معجزات النبي

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

معجزات النبي

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


المحقق: إبراهيم أمين محمّد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة التوفيقيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

أبو زرعة فى سياقه : ثم لقى أرواح الأنبياء عليهم‌السلام فأثنوا على ربهم عزوجل ، فقال إبراهيم : الحمد لله الّذي اتخذنى خليلا ، وأعطانى ملكا عظيما ، وجعلنى أمة قانتا لله محياى ومماتى ، وأنقذنى من النار ، وجعلها على بردا وسلاما ، ثم إن موسى أثنى على ربه فقال : الحمد لله الّذي كلمنى تكليما ، واصطفانى برسالته وبكلامه ، وقربنى نجيا ، وأنزل على التوراة ، وجعل هلاك فرعون على يدى ، ثم إن داود أثنى على ربه فقال : الحمد لله الّذي جعلنى ملكا وأنزل على الزبور ، وألان لى الحديد ، وسخر لى الجبال يسبحن معه والطير ، وآتانى الحكمة وفصل الخطاب ، ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال : الحمد لله الّذي سخر لى الرياح والجن والإنس ، وسخر لى الشياطين يعملون لى ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ، وعلمنى منطق الطير ، وأسأل لى عين القطر ، وأعطانى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى ، ثم إن عيسى أثنى على الله عزوجل فقال : الحمد لله الّذي علمنى التوراة والإنجيل ، وجعلنى أبرئ الأكمة والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله ، وطهرنى ورفعنى من الذين كفروا ، وأعاذنى من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل ، ثم إن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم أثنى على ربه فقال : كلكم أثنى على ربه ، وأنا مثن على ربى ، الحمد لله الّذي أرسلنى رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيرا ونذيرا ، وأنزل على الفرقان فيه تبيان كل شيء ، وجعل أمتى خير أمة أخرجت للناس ، وجعل أمتى وسطا ، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون ، وشرح لى صدرى ، ووضع عنى وزرى ، ورفع لى ذكرى ، وجعلنى فاتحا وخاتما. فقال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم أورد إبراهيم الحديث المتقدم فيما رواه الحاكم والبيهقى من طريق عبد الرحمن ابن يزيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب مرفوعا فى قول آدم : يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لى ، فقال الله : وما أدراك ولم أخلقه بعد؟ فقال : لأنى رأيت مكتوبا مع اسمك على ساق العرش : لا إله إلا الله

٤٤١

محمد رسول الله ، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال الله : صدقت يا آدم ، ولو لا محمد ما خلقتك ، وقال بعض الأئمة : رفع الله ذكره ، وقرنه باسمه فى الأولين والآخرين ، وكذلك يرفع قدره ويقيمه مقاما محمودا يوم القيامة ، يغبطه به الأولون والآخرون ، ويرغب إليه الخلق كلهم حتى إبراهيم الخليل.

كما ورد فى صحيح مسلم فيما سلف وسيأتى أيضا ، فإن التنويه يذكر من الأمم الخالية ، والقرون السابقة.

ففى صحيح البخارى عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به وليتبعنه ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ على أمته العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه ، وقد بشرت بوجوده الأنبياء حتى آخر من بشر به عيسى ابن مريم خاتم انبياء بنى إسرائيل ، وكذلك بشرت به الأحبار والرهبان والكهان. كما قدمنا ذلك مبسوطا ، ولما كانت ليلة الإسراء رفع من سماء إلى سماء حتى سلّم على إدريس عليه‌السلام ، وهو فى السماء الرابعة ، ثم جاوزه إلى الخامسة ثم إلى السادسة فسلم على موسى بها ، ثم جاوزه إلى السابعة فسلم على إبراهيم الخليل عند البيت المعمور ، ثم جاوز ذلك المقام ، فرفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام ، وجاء سدرة المنتهى ورأى الجنة والنار وغير ذلك من الآيات الكبرى ، وصلى بالأنبياء ، وشيعه من كل مقربوها ، وسلّم عليه رضوان خازن الجنان ، ومالك خازن النار ، فهذا هو الشرف ، وهذه هى الرفعة ، وهذا هو التكريم والتنوية والأشهار والتقديم والعلو والعظمة ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين ، وأما رفع ذكره فى الآخرين ، فإن دينه باق ناسخ لكل دين ، ولا ينسخ هو أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى يوم الدين ، ولا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم

