معجزات النبي

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

معجزات النبي

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


المحقق: إبراهيم أمين محمّد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة التوفيقيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

القول فيما أوتى صالح عليه‌السلام

قال أبو نعيم : فإن قيل : فقد أخرج الله لصالح ناقة من الصخرة جعلها الله له آية وحجة على قومه وجعل لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم معلوم ، قلنا : وقد أعطى الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك ، بل أبلغ لأن ناقة صالح لم تكلمه ولم تشهد له بالنبوة والرسالة ، ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهد له البعير بالرسالة ، وشكا إليه ما يلقى من أهله ، من أنهم يجيعونه ويريدون ذبحه ، ثم ساق الحديث بذلك كما قدمنا فى دلائل النبوة بطرقه وألفاظه وغرره بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وهو فى الصحاح والحسان والمسانيد ، وقد ذكرنا مع ذلك حديث الغزالة ، وحديث الضب وشهادتهما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة ، كما تقدم التنبيه على ذلك والكلام فيه ، وثبت الحديث فى الصحيح بتسليم الحجر عليه قبل أن يبعث ، وكذلك سلام الأشجار والأحجار والمدر عليه قبل أن يبعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٠١
٤٠٢

القول فيما أوتى إبراهيم الخليل عليه‌السلام

قال شيخنا العلامة أبو المعالى بن الزملكانى رحمه‌الله : وأما خمود النار لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فقد خمدت لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نار فارس لمولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبينه وبين بعثته أربعون سنة ، وخمدت نار إبراهيم لمباشرته لها ، وخمدت نار فارس لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينه وبينها مسافة أشهر كذا.

وهذا الّذي أشار إليه من خمود نار فارس ليلة مولده الكريم ، قد ذكرناه بأسانيده وطرقه فى أول السيرة ، عند ذكر المولد المطهر الكريم ، بما فيه كفاية ومقنع.

ثم قال شيخنا : مع أنه قد ألقى بعض هذه الأمة فى النار فلم تؤثر فيه ببركة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم أبو مسلم الخولانى ، قال : بينما الأسود بن قيس العنسى باليمن ، فأرسل إلى أبى مسلم الخولانى فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أنى رسول الله؟ قال : ما أسمع ، فأعاد إليه ، قال : ما أسمع ، فأمر بنار عظيمة فأججت فطرح فيها أبو مسلم فلم تضره ، فقيل له : لئن تركت هذا فى بلادك أفسدها عليك ، فأمره بالرحيل ، فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخلف أبو بكر ، فقام إلى سارية من سوارى المسجد يصلى ، فبصر به عمر فقال من أين الرجل؟ قال : من اليمن ، قال : ما فعل الله بصاحبنا الّذي حرق بالنار فلم تضره؟ قال : ذاك عبد الله بن أيوب ، قال : نشدتك بالله أنت هو؟ قال : اللهم نعم ، قال : فقبل ما بين عينيه ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبى بكر الصديق وقال : الحمد لله الّذي لم يمتنى حتى أرانى فى أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام.

وهذا السياق الّذي أورده شيخنا بهذه الصفة.

٤٠٣

وقد رواه الحافظ الكبير ، أبو القاسم بن عساكر رحمه‌الله فى ترجمة أبى مسلم عبد الله بن أيوب فى تاريخه من غير وجه ، عن عبد الوهاب بن محمد عن إسماعيل ابن عياش الحطيمى : حدثنى شراحيل بن مسلم الخولانى أن الأسود بن قيس بن ذى الحمار العنسى تنبأ باليمن ، فأرسل إلى أبى مسلم الخولانى فأتى به فلما جاء به قال : أتشهد أنى رسول الله؟ قال : ما أسمع ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أنى رسول الله؟ قال: ما أسمع ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : فردد عليه ذلك مرارا ثم أمر بنار عظيمة فأججت فألقى فيها فلم تضره ، فقيل للأسود : انفه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك ، فأمره فارتحل ، فأتى المدينة وقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستخلف أبو بكر ، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد ، ثم دخل المسجد وقام يصلى إلى سارية ، فبصر به عمر ابن الخطاب ، فأتاه فقال : ممن الرجل؟ فقال : من أهل اليمن ، قال : ما فعل الرجل الّذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال : ذاك عبد الله بن أيوب ، قال : فأنشدك بالله أنت هو؟ قال : اللهم نعم ، قال : فاعتنقه ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبى بكر الصديق ، فقال: الحمد لله الّذي لم يمتنى حتى أرانى من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن.

