّشوا ، ثمّ أتوا بواحد أحول أقرع كريه اللقاء معوج الأعضاء ، وكان أبوه غريبا ساكن قم ، فكنّاه أبا بكر. فلمّا رآه الوالي غضب وشتمهم وقال : إنّكم إنّما كنيتموه بأبي بكر لأنّه أسمج خلق الله منظرا! وهذا دليل على بغضكم لصحابة رسول الله. فقال بعض الظرفاء منهم : أيّها الأمير ، اصنع ما شئت فإن تربة قم وهواءها لا يأتي بصورة أبي بكر أحسن من هذا! فضحك الوالي وعفا عنهم. ولقاضيها قال الصاحب ابن عبّاد :

أيّها القاضي بقم

قد عزلناك فقم

وكان القاضي يقول : أنا معزول السجع!

كران

بلدة بأرض الترك من ناحية تبت ؛ قال الحازمي : بها معدن الفضّة.

وبها عين ماء لا يغمس فيها شيء من الجواهر المنطبعة إلّا ذاب.

٤٤٣

كرخ

قرية فوق بغداد على ميل منها. أهلها شيعة غالية ويهود. وبها دكاكين الكاغد والثياب الابريسمية.

ينسب إليها أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي. وكان من المشايخ الكبار مستجاب الدعوة ، من موالي عليّ بن موسى الرضا. كان أستاذ السري السقطي ، فقال له يوما : إذا كان لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي! وأهل بغداد يقولون : قبر معروف ترياق مجرّب.

حكي أن زبيدة بنت جعفر عبرت على معروف مع مواليها وخدمها ، فدعا عليها بعض الحاضرين ، فقال له معروف : يا رجل كن عون رسول الرحمن ، ولا تكن عون رسول الشيطان ، إن رسول الرحمن يريد نجاة الخلق كلّهم.

قال الله تعالى : وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين. ورسول الشيطان يريد هلاك الخلق كلّهم. قال الله تعالى مخبرا عنه : بعزّتك لأغوينهم أجميعن! إن الذي أعطاهم الدنيا على هواهم قادر أن يعطيهم الآخرة على مناهم.

وحكى إبراهيم الأطروش انّه قال لمعروف : أبا محفوظ ، بلغني أنّك تمشي على الماء! فقال : ما مشيت على الماء ، ولكن إذا هممت بالعبور يجمع لي طرفها.

وحكى خليل الصيّاد قال : غاب ابني إلى الانبار فوجدت أمّه وجدا شديدا ، فذكرت ذلك لمعروف فقال : ما تريد؟ قلت : أن تدعو الله ليردّه علينا. فقال : اللهمّ إن السماء سماؤك والأرض أرضك وما بينهما لك فأت به! قال خليل : أتيت باب الشام فإذا ابني قائم منبهر يقول : الساعة كنت بالانبار.

وحكى محمّد بن صبيح انّه مرّ بمعروف رجل سقّاء ينادي : رحم الله من شرب! فشرب منه وكان صائما وقال : لعلّ الله أن يستجيب منه.

وحكى عبد الله بن سعيد الأنصاري أنّه رأى معروفا في النوم واقفا تحت العرش فيقول الله لملائكته : من هذا؟ فقالت الملائكة : أنت أعلم يا ربّنا ،

٤٤٤

هذا معروف الكرخي قد سكر من حبّك لا يفيق إلّا بلقائك!

وحكى أحمد بن أبي الفتح قال : رأيت بشرا الحافي في المنام قاعدا في بستان وبين يديه مائدة يأكل منها ، فقلت : أبا نصر ما فعل الله بك؟ فقال : رحمي وغفر لي وأباحني الجنّة بأسرها وقال : كل من ثمرها ، واشرب من أنهارها ، وتمتّع بجميع ما فيها لما كنت تحرم نفسك شهوات الدنيا! قلت : أين أحمد بن حنبل؟ قال : قائم على باب الجنّة يشفع لأهل السنّة ممّن يقول القرآن كلام الله غير مخلوق! قلت : وما فعل معروف الكرخي؟ فحرّك رأسه وقال : هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب ، إن معروفا ما كان يعبد الله شوقا إلى جنّته ولا خوفا من ناره ، وإنّما عبده شوقا إليه ، فرفعه الله إلى الرفيع الأعلى ، ووقعت الحجب بيننا وبينه ، ذاك الترياق المقدس المجرّب ، فمن كانت له إلى الله حاجة فليأت قبره وليدع ، فإنّه يستجاب له.

وحكي انّه قال : إذا متّ تصدّقوا بقميصي فإني أحبّ أن أخرج من الدنيا عريانا كما دخلتها. توفي سنة إحدى ومائتين.