٤٤٢

ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ، والنداء فى يوم خمس مرات على كل مكان مرتفع من الأرض : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وهكذا كل خطيب يخطب لا بد أن يذكره فى خطبته ، وما أحسن قول حسان :

أغر عليه للنبوة خاتم

من الله مشهود يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

إذا قال فى الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليحله

فذو العرش محمود وهذا محمد

وقال الصرصرى رحمه‌الله :

ألم ترأنا لا يصح أذاننا

ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما

٤٤٣
٤٤٤

القول فيما أوتي داود عليه‌السلام

قال الله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)) (١) وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)) (٢).

وقد ذكرنا قصته عليه‌السلام فى التفسير ، وطيب صوته عليه‌السلام ، وأن الله تعالى كان قد سخر له الطير تسبح معه ، وكانت الجبال أيضا تجيبه وتسبح معه ، وكان سريع القراءة ، يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ الزبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثم يركب ، وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، صلوات الله وسلامه عليه ، وقد كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسن الصوت طيبه بتلاوة القرآن ، قال جبير ابن مطعم : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المغرب بالتين والزيتون ، فما سمعت صوتا أطيب من صوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يقرأ ترتيلا كما أمره الله عزوجل ، وأما تسبيح الطير مع داود ، فتسبيح الجبال الصم أعجب من ذلك ، وقد تقدم فى الحديث أن الحصا سبح فى كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن حامد : وهذا حديث معروف مشهور ، وكانت الأحجار والأشجار والمدر تسلم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى صحيح البخارى عن ابن مسعود قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل ـ يعنى بين يدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكلمه ذراع الشاة المسمومة ، وأعلمه بما فيه من السم ، وشهدت بنبوته الحيوانات الإنسية والوحشية ، والجمادات

__________________

(١) سورة ص ، الآيات : ١٧ ـ ١٩.

(٢) سورة سبأ ، الآيتان : ١٠ ، ١١.

٤٤٥

أيضا ، كما تقدم بسط ذلك كله ، ولا شك أن صدور التسبيح من الحصا الصغار الصم التى لا تجاويف فيه ، أعجب من صدور ذلك من الجبال ، لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلها تردد صدى الأصوات العالية غالبا ، كما قال عبد الله بن الزبير : ككان إذا خطب ـ وهو أمير المدينة بالحرم الشريف ـ تجاوبه الجبال ، أبو قبيس وزرود ، ولكن من غير تسبيح ، فإن ذلك من معجزات داود عليه‌السلام. ومع هذا كان تسبيح الحصا فى كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان ، وأعجب ، وأما أكل داود من كسب يده ، فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل من كسبه أيضا ، كما كان يرعى غنام لأهل مكة على قراريط.

وقال : وما من نبى إلا وقد رعى الغنم. وخرج إلى الشام فى تجارة لخديجة مضاربة ، وقال الله تعالى : (قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)) (١) إلى قوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (٢) أى للتكسب والتجارة طلبا للربح الحلال ، ثم لما شرع الله الجهاد بالمدينة ، كان يأكل مما أباح له من المغانم التى لم تبح قبله ، ومما أفاء الله عليه من أموال الكفار التى أبيحت له دون غيره ، كما جاء فى المسند والترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقى تحت ظل رمحى ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمرى ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ،

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآيات : ٧ ـ ٩.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٢٠.

