آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

أصلا. وهم مترصّدون للخلاف ، ويرضى الوالي منهم بأن يقال : انّهم في الطاعة وأدّوا الخراج. وانّهم لا يزرعون على البقر خوفا من أنّهم إذا خالفوا يؤخذ عواملهم ، وإنّما يزرعون بالمساحي ولا يقتنون الدواب والمواشي لما ذكرنا أن أعداءهم كثيرون فيأخذون مواشيهم.

وفواكههم كثيرة وحسنة جدّا ، سيّما رمّانهم فإن مثلها غير موجود في شيء من البلاد.

جاجرم

مدينة بأرض خراسان مشهورة بقرب اسفرايين. بها عين تنبع قناة بين جاجرم واسفرايين ؛ حدّثني بعض فقهاء خراسان : من غاص في ماء هذه العين يزول جربه.

الجبال

ناحية مشهورة يقال لها قهستان. شرقها مفازة خراسان وفارس ، وغربها آذربيجان ، وشمالها بحر الخزر ، وجنوبها العراق وخوزستان. وهي أطيب النواحي هواء وماء وتربة. وأهلها أصحّ الناس مزاجا وأحسنهم صورة ؛ قالوا : إنها تربة ديلميّة لا تقبل العدل والانصاف ومن وليها عصى! وكتب الإسكندر إلى أرسطاطاليس : أرى بأرض الجبال ملوكا حسانا لا أختار قتلهم ، وان تركتهم لا آمن عصيانهم ، فماذا ترى؟ فكتب إليه أرسطاطاليس : أن سلّم كلّ بقعة إلى أحد. ففعل ذلك وظهرت ملوك الطوائف ، فلمّا مات الإسكندر اختلفوا فغلبهم أردشير بن بابك جد ملوك ساسان. فاتّخذها الأكاسرة مصيفا لطيب هوائها وسلامتها من سموم العراق وسخونة مائه وكثرة ذبابه وهوامه وحشراته ، ولذلك قال أبو دلف العجلي :

وإني امرؤ كسرويّ الفعال

أصيف الجبال وأشتو العراقا

٣٤١

لا ينبت بها النخل والنارنج والليمون والأترج ، ولا يعيش بها الفيل والجاموس ولو حملا إليها ماتا دون سنة. وقصبتها أصفهان والري وهمذان وقزوين. وبها من الجبال والأودية ما لا يحصى.

بها جبل أروند وهو جبل نزه خضر نضر مطلّ على همذان ، حكى بعض أهل همذان قال : دخلت على جعفر بن محمّد الصادق فقال : من أين أنت؟قلت : من همذان. قال : أتعرف جبلها راوند؟ قلت : جعلني الله فداك! جبلها أروند؟ قال : نعم إن فيها عينا من عيون الجنّة! وأهل همذان يرون الماء الذي على قلّة الجبل ، فإنّها يخرج منها الماء في وقت من أوقات السنة معلوم ، ومنبعه من شقّ في صخر وهو ماء عذب شديد البرد ، فإذا جاوزت أيّامه المعدودة ذهب إلى وقته من العام المقبل لا يزيد ولا ينقص ، وهو شفاء للمرضى يأتونه من كلّ جهة ، وذكروا أنّه يكثر إذا كثر الناس عليه ويقلّ إذا قلّوا.

وبها جبل بيستون بين همذان وحلوان وهو عال ممتنع لا ترتقى ذروته ، ومن أعلاه إلى أسفله أملس كأنّه منحوت وعرضه ثلاثة أيّام وأكثر. ذكر في تواريخ العجم أن حظية كسرى ابرويز شيرين المشهورة بالحسن والجمال عشقها رجل حجّار اسمه فرهاذ ، وتاه في حبّها واشتهر ذلك بين الناس ، فذكر أمره لأبرويز فقال لأصحابه : ماذا ترون في أمر هذا الرجل ان تركته وما هو عليه فهتك وقبح ، وإن قتلته أو حبسته فعاقبت غير مجرم؟ فقال بعض الحاضرين :اشغله بحجر حتى يصرف عمره فيه! فاستصوب كسرى رأيه وأمر بإحضاره ، فدخل وهو رجل ضخم البدن طويل القامة مثل الجمل الهائج ، فأمر كسرى بإكرامه وقال : ان على طريقنا حجرا يمنعنا من المرور ، نريد أن تفتح فيه طريقا يصلح لسلوكنا فيه ، وقد عرفنا دربتك وذكاءك! وأشار إلى بيستون لفرط شموخه وصلابة حجره. فقال الصانع : ارفع هذا الحجر من طريق الملك ان وعدني بشيرين! فتأذى كسرى من هذا لأنّها كانت حظيته ، لكن قال في نفسه :من يقدر على قطع بيستون؟ فقال في جوابه : نفعل ذلك إذا فرغت! فخرج

٣٤٢

فرهاذ من عند كسرى وشرع في قطع الجبل ، ورسم فيه دربا يتسع لعشرين فارسا عرضا ، وسمكه أعلى من الرايات والأعلام ، فكان يقطع طول نهاره وينقل طول ليله ، ويرصف القطاع الكبار شبه الأعدال في سفح الجبل ترصيفا حسنا يحشو خللها بالنحاتة ، ويسوّيها مع الطريق. وكان ينحت من الجبل شبه منارة عظيمة ثمّ يقطعها قطعا كلّ قطعة كعدل ويرميها ، ولقد رأيت عند اجتيازي به شبه منارة فتح جوانبها وما قطعها بعد ، ورأيت قطعا من الحجر كالأعدال عليها آثار ضرب الفأس ، وفي كلّ قطعة حفرتان في جانبيها ، ليجعل اليد فيها عند رفعها. فذكر يوما عند كسرى شدّة اهتمامه بقطع الجبل ، فقال بعض الحاضرين : رأيته يرمي بكلّ ضربة شبه جبل ، ولو بقي على ما هو عليه لا يبعد أن يفتح الطريق. فانفرق كسرى فقال بعضهم : أنا أكفيك أمره! فبعث إليه من أخبره بموت شيرين. فلمّا سمع ذلك ضرب فأسه على الحجر وأثبته فيه ، ثمّ جعل يضرب رأسه على الفأس إلى أن مات. ومقدار فتحه من الجبل غلوة سهم ، وتلك الآثار باقية إلى الآن لا ريب فيها.

