معجزات النبي

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

معجزات النبي

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


المحقق: إبراهيم أمين محمّد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة التوفيقيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

وتقدم فيما رواه الحاكم فى مستدركه متفردا به عن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا رجلا إلى الإسلام فقال : هل من شاهد على ما تقول؟ قال : هذه الشجرة فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهلى على شاطئ الوادى فأقبلت تخد الأرض خدا فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال ، ثم إنها رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابى إلى قومه وقال : إن يتبعونى أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك ، قال : وأما حنين الجذع الّذي كان يخطب إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعمل له المنبر ، فلما رقى عليه وخطب حن الجذع إليه حنين العشار والناس يسمعون بمشهد الخلق يوم الجمعة ، ولم يزل يئن ويحن حتى نزل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتنقه وسكنه وخيره بين أن يرجع غصنا طريا أو يغرس فى الجنة يأكل منه أولياء الله ، فاختار الغرس فى الجنة وسكن عند ذلك ، فهو حديث مشهور معروف ، قد رواه من الصحابة عدد كثير متواتر ، وكان بحضور الخلائق ، وهذا الّذي ذكره من تواتر حنين الجذع كما قال ، فإنه قد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة ، وعنهم أعداد من التابعين ، ثم من بعدهم آخرون عنهم لا يمكن تواطؤهم على الكذب فهو مقطوع به فى الجملة ، وأما تخيير الجذع كما ذكره شيخنا فليس بمتواتر ، بل ولا يصح إسناده.

وقد أوردته فى الدلائل عن أبى ابن كعب ، وذكر فى مسنده أحمد ، وسنن ابن ماجه ، وعن أنس من خمس طريق إليه ، صحح الترمذي إحداها ، وروى ابن ماجه أخرى ، وأحمد ثالثة ، والبزار رابعة ، وأبو نعيم خامسة.

وعن جابر بن عبد الله فى صحيح البخارى من طريقين عنه ، والبزار من ثالثة ورابعة ، وأحمد من خامسة وسادسة ، وهذه على شرط مسلم.

وعن سهل بن سعد فى مصنف ابن أبى شيبة على شرط الصحيحين ، وعن ابن عباس فى مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد على شرط مسلم.

وعن ابن عمر فى صحيح البخارى ، ورواه أحمد من وجه آخر عن

٤٢١

ابن عمر ، وعن أبى سعيد فى مسنده عبد بن حميد بإسناد على شرط مسلم ، وقد رواه يعلى الموصلى من وجه آخر عنه.

وعن عائشة رواه الحافظ أبو نعيم من طريق على بن أحمد الخوارزمى عن قبيصة بن حبان بن على عن صالح بن حبان عن عبد الله بن بريدة عن عائشة ، فذكر الحديث بطوله ، وفيه أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة وغار حتى ذهب فلم يعرف ، وهذا غريب إسنادا ومتنا.

وعن أم سلمة رواه أبو نعيم بإسناد جيد ، وقدمت الأحاديث ببسط أسانيدها وتحرير ألفاظها وغررها بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا ، ومن تدبرها حصل له القطع بذلك ولله الحمد والمنة.

قال القاضى عياض بن موسى السبتى المالكى فى كتابه الشفا : وهو حديث مشهور متواتر خرجه أهل الصحيح ، ورواه من الصحابة بضعة عشر ، منهم أبى وأنس وبريدة وسهل بن سعد ، وابن عباس ، وابن عمر والمطلب بن أبى وداعة وأبو سعيد وأم سلمة رضى الله عنهم أجمعين.

قال شيخنا : فهذه جمادات ونباتات وقد حنت وتكلمت ، وفى ذلك ما يقابل انقلاب العصا حية ، قلت : وسنشير إلى هذا عند ذكر معجزات عيسى عليه‌السلام فى إحيائه الموتى بإذن الله تعالى فى ذلك كما رواه البيهقى عن الحاكم عن أبى أحمد بن أبى الحسن عن عبد الرحمن بن أبى حاتم عن أبيه عن عمرو بن سوار قال : قال لى الشافعى : ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : أعطى عيسى إحياء الموتى ، فقال : أعطى محمد الجذع الّذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيئ له المنبر ، فلما هيئ له حن الجذع حتى سمع صوته ، فهذا أكبر من ذلك.