قال إسماعيل بن عياش : فأنا أدركت رجالا من الأمداد الذين يمدون إلينا من اليمن من خولان ، ربما تمازحوا فيقول الخولانيون للعنسيين : صاحبكم الكذاب حرق صاحبنا بالنار ولم تضره.

وروى الحافظ ابن عساكر أيضا من غير وجه عن إبراهيم بن دحيم : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد ، أخبرنى سعيد بن بشير عن أبى بشر ـ جعفر ابن أبى وحشية ـ أن رجلا أسلم فأراده قومه على الكفر فألقوه فى نار فلم يحترق منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يصيبها الوضوء ، فقدم على أبى بكر فقال : استغفر لى ، قال : أنت أحق قال أبو بكر : أنت ألقيت فى النار

٤٠٤

فلم تحترق ، فاستغفر له ثم خرج إلى الشام ، وكانوا يسمونه بإبراهيم عليه‌السلام ، وهذا الرجل هو أبو مسلم الخولانى ، وهذه الرواية بهذه الزيادة تحقق أنه إنما نال ذلك ببركة متابعته الشريعة المحمدية المطهرة المقدسة ، كما جاء فى حديث الشفاعة : وحرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود ، وقد نزل أبو مسلم بداريا من غربى دمشق وكان لا يسبقه أحد إلى المسجد الجامع بدمشق وقت الصبح ، وكان يغازى ببلاد الروم ، وله أحوال وكرامات كثيرة جدا ، وقبره مشهور بداريا ، والظاهر أنه مقامه الّذي كان يكون فيه ، فإن الحافظ ابن عساكر رجح أنه مات ببلاد الروم ، فى خلافة معاوية ، وقيل : فى أيام ابنه يزيد ، بعد الستين والله أعلم.

وقد وقع لأحمد بن أبى الحوارى من غير وجه أنه جاء إلى أستاذه أبى سليمان يعلمه بأن التنور قد سجروه وأهله ينتظرون ما يأمرهم به ، فوجده يكلم الناس وهم حوله فأخبره بذلك فاشتغل عنه بالناس ، ثم أعلمه فلم يلتفت إليه ، ثم أعلمه مع أولئك الذين حوله ، فقال : اذهب فاجلس فيه ، فذهب أحمد بن أبى الحوارى إلى التنور فجلس فيه وهو يتضرم نارا فكان عليه بردا وسلاما ، وما زال فيه حتى استيقظ أبو سليمان من كلامه فقال لمن حواله : قوموا بنا إلى أحمد بن أبى الحوارى ، فإنى أظنه قد ذهب إلى التنور فجلس فيه امتثالا لما أمرته ، فذهبوا فوجدوه جالسا فيه ، فأخذ بيده الشيخ أبو سليمان وأخرجه منه ، رحمة الله عليهما ورضى الله عنهما.

وقال شيخنا أبو المعالى : وأما إلقاؤه ـ يعنى إبراهيم عليه‌السلام ـ من المنجنيق ، فقد وقع فى حديث البراء بن مالك فى وقعة مسيلمة الكذاب ، وأن أصحاب مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا الباب ، فقال البراء بن مالك : ضعونى على برش واحملونى على رءوس الرماح ثم ألقونى من أعلاها داخل الباب ، ففعل ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين ، وقتل مسيلمة ، قلت : وقد ذكر مستقصى فى أيام الصديق حين