وقال أحمد بن محمّد الهمذاني : في سفح جبل بيستون ايوان منحوت من الحجر ، وفي وسط الايوان صورة فرس كسرى شبديز وابرويز راكب عليه ، وعلى حيطان الايوان صورة شيرين ومواليها ؛ قيل : صوّرها فطرس بن سنمّار ، وسنمّار هو الذي بنى الخورنق بظاهر الحيرة ، وسببه أن شبديز كان أذكى الدواب وأعظمها خلقا وأظهرها خلقا ، وأصبرها على طول الركض ، كان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ، ولا يخرّ ولا يزبد ما دام عليه لجامه.

كان ملك الهند أهداه إلى ابرويز ، فاتّفق أنّه اشتكى وزاد شكواه فقال كسرى : من أخبرني بموته قتلته! فلمّا مات خاف صاحب خيله أن يسأل عنه فيجب عليه الخبر بموته ، فجاء إلى البلهبد مغنيه وسأله أن يخبر كسرى ذلك في شيء من الغناء ، وكان البلهبد أحذق الناس بالغناء ففعل ذلك. فلمّا سمع كسرى به فطن بمعناه وقال : ويحك! مات شبديز؟ فقال : الملك يقوله! فقال كسرى : زه! ما

٣٤٣

أحسن ما تخلّصت وخلّصت غيرك! وجزع عليه فطرس بن سنمّار فصوّره على أحسن مثال ، بحيث لا يكاد يفرق بينهما إلّا بإدارات الروح ، وجاء كسرى فتأمّله باكيا وقال : يشدّ ما بقي هذا التمثال إلينا ، وذكرنا ما يصير حالنا إليه بموت جسدنا وطموس صورتنا ، ودروس أثرنا الذي لا بدّ منه ، وسيبقى هذا التمثال أثرا من جمال صورتنا للواقفين عليه حتى كأنّنا بعضهم ونشاهدهم.

وحكي من عجائب هذا التمثال انّه لم ير مثله ، ولم يقف أحد منذ صوّر من أهل الفكر اللطيف والنظر الدقيق عليه إلّا تعجّب منه ، حتى قال بعض الناس :انّها ليست من صنعة البشر! ولقد أعطي ذاك المصوّر ما لم يعط غيره ، فأيّ شيء أعجب من أن سخّرت له الحجار كما أراد ، حتى في الموضع الذي أراد أحمر جاء أحمر ، وفي الموضع الذي أراد أبيض جاء أبيض ، وكذلك سائر الألوان ، والظاهر أن الأصباغ التي فيه عالجها بصنف من المعالجات العجيبة لم يغيّرها طول الليالي ، وصوّر الفرس واقفا في وسط الإيوان ، وكسرى راكب عليه لابس درعا كأنّه زرد به من حديد ، يتبيّن مسامير الزرد في حلقها ، وصوّر شيرين بحيث يظهر الحسن والملاحة في وجهها كأنّها تسلب القلوب بغنجها. وسمعت أن بعض الناس عشق على صورة شيرين ، وصار من عشقها متيّما ، فكسروا أنفها لئلا يعشق عليها غيره. وذكر قصة شبديز خالد الفيّاض فقال :

والملك كسرى شهنشاه يقبضه

سهم بريش جناح الموت مقطوب

إذ كان لذّته شبديز يركبه

وغنج شيرين والدّيباج والطيّب

بالنّار آلى يمينا شدّ ما غلظت

ان من يد أفعى الشبديز مصلوب

حتى إذا أصبح الشّبديز منجدلا

وكان ما مثله في الناس مركوب

ناحت عليه من الأوتار أربعة

بالفارسيّة نوحا فيه تطريب

ورنّم الهربد الأوتار فالتهبت

من سحر راحته اليسرى شآبيب

٣٤٤

فقال : مات؟ فقالوا : أنت فهت به

فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب!

لولا البلهبد والأوتار تندبه

لم يستطع نعي شبديز المزاريب

أخنى الزّمان عليهم فاجر هدبهم

فما ترى منهم إلّا الملاعيب

وبها جبل دماوند ، وهو بقرب الري يناطح النجوم ارتفاعا ويحكيها امتناعا ، لا يعلوه الغيم في ارتفاعه ولا الطير في تحليقه ؛ قال مسعر بن مهلهل : انّه جبل مشرف عال شاهق لا يفارق أعلاه الثلج صيفا ولا شتاء ، ولا يقدر الإنسان أن يعلو ذروته ، يراه الناظر من عقبة همذان ، والناظر من الري يظن أنّه مشرف عليه وبينهما فرسخان ، فصعدت الجبل حتى وصلت إلى نصفه بمشقّة شديدة ، ومخاطرة بالنفس ، فرأيت عينا كبريتيّة ، وحولها كبريت مستحجر ، فإذا طلعت عليه الشمس التهبت نارا ، والدخان يصعد من العين الكبريتيّة. وحكى أهل تلك النواحي أنّهم إذا رأوا النمل يذخر الحبّ الكثير تكون السنة سنة جدب ، وإذا دامت عليهم الأمطار حتى تأذّوا منها صبّوا لبن الماعز على النار فانقطعت.