وهذا إسناد صحيح إلى الشافعى رحمه‌الله ، وهو مما كنت أسمع شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزى رحمه‌الله يذكره عن الشافعى رحمه‌الله وأكرم

٤٢٢

مثواه ، وإنما قال : فهذا أكبر من ذلك لأن الجذع ليس محلا للحياة ومع هذا حصل له شعور ووجد لما تحول عنه إلى المنبر فأن وحن حنين العشار حتى نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتضنه وسكنه حتى سكن.

قال الحسن البصرى : فهذا الجذع حن إليه ، فإنهم أحق إن يحنوا إليه ، وأما عود الحياة إلى الجسد كانت فيه بإذن الله فعظيم ، وهذا أعجب وأعظم من إيجاد حياة وشعور فى محل ليس مألوفا لذلك لم تكن فيه قبل بالكلية فسبحان الله رب العالمين (تنبيه) وقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لواء يحمل معه فى الحرب يخفق فى قلوب أعدائه مسيرة شهر بين يديه ، وكانت له عنزة تحمل بين يديه فإذا أراد الصلاة إلى غير جدار ولا حائل ركزت بين يديه ، وكان له قضيب يتوكأ عليه إذا مشى ، وهو الّذي عبر عنه سطيح فى قوله لابن أخيه عبد المسيح بن نفيلة : يا عبد المسيح ، إذا كثرت التلاوة ، وظهر صاحب الهراوة وغاضت بحيرة ساوة ، فليست الشام لسطيح شاما ، ولهذا كان ذكر هذه الأشياء عند إحياء عصا موسى وجعلها حية أليق ، إذ هى مساوية لذلك ، وهذه متعددة فى محال متفرقة بخلاف عصا موسى فإنها إن تعدد جعلها حية ، فهى ذات واحدة والله أعلم ، ثم ننبه على ذلك عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى لأن هذه أعجب وأكبر وأظهر وأعلم.

قال شيخنا : وأما أن الله كلم موسى تكليما ، فقد تقدم حصول الكلام للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء مع الرؤية وهو أبلغ ، هذا أورده فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه‌السلام ليلة الإسراء فيشهد له : فنوديت يا محمد قد كلفت فريضتين وخففت عن عبادى ، وسياق بقية القصة يرشد إلى ذلك ، وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك ، لكن رأيت فى كلام القاضى عياض نقل خلاف فيه والله أعلم ، وأما الرؤية ففيها خلاف مشهور بين الخلف والسلف ، ونصرها من الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المشهور بإمام الأئمة ، واختار ذلك القاضى عياض والشيخ محيى الدين النووى ،

٤٢٣

وجاء عن ابن عباس تصديق الرؤية ، وجاء عنه تفنيدها ، وكلاهما فى صحيح مسلم.

وفى الصحيحين عن عائشة إنكار ذلك ، وقد ذكرنا فى الإسراء عن ابن مسعود وأبى هريرة وأبى ذر وعائشة رضى الله عنهم أن المرئى فى المرتين المذكورتين فى أول سورة النجم ، إنما هو جبريل عليه‌السلام.

وفى صحيح مسلم عن أبى ذر قال : قلت : يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال : نورا لى أراه ، وفى رواية : رأيت نورا.

وقد تقدم بسط ذلك فى الإسراء فى السيرة وفى التفسير فى أول سورة بنى إسرائيل ، وهذا الّذي ذكره شيخنا فيما يتعلق بالمعجزات الموسوية عليه أفضل الصلاة والسلام ، وأيضا فإن الله تعالى كلم موسى وهو بطور سيناء ، وسأل الرؤية فمنعها ، وكلم محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء وهو بالملإ الأعلى حين رفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام ، وحصلت له الرؤية فى قول طائفة كبيرة من علماء السلف والخلف والله أعلم ، ثم رأيت ابن حامد قد طرق هذا فى كتابه وأجاد وأفاد وقال ابن حامد : قال الله تعالى لموسى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (١) وقال لمحمد : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)) (٢) ، وأما اليد التى جعلها الله برهانا وحجه لموسى على فرعون وقومه كما قال تعالى بعد ذكر صيرورة العصا حية : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) (٣). (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) (٤) وقال فى سورة طه : (آيَةً

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ٣٩.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٣١.

(٣) سورة النمل ، الآية : ١٢.

(٤) سورة القصص ، الآية : ٣٢.