٤٤٦

وأما إلانة الحديد بغير نار كما يلين العجين فى يده ، فكان يصنع هذه الدروع الداودية ، وهى الزرديات السابغات ، وأمره الله تعالى بنفسه بعملها ، وقدر فى السرد ، أى ألا يدق المسمار فيعلق ولا يعظله فيقصم ، كما جاء فى البخارى ، وقال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠)) (١) وقد قال بعض الشعراء فى معجزات النبوة :

نسيج داود ما حمى صاحب الغا

ر وكان الفخار للعنكبوت

والمقصود المعجز فى إلانة الحديد ، وقد تقدم فى السيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب فى سنة أربع ، وقيل : خمس ، أنهم عرضت لهم كيدية ـ وهى الصخرة فى الأرض ـ فلم يقدروا على كسرها ولا شيء منها ، فقام إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد ربط حجرا على بطنه من شدة الجوع ـ فضربها ثلاث ضربات ، لمعت الأولى حتى أضاءت له منها قصور الشام ، وبالثانية قصور فارس ، وثالثة ، ثم انسالت الصخرة كأنها كثيب من الرمل ، ولا شك أن انسيال الصخرة التى لا تنفعل ولا بالنار ، أعجب من لين الحديد الّذي إن أحمى لانه كما قال بعضهم :

فلو أن ما عالجت لين فؤادها

بنفسى للان الجندل ... (٢)

والجندل الصخر ، فلو أن شيئا أشد قوة من الصخر لذكره هذا الشاعر المبالغ ، قال الله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٣) الآية ، وأما قوله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) (٤) الآية ، فذلك لمعنى آخر فى

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٨٠.

(٢) هكذا في الأصل. والصواب : بنفسي للان الجندل والصلد.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٧٤.

(٤) سورة الإسراء ، الآيتان : ٥٠ ، ٥١.

٤٤٧

التفسير ، وحاصله أن الحديد أشد امتناعا فى الساعة الراهنة من الحجر ما لم يعالج فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر والله أعلم.

وقال أبو نعيم : فإن قيل : فقد لين الله لداود عليه‌السلام الحديد حتى سرد منه الدروع السوابغ ، قيل : لينت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجارة وصم الصخور ، فعادت له غارا استتر به من المشركين ، يوم أحد ، مال إلى الجبل ليخفى شخصه عنهم فلين الجبل حتى أدخل رأسه فيه ، وهذا أعجب لأن الحديد تلينه النار ، ولم نر النار تلين الحجر ، قال : وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس. قال : وكذلك فى بعض شعاب مكة من جبل فى صلايه إليه فلان الحجر حتى ادرأ فيه بذراعيه وساعديه ، وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه. وعادت الصخرة ليلة أسرى به كهيئة العجين ، فربط بها دابته ـ البراق ـ وموضعه يمسونه الناس إلى يومنا هذا ، وهذا الّذي أشار إليه ، من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جدا ، ولعله قد أسنده هو فيما سلف ، وليس ذلك بمعروف فى السيرة المشهورة.

وأما ربط الدابة فى الحجر فصحيح ، والّذي ربطها جبريل كما هو فى صحيح مسلمرحمه‌الله ، وأما قوله : وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب ، فقد كانت الحكمة التى أوتيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشرعة التى شرعت له ، أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، فإن الله جمع له محاسن من كان قبله ، وفضله ، وأكمله (وآتاه) ما لم يؤت أحدا قبله ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أوتيت جوامع الكلم ، واختصرت لى الحكمة اختصارا ، ولا شك أن العرب أفصح الأمم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفصحهم نطقا ، وأجمع لكل خلق جميل مطلقا.

٤٤٨

القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه‌السلام

قال الله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)) (١).

وقال تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)) (٢).

وقال تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)) (٣).

وقد بسطنا ذلك فى قصته ، وفى التفسير أيضا ، وفى الحديث الّذي رواه الإمام أحمد وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم فى مستدركه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن سليمان عليه‌السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا ، سأل الله حكما يوافق حكمه ، وملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، وأنه لا يأتى هذا المسجد أحد إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

__________________

(١) سورة ص ، الآيات : ٣٦ ـ ٤٠.

(٢) سورة الأنبياء ، الآيتان : ٨١ ، ٨٢.

(٣) سورة سبأ ، الآيتان : ١٢ ، ١٣.

٤٤٩

أما تسخير الريح لسليمان فقد قال الله تعالى فى شأن الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩)) (١).