قال : جرّبت هذا مرارا فوجدته صحيحا. وقالوا : إذا رأينا قلّة هذا الجبل في وقت من الأوقات متحسّرا عن الثلج ، وقعت فتنة وأريقت دماء من الجانب الذي نراه متحسّرا. وبقرب الجبل معدن الكحل الرازي والمرتك والاسربّ والزاج. هذا كلّه قول مسعر.

وحكى محمّد بن إبراهيم الضرّاب قال : ان أبي سمع أن بدماوند معدن الكبريت الأحمر ، فاتّخذ مغارف حديد طول السواعد واحتال في إخراجه ، فذكر انّه لا يقرب من ناره حديدة إلّا ذابت من ساعتها. وذكر أهل دماوند أن رجلا من أهل خراسان اتّخذ مغارف حديديّة طويلة مطلية بها ، عالجها بها وأخرج من الكبريت لبعض الملوك.

وحكى عليّ بن رزين وكان حكيما له تصانيف قال : وجّهت جماعة إلى جبل دماوند وهو جبل عظيم شاهق في الهواء ، يرى من مائة فرسخ ، وعلى رأسه

٣٤٥

أبدا مثل السحاب المتراكم ، لا ينحسر شتاء ولا صيفا ، ويخرج من أسفله نهر ماؤه أصفر كبريتي ، فذكر الجماعة أنّهم وصلوا إلى قلّته في خمسة أيّام وخمس ليال ، فوجدوا قلّته نحوا من مائة جريب مساحة ، على أن الناظر إليها من أسفله يراها كالمخروط. قالوا : وجدنا رملا تغيب فيه الأقدام ، وانّهم لم يروا عليها دابّة ولا أثر حيوان ، وان الطير لا يصل إلى أعلاها والبرد فيها شديد والريح عاصف. وانّهم عدّوا سبعين كوّة يخرج منها الدخان الكبريتي ، ورأوا حول كلّ ثقب من تلك الكوى كبريتا أصفر كأنّه ذهب ، وحملوا معهم شيئا منه. وذكروا أنّهم رأوا على قلّته الجبال الشامخة مثل التلال ، ورأوا بحر الخزر كالنهر الصغير ، وبينهما عشرون فرسخا.

وبها جبل ساوة وهو على مرحلة منها. رأيته جبلا شامخا إذا أصعدت عليه قدر غلوة سهم رأيت ايوانا كبيرا يتسع لألف نفس ، وفي آخره قد برز من سقفه أربعة أحجار شبيهة بثدي النساء ، يتقاطر الماء من ثلاثة والرابع يابس.

أهل ساوة يقولون : انّه مصّه كافر فيبس! وتحتها حوض يجتمع فيه الماء الذي يتقاطر منها ، وعلى باب الإيوان ثقبة لها بابان ، وفيها انخفاض وارتفاع ؛ يقول أهل ساوة : ان ولد الرشدة يقدر أن يدخل من باب ويخرج من الآخر وولد الزنية لا يقدر!

وبها جبل كركس كوه جبل دورته فرسخان في مفازة بين الري والقم ، وهو جبل وعر المسلك في مفازة بعيدة عن العمارات ، في وسطه ساحة فيها ماء ، والجبال محيطة بها من جميع جوانبها ، فمن كان فيها كأنّه في مثل حظيرة.

وسمّي كركس كوه لأن النسر كان يأوي إليه ، وكركس هو النسر ، فلو اتّخذ معقلا كان حصينا إلّا أنّه في مفازة بعيدة عن البلاد قلّما يجتاز بها أحد.

وبها جبل نهاوند ، وهو بقرب نهاوند ، قال ابن الفقيه : على هذا الجبل طلسمان صورة سمك وثور ، قالوا : إنّهما لأجل الماء لئلّا يقلّ ماؤه ، وماؤه ينقسم قسمين : قسم يجري إلى نهاوند ، والآخر إلى الدينور.

٣٤٦

وبها جبل يله بشم. هذا الجبل بقرب قرية يقال لها يل ، وهي من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها. حدّثني من صعد هذا الجبل قال : عليه صور حيوانات مسخها الله تعالى حجرا ، منها راع متكىء على عصاه يرعى غنمه ، وامرأة تحلب بقرة ، وغير ذلك من صور الإنسان والبهائم. وهذا شيء يعرفه أهل قزوين.

وينسب إليها الوزير مهلب بن عبد الله. كان وزيرا فاضلا قعد به الزمان حتى صار في ضنك من العيش شديد ، فرافقه بعض أصدقائه في سفره فاشتهى لحما ولم يقدر على ثمنه ، فاشترى رفيقه له بدرهم لحما ، فأنشأ يقول :

ألا موت يباع فأشتريه

فهذا العيش ما لا خير فيه!

إذا أبصرت قبرا من بعيد

وددت لو انّني من ساكنيه!

ألا رحم الإله ذنوب عبد

تصدّق بالوفاة على أخيه!

ثمّ بعد ذلك علا أمره وارتفعت مكانته ، فقصده ذلك الرفيق والبوّاب منعه من الدخول عليه ، فكتب على رقعة :

ألا قل للوزير : فدتك نفسي

وأهلي ثمّ ما ملّكت فيه

أتذكر إذ تقول لضنك عيش :

ألا موت يباع فأشتريه

فأحضره وحيّاه وجعله من خاصّته.