٤٠٥

بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبنى حنيفة ، وكانوا فى قريب (من) مائة ألف أو يزيدون ، وكان المسلمون بضعة عشر ألفا ، فلما التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون ، فقال المهاجرون والأنصار : خلصنا يا خالد ، فميزهم عنهم ، وكان المهاجرون والأنصار قريبا من ألفين وخمسمائة ، فصمموا الحملة وجعلوا يتدابرون ويقولون : يا أصحاب سورة البقرة ، بطل السحر اليوم ، فهزموهم بإذن الله ولجئوهم إلى حديقة هناك ، وتسمى حديقة الموت ، فتحصنوا بها ، فحصروهم فيها ، ففعل البراء بن مالك ، أخو أنس ابن مالك ـ وكان الأكبر ـ ما ذكر من رفعه على الأسنة فوق الرماح حتى تمكن من أعلى سورها ، ثم ألقى نفسه عليهم ونهض سريعا إليهم ، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبرون وانتهوا إلى قصر مسيلمة وهو واقف خارجه عند جدار كأنه جمل أزرق ، أى من سمرته ، فابتدروه وحشى ابن حرب الأسود ، قاتل حمزة ، بحربته ، وأبو دجانة سماك بن حرشة الأنصارى ـ وهو الّذي ينسب إليه شيخنا هذا أبو المعالى بن الزملكانى ـ فسبقه وحشى فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه ، وجاء إليه أبو دجانة فعلاه بسيفه فقتله ، لكن صرخت جارية من فوق القصر : وا أميراه ، قتله العبد الأسود ، ويقال : إن عمر مسيلمة يوم قتل مائة وأربعين سنة ، لعنة الله ، فمن طال عمره وساء عمله قبحه الله.

وهذا ما ذكره شيخنا فيما يتعلق بإبراهيم الخليل عليه‌السلام.

وأما الحافظ أبو نعيم فإنه قال : فإن قيل : فإن إبراهيم اختص بالخلة مع النبوة ، قيل: فقد اتخذ الله محمدا خليلا وحبيبا ، والحبيب ألطف من الخليل. ثم ساق من حديث شعبة عن أبى إسحاق عن أبى الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله ، وقد رواه مسلم من طريق شعبة والثورى عن أبى إسحاق ، ومن طريق عبد الله بن مرة ، وعبد

٤٠٦

الله بن أبى الهديل ، كلهم عن أبى الأحوص ، عوف ابن مالك الجشيمى ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكنه أخى وصاحبى ، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ، هذا لفظ مسلم ، ورواه أيضا منفردا به عن جندب بن عبد الله البجلي كما سأذكره.

وأصل الحديث فى الصحيحين عن أبى سعيد ، وفي إفراد البخاري عن ابن عباس وابن الزبير كما سقت ذلك في فضائل الصديق رضي الله عنه.

وقد أوردناه هنالك من رواية أنس والبراء وجابر وكعب بن مالك وأبى الحسين بن العلى وأبى هريرة. وأبى واقد الليثى وعائشة أم المؤمنين رضى الله عنهم أجمعين.

ثم إنما رواه أبو نعيم من حديث عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة عن كعب بن مالك أنه قال : عهدى نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعته يقول : لم يكن نبى إلا له خليل من أمته ، وإن خليلى أبو بكر ، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا ، وهذا الإسناد ضعيف ، ومن حديث محمد ابن عجلان عن أبيه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لكل نبى خليل ، وخليلى أبو بكر بن أبى قحافة ، وخليل صاحبكم الرحمن ، وهو غريب من هذا الوجه ، ومن حديث عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن كثير بن مرة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ومنزلى ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين والعباس بيننا مؤمن بين خليلين ، غريب وفى إسناده نظر ، انتهى ما أورده أبو نعيم رحمه‌الله ، وقال مسلم بن الحجاج فى صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وإسحاق بن إبراهيم ، قالا : حدثنا زكريا ابن عدى ، حدثنا عبيد الله ابن عمرو ، حدثنا زيد بن أبى أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن

٤٠٧

الحارث ، حدثنى جندب ابن عبد الله قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إن أبرأ إلى الله عزوجل أن يكون لى بينكم خليلا فإن الله قد اتخذنى خليلا كما اتخذ الله إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إنى أنهاكم عن ذلك ، وأما اتخاذه حسينا خليلا ، فلم يتعرض لإسناده أبو نعيم.