كركان

قرية كانت بقرب قرميسين ؛ قال ابن الفقيه : كانت قرية كثيرة العقارب ، وكان يقوم بها سوق في كلّ سنة يتأذّى بها خلق كثير من لدغ العقارب ، فأمر بعض الأكاسرة بليناس الحكيم أن يدفع عنها العقارب بطلسم ، ففعل ذلك فلم يوجد بعد ذلك بها شيء من العقارب أصلا. ومن أخذ من ترابها وطيّن به حيطان داره في أيّ بلد كان لم ير في داره عقرب ، وإذا لدغت عقرب أحدا يؤخذ من تراب هذه القرية ويطرح في الماء ويشربه الملدوغ فيبرأ في الحال ، ومن أخذ من هذا التراب شيئا وأخذ العقرب بيده لا تضرّه.

٤٤٥

كسكر

ناحية بين واسط والبصرة على طرف البطيحة. وهي نيف وثلاثون فرسخا في مثلها. وهذه البطيحة كانت قرى ومزارع في زمن الأكاسرة. وكان لها بثق ، ففي السنة التي قتل فيها كسرى اضطربت الأمور وتقاعدوا عن عمارة البثوق ، وظهر الماء على تلك المواضع فصارت بطيحة ، والآن منابت القصب ومصيد السمك وطير الماء ، يتولّد فيها أشكال من الطيور غريبة وصور غريبة لم يعرفها أحد ، ولا يراها الناس كما قال تعالى : ويخلق ما لا تعلمون. فأسفلها ميسان وأعلاها كسكر ، وربّما فصل المركب في هذه البطيحة شهرا أو أكثر ، وربّما يأخذه اللصوص.

ويجلب من كسكر الرزّ الجيّد والسمك الشبوط والجواميس والفراريج ، والجدي والبطوط والبقر والصحناة والربيثي ، فإن هذه الأشياء بكسكر فاقت أنواعها في غيرها.

كشم

قرية من رستاق بشت من أعمال نيسابور ، كانت بها سروة من غرس كشتاسب الملك ، لم ير مثلها في حسنها وطولها وعظمها ، وكانت من مفاخر خراسان. جرى ذكرها عند المتوكّل فأحبّ أن يراها ولم يقدّر له المسير إلى خراسان ، فكتب إلى طاهر بن عبد الله وأمره بقطعها ، وحمل قطاع جذعها وأغصانها إليه على الجمال لتنصب بين يديه حتى يبصرها ، فأنكر عليه ذلك وخوّف بالطيرة فلم تنفع السروة شفاعة الشافعين ، وحكي ان أهل الناحية اجتمعوا وتضرّعوا وقدّموا مالا على إعفائها ، فلم ينفع فقطعت وعظمت المصيبة لمن حولها ، وارتفع الصياح والبكاء عليها فلفّوها في اللباد وبعثوها إلى بغداد على الجمال ، فقال عليّ بن جهم :

٤٤٦

قالوا : سرى لسبيله المتوكّل

فالسّرو يجري والمنيّة تنزل

ما سربلت إلّا لأنّ إمامنا

بالسّيف من أولاده متسربل

فقتل المتوكّل على يد مماليكه قبل وصول السرو ، والفأل على ما جرى.

كندر

قرية من قرى خراسان كثيرة الخيرات وافرة الغلّات ، ينسب إليها الوزير أبو نصر الكندري. كان وزيرا ذا رأي وعقل استوزره السلطان طغرلبك السلجوقي. ولمّا ملك الملوك السلجوقية خراسان وأخذوها من ملوك بني سبكتكين ، لم يجسر أحد أن يدخل معهم خوفا من سلاطين بني سبكتكين. فابتدأ أبو نصر الكندري فاستوزره طغرلبك ، وكان قد هجاه أبو الحسن الباخرزي بأبيات أوّلها :

أقبل من كندر مسخرة

للشّؤم في وجهه علامات

فطلب أبا الحسن وأحسن إليه وولّاه وقال : إني تفاءلت بشعرك ، كان أوله أقبل. إلّا أنّه كان شيعيّا غاليا متعصّبا ، وكان السلطان معتزليّا فأمر بلعن جميع المذاهب يوم الجمعة على المنبر ، فشقّ ذلك على المسلمين ، وفارق إمام الحرمين نيسابور وذهب إلى مكّة ، وكذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري ، ودخل على الناس من ذلك أمر عظيم وأثار همّة صلحاء المسلمين. كانت أيّام طغرلبك أيّاما قلائل ، مات وقام مقامه ابن أخيه ألب أرسلان بن داود.