جبّل

قرية بين النعمانية وواسط ، وكانت في قديم الزمان مدينة يضرب بقاضيها المثل في قلّة العقل! ومن حديثه ما ذكر أن المأمون أراد المضي إلى واسط ، فاستكرى القاضي جمعا ليثنوا عليه عند وصول الخليفة ، فاتّفق أن شبارة الخليفة وصلت ، وما كان من الجمع المستكرين أحد حاضرا ، فخاف القاضي

٣٤٧

أن تفوت الفرصة فجعل يعدو على شاطىء دجلة مقابل الشبارة وينادي بأعلى صوته : يا أمير المؤمنين ، نعم القاضي قاضي جبّل! فضحك يحيى بن اكثم ، وكان راكبا في الشبارة مع الخليفة ، وقال : يا أمير المؤمنين هذا المنادي هو قاضي جبّل يثني على نفسه! فضحك المأمون وأمر له بشيء وعزله وقال : لا يجوز أن يلي شيئا من أمور المسلمين من هذا عقله.

جرباذقان

بليدة من بلاد قهستان بين أصفهان وهمذان ذات سور وقهندز ، لها رئيس يقال له جمال باده ، لا يمشي إلى أحد من ملوك قهستان البتّة. وله موضع حصين وإلى داره عقود وأبواب وحرّاس ، والملوك كانوا يسامحونه بذلك ويقولون :إنّ أذيّته وإزعاجه غير مبارك!

وكان الأمر على ذلك إلى أن ملك الجبال خوارزمشاه محمّد ، سلّمها إلى ابنه وإلى عماد الملك ، فوصل عماد الملك إلى جرباذقان. أخبر بعادة الرئيس انّه لا يمشي إلى أحد ، فغضب من ذلك وبعث إليه يطلبه فأبى. فبعث إليه عسكره دخلوا المدينة قهرا ، وتحصّن الرئيس بالقلعة فحاصروها أيّاما وقتل من الطرفين.

فلمّا اشتدّ الأمر عليه نزل بالليل وهرب ، فخرب عماد الملك القلعة وقتل أكثر أهلها لأنّهم قتلوا أصحاب عماد الملك. فعمّا قريب ورد عساكر التتر وهرب عماد الملك فقتلوه في الطريق ، وقتلوا ابن خوارزمشاه وعاد الرئيس إلى حاله كما كان.

جرجان

مدينة عظيمة مشهورة بقرب طبرستان. بناها يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة ، وهي أقلّ ندى ومطرا من طبرستان ، يجري بينهما نهر تجري فيه السفن ، بها فواكه الصرود والجروم ، وهي بين السهل والجبل والبرّ والبحر.

٣٤٨

بها البلح والنخل والزيتون والجوز والرمّان والأترج وقصب السكّر ، وبها من الثمار والحبوب السهليّة والجبليّة المباحة ، يعيش بها الفقراء. ويوجد في صيفها جنيّ الصيف والشتاء من الباذنجان والفجل والجزر ، وفي الشتاء الجدي والحملان والألبان والرياحين : كالخزامى والخيري والبنفسج والنرجس والأترج والنارنج.

وهي مجمع طير البرّ والبحر ، لكن هواءها رديء لأنّه يختلف في يوم مضرّ سيما بالغرباء.

وحكي انّه كان بنيسابور في أيّام الطاهرية ستّمائة رجل من بني هلال يقطعون الطريق ، فظفروا بهم ونقلوا ثلاثمائة إلى جرجان وثلاثمائة إلى جرجانيّة بخوارزم. فلمّا تمّ عليهم الحول لم يبق ممّن كان بجرجان إلّا ثلاث أنفس ، ولم يمت ممّن كان بجرجانيّة إلّا ثلاثة.

وبجرجان من العناب الجيّد والخشب الخلنج الذي يتّخذ منه النشّاب والظروف والأطباق ، ويحمل إلى سائر البلاد. وبها ثعابين تهول الناظر ولا ضرر لها.

وذكر أبو الريحان الخوارزمي انّه شوهد بجرجان مدرة صار بعضها قارا والبعض الآخر بحالها.

بها عين سياه سنك ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : بجرجان موضع يسمّى سياه سنك ، به عين ماء على تلّ يأخذ الناس ماءها للشرب ، وفي الطريق إليها دودة ، فمن أخذ من ذلك الماء وأصاب رجله تلك الدودة يصير الماء الذي معه مرّا فيبدّده ، ويعود إليها يأخذ مرّة أخرى ، وهذا عندهم مشهور.

ينسب إليها كرز بن وبرة كان من الأبدال ، قال فضيل : إذا خرج كرز بن وبرة يأمر بالمعروف يضربونه حتى يغشى عليه ، فسأل ربّه أن يعرّفه الاسم الأعظم بشرط أن لا يسأل به شيئا من أمور الدنيا ، فأعطاه الله ذلك ، فسأل أن يقوّيه على قراءة القرآن ، فكان يختم كلّ يوم وليلة ثلاث ختمات.

حكى أبو سليمان المكتب قال : صحبت كرز بن وبرة إلى مكّة ، فكان إذا نزل القوم أدرج ثيابه في الرحل واشتغل بالصلاة ، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل ،

٣٤٩

فتأخر يوما عن الوقت ، فذهبت في طلبه فإذا هو في وهدة في وقت حارّ ، وإذا سحابة تظلّه فقال : يا أبا سليمان ، أريد أن تكتم ما رأيت! فحلفت أن لا أخبر أحدا في حياته. وحكي انّه لمّا توفي رأوا أهل القبور في النوم ، عليهم ثياب جدد ، فقيل لهم : ما هذا؟ قالوا : ان أهل القبور كلّهم لبسوا ثيابا جددا لقدوم كرز بن وبرة!