وقد تقدم فى الحديث الّذي رواه مسلم من طريق شعبة عن الحاكم عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ، ورواه مسلم من طريق الأعمش عن مسعود ابن مالك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله.

ثبت فى الصحيحين : نصرت بالرعب مسيرة شهر. ومعنى ذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قصد قتال قوم من الكفار ألقى الله الرعب فى قلوبهم قبل وصوله إليهم بشهر ،. ولو كان مسيرة شهرا ، فهذا فى مقابلة : غدوها شهر ورواحها شهر ، بل هذا أبلغ فى التمكن والنصر والتأييد والظفر ، وسخرت الرياح تسوق السحاب لا نزال المطر الّذي امتن الله به حين استسقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غير ما موطن كما تقدم ، وقال أبو نعيم : فإن قيل : فإن سليمان سخرت له الريح فسارت به فى بلاد الله وكان غدوها شهرا ورواحها شهرا.

قيل : ما أعطى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم وأكبر ، لأنه سار فى ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر ، وعرج به فى ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة ، فى أقل من ثلث ليلة ، فدخل السموات سماء سماء ، ورأى عجائبها ، ووقف على الجنة والنار ، وعرض عليه أعمال أمته ، وصلى بالأنبياء وبملائكة السموات ، واخترق فى الحجب ،. وهذا كله فى ليلة قائما ، أكبر وأعجب.

وأما تسخير الشياطين بين يديه تعمل ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٩.

٤٥٠

كالجواب وقدور راسيات ، فقد أنزل الله الملائكة المقربين لنصرة عبده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غير ما موطن ، يوم أحد وبدر ، ويوم الأحزاب ويوم حنين ، كما تقدم ذكرناه ذلك مفصلا فى مواضعه. وذلك أعظم وأبهر وأجل وأعلا من تسخير الشياطين. وقد ذكر ذلك ابن حامد فى كتابه.

وفى الصحيحين من حديث شعبة عن محمد بن زياد عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن عفريتا من الجن تفلت على البارحة ، أو كلمة نحوها ، ليقطع على الصلاة فأمكننى الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سوارى المسجد حتى يصبحوا وينظروا إليه ، فذكرت دعوة أخى سليمان : رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى ، قال روح فرده الله خاسئا (١). لفظ البخارى ، ولمسلم عن أبى الدرداء نحوه ، قال : ثم أردت أخذه ، والله لو لا دعوة أخينا سليمان لأصبح يلعب به ولدان أهل المدينة.

وقد روى الإمام أحمد بسند جيد عن أبى سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلى صلاة الصبح وهو خلفه ، فقرأ فالتبست عليه القراءة ، فلما فرغ من صلاته قال : لو رأيتمونى وإبليس فأهويت بيدى فما زلت اختنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين ، الإبهام والتى تليها ، ولو لا دعوة أخى سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سوارى المسجد يتلاعب به صبيان أهل المدينة (٢).

وقد ثبت فى الصحاح والحسان والمسانيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ، وفى رواية : مردة الجن ، فهذا من بركة ما شرعه الله له من صيام شهر رمضان وقيامه ، وسيأتى عند إبراء الأكمة والأبرص من معجزات المسيح عيسى بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (٣٤٢٣) (١٠ / ١٧٧).

(٢) أحمد في مسنده (٣ / ٨٢).

٤٥١

مريم عليه‌السلام ، دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغير ما واحد فمن أسلم من الجن فشفى ، وفارقهم خوفا منه ومهابة له ، وامتثالا لأمره. صلوات الله وسلامه عليه ، وقد بعث الله نفرا من الجن يستمعون القرآن فآمنوا به وصدقوه ورجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحذروهم مخالفته ؛ لأنه كان مبعوثا إلى الإنس والجن ، فآمنت طوائف من الجن كثيرة كما ذكرنا ، ووفدت إليه منهم وفود كثيرة وقرأ عليهم سورة الرحمن ، وخبرهم بما لمن آمن منهم من الجنان ، وما لمن كفر من النيران ، وشرع لهم ما يأكلون وما يطعمون دوابهم ، فدل على أنه بين لهم ما هو أهم من ذلك وأكبر.

