معجزات النبي

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

معجزات النبي

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


المحقق: إبراهيم أمين محمّد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة التوفيقيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

١
٢

قالوا عن الإمام الحافظ ابن كثير

قال الذهبى في المعجم المختص :

الإمام المفتي المحدث البارع ، فقيه متقن ، محدث متقن ، مفسر نقاد.

قال تلميذه شهاب الدين :

كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث وأعرفهم بتخريجها ورجالها وصحيحها وسقيمها ، وكان أقرانه يعترفون بذلك. وكان يستحضر كثيرا من التفسير والتاريخ ، قليل النسيان وكان فقيها جيد الفهم ، صحيح الذهن.

قال ابن حجر في الدر الكامنة :

وكان كثير الاستحضار ، حسن المفاكهة ، سارت تصانيفه في البلاد في حياته ، وانتفع بها الناس بعد مماته.

قال ابن حبيب فيما نقله ابن العماد في شذرات الذهب :

إمام ذوي التسبيح والتهليل ، وزعيم أرباب التأويل سمع وجمع ، وصنف وأطرب الأسماع بأقواله وشنّف وحدث وأفاد ، وطارت فتاويه إلى البلاد واشتهر بالضبط والتحرير وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير.

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين. العلى القدير. باسط الأرض ورافع السموات الّذي أيد أنبياءه بالمعجزات الباهرات.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين خاتم الأنبياء والمرسلين.

سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد ، ، ،

إن لنا شرف عظيم أن نكتب عن معجزات الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله مبشرين ومنذرين ـ يدعون إلى توحيد الله ويحاربون الإشراك به. ويرسون للبشرية منهج الخالق سبحانه وتعالى ـ الّذي به تصلح الدنيا ويكتب للسالكين به الفوز العظيم فى يوم الدين.

ونحن فى كتابنا سوف نتناول معجزات النبي الخاتم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باعتبار رسالته خاتمة الرسالات ومبعثه لا بعث بعده ـ فهو رحمة الله للعالمين ـ .. ولقد وجدنا منشودنا فى كتاب «البداية والنهاية» للإمام الحافظ ابن كثير .. وهو الكتاب الّذي شمل الكثير من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والتى سوف نتحدث عن بعضها وأهمها «انشقاق القمر» والرد على المنكرين. «نزول المطر» بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر وطرق إثبات ذلك .. و «نبع الماء من بين أصابعه» وعظمة ذلك ودلالته .. ومن أجمل معجزاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الحسية .. «وما حدث فى طريق الهجرة وحديث أم

٥

معبد» و «إحياء الشاة بعد ذبحها». ونورد أيضا أفضل المعجزات وأبهرها «حديث ذراع الشاة المسمومة» وغير ذلك الكثير والكثير.

ونحن إذ نتناول هذه المعجزات الباهرات. لنوردها بطريق البحث والاستدلال. لا بطريق السرد القصصى فقط ـ وذلك حتى نستطيع أن نقدم للقارئ العزيز سلسلة هذه المعجزات فى أسلوب شيق وتركيب بليغ يحقق الهدف المنشود والغاية المرجوة.

إن للنبى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من المعجزات ما نعترف بالعجز عن حصرها ولكننا ومن داخل «كتاب البداية والنهاية». لنقدم ما يروى ظمأنا ويشبع فهمنا وتطمئن به قلوبنا .. ولعلنا بذلك نكون قد أضفنا للمكتبة الإسلامية عملا من نوعه فريد وفى أسلوبه جديد. والله نسأل أن يتقبل منا صالح الأعمال ويغفر لنا الذلات. إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

المؤلف

٦

كتاب دلائل النبوة

وهى معنوية وحسية

فمن المعنوية إنزال القرآن عليه ، وهو أعظم المعجزات ، وأبهر الآيات ، وأبين الحجج الواضحات ، لما اشتمل عليه من التركيب المعجز الّذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك ، مع توافر دواعى أعدائه على معارضته. وفصاحتهم وبلاغتهم ، ثم تحداهم بعشر سور منه فعجزوا ، ثم تنازل إلى التحدى بسورة من مثله ، فعجزوا عنه وهم يعلمون عجزهم وتقصيرهم عن ذلك ، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبدا ، قال الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)) (١) وهذه الآية مكية وقال فى سورة الطور وهى مكية : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)) (٢) أى إن كنتم صادقين فى أنه قاله من عنده فهو بشر مثلكم فأتوا بمثل ما جاء به فإنكم مثله.