وقد قال هشام بن عمار فى كتابه المبعث : حدثنا يحيى ابن حمزة الحضرمى وعثمان بن علان القرشى ، قالا : حدثنا عروة بن رويم اللخمى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله أدرك بى الأجل المرقوم وأخذنى لقربه ، واحتضرنى احتضارا ، فنحن الآخرون ، ونحن السابقون يوم القيامة ، وأنا قائل قولا غير فخر : إبراهيم خليل الله ، وموسى صفى الله ، وأنا حبيب الله ، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأن بيدى لواء الحمد ، وأجارنى الله عليكم من ثلاث أن لا يهلككم بسنة ، وأن يستبيحكم عدوكم ، وأن لا تجمعوا على ضلالة ، وأما الفقيه أبو محمد عبد الله ابن حامد فتكلم على مقام الخلة بكلام طويل إلى أن قال : ويقال : الخليل الّذي يعبد ربه على الرغبة والرهبة ، من قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)) (١) من كثرة ما يقول : أواه ، والحبيب الّذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة ، ويقال الخليل الّذي يكون معه انتظار العطاء ، والحبيب الّذي يكون معه انتظار اللقاء ، ويقال الخليل الّذي يصل بالواسطة من قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)) (٢) والحبيب الّذي يصل إليه من غير واسطة ، من قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٣) وقال الخليل : (وَالَّذِي

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١١٤.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٧٥.

(٣) سورة النجم ، الآية : ٩.

٤٠٨

أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)) (١) وقال الله للحبيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢) وقال الخليل : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٣) وقال الله للنبى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٤) وقال الخليل حين ألقى فى النار : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)) (٥) وقال الله لمحمد : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)) (٦) وقال الخليل : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٧) وقال الله لمحمد : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٨) وقال الخليل : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)) (٩) وقال الله لمحمد : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (١٠) وقال الخليل : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥)) (١١) وقال الله للحبيب : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)) (١٢) وقال الخليل : (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥)) (١٣) وقال الله لمحمد : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١٤) ، وذكر أشياء أخر.

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية : ٨٢.

(٢) سورة الفتح ، الآية : ٢.

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ٨٧.

(٤) سورة التحريم ، الآية : ٨.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٣.

(٦) سورة الأنفال ، الآية : ٦٤.

(٧) سورة الصافات ، الآية : ٩٩.

(٨) سورة الضحى ، الآية : ٧.

(٩) سورة الشعراء ، الآية : ٨٤.

(١٠) سورة الشرح ، الآية : ٤.

(١١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٥.

(١٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

(١٣) سورة الشعراء ، الآية : ٨٥.

(١٤) سورة الكوثر ، الآية : ١.

٤٠٩

وسيأتى الحديث فى صحيح مسلم عن أبى بن كعب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنى سأقوم مقاما يوم القيامة يرغب إلى الخلق كلهم حتى أبوهم إبراهيم الخليل ، فدل على أنه أفضل إذ هو يحتاج إليه فى ذلك المقام ، ودل على أن إبراهيم أفضل الخلق بعده ، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره.

ثم قال أبو نعيم : فإن قيل : إن إبراهيم عليه‌السلام حجب عن نمروذ بحجب ثلاثة ، قيل : فقد كان كذلك وحجب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن أرادوه بخمسة حجب ، قال الله تعالى فى أمره : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)) (١) فهذه ثلاث ، ثم قال : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)) (٢) ثم قال : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)) (٣) فهذه خمس حجب.