٤٢٤

أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)) (١) فقد أعطى الله محمدا انشقاق القمر بإشارته إليه فرقتين ، فرقة من وراء جبل حراء ، وأخرى أمامه ، كما تقدم بيان ذلك بالأحاديث المتواترة مع قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢)) (٢) ولا شك أن هذا أجل وأعظم وأبهر فى المعجزات وأعم وأظهر وأبلغ من ذلك ، وقد قال كعب بن مالك فى حديثه الطويل فى قصة توبته : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر.

وذلك فى صحيح البخارى ، وقال ابن حامد : قالوا : فإن موسى أعطى اليد البيضاء ، قلنا لهم : فقد أعطى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو أفضل من ذلك نورا كان يضيء عن يمينه حيث ما جلس ، وعن يساره حيث ما جلس وقام ، يراه الناس كلهم ، وقد بقى ذلك النور إلى قيام الساعة ، ألا ترى أنه يرى النور الساطع من قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مسيرة يوم وليلة؟ هذا لفظه ، وهذا الّذي ذكره من هذا النور غريب جدا.

وقد ذكرنا فى السيرة عند إسلام الطفيل بن عمرو الدوسى أنه طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية تكون له عونا على إسلام قومه من بيته هناك ، فسطع نور بين عينيه كالمصباح، فقال : اللهم في غير هذا الموضع فإنهم يظنونه مثلة ، فتحول النور إلى طرف سوطه فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح فهداهم الله على يديه ببركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدعائه لهم فى قوله : اللهم اهد دوسا ، وآت بهم ، وكان يقال للطفيل : ذو النور لذلك ، وذكر أيضا حديث أسيد بن حضير وعباد بن بشر فى خروجهما من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف عصا أحدهما ، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف عصاه ،

__________________

(١) سورة طه ، الآيتان : ٢٢ ، ٢٣.

(٢) سورة القمر ، الآيتان : ١ ، ٢.

٤٢٥

وذلك فى صحيح البخارى وغيره.

وقال أبو زرعة الرازى فى كتاب دلائل النبوة : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت ابن أنس بن مالك أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ليلة ظلماء حندس فأضاءت عصا أحدهما مثل السراج وجعلا يمشيان بضوئها ، فلما تفرقا إلى منزلهما أضاءت عصا ذا وعصا ذا.

ثم روى عن إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة ابن مصعب بن الزبير ابن العوام ، وعن يعقوب بن حميد المدنى ، كلاهما عن سفيان بن حمزة بن يزيد الاسلمى عن كثير بن زيد عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه قال : سرنا فى سفر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعى حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم ، وإن أصابعى لتستنير.

وروى هشام بن عمار فى البعث : حدثنا عبد الأعلى ابن محمد البكرى ، حدثنا جعفر بن سليمان البصرى ، حدثنا أبو التياح الضبعى قال : كان مطرف بن عبد الله يبدر فيدخل كل جمعة فربما نور له فى سوطه ، فأدلج ذات ليلة وهو على فرسه حتى إذا كان عبد المقابر هدم به ، قال : فرأيت صاحب كل قبر جالسا على قبره ، فقال : هذا مطرف يأتى الجمعة ، فقلت لهم : وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما يقول فيه الطير ، قلت : وما يقول فيه الطير؟ قالوا : رب سلم سلم قوم صالح.

وأما دعاؤه عليه‌السلام بالطرفان ، وهو الموت الذريع فى قول ، وما بعده من الآيات والقحط والجدب ، فإنما كان ذلك لعلهم يرجعون إلى متابعته ويقلعون عن مخالفته ، فما زادهم إلا طغيانا كبيرا ، قال الله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)

٤٢٦

وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)) (١) ، (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)) (٢).

وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش حين تمادوا على مخالفته بسبع كسبع يوسف فقحطوا حتى أكلوا كل شيء ، وكان أحدهم يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجوع.

وقد فسر ابن مسعود قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠)) (٣) بذلك كما رواه البخارى عنه فى غير ما موضع من صحيحه ، ثم توسلوا إليه ، صلوات الله وسلامه عليه ، بقرابتهم منه مع أنه بعث بالرحمة والرأفة ، فدعا لهم فاقلع عنهم ورفع عنهم العذاب ، وأحيوا بعد ما كانوا أشرفوا على الهلكة.