وقال تعالى فى سورة البقرة وهى مدينة ـ معيدا للتحدى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)) (٣). وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة الطور ، الآيتان : ٣٣ ، ٣٤.

(٣) سورة البقرة ، الآيتان : ٢٣ ، ٢٤.

٧

بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)) (١). وقال تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)) (٢) فبين تعالى أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن ، بل عن عشر سور عليه ، بل عن سورة منه ، وأنهم لا يستطيعون ذلك أبدا كما قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (٣) أى فإن لم تفعلوا فى الماضى ولن تستطيعوا ذلك فى المستقبل ، وهذا تحدثان وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا فى الحال ولا فى المآل ومثل هذا التحدى إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته ولا الإتيان بمثله ، ولو كان من متقول من عند نفسه لخاف أن يعارض ، فيفتضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة الناس له ، ومعلوم لكل ذى لب أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعقل خلق الله بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق فى نفس الأمر ، فما كان ليقدم على هذا الأمر إلا وهو عالم بأنه لا يمكن معارضته ، وهكذا وقع ، فإنه من لدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتى بنظيره ولا نظير سورة منه وهذا لا سبيل إليه أبدا ، فإنه كلام رب العالمين الّذي لا يشبهه شيء من خلقه لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ، فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟ وقول كفار قريش الّذي حكاه تعالى عنهم فى قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)) (٤) .. كذب

__________________

(١) سورة هود ، الآيتان : ١٣ ، ١٤.

(٢) سورة يونس ، الآيات : ٣٧ ـ ٣٩.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٤.

(٤) سورة الأنفال ، الآية : ٣١.

٨

منهم ودعوى باطلة بلا دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ، ولو كانوا صادقين لأتوا بما يعارضه ، بل هم يعلمون كذب انفسهم ، كما يعلمون كذب أنفسهم فى قولهم (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)) (١) قال الله تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)) (٢) أى أنزله عالم الخفيات ، رب الأرض والسموات ، الّذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، فإنه تعالى أوحى إلى عبده ورسوله النبي الأمى الّذي كان لا يحسن الكتابة ولا يدريها بالكلية ، ولا يعلم شيئا من علم الأوائل وأخبار الماضين ، فقص الله عليه خبر ما كان وما هو كائن على الوجه الواقع سواء بسواء ، وهو فى ذلك يفصل بين الحق والباطل الّذي اختلفت فى إيراده جملة الكتب المتقدمة ، كما قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)) (٣) وقال تعالى : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١)) (٤).

وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٥) الآية وقال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٥.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٦.

(٣) سورة هود ، الآية : ٤٩.

(٤) سورة طه ، الآيات : ٩٩ ـ ١٠١.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٤٨.

٩

شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)) (١). فبين تعالى أن نفس إنزال هذا الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون وحكم ما هو كائن بين الناس على مثل هذا النبي الأمى وجده ، كان من الدلالة على صدقه، وقال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)) (٢) يقول لهم : إنى لا أطيق تبديل هذا من تلقاء نفسى ، وإنما الله عزوجل هو الّذي يمحو ما يشاء ويثبت وأنا مبلغ عنه وأنتم تعلمون صدقى فيما جئتكم به ؛ لأنى نشأت بين أظهركم وأنتم تعلمون نسبى وصدقى وأمانتى ، وأنى لم أكذب على أحد منكم يوما من الدهر ، فكيف يسعنى أن أكذب على الله عزوجل ، مالك الضر والنفع ، الّذي هو على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم؟ وأى ذنب عنده أعظم عنده أعظم من الكذب عليه ، ونسبه ما ليس منه إليه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)) (٣) أى لو كذب علينا لانتقمنا منه أشد الانتقام ، وما استطاع أحد من أهل الأرض أن يحجزنا عنه ويمنعنا منه ، وقال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)) (٤)

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآيات : ٤٨ ـ ٥٢.