وينسب إليها أبو سعيد إسماعيل بن أحمد الجرجاني. كان وحيد دهره في الفقه والأصول والعربيّة ، مع كثرة العبادة والمجاهدة وحسن الخلق والاهتمام بأمور الدين والنصيحة للمسلمين ، وهو القائل :

إني ادّخرت ليوم ورد منيّتي

عند الإله من الأمور خطيرا

قولي بأنّ إلهنا هو أوحد

ونفيت عنه شريكه ونظيرا

وشهادتي أنّ النّبيّ محمّدا

كان الرّسول مبشّرا ونذيرا

ومحبّتي آل النّبيّ وصحبه

كلّا أراه بالثّناء جديرا

وتمسّكي بالشّافعيّ وعلمه

ذاك الّذي فتق العلوم بحورا

وجميل ظنّي بالإله وإن جنت

نفسي بأنواع الذّنوب كثيرا

إنّ الظّلوم لنفسه إن يأته

مستغفرا يجد الإله غفورا

فاشهد إلهي أنّني مستغفر

لا أستطيع لما مننت شكورا

هذا الذي أعددته لشدائدي

وكفى بربّك هاديا ونصيرا!

قبض أبو سعيد في صلاة المغرب عند قوله : وإيّاك نستعين ، وفاضت روحه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

وينسب إليها القاضي أبو الحسن عليّ بن عبد العزيز الجرجاني. كان أديبا فقيها شاعرا ، وهو القائل :

يقولون لي : فيك انقباض! وإنّما

رأوا رجلا عن موقف الذلّ أحجما

٣٥٠

يرى الناس من داناهم هان عندهم

ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما

وينسب إليها الإمام عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني. كان عالما فاضلا أديبا عارفا بعلم البيان ، له كتاب في إعجاز القرآن في غاية الحسن ما سبقه أحد في ذلك الأسلوب. من لم يطالع ذلك الكتاب لا يعرف قدره ودقّة نظره ولطافة طبعه ، واطّلاعه على معجزات القرآن.

وبها مشهد لبعض أولاد عليّ الرضا ، العجم يسمّونه «كور سرخ» ، النذر له يفضي إلى قضاء الحاجة ، وهذا أمر مشهور في بلاد العجم ، يحمل إليها أموال كثيرة ويصرف إلى جمع من العلويّين هناك.

جرجرايا

قرية من أعمال بغداد مشهورة. ينسب إليها عليّ الجرجرائي ، كان من الابدال ، لا يدخل العمران ولا يختلط بأحد ؛ حكى بشر الحافي قال : لقيته على عين ماء فلمّا أبصرني عدا ، قال : بذنب مني رأيت اليوم إنسيّا! فعدوت خلفه وقلت : أوصني! فالتفت إليّ وقال : عانق الفقر وعاشر الصبر ، وخالف الشهوة واجعل بيتك أخلى من لحدك يوم تنقل إليه ، على هذا طاب المصير إلى الله تعالى!

الجزيرة

بلاد تشتمل على ديار بكر ومضر وربيعة ، وإنّما سمّيت جزيرة لأنّها بين دجلة والفرات ، وهما يقبلان من بلاد الروم ، وينحطان متسامتين حتى يصبّا في بحر فارس ، وقصبتها الموصل وحرّان ، والجزيرة بليدة فوق الموصل تدور دجلة حولها كالهلال ، ولا سبيل إليها من اليبس إلّا واحد ؛ قالوا : من خاصية هذه البلاد كثرة الدماميل. قال ابن همّام السلولي :

٣٥١

أبدا إذا يمشي يحيك كأنّما

به من دماميل الجزيرة ناخس

وحكي أن ضرار بن عمرو طلع به الدماميل ، وهو ابن تسعين سنة ، فتعجّب الناس فقالوا : احتملها من الجزيرة!

ينسب إليها بنو الأثير الجزريّون. كانوا ثلاثة اخوة فضلاء ، رأيت منهم الضياء ، كان شيخا حسن الصورة فاضلا حلو الحديث كريم الطبع ، له تصانيف كثيرة منها : المثل السائر كتاب في علم البيان في غاية الحسن ، وكتاب في شرح الألفاظ الغريبد التي وردت في أحاديث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، وغيرهما.

جوهسته

قرية من قرى همذان. بها قصر بهرام جور ، وبهرام من ملوك الفرس.

كان أرمى الناس لم ير رام مثله ، وهذا القصر عظيم جدّا وكلّه حجر واحد ، منقورة بيوته ومجالسه وخزائنه وغرفه وشرفاته وسائر حيطانه ، وهو كثير المجالس والخزائن والدهاليز والغرف. وفي مواضع منها كتابات بالعجميّة تتضمّن أخبار ملوكهم الماضين وحسن سيرتهم ، وفي كلّ ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة ، وبقربه ناووس الطيبة ، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

جوين

ناحية بين خراسان وقهستان كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. وهي أربعمائة قرية على أربعمائة قناة. والقنوات منشأها من مرتفع من الأرض ، والقرى على متسفّل أحدهما بجانب الآخر.

ينسب إليها أبو المعالي عبد الملك بن محمّد إمام الحرمين الإمام العلامة ، ما رأت العيون قبله ولا بعده مثله في غزارة العلم ، وفصاحة اللسان ، وجودة

٣٥٢

الذهن. من رآه من العلماء تحيّر فيه ، شاع ذكره في الآفاق ، فلمّا كان زمان أبي نصر الكندري وأمر بلعن المذاهب على رأس المنبر ، فارق الإمام خراسان وذهب إلى الحجاز ودرّس بمكّة. فانقضت تلك المدّة سريعا بموت طغرلبك وقتل الكندري ، فعاد إمام الحرمين إلى خراسان وبنى له نظام الملك مدرسة بنيسابور ، فظهرت تلامذته وانتشرت تصانيفه. وكان في حلقته ثلاثمائة فقيه من الفحول ، بلغوا مبلغ التدريس كأبي حامد الغزّالي ، وصنّف نهاية المطلب عشرين مجلّدا. توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.