وقد ذكر أبو نعيم هاهنا حديث الغول التى كانت تسرق التمر من جماعة من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويريدون إحضارها إليه فتمتنع كل الامتناع خوفا من المثول بين يديه ، ثم افتدت منهم بتعليمهم قراءة آية الكرسى التى لا يقرب قارئها الشيطان ، وقد سقنا ذلك بطرقه وألفاظه عن تفسير آية الكرسى من كتابنا التفسير ولله الحمد ، والغول هى الجن المتبدى بالليل فى صورة مرعبة.

وذكر أبو نعيم هاهنا حماية جبريل له عليه‌السلام غير ما مرة من أبى جهل كما ذكرنا فى السيرة ، وذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن يمينه وشماله يوم أحد ، وأماما جمع الله تعالى لسليمان من النبوة والملك كما كان أبوه من قبله ، فقد خير الله عبده محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أن يكون ملكا نبيا أو عبدا رسولا ، فاستشار جبريل فى ذلك فأشار إليه وعليه أن يتواضع ، فاختار أن يكون عبدا رسولا.

وقد روى ذلك من حديث عائشة وابن عباس ، ولا شك أن منصب الرسالة أعلى ، وقد عرضت على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنوز الأرض فأباها ، قال : ولو شئت لأجرى الله معى جبال الأرض ذهبا ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ، وقد ذكرنا ذلك كله بأدلته وأسانيده فى التفسير وفى السيرة أيضا ولله

٤٥٢

الحمد والمنة.

وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا طرفا منها من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن سعيد وأبى سلمة عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بينا أنا نائم جيء بمفاتيح خزائن الأرض فجعلت فى يدى ، ومن حديث الحسين ابن واقد عن الزبير عن جابر مرفوعا أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا على فرس أبلق جاءنى به جبريل عليه قطيفة من سندس ، ومن حديث القاسم عن أبى لبابة مرفوعا : عرض على ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ، فإذا جعت تضرعت إليك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك.

قال أبو نعيم : فإن قيل : سليمان عليه‌السلام كان يفهم كلام الطير والنملة كما قال تعالى: (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) (١) الآية وقال : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) (٢) الآية.

قيل : قد أعطى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك وأكثر منه ، فقد تقدم ذكرنا لكلام البهائم والسباع وحنين الجذع ورغاء البعير وكلام الشجر وتسبيح الحصا والحجر ، ودعائه إياه واستجابته لأمره ، وإقرار الذئب بنبوته ، وتسبيح الطير لطاعته ، وكلام الظبية وشكواها إليه ، وكلام الضب وإقراره بنبوته وما فى معناه ، كل ذلك قد تقدم فى الفصول بما يغنى إعادته ، انتهى كلامه.

قلت : وكذلك أخبره ذراع الشاة بما فيه من السم وكان ذلك بإقرار من

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ١٦.

(٢) سورة النمل ، الآيتان : ١٨ ، ١٩.

٤٥٣

وضعه فيه من اليهود ، وقال إن هذه السحابة لتبتهل بنصرك يا عمرو بن سالم ـ يعنى الخزاعى ـ حين أنشده تلك القصيدة يستعديه فيها على بنى بكر الذين نقضوا صلح الحديبية ، وكان ذلك بسبب فتح مكة كما تقدم وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة قبل أن أبعث ، إنى لأعرفه الآن ، فهذا إن كان كلاما مما يليق بحاله ففهم عنه الرسول ذلك ، فهو من هذا القبيل وأبلغ ، لأنه جماد بالنسبة إلى الطير والنمل ، لأنهما من الحيوانات ذوات الأرواح ، وإن كان سلاما نطقيا وهو الأظهر ، فهو أعجب من هذا الوجه أيضا ، كما قال على : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض شعاب مكة ، فما مر بحجر ولا شجر ولا مدر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله ، فهذا النطق سمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى رضى الله عنه.