(٢) سورة يونس ، الآيات : ١٥ ـ ١٧.

(٣) سورة الحاقة ، الآيات : ٤٤ ـ ٤٧.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ٩٣.

١٠

وقال تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (١) وهذا الكلام فيه الأخبار بأن الله شهيد على كل شيء ، وأنه تعالى أعظم الشهداء ، وهو مطلع عليّ وعليكم فيما جئتكم به عنه ، وتتضمن قوة الكلام قسما به أنه قد أرسلنى إلى الخلق لأنذرهم بهذا القرآن ، فمن بلغه منهم فهو نذير له كما قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)) (٢) ففى هذا القرآن من الأخبار الصادقة عن الله وملائكته وعرشه ومخلوقاته العلوية والسفلية كالسماوات والأرضين وما بينهما وما فيهن أمور عظيمة كثيرة مبرهنة بالأدلة القطعية المرشدة إلى العلم بذلك من جهه العقل الصحيح ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (٨٩)) (٣) وقال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (٤٣)) (٤) وقال تعالى (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)) (٥) وفى القرآن العظيم الأخبار عما مضى على الوجه الحق وبرهانه ما فى كتب أهل الكتاب من ذلك شاهدا له مع كونه نزل على رجل أمى لا يعرف الكتابة ولم يعان يوما من الدهر شيئا من علوم الأوائل ، ولا أخبار الماضين ، فلم يفجأ الناس إلا بوحى إليه عما كان من الأخبار النافعة ، التى ينبغى أن تذكر للاعتبار بها من أخبار الأمم مع الأنبياء ، وكان منهم من أمورهم معهم ، وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين ، بعبارة لا يستطيع بشر أن يأتى بمثلها أبد الآبدين ، ودهر الداهرين ، ففى مكان تقص القصة

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٩.

(٢) سورة هود ، الآية : ١٧.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ٨٩.

(٤) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٣.

(٥) سورة الزمر ، الآيتان : ٢٧ ـ ٢٨.

١١

موجزة فى غاية البيان والفصاحة ، وتارة تبسط ، فلا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السياق حتى كأن التالى أو السامع مشاهد لما كان ، حاضر له ، معاين للخبر بنفسه كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)) (١) وقال تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)) (٢) وقال تعالى فى سورة يوسف : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤)) (٣) إلى أن قال فى آخرها (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)) (٤) وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣)) (٥) وقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ٥٢ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)) (٦) وعد تعالى أنه سيظهر الآيات : القرآن وصدقه من جاء به بما يخلقه فى الآفاق من الآيات الدالة على صدق هذا الكتاب وفى نفس المنكرين له المكذبين ما فيه حجة عليهم وبرهان قاطع لشبههم ، حتى يستيقنوا أنه منزل من عند الله على لسان الصادق ، ثم أرشد إلى دليل مستقل بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أى فى العلم بأن الله يطلع على هذا الأمر كفاية فى صدق هذا المخبر عنه ؛ إذ لو

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٤٦.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٤٤.

(٣) سورة يوسف ، الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٤.

(٤) سورة يوسف ، الآية : ١١١.

(٥) سورة طه ، الآية : ١٣٣.

(٦) سورة فصلت : الآيتان : ٥٢ ـ ٥٣.