جيلان

غيضة بين قزوين وبحر الخزر صعبة المسلك لكثرة ما بها من الجبال والوهاد والأشجار والمياه ، في كلّ بقعة ملك مستقلّ لا يطيع غيره ، والحرب بينهم قائمة ، والمطر كثير جدّا ربّما يستمرّ أربعين يوما لا ينقطع ليلا ولا نهارا ، ويضجر الناس منه. وبيوتهم من الأخشاب والاخصاص وسط الأشجار ، ولا حدّ لكثرة أشجارها الطوال لو كانت بأرض أخرى كان لها قيمة.

ونساؤها أحسن النساء صورة لا يستترن عن الرجال يخرجن مكشوفات الوجه والرأس والصدر.

وبها من الخيل الهماليج ما لا يوجد في غيرها من البلاد ، ولم ير أحسن منها صورة ومشيا.

ومن عجائبها ما سمعت ولا صدقت حتى جرّبت ، وهو ان المطر إذا دام عندهم ضجروا منه ، فإن سمعوا بالليل صوت ابن آوى وعقبه نباح كلب يبشر بعضهم بعضا بصحو الغد ، وعندهم من بنات آوى والكلاب كثير ، وهذا شيء أشهر عندهم وجرّبت مرارا ما أخطأ شيء.

مأكولهم الرزّ الجيّد المولاني والسمك ، ويؤدون زكاة الرز ولا يتركونه أصلا. ويقتنون دود الابريسم ، شغل رجالهم زراعة الرزّ وشغل نسائهم تربية

٣٥٣

دود القزّ والرزق الحلال في زماننا عندهم. ونساؤهم ينسجن الميازر والمشدات الفرية الملاح وتحمل منها إلى سائر البلاد.

ومن عاداتهم أن فقهاءهم في كلّ سنة يستأذنون من الأمير الأمر بالمعروف ، فإذا أذن لهم أحضروا كلّ واحد كائنا من كان وضربوه مائة خشبة ، فربّما يحلف الرجل أيمانا انّه ما شرب ولا زنى فيقول الفقيه : ايش صنعتك؟ فيقول :بقّال أنا! فيقول : أما كان بيدك الميزان؟ فيقول : نعم. فيأمر بضربه مائة!

ينسب إليها الشيخ محمّد بن خالد الملقّب بنور الدين. كان شيخا عظيم الشأن ظاهر الكرامات. رأيته في صغر سني كان شيخا مهيبا وضيء الوجه طويل القامة ، كثّ اللحية طويلها ، ما رآه أحد ولو كان ملكا إلّا أخذته هيبته.

له مصنّفات في عجائب أحواله ومشاهدته الملائكة والجنّة والنار ، وأحوال الأموات وخواصّ الأذكار والآيات.

حكى بعض من صحبه قال : سرنا ذات يوم فرفع لنا خان فقصدناه ، فقال بعض السابلة : لا تدخلوا الخان فإنّه يأوي إليه سبع! فقال الشيخ : نتّكل على الله. فدخلناها وفرش الشيخ مصلّاءة يصلّي ، فسمعت زئير الأسد فأنكرت في نفسي على الشيخ لدخول الخان ، فدخل الخان سبع هائل ، فلمّا رآنا جعل يأتينا إتيانا لينا لا إتيان صائل ، وأنا أنظر إلى شكله فذهب عقلي ، فهربت إلى الشيخ وجعلته بيني وبين الأسد ، فجاء وافترش عند مصلّى الشيخ ، فلمّا فرغ الشيخ من صلاته مسح رأسه وقال بالعجميّة : فارق هذا الموضع ولا ترجع تفزّع الناس ههنا! فقام السبع وخرج من الخان ولم يره أحد بعد ذلك هناك.

الحضر

مدينة كانت بين تكريت وسنجار مبنية بالحجارة المهندمة ، كان على سورها ستّون برجا كبارا ، بين البرج والبرج تسعة أبراج صغار ، بإزاء كلّ برج قصر وإلى جانبه حمّام. وبجانب المدينة نهر الثرثار وكان نهرا عظيما عليه جنان بناها

٣٥٤

الضّيزن بن معاوية ، وكان من قضاعة من قبل شابور بن اردشير ملك الفرس ، وقد طلسمها أن لا يقدر على هدمها إلّا بدم الحمامة الورقاء ، ودم حيض المرأة الزرقاء ؛ وإيّاها أراد عدي بن زيد :

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور

شاده جندلا وجلّله كلسا ، وللطّير في ذراه وكور

فاتّفق أنّه ظهر لشابور خصم بخراسان ، فذهب إليه وطالت غيبته فعصى ضيزن عليه واستولى على بلاد الجزيرة ، وأغار على بلاد الفرس وخرب السواد وأسر ماه أخت شابور الملك. فلمّا عاد شابور من خراسان وأخبر بما فعل ضيزن ، ذهب إليه بعساكره وحاصره سنين ولم يظفر بشيء ، فهمّ بالرجوع فصعدت النّصيرة بنت الضيزن السطح ورأت شابور فعشقته ، فبعثت إليه أن ما لي عندك ان دللتك على فتح هذه المدينة؟ فقال شابور : آخذك لنفسي وأرفعك على نسائي. فقالت : خذ من دم حمامة ورقاء ، واخلطه بدم حيض امرأة زرقاء ، واكتب بهما واشدده في عنق ورشان وأرسله ، فإنّه إذا وقع على السور تهدّم! ففعل كما قالت فدخل المدينة وقتل مائة ألف رجل وأسر البقيّة ، وقتل ضيزن وأنسابه فقال الحدس بن الدلهاث :

ألم يجزيك والأبناء تمنى

بما لاقت سراة بني العبيد؟

ومقتل ضيزن وبني أبيه

وإجلاء القبائل من يزيد

أتاهم بالفيول مجلّلات

وبالأبطال شابور الجنود

فهدّم من بروج الحضر صخرا

كأنّ ثقاله زبر الحديد!