وأما فلق البحر لموسى عليه‌السلام حين أمره الله تعالى ـ حين تراءى الجمعان ـ أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فإنه معجزة عظيمة باهرة ، وحجة قاطعة قاهرة ، وقد بسطنا ذلك فى التفسير وفى قصص الأنبياء من كتابنا هذا ، وفى إشارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الكريمة إلى قمر السماء

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآيتان : ٤٨ ، ٤٩.

(٢) سورة الأعراف ، الآيات : ١٣٢ ـ ١٣٦.

(٣) سورة الدخان ، الآية : ١٠.

٤٢٧

فانشق القمر فلقتين وفق ما سأله قريش ، وهم معه جلوس فى ليلة البدر ، أعظم آية ، وأيمن دلالة وأوضح حجة وأبهر برهان على نبوته وجاهه عند الله تعالى ، ولم ينقل معجزة عن نبى من الأنبياء من الآيات الحسيات أعظم من هذا ، كما قررنا ذلك بأدلته من الكتاب والسنة ، فى التفسير فى أول البعثة ، وهذا أعظم من حبس الشمس قليلا ليوشع بن نون حتى تمكن من الفتح ليلة السبت ، كما سيأتى فى تقرير ذلك مع ما يناسب ذكره عنده.

وقد تقدم من سيرة العلاء بن الحضرمى ، وأبى عبيد الثقفى وأبى مسلم الخولانى ، وسير الجيوش التى كانت معهم على تيار الماء ومنها دجلة وهى جارية عجاجة تقذف الخشب من شدة جريها ، وتقدم تقرير أن هذا أعجب من فلق البحر لموسى من عدة وجوه والله أعلم.

وقال ابن حامد : فإن قالوا : فإن موسى عليه‌السلام ضرب بعصاه البحر فانفلق فكان ذلك آية لموسى عليه‌السلام ، قلنا : فقد أوتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلها ، قال على رضى الله عنه : لما خرجنا إلى خير فاذا نحن بواد سحب وقدرناه فاذا هو أربع عشرة قامة ، فقالوا : يا رسول الله العدو من وراثنا والوادى من أمامنا ، كما قال أصحاب موسى : إنا لمدركون. فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعبرت الخيل لا تبدى حوافرها والإبل لا تبدى أخفافها ، فكان ذلك فتحا ، وهذا الّذي ذكره بلا إسناد ولا أعرفه فى شيء من الكتب المعتمدة بإسناد صحيح ولا حسن بل ولا ضعيف فالله أعلم.

وأما تظليله بالغمام فى التيه ، فقد تقدم ذكر حديث الغمامة التى رآها بحيرا تظله من بين أصحابه ، وهو ابن اثنتى عشرة سنة ، صحبة عمه أبى طالب وهو قادم إلى الشام فى تجارة ، وهذا أبهر من جهه أنه كان وهو قبل أن يوحى إليه ، وكانت الغمامة تظله وحده من بين أصحابه ، فهذا أشد فى الاعتناء ، وأظهر من غمام بنى إسرائيل وغيرهم. وأيضا فإن المقصود من

٤٢٨

تظليل الغمام إنما كان لاحتياجهم إليه من شدة الحر.

وقد ذكرنا فى الدلائل حين سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو لهم ليسقوا لما هم عليه من الجوع والجهد والقحط ، فرفع يديه وقال : اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، قال أنس : ولا والله ما نرى فى السماء من سحاب ولا قزعة (١) ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، فأنشأت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، قال أنس : فلا والله ما رأينا الشمس سبتنا ، ولما سألوه أن يستصحى لهم رفع يده وقال : اللهم حوالينا ولا علينا ، فما جعل يشير بيديه إلى ناحية إلا انحاز السحاب إليها حتى صارت المدينة مثل إلا كليل يمطر ما حولها ولا تمطر ، فهذا تظليل عام محتاج إليه ، آكد من الحاجة الى ذلك ، وهو أنفع منه والتصرف فيه وهو يشير أبلغ فى المعجز وأظهر فى الاعتناء والله أعلم.

وأما إنزال المن والسلوى عليهم فقد كثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطعام والشراب فى غير ما موطن كما تقدم بيانه فى دلائل النبوة من إطعام الجم الغفير من الشيء اليسير ، كما أطعم يوم الخندق من شويهة جابر بن عبد الله وصاعة الشعير ، أزيد من ألف نفس جائعة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، وأطعم من حفنة قوما من الناس وكانت تمد من السماء إلى غير ذلك من هذا القبيل مما يطول ذكره.