وقد ذكر مثله سواء الفقيه أبو محمد بن حامد ، وما أدرى أيهما أخذ من الآخر والله أعلم ، وهذا الّذي قاله غريب ، والحجب التى ذكرها لإبراهيم عليه‌السلام لا أدرى ما هى ، كيف وقد ألقاه فى النار التى نجاه الله منها ، وأما ما ذكره من الحجب التى استدل عليها بهذه الآيات ، فقد قيل : إنها جميعها معنوية لا حسية ، بمعنى أنهم مصرفون عن الحق ، لا يصل إليهم ، ولا يخلص إلى قلوبهم ، كما قال تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٤) وقد حررنا ذلك في التفسير.

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٩.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٤٥.

(٣) سورة يس ، الآية : ٨.

(٤) سورة فصلت ، الآية : ٥.

٤١٠

وقد ذكرنا فى السيرة وفى التفسير أن أم جميل امرأة أبى لهب ، لما نزلت السورة فى ذمها وذم زوجها ، ودخولهما النار ، وخسارهما ، جاءت بفهر ـ وهو الحجر الكبير ـ لترجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتهت إلى أبى بكر وهو جالس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالت لأبى بكر : أين صاحبك؟ فقال : وماله؟ فقالت : إنه هجانى ، فقال : ما هجاك ، فقالت : والله لئن رأيته لأضربنه بهذا الفهر ، ثم رجعت وهى تقول : مذمما أتينا ، ودينه قلينا، وكذلك حجب ومنع أبا جهل حين هم أن يطأ برجله رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ساجد ، فرأى جدثا من نار وهو لا عظيما وأجنحة الملائكة دونه ، فرجع القهقرى وهو يتقى بيديه ، فقالت له قريش : ما لك ، ويحك؟ فأخبرهم بما رأى ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أقدم لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ، وكذلك لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه ، وأرسلوا إلى بيته رجالا يحرسونه لئلا يخرج ، ومتى عاينوه قتلوه ، فأمر عليا فنام على فراشه ، ثم خرج عليهم وهم جلوس ، فجعل يذر على رأس كل إنسان منهم ترابا ويقول : شاهت الوجوه ، فلم يروه حتى صار هو وأبو بكر الصديق إلى غار ثور ، كما بسطنا ذلك فى السيرة ، وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سد على باب الغار ليعمى الله عليهم مكانه.

وفى الصحيح أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا ، فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما (١)؟ وقد قال بعض الشعراء فى ذلك :

نسج داود ما حمى صاحب الغار

وكان الفخار للعنكبوت

وكذلك حجب ومنع من سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبعهم ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي لله (٣٦٥٣) (١٠ / ٥٢٧) وأحمد في مسنده (١ / ٤٣٤).

٤١١

بسقوط قوائم فرسه فى الأرض حتى أخذ منه أمانا كما تقدم بسطه فى الهجرة.

وذكر ابن حامد فى كتابه فى «المقابلة» إضجاع إبراهيم عليه‌السلام ولده للذبح مستسلما لأمر الله تعالى ، ببذل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه للقتل يوم أحد وغيره حتى نال منه العدو ما نالوا ، من هشم رأسه ، وكسر ثنيته اليمنى السفلى ، كما تقدم بسط ذلك فى السيرة ، ثم قال : قالوا : كان إبراهيم عليه‌السلام ألقاه قومه فى النار فجعلها الله بردا وسلاما ، قلنا : وقد أوتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله ، وذلك أنه لما نزل بخيبر سمته الخيبرية ، فصير ذلك السم فى جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله ، والسم عرق إذ لا يستقر فى الجوف كما تحرق النار.

قلت : وقد تقدم الحديث بذلك فى فتح خيبر ، ويؤيد ما قاله أن بشر ابن البراء بن معرور مات سريعا من تلك الشاة المسمومة ، وأخبر ذراعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أودع فيه من السم ، وكان قد نهش منه نهشة ، وكان السم فيه أكثر ، لأنهم كانوا يفهمون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الذراع ، فلم يضره السم الّذي حصل فى باطنه بإذن الله عزوجل ، حتى انقضى أجله ، فذكر أنه وجد حينئذ من ألم ذلك السم الّذي كان فى تلك الأكلة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،.