ثمّ سار شابور إلى عين التمر وعرّس بالنصيرة هناك ، فلم تنم هي تلك الليلة تململا على فراشها ، فقال لها شابور : ما أصابك؟ فقالت : لم أنم قطّ على فراش أخشن من هذا! فنظر فإذا في الفراش ورقة آس لصقت بين عكنتين

٣٥٥

من عكنها ، فقال لها شابور : بم كان أبواك يغذوانك؟ قالت : بشهد الأبكار ولباب البرّ ومخّ الثنيان! فقال شابور : أنت ما وفيت لأبويك مع حسن صنيعهما بك ، فكيف تفين لي؟ ثمّ أمر أن تصعد بناء عاليا وقال : ألم أرفعك فوق نسائي؟ قالت : بلى! فأمر بفرسين جموحين وشدّت ذوائبها في ذنبيهما ثمّ استحضرا فقطعاها ؛ قال عدي بن زيد :

والحضر صبّت عليه داهية

شديدة أيد مناكبها

ربيبة لم ترقّ والدها

بحبّها إذ ضاع راقبها

فكان حظّ العروس إذ جشر

الصّبح دما يجري سبايبها

حصن الطاق

حصن حصين بطبرستان ، كان في قديم الزمان خزانة ملوك الفرس ، وأوّل من اتّخذه منوجهر بن ايرج بن فريدون ، وهو نقب في موضع عال في جبل صعب المسلك ، والنقب يشبه بابا صغيرا ، فإذا دخله الإنسان مشى نحو ميل في ظلمة شديدة ثمّ يخرج إلى موضع واسع شبيه بمدينة ، قد أحاطت به الجبال من جميع الجوانب. وهي جبال لا يمكن صعودها لارتفاعها ، وفي هذه السعة مغارات وكهوف ، وفي وسطها عين غزيرة الماء ينبع من ثقبة ويغور في أخرى ، وبينهما عشرة أذرع. وكان في أيّام الفرس يحفظ هذا النقب رجلان معهما سلّم يدلونه من الموضع ، إذا أراد أحدهما النزول في دهر طويل ، وعندهما ما يحتاجان إليه لسنين كثيرة.

ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ملك العرب طبرستان ، فحاولوا الصعود عليه فتعذّر عليهم ذلك إلى أن ولّي المازيار طبرستان ، فقصد هذا الموضع وأقام عليه مدّة حتى صعد رجل من أصحابه إليه ، فدلّى حبالا وأصعد قوما فيهم المازيار ، فوقف على ما في تلك الكهوف من الأموال والسلاح والكنوز ،

٣٥٦

وكان بيده إلى أن مات. وانقطع السبيل إليه إلى هذه الغاية.

ومن العجائب ما ذكره ابن الفقيه انّه إلى جانب هذا الطاق شبيه بالدكان ، إذا لطخ بعذرة أو شيء من الأقذار ارتفعت في الحال سحابة فمطرت عليه حتى تغسله وتنظّفه ، وان ذلك مشهور عندهم لا يتمارى فيه اثنان.

حلوان

مدينة بين همذان وبغداد. كانت عامرة طيّبة والآن خراب ، وتينها ورمانها في غاية الطيب ، لم يوجد في شيء من البلاد مثلهما. وفي حواليها عدّة عيون كبريتيّة ينتفع بها من عدّة أدواء. وكان بها نخلتان مشهورتان على طريق السابلة ، وصل إليهما مطيع بن اياس فقال :

أسعداني يا نخلتي حلوان

وابكيا لي من ريب هذا الزّمان

واعلما أنّ ريبه لم يزل

يفرّق بين الألّاف والجيران

واسعداني وأيقنا أنّ نحسا

سوف يأتيكما فتفترقان!

حكى المدائني أن المنصور اجتاز عليهما ، وكانت إحداهما على الطريق ضيّقت على الأحمال والأثقال ، فأمر بقطعها فأنشد قول مطيع فقال : والله لا كنت ذلك النحس! ثمّ اجتاز المهدي بهما واستطاب الموضع ، ودعا لحسنه المغنيّة وقال لها : أما ترين طيب هذا الموضع؟ غنّيني بحياتي! فغنّت :

أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا

إذا نام حرّاس النّخيل جناكما!

فقال لها : أحسنت! لقد هممت بقطع هاتين النخلتين فمنعتني. فقالت : أعيذك بالله أن تكون نحسهما! وأنشدت قول مطيع ، ثمّ اجتاز بهما الرشيد عند خروجه إلى خراسان وقد هاج به الدم بحلوان ، فأشار عليه الطبيب بأكل الجمّار ، فطلب ذلك من دهقان حلوان فقال : ليست أرضنا أرض نخل لكن

٣٥٧

على العقبة نخلتان فاقطعوا إحداهما. فقطعوا. فلمّا اجتاز الرشيد بهما وجد إحداهما مقطوعة والأخرى قائمة وعليها مكتوب :

واعلما إن بقيتما أنّ نحسا

سوف يأتيكما فتفترقان!