ثم قال أبو نعيم : حدثنا أحمد بن محمد بن الحارث العنبرى ، حدثنا أحمد بن يوسف بن سفيان ، حدثنا إبراهيم بن سويد النخمى ، حدثنا عبد الله بن أذينة الطائى عن ثور بن يزيد عن خالد بن معلاة ابن جبل قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو بخيبر ـ حمار أسود فوقف بين يديه فقال : من أنت؟ فقال : أنا عمرو ابن فهران ، كنا سبعة إخوة وكلنا ركبنا الأنبياء وأنا أصغرهم ، وكنت لك فملكنى رجل من اليهود ، وكنت إذا ذكرك عثرت به فيوجعنى ضربا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنت يعفور ، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ولا يحتاج إلى ذكره مع ما تقدم من الأحاديث الصحيحة التى فيها غنية عنه ، وقد روى على غير هذه الصفة ، وقد نص على نكارته ابن أبى حاتم عن أبيه ، والله أعلم.

٤٥٤

القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه‌السلام

ويسمى المسيح ، فقيل : لمسحه الأرض ، وقيل : لمسح قدمه ، وقيل : لخروجه من بطن أمه ممسوحا بالدهان ، وقيل : لمسح جبريل بالبركة ، وقيل : لمسح الله الذنوب عنه ، وقيل : لأنه كان لا يمسح أحدا إلا برأ.

حكاها كلها الحافظ أبو نعيم رحمه‌الله.

ومن خصائصه أنه عليه‌السلام مخلوق بالكلمة من أنثى بلا ذكر ، كما خلقت حواء من ذكر بلا أنثى ، وكما خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ، وإنما خلقه الله تعالى من تراب ثم قال له : كن فيكون. وكذلك يكون عيسى بالكلمة وينفخ جبريل مريم فخلق منها عيسى.

ومن خصائصه وأمه أن إبليس لعنه الله حين ولد ذهب يطعن فطعن فى الحجاب كما جاء فى الصحيح.

ومن خصائصه أنه حي لم يمت ، وهو الآن بجسده فى السماء الدنيا ، وسينزل قبل يوم القيامة على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما ، ويحكم بهذه الشريعة المحمدية ، ثم يموت ويدفن بالحجرة النبوية ، كما رواه الترمذي وقد بسطنا ذلك فى قصته.

وقال شيخنا العلامة ابن الزملكانى رحمه‌الله : وأما معجزات عيسى عليه‌السلام ، فمنها إحياء الموتى ، وللنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك كثير ، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت ، وقد كلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذراع المسمومة ، وهذا الإحياء أبلغ من إحياء الإنسان الميت من وجوه :

أحدها ، أنه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته ، وهذا معجز لو كان

٤٥٥

متصلا بالبدن.

الثانى أنه أحياه وحده منفصلا عن بقيه أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية.

الثالث أنه أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل ، ولم يكن هذا الحيوان يعقل فى حياته الّذي هو جزؤه مما يتكلم (١) ، وفى هذا ما هو أبلغ من حياة الطيور التى أحياها الله لإبراهيمصلى‌الله‌عليه‌وسلم ،.

قلت : وفى حلول الحياة والإدراك والعقل فى الحجر الّذي كان يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسلام عليه ، كما روى فى صحيح مسلم ، من المعجز ما هو أبلغ من إحياء الحيوان فى الجملة ؛ لأنه كان محلا للحياة فى وقت ، بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكلية قبل ذلك ، وكذلك تسليم الأحجار والمدر عليه ، وكذلك الأشجار والأغصان وشهادتها بالرسالة ، وحنين الجذع.

وقد جمع ابن أبى الدنيا كتابا فيمن عاش بعد الموت ، وذكر منها كثيرا ، وقد ثبت عن أنس رضى الله عنه أنه قال : دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض يعقل فلم نبرح حتى قبض ، فبسطنا عليه ثوبه وسجيناه ، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه ، فالتفت إليها بعضنا وقال : يا هذه احتسبى مصيبتك عند الله فقالت : وما ذاك؟ أمات ابني؟ قلنا : نعم ، قالت؟ أحق ما تقولون؟ قلنا : نعم ، فمدت يدها إلى الله تعالى فقالت : اللهم إنك تعلم أنى أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعيننى عند كل شدة ورخاء ، فلا تحملنى هذه المصيبة اليوم. قال : فكشف الرجل عن وجهه وقعد ، وما برحنا حتى أكلنا معه.