١٢

كان مفتريا عليه لعاجله بالعقوبة البليغة كما تقدم بيان ذلك. وفى هذا القرآن إخبار عما وقع فى المستقبل طبق ما وقع سواء بسواء ، وكذلك فى الأحاديث حسب ما قررناه فى كتابنا التفسير وما سنذكره من الملاحم والفتن كقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١) وهذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. وكذلك قوله تعالى فى سورة اقتربت وهى مكية بلا خلاف : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦)) (٢) وقع مصداق هذه الهزيمة يوم بدر بعد ذلك. إلى أمثال هذا من الأمور البينة الواضحة ، وسيأتى فصل فيما أخبر به من الأمور التى وقعت بعده عليه‌السلام طبق ما أخبر به. وفى القرآن الأحكام العادلة أمرا ونهيا ، المشتملة على الحكم البالغة التى إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيات ، الرحيم بعباده ، الّذي يعاملهم بلطفه ورحمته ، وإحسانه ، قال تعالى (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)) (٣) أى صدقا فى الأخبار وعدلا فى الأوامر والنواهى ، وقال تعالى (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)) (٤) أى : أحكمت ألفاظه وفصلت معانيه ، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) (٥) أى العلم النافع والعمل الصالح. وهكذا روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال لكميل بن زياد : هو كتاب الله فيه خبر ما قبلكم ، وحكم ما بينكم ، ونبأ ما بعدكم. وقد بسطنا هذا كله فى كتابنا التفسير بما فيه كفاية (ولله الحمد والمنة) فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة : من فصاحته ،

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٢٠.

(٢) سورة القمر ، الآيتان : ٤٥ ، ٤٦.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١١٥.

(٤) سورة هود ، الآية : ١.

(٥) سورة الفتح ، الآية : ٢٨.

١٣

وبلاغته ، ونظمه ، وتراكيبه ، وأساليبه ، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة ، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية ، والتحدى ببلاغة ألفاظه يخص فصحاء العرب ، والتحدى بما اشتمل عليه من المعانى الصحيحة الكاملة ـ وهى أعظم فى التحدى عند كثير من العلماء ـ يعم جميع (أهل الأرض) من الملتين أهل الكتاب وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط وغيرهم من أصناف بنى آدم فى سائر الأقطار والأمصار. وأما من زعم من المتكلمين أن الإعجاز إنما هو من صرف دواعى الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك ، أو هو سلب قدرتهم على ذلك ، فقول باطل وهو مفرع على اعتقادهم أن القرآن مخلوق ، خلقه الله فى بعض الأجرام ، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق ، وقولهم : هذا كفر وباطل وليس مطابقا لما فى نفس الأمر ، بل القرآن كلام الله غير مخلوق ، تكلم به كما شاء تعالى وتقدس وتنزه عما يقولون علوا كبيرا ، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفى نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك ، بل لا تقدر الرسل الذين هم أفصح الخلق وأعظم الخلق وأكملهم ، أن يتكلموا بمثل كلام الله وهذا القرآن (الّذي) يبلغه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله ، أسلوب كلامه لا يشبه أساليب كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأساليب كلامه عليه‌السلام المحفوظة عنه بالسند الصحيح إليه لا يقدر أحد من الصحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه فى فصاحته وبلاغته ، فيما يرويه من المعانى بألفاظه الشريفة ، بل وأسلوب كلام الصحابة أعلى من أساليب كلام التابعين ، وهلم جرا إلى زماننا ، (و) علماء السلف أفصح وأعلم ، وأقل تكلفا ، فيما يرونه من المعانى بألفاظهم من علماء الخلف وهذا يشهده من له ذوق بكلام الناس كما يدرك تفاوت ما بين أشعار العرب فى زمن الجاهلية ، وبين أشعار المولدين الذين كانوا بعد ذلك ، ولهذا جاء الحديث الثابت فى هذا المعنى وهو فيما رواه الامام أحمد قائلا : (حدثنا) حجاج ، حدثنا ليث ، حدثنى سعيد بن أبى سعيد عن أبيه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من الأنبياء نبى إلا قد أعطى من الآيات