وقد ذكر أبو نعيم وابن حامد أيضا هاهنا أن المراد بالمن والسلوى أنما هو رزق رزقوه من غير كد منهم ولا تعب ، ثم أورد فى مقابلته حديث تحليل المغنم ولا يحل لأحد قبلنا ، وحديث جابر فى سيرة إلى عبيدة وجوعهم حتى أكلوا الخبط فحسر البحر لهم عن دابة تسمى العنبر فأكلوا منها ثلاثين من يوم

__________________

(١) القزعة : القطعة من السحاب المتفرق.

٤٢٩

وليلة حتى سمنوا وتكسرت عكن بطونهم ، والحديث فى الصحيح كما تقدم ، وسيأتى عند ذكر المائدة فى معجزات المسيح بن مريم.

٤٣٠

قصة أبى موسى الخولانى

أنه خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الحج وأمرهم أن لا يحملوا زادا ولا مزادا فكانوا إذا نزلوا منزلا صلى ركعتين فيؤتون بطعام وشراب وعلف يكفيهم ويكفى دوابهم غداء وعشاء مدة ذهابهم وإيابهم ، وأما قوله تعالى : (إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) (١) الآية فقد ذكرنا بسط ذلك فى قصة موسى عليه‌السلام وفى التفسير.

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة فى وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده فى ذلك الإناء الصغير الّذي لم يسع بسطها فيه ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه أمثال العيون ، وكذلك كثر الماء فى غير ما موطن ، كمزادتى تلك المرأة ، ويوم الحديبية ، وغير ذلك ، وقد استسقى الله لأصحابه فى المدينة وغيرها فأجيب طبق السؤال وفق الحاجة لا أزيد ولا أنقص وهذا أبلغ فى المعجز ، ونبع الماء من بين أصابعه من نفس يده ، على قول طائفة من العلماء ، أعظم من نبع الماء من الحجر فإنه محل لذلك.

قال أبو نعيم الحافظ : فإن قيل : إن موسى كان يضرب بعصاه الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا في التيه ، وقد علم كل أناس مشربهم.

قيل : كان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله أو أعجب ، فإن نبع الماء من الحجر مشهور فى العلوم والمعارف ، وأعجب من ذلك نبع الماء من بين اللحم والدم والعظم ، فكان يفرج بين أصابعه فى محصب فينبع من بين أصابعه الماء فيشربون ويسقون ماء جاريا عذبا ، يروى العدد الكثير من الناس والخيل

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٦٠.

٤٣١

والإبل.

ثم روى من طريق المطلب بن عبد الله ابن أبى حنطب : حدثنى عبد الرحمن بن أبى عمرة الأنصارى ، حدثنى أبى. قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غزوة غزاها ، فبات الناس فى مخمصة فدعا بركوة فوضعت بين يديه ، ثم دعا بماء فصبه فيها ، ثم مج فيها وتكلم ما شاء الله أن يتكلم ، ثم أدخل إصبعه فيها ، فأقسم بالله لقد رأيت أصابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتفجر منها ينابيع الماء ، ثم أمر الناس فسقوا وشربوا وملئوا قربهم وإداواتهم ، وأما قصة إحياء الذين قتلوا بسبب عبادة العجل وقصة البقرة ، فسيأتى ما يشابههما من إحياء حيوانات وأناس ، عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى بن مريم والله أعلم.

وقد ذكر أبو نعيم هاهنا أشياء أخر تركناها اختصارا واقتصادا. وقال هشام بن عمارة فى كتابه المبعث :

٤٣٢

باب

ما أعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أعطي الأنبياء قبله

حدثنا محمد بن شعيب ، حدثنا روح بن مدرك ، أخبرنى عمر بن حسان التميمى أن موسى عليه‌السلام أعطى آية من كنوز العرش ، رب لا تولج الشيطان فى قلبى وأعذنى منه ومن كل سوء ، فإن لك اليد والسلطان والملك والملكوت ، دهر الداهرين وأبد الآبدين آمين آمين ، قال : وأعطى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيتان من كنوز العرش ، آخر سورة البقرة : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (١) إلى آخرها.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٥.