وهذه القصة قد تقدم التنبيه عليها فى دلائل النبوة.

__________________

(١) هكذا بالأصل.

٤٥٦

وقد ذكر معجز الطوفان مع قصة العلاء بن الحضرمى ، وهذا السياق الّذي أورده شيخنا ذكر بعضه بالمعنى ، وقد رواه أبو بكر ابن أبى الدنيا ، والحافظ أبو بكر البيهقى من غير وجه عن صالح بن بشر المرى ـ أحد زهاء البصرة وعبادها ـ وفى حديثه لين عن ثابت عن أنس فذكره.

وفى البيهقى أن أمه كانت عجوزا عمياء ثم ساقه البيهقى من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون عن أنس كما تقدم ، وسياقه أتم ، وفيه أن ذلك كان بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا إسناد رجاله ثقات ، ولكن فيه انقطاع بين عبد الله بن عون وأنس والله أعلم.

قصة أخرى

قال الحسين بن عرفة : حدثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن أبى خالد عن أبى سيرة النخعى قال : أقبل رجل من اليمن ، فلما كان فى بعض الطريق نفق حماره فقام وتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال : اللهم إنى جئت من المدينة مجاهدا فى سبيلك وابتغاء مرضاتك ، وأنا أشهد أنك تحيى الموتى وتبعث من فى القبور ، لا تجعل لأحد على اليوم منه ، أطلب أليك اليوم أن تبعث حمارى ، فقام الحمار ينفض أذنيه.

قال البيهقى : هذا إسناد صحيح ، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة.

قال البيهقى : وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلى عن محمد ابن عبيد عن إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبى وكأنه عند إسماعيل من الوجهين. والله أعلم.

قلت : كذلك رواه ابن أبى الدنيا من طريق إسماعيل عن الشعبى فذكره قال الشعبى : فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع فى الكناسة ـ يعنى بالكوفة ـ وقد

٤٥٧

أوردها ابن ابى الدنيا من وجه آخر ، وأن ذلك كان فى زمن عمر بن الخطاب ، وقد قال بعض قومه فى ذلك :

ومنا الّذي أحيى الإله حماره

وقد مات منه كل عضو ومفصل

وأما قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأبى بكر وعمر وعثمان بالصدق فمشهورة مروية من وجوه كثيرة صحيحة.

قيل البخارى فى التاريخ الكبير : زيد بن خارجة الخزرجى الأنصارى شهد بدرا وتوفى فى زمن عثمان ، وهو الّذي تكلم بعد الموت.

وروى الحاكم فى مستدركه والبيهقى فى دلائله وصححه كما تقدم من طريق العتبى عن سليمان ابن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن سعيد بن المسيب أن زيد بن خارجة الأنصارى ثم من الحارث بن الخزرج ، توفى زمن عثمان بن عفان فسجى بثوبه ، ثم إنهم سمعوا جلجلة فى صدره ، ثم تكلم فقال : أحمد فى الكتاب الأول صدق صدق ، أبو بكر الضعيف فى نفسه القوى فى أمر الله ، فى الكتاب الأول صدق صدق ، عمر بن الخطاب القوى فى الكتاب الأول ، صدق صدق ، عثمان بن عفان على منهاجهم مضت أربع وبقيت ثنتان ، أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف ، وقامت الساعة ، وسيأتيكم عن جيشكم خير ، قال يحيى بن سعيد : قال سعيد بن المسيب : ثم هلك رجل من بنى حطمة فسجى بثوبه فسمع جلجلة فى صدره ، ثم تكلم فقال : إن أخا بنى حارث ابن الخزرج صدق صدق ، ورواه ابن أبى الدنيا والبيهقى أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأطول ، وصححه البيهقى. قال : وقد روى فى التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة والله أعلم.