واستوزره نظام الملك الحسن بن عليّ بن إسحق ، وقبض على الكندري وقتله سنة ستّ وخمسين وأربعمائة ، وانقطع لعن المسلمين على رؤوس المنابر ، وعاد أرباب الدين إلى أماكنهم وشكروا الله تعالى.

٤٤٧

كنكور

بليدة بين همذان وقرميسين في فضاء واسع ، طيّبة الهواء عذبة الماء صحيحة التربة كثيرة الخيرات والثمرات. ولذلك اتّخذها كسرى ابرويز مسكنا ، وأمر أن يبنى له قصر لا يكون لأحد من الملوك مثله. فاتّخذ للقصر أساسا مائة ذراع في مائة ذراع في ارتفاع عشرين ذراعا ، يراه الناظر كأنّه حجر واحد ، لا يظهر فيه أثر الدرز ، وبنى فيه ايوانات وجواسق وخزائن على اسطوانات حجريّة تحيّر الناظر في صنعته وحسن نقوشه.

قال صاحب عجائب الأخبار : إذا أردت أن ترى عجبا من العجائب فانظر إلى أسطوانات هذا القصر إلى رؤوسها وأسافلها ، وتعجّب من تسخير الحجر الصلد لهؤلاء الصنّاع.

وحكي انّه لمّا حضر عند كسرى فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم أحضرهم في هذا القصر ليبصروا عجائبه وقوّة ملك بانيه ، وصنعة صنّاعه وعجزهم عن بناء مثله.

وذكر أن المسلمين لمّا وصلوا إليها في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ، سرقت دوابّهم في ذلك المكان فسمّوه قصر اللصوص. وحكي انّه لمّا قتل كسرى ابرويز بقي من هذا القصر بقيّة ؛ قال الحاكي : نظرت إلى بعض أساطينها تحت أكثرها وهندم ، وبقي أقلّها على حاله ، فسألت عنها فذكروا انّه لمّا قتل ابرويز انصرف الصنّاع عنها وتركوها ثمّ طلبوهم لإتمامها ، فما كانت تعمل آلتهم فيها ، ولا اهتدت فكرتهم إليها ، فعلموا أن تيسير ذلك كان بهمّة كسرى ابرويز.

٤٤٨

كوثى

قرية بسواد العراق قديمة. ينسب إليها إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وبها كان مولده وطرح في النار بها ، ولذلك قال أمير المؤمنين عليّ ، رضي الله عنه :من كان سائلا عن نسبنا فإنّا نبط من كوثى.

ومن الاتّفاقات العجيبة اتّفاق عامل كوثى. حكى بعض أهلها : انّه جاءنا عامل واشتدّ في المطالبات ، وكان للعرب عندنا مزارعة ، وكان العمّال الذين قبله يسامحونهم. فهذا العامل طالبهم وأهانهم بالضرب ، فانصرفوا إلى بني أعمامهم شاكين ، وتوافقوا على الكبس على العامل ليلا ، فورد الناحية عامل آخر صارفا للأوّل وطالبا بالبقايا ، فقبض عليه وقيّده وضربه بالخشب وحمله إلى قرية أخرى ، ووكّل به عشرة من الغلمان. فلمّا أصبح المصروف دخل عليه غلامه وقال له :أخرج رجلك حتى أكسر القيد! قال : أين الموكلون؟ قال : هربوا والعرب الذين أخذت منهم الخراج كبسوا البارحة دار العمالة ، وقتلوا العامل على أنّه أنت ، ولم يكن عندهم خبر صرفك. فقام الرجل وورد بغداد وذكر أن العامل الصارف أساء السيرة وأثار فتنة من العرب ، فأقرّ على حاله في الناحية وضمّ إليه جيشا ، فعاد إلى كوثى وأرعب العرب وأرهب ، وصالح ما بينه وبينهم واستقام أمره.

لنبان

قرية من قرى أصفهان ، ينسب إليها الأديب الفاضل البارع عبد العزيز الملقّب بالرفيع ، له أشعار في غاية الحسن وديوان ورسائل. ورد جمال الدين الخجندي قزوين ، وعقد مجلس الوعظ بالجامع ، وذكر هذه الأبيات على المنبر ، وذكر أنّها للرفيع :

بأبي أين أنت ألقاك؟

طال شوقي إلى محيّاك!

٤٤٩

ورد الورد يدّعي سفها

أنّ ريّاه مثل ريّاك!

ووقاح الأقاح يوهمنا

أنّه افترّ عن ثناياك!

ضحك الورد هاتها عجلا

قهوة مثل عبرة الباك

لست أدري لفرط خمرتها

أمحيّاك أم حميّاك؟

هام قلبي بهذه وبذاك

آه من هذه ومن ذاك!