فاغتمّ الرشيد لذلك وقال : لقد عزّ عليّ ان كنت نحسهما ، ولو كنت سمعت هذا الشعر ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم! فاتّفق انّه لم يرجع من ذلك السفر.

الحويزة

كورة بين واسط والبصرة وخوزستان في وسط البطائح في غاية الرداءة.

كتب وفادار بن خودكام إلى صديق له كتابا من الحويزة : وما أدراك ما الحويزة! دار الهوان ومنزل الحرمان! ثمّ ما أدراك ما الحويزة! أرضها رغام وسماؤها قتام ، وسحابها جهام وسمومها سهام ، ومياهها سمام وطعامها حرام ، وأهلها لئام ، وخواصّها عوام ، وعوامّها طغام! لا يروي ريعها ولا يرجى نفعها ، ولا يمري ضرعها ولا يرعى زرعها ، ولقد صدق الله قوله فيها : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات! وأنا منها بين هواء وبيء وماء رديء ، وشباب غمر وشيخ غوي ، يتّخذون الغمر أدبا والزور إلى أرزاقهم سببا ، يأكلون الدنيا سلبا ويعدون الدين لهوا ولعبا ولو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا.

إذا سقى الله أرضا صوب غادية

فلا سقاها سوى النّيران تضطرم

ينسب إليها أبو العبّاس أحمد بن محمّد الحويزي. وكان من أعاجيب الزمان في الجمع بين الأمور المتضادة : كان ذا فضل وتمييز ، وجور وظلم مع إظهار الزهد والتقشّف والتسبيح الدائم والصلاة الكثيرة. وإذا عزل اشتغل بمطالعة

٣٥٨

الكتب ، ويظهر انّه أراد العزل وكره العمل وخدمة الظلمة فقال أبو الحكم الأندلسي :

رأيت الحويزيّ يهوى الخمول

ويلزم زاوية المنزل

لعمري لقد صار حلسا له

كما كان في الزّمن الأوّل

يدافع بالشّعر أوقاته

وإن جاع طالع في المجمل!

وإذا خرج صار أظلم ممّا كان حتى انّه في بعض ولاياته كان نائما على سطح ، فصعدوا إليه ووجأوه بالسكّين.

الحيرة

مدينة كانت في قديم الزمان بأرض الكوفة على ساحل البحر ، فإن بحر فارس في قديم الزمان كان ممتدّا إلى أرض الكوفة ، والآن لا أثر للمدينة ولا للبحر ، ومكان المدينة دجلة.

ينسب إليها النعمان بن امرىء القيس صاحب الحيرة من ملوك بني لخم.

نبى بالحيرة قصرا يقال له الخورنق في ستّين سنة ، قصرا عجيبا ما كان لأحد من الملوك مثله. فبينا هو ذات يوم جالس على الخورنق إذ رأى البساتين والنخل والأشجار والأنهار ممّا يلي المغرب ، والفرات ممّا يلي المشرق ، والخورنق مكانه ، فأعجبه ذلك وقال لوزيره : أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟ فقال : ما رأيت أيّها الملك لا نظير له لو كان دائما! فقال له : ما الذي يدوم؟ فقال : ما عند الله في الآخرة! فقال : بم ينال ذلك؟ فقال : بترك الدنيا وعبادة الله! فترك النعمان الملك ولبس المسح ورافقه وزيره ، ولم يعلم خبرهما إلى الآن ؛ قال عدي بن زيد :

وتبيّن ربّ الخورنق ، إذ

أشرف يوما وللهدى تفكير

٣٥٩

سرّه ما رأى وكثرة ما يم

لك والبحر معرضا والسّدير

فارعوى قلبه وقال : فما غب

طة حيّ إلى الممات يصير؟

ثمّ بعد الفلاح والملك والإ

مّة وارتهم هناك القبور!

ثمّ صاروا كأنّهم ورق جفّ

فألوت به الصّبا والدّبور

وينسب إليها أبو عثمان إسماعيل الحيري. كان من عباد الله الصالحين.

حكي من كرم أخلاقه ان رجلا دعاه إلى ضيافته فذهب إليه ، فلمّا انتهى إلى باب داره قال : ما لي وجه الضيافة! فرجع ثمّ طلبه بعد ذلك مرّة أخرى فأجابه ، فلمّا انتهى إلى باب داره قال له مثل ذلك ، ثمّ دعاه مرّة ثالثة وقال له مثل ذلك.

فعاد الشيخ فقال الداعي : اني أردت أن أجرّبك ، وجعل يمدحه فقال الشيخ :لا تمدحني على خلق يوجد في الكلاب ، إذا دعي الكلب أجاب وإن زجر انزجر! توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين.

حيزان

بليدة ذات بساتين كثيرة ومياه غزيرة ، من بلاد ديار بكر بقرب إسعرت.

بها الشاهبلوط ، وليس الشاهبلوط في شيء من بلاد الجزيرة والشام والعراق إلّا بها. والبندق أيضا بها كثير.

خاوران

ناحية ذات قرى بخراسان. بها خيرات كثيرة وينسب إليها الوزير أبو عليّ شاذان ، كان وزيرا لملوك بني سامان ، وبقي في الوزارة مدّة طويلة حتى يوزّر الآباء والأبناء منهم ، ولطول مدّة وزارته قيل فيه :

وقالوا العزل للعمّال حيض

نجاه الله من حيض بغيض

فإن يك هكذا ، فأبو عليّ

من اللّاتي يئسن من المحيض

٣٦٠