قلت : قد ذكرت فى قصة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الألف منها ومن قليل شعير ما تقدم.

٤٥٨

وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر ، فى كتابه الغرائب والعجائب بسنده ، كما سبق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع عظامها ثم دعا الله تعالى فعادت كما كانت فتركها فى منزله والله أعلم.

قال شيخنا : ومن معجزات عيسى الإبراء من الجنون ، وقد أبرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعنى من ذلك ـ هذا آخر ما وجدته فيما حكيناه عنه. فأما إبراء عيسى من الجنون ، فما أعرف فيه نقلا خاصا ، وإنما كان يبرئ الأكمه والأبرص والظاهر ومن جميع العاهات والأمراض المزمنة ، وأما إبراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجنون.

فقد روى الامام أحمد والحافظ البيهقى من غير وجه عن يعلى بن مرة أن امرأة أتت بابن لها صغير به لمم ما رأيت لمما أشد منه ، فقالت : يا رسول. الله ابنى هذا كما ترى أصابه بلاء ، وأصابنا منه بلاء ، يوجد منه فى اليوم ما يؤذى ، ثم قالت : مرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ناولينيه ، فجعلته بينه وبين واسطة الرحل ، ثم فغرفاه ونفث فيه ثلاثا وقال : بسم الله ، أنا عبد الله ، اخسأ عدو الله ، ثم ناولها إياه فذكرت أنه برئ من ساعته وما رابهم شيء بعد ذلك.

وقال أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن به لمما ، وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا ، قال : فمسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدره ودعا له فسغ سغة فخرج منه مثل الجرو الأسود فشفى ، غريب من هذا الوجه ، وفرقد فيه كلام وإن كان من زهاد البصرة ، لكن ما تقدم له شاهد وإن كانت القصة واحدة والله أعلم.

وروى البزار من طريق فرقد أيضا عن سعد بن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت : يا رسول الله إن هذا الخبيث قد

٤٥٩

غلبنى ، فقال لها : تصبرى على ما أنت عليه وتجيء يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب فقالت : والّذي بعثك بالحق لأصبرن حتى ألقى الله ، ثم قالت : إنى أخاف الخبيث أن يجردنى ، فدعا لها ، وكانت إذا احست أن يأتيها تأتى أستار الكعبة فتتعلق بها وتقول له: اخسأ ، فيذهب عنها.

وهذا دليل على أن فرقد قد حفظ ، فإن هذا له شاهد فى صحيح البخارى ومسلم من حديث عطاء بن أبى رباح يقال : قال لى ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت : بلى ، قال : هذه السوداء أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنى أصرع (١) وانكشف فادع الله لى ، قال : إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ، قالت : لا بل أصبر فادع الله أن لا انكشف ، قال : فدعا لها فكانت لا تنكشف.

ثم قال البخارى : حدثنا محمد ، حدثنا مخلد عن ابن جريج ، قال : أخبرنى عطاء أنه رأى أم زفر ـ امرأة طويلة سوداء ـ على ستر الكعبة (٢).

وذكر الحافظ ابن الأثير فى كتاب أسد الغابة فى أسماء الصحابة ، أن أم زفر هذه كانت ماشطة لخديجة بنت خويلد ، وأنها عمرت حتى رآها عطاء ابن أبى رباح رحمهما‌الله تعالى ، وأما إبراء عيسى الأكمه وهو الّذي يولد أعمى ، وقيل وهو الّذي لا يبصر فى النهار ويبصر فى الليل. وقيل : غير ذلك كما بسطنا ذلك فى التفسير ، والأبرص الّذي به بهق ، فقد رد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد عين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد ما سالت على خده ، فأخذها فى كفه الكريم وأعادها إلى مقرها فاستمرت بحالها وبصرها ، وكانت أحسن عينيه رضى الله عنه ، كما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار فى

__________________

(١) أصرع : أي يصيبها داء الصرع.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب المرضى (٥٦٥٢) (١٥ / ٥١٠) ، وأحمد في مسنده (١ / ٣٤٧).

٤٦٠