فهذه الأبيات حفظها أهل قزوين ، ويقولون هديّة جمال الدين الخجندي من أصفهان.

وحكي أن صدر الدين الخجندي عزل خازن دار كتبه ، فأراد الرفيع اللّنباني أن يكون مكانه ، فكتب إلى صدر الدين : سمع العبد أن خازن دار الكتب اختزل حتى اعتزل ، وخان حتى هان ، ولم يزالوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، والعبد خير منه زكاة وأقرب رحما! وإن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين.

وحكي أن الرفيع كان في خدمة الخجندية ، فلمّا وقع الخلاف بين السلطان طغرل وأولاد أتابك محمّد كان صدر الدين الخجندي مع السلطان ، فظفر أمير من أمراء أتابك محمّد بجمع من أصحاب صدر الدين الخجندي ، وكانوا يمشون من أصفهان إلى بغداد ، وعليهم الرفيع ، فظفر بهم قيماز الأتابكي فنهبهم وقتل الرفيع ، فلمّا عرف أنّه كان رجلا فاضلا من أهل العلم ندم ، والرفيع كان قد نظم هذين البيتين :

جون كشته بينم دولت كرده فران

واز جان تهي اين قالب برورده بنان

بر بالينم نشين ومي كوي بران

اي من تو بكشته ونشيمان شده بان

فكان الفأل على ما جرى.

٤٥٠

ليخواست

قرية من قرى نهاوند. كان بها صورة فرس من حشيش يراه الناس أخضر في الشتاء والصيف ؛ قالوا : انّه كان طلسم الكلأ ، وكانت أكثر بلاد الله كلأ وحشيشا.

ماذران

موضع بأرض قومس ؛ قال مسعر بن مهلهل : بين سمنان والدامغان في بعض الجبال فلجة يخرج منها ريح شديدة في أوقات من السنة ، فلا تصيب حيوانا إلّا أتلفته ، ولو كان مشتملا بالوبر. وهذه الفلجة فرسخ واحد وفتحها نحو أربعمائة ذراع ، ومقدار ما ينال أذاها فرسخان ، لا تأتي على شيء إلّا جعلته كالرميم. يقال لهذه الفلجة وما يقرب منها ماذران ؛ قال مسعر بن مهلهل : كنت مجتازا بها في قفل فيه نحو مائتي إنسان ودواب ، فهبّت علينا الريح فما سلم منهم غيري ورجل آخر. كانت تحتنا دابّتان جيّدتان ، فوافتا بنا ازج صهريج كان في الطريق ، فاستكنّا بالازج وسدرنا ثلاثة أيّام بلياليهن ، ثمّ رجعنا إلى حالنا والدابتان نفقتا ، ومنّ الله علينا بالنجاة.

ماذروستان

موضع على مرحلتين من حلوان ، به ايوان عظيم وبين يديه دكّة عظيمة وأثر بستان يقولون إنّه بستان بهرام بن جور ، زعموا أن الثلج يقع على نصفه الذي من ناحية الجبال ، وأمّا النصف الذي يلي جانب العراق فلا يقع به الثلج أبدا ، والله الموفق.

٤٥١

ماهاباذ

قرية كبيرة قرب قاشان. أهلها شيعة اماميّة ، ينسب إليها الأستاذ الفاضل البارع الحسن بن عليّ بن أحمد ، الملقّب بافضل الماهاباذي. كان بالغا في علم الأدب عديم النظير في زمانه. وكان يقصده الناس من الأطراف للاشتغال.

وكان عنده حلقة من الأدباء ، وكان مخصوصا بلطافة الطبع مع وفور الذكاء وحسن الشعر ، ويوصي تلامذته بتحصيل العلم وتحقير المال. ومن شعره :

يا ساعيا وطلاب المال همّته ،

إني أراك ضعيف العقل والدّين!

عليك بالعلم لا تطلب به بدلا

واعلم بأنّك فيه غير مغبون

العلم يجدي ويبقى للفتى أبدا

والمال يفنى وإن أجدى إلى حين!

هذاك عزّ وذا ذلّ لصاحبه!