وقد ذكرنا فى ترجمة خالد بن الوليد المخزومى ، فاتح بلاد الشام ، أنه أتى بسم فحثاه بحضرة الأعداء ليرهبهم بذلك ، فلم ير بأسا ، رضى الله عنه.

ثم قال أبو نعيم : فإن قيل : فإن إبراهيم خصم نمروذ ببرهان نبوته فبهته ، قال الله تعالى : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (١) قيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه الكذاب بالبعث ، أبى بن خلف ، بعظم بال ففركه وقال : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٥٨.

٤١٢

رَمِيمٌ (٧٨)) (١) فأنزل الله تعالى البرهان الساطع : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)) (٢) فانصرف مبهوتا ببرهان نبوته.

قلت : وهذا أقطع للحجة ، وهو استدلاله للمعاد بالبداءة ، فالذى خلق الخلق بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ، قادر على إعادتهم كما قال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١)) (٣) أى يعيدهم كما بدأهم كما قال فى الآية الأخرى : (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)) (٤) وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٥) هذا وأمر المعاد نظرى لا فطرى ضرورى فى قول الأكثرين ، فأما الّذي حاج إبراهيم فى ربه فإنه معاند مكابر فإن وجود الصانع مذكورا فى الفطر ، وكل واحد مفطور على ذلك ، إلا من تغيرت فطرته ، فيصير نظريا عنده ، وبعض المتكلمين يجعل وجود الصانع من باب النظر لا الضروريات ، وعلى كل تقدير فدعواه أنه هو الّذي يحيى الموتى ، لا يقبله عقل ولا سمع ، وكل واحد يكذبه بعقله فى ذلك ، ولهذا ألزمه إبراهيم بالإتيان بالشمس من المغرب إن كان كما ادعى (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وكان ينبغى أن يذكر مع هذا أن الله تعالى سلط محمدا على هذا المعاند لما بارز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، فقتله بيده الكريمة ، طعنه بحربة فأصاب ترقوته فتردى عن فرسه مرارا ، فقالوا له : ويحك ما لك؟ فقال : والله إن بى لما لو كان بأهل ذى المجاز لماتوا أجمعين : ألم يقل : بل أنا أقتله؟ والله لو بصق على لقتلنى ـ وكان هذا لعنه الله قد أعد فرسا وحربة ليقتل بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله ـ فكان كذلك يوم أحد.

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٧٨.

(٢) سورة يس ، الآية : ٧٩.

(٣) سورة يس الآية : ٨١.

(٤) سورة القيامة ، الآية : ٤٠.

(٥) سورة الروم ، الآية : ٢٧.

٤١٣

ثم قال أبو نعيم : فإن قيل : فإن إبراهيم عليه‌السلام كسر أصنام قومه غضبا لله ، قيل : فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسر ثلاثمائة وستين صنما ، قد ألزمها الشيطان بالرصاص والنحاس ، فكان كلما دنا منها بمخصرته تهوى من غير أن يمسها ، ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)) (١) فتساقط لوجوهها ، ثم أمر بهن فأخرجن إلى الميل ، وهذا أظهر وأجلى من الّذي قبله. وقد ذكرنا هذا فى أول دخول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصحاح وغيرها ، بما فيه كفاية ، وقد ذكر غير واحد من علماء السير أن الأصنام تساقطت أيضا لمولده الكريم ، وهذا أبلغ وأقوى فى المعجز من مباشرة كسرها ، وقد تقدم أن نار فارس التى كانوا يعبدونها خمدت أيضا ليلتئذ ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وأنه سقط من شرفات قصر كسرى أربع عشر شرفة ، مؤذنة بزوال دولتهم بعد هلاك أربعة عشر من ملوكهم فى أقصر مدة ، وكان لهم فى الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة ، وأما إحياء الطيور الأربعة لإبراهيم عليه‌السلام ، فلم يذكر أبو نعيم ولا ابن حامد. وسيأتى فى إحياء الموتى على يد عيسى عليه‌السلام ما وقع من المعجزات المحمدية من هذا النمط ما هو مثل ذلك كما سيأتى التنبيه عليه إذا انتهينا إليه ، من إحياء أموات بدعوات أمته ، وحنين الجذع ، وتسليم الحجر والشجر والمدر عليه ، وتكليم الذراع له وغير ذلك.