٤٣٣
٤٣٤

قصة حبس الشمس

على يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليهم‌السلام ، وقد كان نبى بنى إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام ، وهو الّذي خرج ببنى إسرائيل من التيه ودخل بهم بيت المقدس بعد حصار ومقاتلة ، وكان الفتح قد ينجز بعد العصر يوم الجمعة وكادت الشمس تغرب ويدخل عليهم السبت فلا يتمكنون معه من القتال ، فنظر إلى الشمس فقال : إنك مأمورة وأنا مأمور ، ثم قال : اللهم احبسها على ، فحبسها الله عليه حتى فتح البلد ثم غربت.

وقد قدمنا فى قصة من قصص الأنبياء الحديث الوارد فى صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر بن همام عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : غزا نبى من الأنبياء فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور ، اللهم امسكها على شيئا ، فحبست عليه حتى فتح الله عليه ، الحديث بطوله ، وهذا النبي هو يوشع بن نون ، بدليل ما رواه الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر بن هشام عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه‌السلام ليالى سار إلى بيت (١).

تفرد به أحمد وإسناده على شرط البخارى ، إذا علم هذا فانشقاق القمر فلقتين حتى صارت فلقة من وراء الجبل ـ أعنى حراء ـ وأخرى من دونه ، أعظم فى المعجزة من حبس الشمس قليلا.

وقد قدمنا فى الدلائل حديث رد الشمس بعد غروبها ، وذكرنا ما قيل

__________________

(١) أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٥).

٤٣٥

فيه من المقالات فالله علم ، قال شيخنا العلامة أبو المعالى بن الزملكانى : وأما حبس الشمس ليوشع فى قتال الجبارين ، فقد انشق القمر لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانشقاق القمر فلقتين أبلغ من حبس الشمس عن مسيرها ، وصحت الأحاديث وتواترت بانشقاق القمر ، وأنه كان فرقة خلف الجبل وفرقة أمامه ، وأن قريشا قالوا : هذا سحر أبصارنا ، فوردت المسافرون وأخبروا أنهم رأوه مفترقا ، قال الله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢)) (١).

قال : وقد حبست الشمس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ، إحداهما ما رواه الطحاوى وقال : رواته ثقات ، وسماهم وعدهم واحدا واحدا ، وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوحى إليه ورأسه فى حجر على رضى الله عنه فلم يرفع رأسه حتى غربت الشمس ، ولم يكن على صلى العصر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس ، فرد الله عليه الشمس حتى رؤيت ، فقام على فصلى العصر ، ثم غربت.

والثانية صبيحة الإسراء فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر قريشا عن مسراه من مكة إلى بيت المقدس ، فسألوه عن أشياء من بيت المقدس فجلاه الله له حتى نظر إليه ووصفه لهم ، وسألوه عن عير كانت لهم فى الطريق فقال : إنها تصل إليكم مع شروق الشمس ، فتأخرت فحبس الله الشمس عن الطلوع حتى كانت العصر ، روى ذلك ابن بكير فى زياداته على السنن.

أما حديث رد الشمس بسبب على رضى الله عنه ، فقد تقدم ذكرنا له من طريق أسماء بنت عميس ، وهو أشهرها ، وابن سعيد وأبى هريرة وعلى نفسه ، وهو مستنكر من جميع الوجوه ، وقد مال إلى تقويته أحمد بن صالح

__________________

(١) سورة القمر ، الآيتان : ١ ، ٢.

٤٣٦

المصرى الحافظ ، وأبو حفص الطحاوى ، والقاضى عياض ، وكذا صححه جماعة من العلماء الرافضة كابن المطهر وذويه ، ورده وحكم بضعفة آخرون من كبار حفاظ الحديث ونقادهم ، كعلى بن المدينى ، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجانى ، وحكاه عن شيخه محمد ويعلى بن عبيد الطنافسيين ، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخارى المعروف بابن زنجويه أحد الحفاظ ، والحافظ الكبير أبى القاسم بن عساكر ، وذكره الشيخ جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزى فى كتاب الموضوعات ، وكذلك صرح بوضعه شيخاى الحافظان الكبيران أبو الحجاج المزى ، وأبو عبد الله الذهبى.