ماذا من البعد بين العزّ والهون؟

ماوشان

كورة من كور همذان في واد بسفح جبل أروند مسيرة أيّام ، كثيرة الأشجار والمياه والثمار ، ذكرها عين القضاة أبو المعالي عبد الله بن محمّد ، رحمه الله ، في رسالته فقال : وكأني بالركب العراقي يوافون همذان ، ويحطون رحالهم في محاني ماوشان ، وقد اخضرّت منها التلاع والوهاد ، وألبسها الربيع حبرة يحسدها عليها البلاد ، وهي تفوح كالمسك أزهارها ، ويجري بالماء الزلال أنهارها ، فنزلوا منها في رياض مؤنقة ، واستظلّوا بظلال أشجار مورقة ، فجعلوا يكرّرون إنشاد هذا البيت ، وهم يتنعمّون بنوح الحمام وتغريد الهزار :

حباك يا همذان الغيث من بلد

سقاك يا ماوشان القطر من وادي

ومن عادة أهل همذان الخروج إلى ماوشان في الصيف ، وقت إدراك المشمش ،

٤٥٢

وأصحاب الأشجار لا يمنعون عنها أحدا ، ويمكثون هناك أيّام المشمش للتفرّج والتنزّه ويأكلون من ثمارها ، ويكسرون من أشجارها ولا يمنعهم مانع ، فإذا انتهت أيّام المشمش رجعوا ؛ وذكر أن صاحب ماوشان منع الناس عنها في بعض السنين ، فلمّا كان من القابل لم تثمر أشجارها شيئا ، فعادوا لإطلاق الناس فيها.

المدائن

كانت سبع مدن من بناء الأكاسرة على طرف دجلة ، وقيل : إنّها من بناء كسرى الخير أنوشروان. سكنها هو وملوك بني ساسان بعده إلى زمن عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه. وإنّما اختار هذا الموضع للطافة هوائه وطيب تربته وعذوبة مائه ؛ قال حمزة : هذا الموضع سمته العرب مدائن لأنّها كانت سبع مدن ، بين كلّ واحدة والأخرى مسافة ، وآثارها إلى الآن باقية وهي : اسفابور ، به اردشير ، هنبو سابور ، دوزبندان ، به از انديو خسرو ، نونياباذ ، كردافاذ.

فلمّا ملك العرب ديار الفرس واختطّت الكوفة والبصرة انتقل الناس إليهما ، ثمّ اختطّ الحجّاج واسطا وكانت دار الامارة فانتقل الناس إليها ، فلمّا اختطّ المنصور بغداد انتقل أكثر الناس إليها. فأمّا في وقتنا هذا فالمسمّى بالمدائن بليدة شبيهة بقرية في الجانب الغربي من دجلة. أهلها فلّاحون شيعة إماميّة. ومن عادتهم أن نساءهم لا يخرجن نهارا أصلا.

وبها مشهد رفيع البناء لأحد العلويّين ، وفي الجانب الشرقي منها مشهد سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، وله موسم في منتصف شعبان ، ومشهد حذيفة ابن اليمان مشير رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.

وكان للأكاسرة هناك قصر اسمه أبيض ، كان باقيا إلى زمن المكتفي في حدود سنة تسعين ومائتين ، فأمر بنقضه وبنائه التاج الذي بدار الخلافة ببغداد ، وتركوا منه الإيوان المعروف بإيوان كسرى. ذكر أنّه من بناء انوشروان كسرى

٤٥٣

الخير ، وانه تعاون على بنائه الملوك وهو من أعظم الأبنية وأعلاها ، والآن قد بقي منه طاق الإيوان وجناحات وازجة قد بنيت بآجرّ طوال عراض.

وحكي أن أنوشروان لمّا أراد بناء هذا القصر أمر بشري ما حوله ، وأرغب الناس في الثمن الوافر ، ومن جملتهم عجوز لها بيت صغير قالت : لست أبيع جوار الملك بالدنيا كلّها! فاستحسن أنوشروان منها هذا القول وأمر بترك ذلك البيت على حاله ، وإحكام عمارته ، وبناء الإيوان محيطا به. وإني رأيت الإيوان ، وفي جانب منه قبّة محكمة العمارة ، يعرفها أهل الناحية بقبّة العجوز. وكان على الإيوان نقوش وصور بالتزاويق ، وصورة مدينة أنطاكية وانوشروان يحاصرها ويحارب أهلها راكبا على فرس أصفر ، وعليه ثياب خضر وبين يديه صفوف الفرس والروم ، وكانت هذه النقوش على الإيوان باقية إلى زمان أبي عبادة البحتري ، فإنّه شاهدها وذكرها في قصيدته السينية :