وأما قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)) (٢) والآيات بعدها ، فقد قال الله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)) (٣).

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٨١.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٧٥.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ١.

٤١٤

وقد ذكر ذلك ابن حامد فيما وقفت عليه بعد ، وقد ذكرنا فى أحاديث الإسراء من كتابنا هذا ، ومن التفسير ما شاهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسرى به من الآيات فيما بين مكة إلى بيت المقدس وفيما بين ذلك إلى سماء الدنيا ، ثم عاين من الآيات فى السموات السبع وما فوق ذلك ، وسدرة المنتهى ، وجنة المأوى ، والنار التى هى بئس المصير والمثوى ، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام فى حديث المنام ـ وقد رواه أحمد والترمذي وصححه ، وغيرهما ـ فتجلى لى كل شيء وعرفت ، وذكر ابن حامد فى مقابلة ابتلاء الله يعقوب عليه‌السلام بفقده ولده يوسف عليه‌السلام وصبره واستعانته ربه عزوجل ، موت إبراهيم بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصبره عليه ، وقوله : تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ، قلت : وقد مات بناته الثلاثة : رقية ، وأم كلثوم ، وزينب ، وقتل عمه الحمزة ، أسد الله وأسد رسوله يوم أحد ، فصبر واحتسب ، وذكر فى مقابلة حسن يوسف عليه‌السلام ما ذكر من جمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومهابته وحلاوته شكلا ونفعا وهديا ، ودلا ، ويمنا ، كما تقدم فى شمائله من الأحاديث الدالة على ذلك ، كما قالت الربيع بنت مسعود : لو رأيته لرأيت الشمس طالعة ، وذكر فى مقابلة ما ابتلى به يوسف عليه‌السلام من الفرقة والغربة ، هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة ، ومفارقته وطنه وأهله وأصحابه الذين كانوا بها.

٤١٥
٤١٦

القول فيما أوتى موسى عليه‌السلام من الآيات

وأعظمهن تسع آيات كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) (١) وقد شرحناها فى التفسير ، وحكينا قول السلف فيها ، واختلافهم فيها ، وأن الجمهور على أنها هى العصا فى انقلابها حية تسعى ، واليد ، إذا أدخل يده فى جيبه درعه أخرجها تضيء كقطعة قمر يتلألأ إضاءة ، ودعاؤه على قوم فرعون حين كذبوه فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات ، كما بسطنا ذلك فى التفسير ، وكذلك أخذهم الله بالسنين وهى نقص الحبوب ، وبالجدب وهو نقص الثمار ، وبالموت الذريع وهو نقص الأنفس ، وهو الطوفان فى قول : ومنها فلق البحر لإنجاء بنى إسرائيل وإغراق آل فرعون ، ومنها تضليل بنى إسرائيل فى التيه ، وإنزال المن والسلوى عليهم واستسقاؤه لهم ، فجعل الله ماءهم يخرج من حجر يحمل معهم على دابة ، له أربعة وجوه ، إذا ضربه موسى بعصاه يخرج من كل وجه ثلاثة أعين كل سبط عين ، ثم يضربه فينقلع ، إلى غير ذلك من الآيات الباهرات ، كما بسطنا ذلك فى التفسير ، وفى قصة موسى عليه‌السلام من كتابنا هذا فى قصص الأنبياء منه ، ولله الحمد والمنة. وقيل : كل من عبد العجل أماتهم ثم أحياهم الله تعالى ، وقصة البقرة.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ١٠١.