وأما ما ذكره يونس بن بكير فى زياداته على السيرة من تأخر طلوع الشمس عن إبان طلوعها ، فلم ير لغيره من العلماء ، على أن هذا ليس من الأمور الشاهدة ، وأكثر ما فى الباب أن الراوى روى تأخير طلوعها ولم نشاهد حبسها عن وقته ، وأغرب من هذا ما ذكره ابن المطهر فى كتابه المنهاج ، أنها ردت لعلى مرتين ، فذكر الحديث المتقدم ، كما ذكر. ثم قال : وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل ، اشتغل كثير من أصحابه بسبب دوابهم ، وصلى لنفسه فى طائفة من أصحابه العصر ، وفاتت كثيرا منهم فتكلموا فى ذلك ، فسأل الله رد الشمس فردت.

٤٣٧
٤٣٨

القول فيما أعطي إدريس عليه‌السلام

قال : وذكر أبو نعيم بعد موسى إدريس عليه‌السلام وهو عند كثير من المفسرين من أنبياء بنى إسرائيل ، وعند محمد ابن إسحاق بن يسار وآخرين من علماء النسب قبل نوح عليه‌السلام ، فى عمود نسبه إلى آدم عليه‌السلام ، كما تقدم التنبيه على ذلك ، فقال : من الرفعة التى نوه الله بذكرها فقال (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)) (١) قال : والقول فيه أن نبينا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى أفضل وأكمل من ذلك ، لأن الله تعالى رفع ذكره فى الدنيا والآخرة فقال (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) (٢) فليس خطيب ولا شفيع ولا صحاب صلاة إلا ينادى بها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فقرن الله اسمه باسمه ، فى مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك مفتاحا للصلاة المفروضة.

ثم أورد حديث ابن لهيعة عن دراج عن أبى الهشيم عن أبى سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) قال : قال جبريل : قال الله : إذا ذكرت ذكرت ، ورواه ابن جرير وابن أبى عاصم من طريق دراج. ثم قال : حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفيّ ، حدثنا موسى ابن سهل الجونى ، حدثنا أحمد بن القاسم بن بهوام الهيتى ، حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء عن الزهرى عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما فرغت ما أمرنى الله تعالى به من أمر السموات والأرض قلت : يا رب إنه لم يكن نبى قبلى إلا قد كرمته ، جعلت إبراهيم خليلا ، وموسى كليما ، وسخرت لداود الجبال ، ولسليمان الريح والشياطين ، وأحييت لعيسى الموتى ، فما جعلت لى؟ قال : أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله ،

__________________

(١) سورة مريم ، الآية : ٥٧.

(٢) سورة الشرح ، الآية : ٤.

٤٣٩

أن لا أذكر إلا ذكرت معى ، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرءون القرآن ظاهرا ولم أعطها أمة ، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشى : لا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذا إسناد فيه غرابة ، ولكن أورد له شاهدا من طريق أبى القاسم ابن بنت منيع البغوى عن سليمان بن داود المهرانى عن حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا بنحوه.

وقد رواه أبو زرعة الرازى فى كتاب دلائل النبوة بسياق آخر ، وفيه انقطاع ، فقال : حدثنا هشام بن عمار الدمشقى ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا شعيب بن زريق أنه سمع عطاء الخراسانى يحدث عن أبى هريرة وأنس ابن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث ليلة أسرى به. قال : لما أرانى الله من آياته فوجدت ريحا طيبة فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذه الجنة ، قلت : يا ربى ائتنى بأهلى. قال الله تعالى : لك ما وعدتك ، كل مؤمن لم يتخذ من دونى أندادا ، ومن أقرضنى قربته ، ومن توكل على كفيته ، ومن سألنى أعطيته ، ولا ينقص نفقته ، ولا ينقص ما يتمنى ، لك ما وعدتك ، فنعم دار المتقين أنت.

قلت : رضيت ، فلما انتهينا إلى سدرة المنتهى خررت ساجدا فرفعت رأسى فقلت : يا رب اتخذت إبراهيم خليلا ، وكلمت موسى تكليما ، وآتيت داود زبورا ، وآتيت سليمان ملكا عظيما ، قال : فإنى قد رفعت لك ذكرك ، ولا تجوز لأمتك خطبة حتى شهدوا أنك رسولى ، وجعلت قلوب أمتك أناجيل ، وآتيتك خواتيم سورة البقرة من تحت عرشى.

ثم روى من طريق الربيع بن أنس عن أبى العالية عن أبى هريرة ، حديث الإسراء بطوله ، كما سقناه من طريق ابن جرير فى التفسير ، وقال

٤٤٠