حضرت رحلي الهموم فوجّه

ت إلى أبيض المدائن عنسي

أتسلّى عن الخطوب وآسى

لمحلّ من آل ساسان درس

حلل لم تكن كأطلال سعدى

في قفار من البسابس ملس

لو تراه علمت أنّ اللّيالي

جعلت فيه مأتما بعد عرس

فإذا ما رأيت صورة أنطا

كيّة ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنوشر

وان يزجي الصّفوف تحت الدّرفس

في اخضرار من اللّباس على اص

فر يختال في صبيغة ورس

وعراك الرّجال بين يديه

في خفوت منهم وإغماض جرس

من مشيح يهوي بعامل رمح

ومليح من السّنان بترس

تصف العين أنّهم جدّ أحياء

لهم بينهم إشارة خرس

وكأنّ الإيوان من عجب الصّن

عة جوب في جنب أرعن جلس

٤٥٤

لم يعبه أن بزّ من بسط الدّيبا

ج واستلّ من ستور الدّمقس

مشمخرّ تعلو له شرفات

رفعت من رؤوس رضوى وقدس

وحكي أن غلمان الدار شكوا إلى أنوشروان وقالوا : إن العجوز تدخن في بيتها ، ودخانها يفسد نقوش الإيوان! فقال : كلّما أفسدت أصلحوها ولا تمنعوها من التدخين!

وكان للعجوز بقرة تأتيها آخر النهار لتحلبها ، فإذا وصلت إلى الإيوان طووا فرشه لتمشي البقرة إلى باب قبّة العجوز ، فإذا فرغت من حلبها رجعت البقرة وسوّوا البساط. وكان هذا مذهبهم في العدل والرفق بالرعايا ، ولولا مخالفة النبوة التي شرفها الله تعالى وشرف بها عباده ، كانت معدلتهم تقتضي دوام دولتهم.

مرو الرّوذ

ناحية بين الغور وغزنة واسعة. ينسب إليها القاضي الإمام العالم الفاضل حسين المروروذي عديم النظير في العلم والورع :

عقرت حوامل أن يلدن نظيره

إنّ النّساء بمثله عقم

حكي أن رجلا جاء القاضي حسينا وقال له : إني حلفت بالطلاق ثلاثا ان ليس في هذا الزمان أعلم منك! فماذا تقول وقع طلاقي أم لا؟ فأطرق رأسه ساعة ثمّ رفع رأسه وبكى وقال : يا هذا لا يقع طلاقك ، وإنّما ذلك لعدم الرجال لا لوفور علمي!

٤٥٥

مرو

من أشهر مدن خراسان وأقدمها وأكثرها خيرا ، وأحسنها منظرا وأطيبها مخبرا. بناها ذو القرنين ، وقهندزها أقدم منها. قيل : إنّه من بناء طهمورث. وروى بريدة بن الحصيب أن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، قال : يا بريدة إنّه ستبعث من بعدي بعوث ، فإذا بعثت فكن في بعث المشرق ثم في بعث خراسان ثمّ في بعث أرض يقال لها مرو ، فإذا أتيتها فانزل مدينتها فإنّه بناها ذو القرنين وصلّى فيها عزيز ، وأنهارها تجري بالبركة ، على كلّ نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهله السوء إلى يوم القيامة. فقدمها بريدة غازيا وأقام بها إلى أن مات.

حكي أن قهندزها عمارة عظيمة ، ولمّا أراد طهمورث الملك بناء قهندز مرو بني بألف رجل ، وأقام لها سوقا فيه ما يحتاجون إليه ، فكان إذا أمسى الرجل أعطي درهما فيشتري به ما يحتاج إليه فتعود الدراهم إلى أصحاب الملك ، حتى إذا تمّ لم يخرج على البناء إلّا ألف درهم.

وحكى أبو إسحق الطالقاني قال : كنت على الزربق في مسجد العرب عند عبد الله بن المبارك ، فانهار ركن من القهندز ، فسقطت منها جماجم ، فتناثرت من جمجمة أسنانها ، فوزنت سنّان منها فكان في كلّ واحدة منهما منوان ، فجعل عبد الله بن المبارك ينقلهما بيده ويتعجّب منهما ويقول : إذا كانت هذه سنّهم فكيف تكون بقيّة أعضائهم؟ وقال :

أتيت بسنّين قد قدما

من الحصن لمّا أثاروا الدّفينا

على وزن منوين إحداهما

لقد كان يا صاح سنّا رزينا

ثلاثون أخرى على قدرها

تباركت يا أحسن الخالقينا

فماذا يقوم بأفواهها

وما كان يملأ تلك البطونا؟

إذا ما تذكّرت أجسامهم

تصاغرت النّفس حتى تهونا

٤٥٦

فكلّ على ذاك لاقى الرّدى

فبادوا جميعا وهم خامدونا

وأمّا المدينة فطيّبة كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. في أهلها من الرفق ولين الجانب وحسن المعاشرة. وكانت كرسي ملك بني سلجوق لهم بها آثار خيرات ؛ حكى صاحب عجائب الأخبار انّه كان بمرو بيت كبير ، ارتفاعه قدر قامة ، وكان محمولا على صور أربع من الخشب في جوانبه الأربعة ، وكانت الصور تمثال رجلين وامرأتين ، فزعم قوم أن ذلك البيت بيت ملكهم ، فنقضوه وانتفعوا بأخشابه ، فأصاب مرو وقراها جوائح وآفات وقحط متواتر ، فعلموا أن ذلك البيت كان طلسما لدفع الآفات. وليس لهذه المدينة عيب إلّا ما يعتري أهلها من العرق المديني ، فإنّهم في شدّة عظيمة منه ، قلّ ما ينجو منهم أحد في كلّ عام.