١٤

ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» وقد أخرجه البخارى ومسلم من حديث الليث بن سعد به ، ومعنى هذا أن الأنبياء عليهم‌السلام كل منهم قد أوتى من الحجج والدلائل على صدقه وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية وحجة لقومه الذين بعث إليهم سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم أو جحدوا فاستحقوا العقوبة ، وقوله : وإنما كان الّذي أوتيت ، أى جله وأعظمه ، الوحى الّذي أوحاه إليه ، وهو القرآن ، الحجة المستمرة الدائمة القائمة فى زمانه وبعده فإن البراهين التى كانت للأنبياء انقرض زمانها فى حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها ، وأما القرآن فهو حجة قائمة كأنما يسمعه السامع من فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحجة الله قائمة به فى حياتهعليه‌السلام وبعد وفاته ، ولهذا قال : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ، أى لاستمرار ما آتانى الله من الحجة البالغة والبراهين الدامغة ، فلهذا يكون يوم القيامة أكثر الأنبياء تبعا.

١٥
١٦

فصل

ومن الدلائل المعنوية أخلاقه عليه‌السلام الطاهرة ، وخلقه الكامل ، وشجاعته وحلمه وكرمه وزهده وقناعته وإيثاره وجميل صحبته ، وصدقه وأمانته وتقواه وعبادته وكرم أصله وطيب مولده ومنشئه ومرباه كما قدمناه مبسوطا فى مواضعه ، وما أحسن ما ذكره شيخنا العلامة أبو العباس بن تيمية رحمه‌الله فى كتابه الّذي رد فيه على فرق النصارى واليهود وما أشبههم من أهل الكتاب وغيرهم ، فإنه ذكر فى آخره دلائل النبوة ، وسلك فيها مسالك حسنة صحيحة منتجة بكلام بليغ يخضع له كل من تأمله وفهمه. قال فى آخر هذا الكتاب المذكور :

فصل

وسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته ، أى من دلائل نبوته. قال وشريعته من آياته ، وأمته من آياته ، وعلم أمته من آياته ، ودينهم من آياته ، وكرامات صالحى أمته من آياته ، وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد إلى أن بعث ، ومن حين بعث إلى أن مات ، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله ، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا من صميم سلالة إبراهيم الّذي جعل الله فى ذريته النبوة والكتاب ، فلم يأت بعد إبراهيم نبى إلا من ذريته ، وجعل الله له ابنين : إسماعيل وإسحاق ، وذكر فى التوراة هذا وهذا ، وبشر فى التوراة بما يكون من ولد إسماعيل ، ولم يكن من ولد إسماعيل من ظهر فيه ما بشرت به النبوات غيره ، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم. ثم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش صفوة بنى إبراهيم ، ثم من بنى هاشم صفوة قريش ، ومن مكة أم القرى وبلد البيت

١٧

الّذي بناه إبراهيم ودعا الناس إلى حجه ، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم ، مذكورا فى كتب الأنبياء بأحسن وصف. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكمل الناس تربية ونشأة ، لم يزل معروفا بالصدق والبر (ومكارم الاخلاق) والعدل وترك الفواحش والظلم وكلّ وصف مذموم ، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة. ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة ، ولا يعرف له شيء يعاب به لا فى أقواله ولا فى أفعاله ولا فى أخلاقه ، ولا جرب عليه كذبة قط ، ولا ظلم ولا فاحشة ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلقه وصورته من أحسن الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله ، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب (من) التوراة والإنجيل ، ولم يقرأ شيئا من علوم الناس ، ولا جالس أهلها ، ولم يدّع نبوة إلى أن أكمل (الله) له أربعين سنة ، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها ، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره ، وأخبر بأمر لم يكن فى بلده وقومه من يعرف مثله ، ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس ، وكذبه أهل الرئاسة وعادوه ، وسعوا فى هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق ، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم ، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم ولا جهات يوليهم إياها ، ولا كان له سيف ، بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم ، لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة ، وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فيجتمع فى الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب ، وجفاء الجافى ، وإعراض المعرض ، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جبران اليهود ، وقد سمعوا أخباره منهم وعرفوه فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الّذي يخبرهم به اليهود ، وكانوا سمعوا من أخباره أيضا ما عرفوا به مكانته فإن أمره كان قد انتشر وظهر فى بضع عشرة سنة ، فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم ، وعلى الجهاد معه ، فهاجر هو ومن اتبعه إلى