ينسب إليها عبد الله بن المبارك الإمام العالم العابد ؛ حكي انّه كان بمرو قاض اسمه نوح بن مريم ، وكان رئيسها أيضا ، وكانت له بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر ، وكان له غلام هندي ينطر بستانه ، فذهب القاضي يوما إلى البستان وطلب من غلامه شيئا من العنب ، فأتى بعنب حامض فقال له :هات عنبا حلوا! فأتى بحامض فقال له القاضي : ويحك! ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال : بلى ولكنّك أمرتني بحفظها وما أمرتني بأكلها ، ومن لم يأكل لم يعرف. فتعجّب القاضي من كلامه وقال : حفظ الله عليك أمانتك! وزوّج ابنته منه فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والورع. كان يحجّ في سنة ويغزو في أخرى.

وحكي انّه كان معاصرا لفضيل بن عياض ، وفضيل قد جاور مكّة وواظب على العبادة بمكّة والمدينة ، فقال عبد الله بن المبارك :

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنّك بالعبادة تلعب

من كان يخضب خدّه بدمائه

فنحورنا بدمائنا تتخضّب

٤٥٧

وغبار خيل الله لّه في أنف امرىء

ودخان نار جهنّم لا يذهب

هذا كتاب الله يحكم بيننا

ليس الشّهيد كغيره ، لا تكذبوا

حكي عنه قال : خرجت للغزوة ، فلمّا تراءت الفتيان خرج من صفّ الترك فارس يدعو إلى البراز ، فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة ، قلت له : تنحّ عني حتى أصلّي ثمّ افرغ لك! فتنحّى فصلّيت ركعتين وذهبت إليه فقال لي :تنحّ عني حتى أصلّي أنا أيضا! فتنحّيت عنه ، فجعل يصلّي للشمس ، فلمّا خرّ ساجدا هممت أن أغدر به فإذا قائل يقول : اوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا. فتركت الغدر. فلمّا فرغ من صلاته قال لي : لم تحرّكت؟ قلت :أردت أن أغدر بك! فقال : لم تركته؟ قلت : لأني أمرت بتركه. قال : الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالإيمان. وآمن والتحق بصفّ المسلمين.

وحكى الحسن بن الربيع انّه خرج ذات سنة مع جيوش المسلمين إلى الغزوة ، فلمّا تقاتل الصفّان خرج من صفّ الكفّار فارس يطلب القرن ، فذهب إليه فارس من المسلمين ، فما أمهل المسلم حتى قتله! فخرج إليه آخر فما أمهله حتى قتله ، ثمّ آخر فما أمهله ، فأحجم الناس عن مبادرته ودخل المسلمين منه حزن.

فإذا فارس خرج إليه من صفّ المسلمين وجال معه زمانا ثمّ رماه وحز رأسه ، فكبّر المسلمون وفرحوا ولم يكن يعرفه أحد ، فعاد إلى مكانه ودخل في غمار الناس! قال الحسن : فبذلت جهدي حتى دنوت منه وحلفته أن يرفع لثامه ، فإذا هو عبد الله بن المبارك ، فقلت له : يا إمام المسلمين كيف أخفيت نفسك مع هذا الفتح الذي يسر الله على يدك؟ فقال : الذي فعلت له لا يخفى عليه.

وحكي أن عبد الله بن المبارك عاد من مرو إلى الشام لعلم رآه معه بمرو صاحبه بالشام. ورئي سفيان الثوري في المنام بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال :رحمني! فقيل : ما حال عبد الله بن المبارك؟ قال : هو ممّن يدخل على ربّه كلّ يوم مرّتين. ولد سنة مائة وعشرين ، وتوفي سنة مائة وإحدى وثمانين.

٤٥٨

وينسب إليها أبو زيد المروزي ، أستاذ أبي بكر القفّال المروزي ، حجّ سنة فعادله أبو بكر البزّاز النيسابوري من نيسابور إلى مكّة. قال : ما علمت أن الملك كتب عليك خطيئة. قال أبو زيد : فلمّا فرغت من الحجّ وعزمت الرجوع إلى خراسان قلت في نفسي : متى تنقطع هذه المسافة وقد طعنت في السنّ ، لا أحتمل مشقّتها! فرأيت النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، قاعدا في صحن المسجد الحرام ، وعن يمينه شابّ ، قلت : يا رسول الله عزمت على الرجوع إلى خراسان والمسافة بعيدة. فالتفت النبيّ ، عليه السلام ، إلى الشاب الذي بجنبه وقال : يا روح الله تصحبه إلى وطنه ؛ قال أبو زيد : فأريت انّه جبريل فانصرفت إلى مرو ، ولم أحسّ بشيء من مشقّة السفر.

وينسب إليها أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله القفّال المروزي. كان وحيد زمانه فقها وعلما. رحل إليه الناس وصنّف كتبا كثيرة ، وانتشر علمه في الآفاق. حكي أن القفّال الشاشي صنع قفلا وفراشة ومفتاحا وزنها دانق ، فأعجب الناس ذلك وسار ذكره في البلاد ، فسمع به القفّال المروزي فصنع قفلا وزنه طسوج ، فاستحسنه الناس ولكن ما شاع ذكره ، فقال ذات يوم : كلّ شيء يحتاج إلى الحظّ! قفل الشاشي طنّت به البلاد ، وقفلي بقدر ربعه ما يذكره أحد! فقال له صديق له : إنّما الشاشي شاع بعلمه لا بقفله. فعند ذلك رغب في العلم ، وهو ابن أربعين سنة ، فجدّ في طلب العلم حتى وصل إلى ما وصل وعاش تسعين سنة : أربعين سنة قفّالا وخمسين سنة عالما ومتعلّما. ومات سنة سبع عشرة وأربعمائة. وينسب إليها أبو الحرث سريج المروزي. كان شيخا صالحا صدوقا.

جاء له ولد فذهب إلى بقّال بثلاثة دراهم : يريد بدرهم عسلا ، وبدرهم سمنا ، وبدرهم سويقا. فقال البقّال : ما عندي من ذلك شيء ، لكن احصله لك في الغد.

فقال للبقّال : فتّش لعلّك تجد قليلا! قال : فمشيت فوجدت البراني والجرار مملوءة ، فأعطيته منها شيئا كثيرا. فقال : أو ليس قلت ما عندي شيء منها؟قلت له : خذ واسكت. فقال : لا آخذ حتى تصدقني. فأخبره بالحال فقال :

٤٥٩

لا تحدث به ما دمت حيّا.

وحكى أبو الحرث قال : رأيت في المنام كأنّ الناس وقوف بين يدي الله تعالى صفوفا ، وأنا في الصفّ الأخير ونحن ننظر إلى ربّ العزّة فقال : أي شيء تريدون أصنع بكم؟ فسكت الناس. قال أبو الحرث : فقلت في نفسي : ويحهم! قد أعطاهم كلّ ذا من نفسه وهم سكوت! فجعلت أمشي حتى جزت الصفوف إلى الأوّل فقال لي : أيّ شيء تريد؟ فقلت : يا رحمن إن أردت أن تعذّبنا فلم خلقتنا؟ فقال : خلقتكم ولا أعذبكم أبدا. ثمّ غاب في السماء.

المشان

بليدة قريبة من البصرة كثيرة التمر والفواكه. وجرى المثل فيها بعلّة الورشان تأكل رطب المشان ، قيل : ان بعض الملوك مرض فأمره الأطباء بلحم الورشان ، فأمر أن لا يمنع من يطلب له الوراشين في البساتين من النخيل ، وكان طالب الوراشين يمدّ يده إلى الاعذاق ، فقالوا : بعلّة الورشان تأكل رطب المشان ، وهي وخمة جدّا ، وممّا يحكي العوامّ : قيل للملك الموت أين نجدك؟ قال : عند قنطرة حلوان. قيل : فإن لم نجدك؟ قال : لا أبرح عن مشرعة المشان.

وإذا سخط ببغداد على أحد من أهل الفساد ينفى إلى المشان ، ليتأدب بالغربة ووخامة الهواء وملوحة الماء وكثرة المرض.

وينسب إليها أبو محمّد القاسم بن عليّ الحريري صاحب المقامات الحريريّة التي هي من الأعاجيب. ومن عجيب ما حكي عنه انّه كان مشغوفا بنتف اللحية ، وهو مرض من غلبة السوداء ، فوكل به شخص يمنعه من ذلك. فلمّا عرض المقامات على الوزير ، وأعجب الوزير صنعته ، سأله عن حاجته فقال :ملّكني لحيتي!

٤٦٠