١٨

المدينة ، وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا فى الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم ، ثم أذن له فى الجهاد ، ثم أمر به ، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها ، من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ له كذبة واحدة ، ولا ظلم لأحد ، ولا غدر بأحد ، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف بالأحوال ، من حرب وسلم ، (وأمن) وخوف ، وغنى وفقر ، وقدرة وعجز ، وتمكن وضعف ، وقلة وكثرة ، وظهور على العدو تارة. وظهور العدو تارة ، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطرق وأتمها ، حتى ظهرت الدعوة فى جميع أرض العرب التى كانت مملوءة من عبادة الأوثان ، ومن أخبار الكهان ، وطاعة المخلوق فى الكفر بالخالق ، وسفك الدماء المحرمة ، وقطيعة الأرحام ، ولا يعرفون آخرة ولا معادا ، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم ، حتى أن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا : ما كان الذين صحبوا المسيح أفضل من هؤلاء. وهذه آثار علمهم وعملهم فى الأرض وآثار غيرهم تعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ظهور أمره ، وطاعة الخلق له ، وتقديمهم له على الأنفس والأموال ، مات ولم يخلف درهما ولا دينارا ، ولا شاة ولا بعيرا ، إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودى على ثلاثين وسقا (١) من شعير ابتاعها لأهله ، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله ، والباقى يصرفه فى مصالح المسلمين ، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك وهو فى كل وقت يظهر من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه. ، ويخبرهم بما كان وما يكون ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء ، حتى أكمل الله دينه الّذي بعثه به ، وجاءت شريعته أكمل شريعة ، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه ، لم يأمر بشيء

__________________

(١) وسقا : حملا.

١٩

فقيل : ليته لم يأمر به ، ولا نهى عن شيء فقيل : ليته لم ينه عنه ، وأحل لهم الطيبات لم يحرم منها شيئا كما حرم فى شريعة غيره ، وحرم والخبائث لم يحل منها شيئا كما استحل غيره ، وجمع محاسن ما عليه الأمم ، فلا يذكر فى التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن الملائكة وعن اليوم الأخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه ، وأخبر بأشياء ليست فى الكتب وليس فى الكتب إيجاب لعدل وقضاء بفضل وندب إلى الفضائل وترغيب فى الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه ، وإذا نظر اللبيب فى العبادات التى شرعها وعبادات غيره من الأمم ظهر له فضلها ورجحانها. وكذلك فى الحدود والأحكام وسائر الشرائع ، وأمته أكمل الأمم فى كل فضيلة ، وإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم ، وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم ، وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم فى سبيل الله وصبرهم على المكاره فى ذات الله ، ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا ، وإذا قيس سخاؤهم وبرهم وسماحة أنفسهم بغيرهم : ظهر أنهم أسخى وأكرم من غيرهم. وهذه الفضائل به نالوها ، ومنه تعلموها ، وهو الّذي أرهم بها ، لم يكونوا قبا متبعين لكتاب جاء هو بتكميله ، كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة ، فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة وبعضها من الزبور وبعضها من النبوات وبعضها من المسيح وبعضها ممن بعده من الحواريين ومن بعض الحواريين ، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم حتى أدخلوا ـ لما غيروا (من) دين المسيح ـ فى دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح. وأما أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يكونوا قبله يقرءون كتابا ، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته ، وهو الّذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله ، ونهاهم عن أن يفرقوا بين أحد من الرسل ، فقال تعالى فى الكتاب الّذي جاء به (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما

٢٠