٤١٧
٤١٨

مقارنة بين عصا موسى وتسبيح الحصى في يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أما العصا فقال شيخنا العلامة ابن الزملكانى : وأما حياة عصا موسى ، فقد سبح الحصا فى كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جماد ، والحديث فى ذلك صحيح ، وهذا الحديث مشهور عن الزهرى عن رجل عن أبى ذر.

وقد قدمنا ذلك مبسوطا فى دلائل النبوة بما أغنى عن إعادته ، وقيل : إنهن سبحن فى كف أبى بكر ثم عمر ثم عثمان ، كما سبحن فى كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : هذه خلافة النبوة ، وقد روى الحافظ بسنده إلى بكر بن حبيش عن رجل سماه قال : كان بيد أبى مسلم الخولانى سبحة يسبح بها ، قال : فنام والسبحة فى يده قال : فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وهى تقول : سبحانك يا منبت النبات ، ويا دائم الثبات ، فقال : هلم يا أم مسلم وانظرى إلى أعجب الأعاجيب ، قال : فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكتت.

وأصح من هذا كله وأصرح حديث البخارى عن ابن مسعود قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (١) ، قال شيخنا : وكذلك قد سلمت عليه الأحجار ، قلت : وهذا قد رواه مسلم عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى لأعرف حجرا كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث ، إنى لأعرفه الآن (٢) ، قال بعضهم : هو الحجر الأسود.

وقال الترمذي : حدثنا عباد بن يعقوب الكوفى ، حدثنا الوليد بن أبى ثور عن السدى عن عباد بن يزيد عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فى بعض نواحيها ، فما استقبله جبل ولا شجر إلا

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب المناقب (٣٥٧٩) (١٠ / ٤٣٨).

(٢) أحمد في مسنده (٥ / ٨٩).

٤١٩

قال : السلام عليك يا رسول الله ، ثم قال : غريب ورواه أبو نعيم فى الدلائل من حديث السدى عن أبى عمارة الحيوانى عن على قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل لا يمر بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا قال : السلام عليك يا رسول الله ، قال : وأقبلت الشجرة عليه بدعائه ، وذكر اجتماع تينك الشجرتين لقضاء حاجته من ورائهما ثم رجوعهما إلى منابتهما ، وكلا الحديثين فى الصحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك حلول حياة فيهما ، إذ يكونان ساقهما سائق ، ولكن فى قوله : انقادا على بإذن الله ، ما يدل على حصول شعور منهما لمخاطبته ، ولا سيما مع امتثالهما ما أمرهما به ، قال : وأمر عذقا من نخلة أن ينزل فنزل يبقر فى الأرض حتى وقف بين يديه فقال : أتشهد أنى رسول الله؟ فشهد بذلك ثلاثا ثم عاد إلى مكانه ، وهذا أليق وأظهر فى المطابقة من الّذي قبله ، ولكن هذا السياق فيه غرابة ، والّذي رواه الإمام أحمد وصححه الترمذي.

ورواه البيهقى والبخارى فى التاريخ من رواية أبى ظبيان حصين ابن المنذر عن ابن عباس قال : جاء أعرابى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يم أعرف أنك رسول الله؟ قال : أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أنى رسول الله؟ قال : نعم ، قال : فدعا العذق فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط فى الأرض فجعل ينقر حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال له : ارجع فرجع إلى مكانه ، فقال : أشهد أنك رسول الله ، وآمن به ، هذا لفظ البيهقى ، وهو ظاهر فى أن الّذي شهد بالرسالة هو الأعرابى ، وكان رجلا من بنى عامر ، ولكن فى رواية البيهقى من طريق الأعمش عن سالم بن أبى الجعد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما هذا الّذي يقول أصحابك؟ قال وحول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعذاق وشجر ، فقال : هل لك أن أريك آية؟ قال : نعم ، فدعا غصنا منها فأقبل يخد الأرض حتى وقف بين يديه وجعل يسجد ويرفع رأسه ، ثم أمره فرجع ، قال : فرجع العامرى وهو يقول ، قال عامر بن صعصعة والله لا أكذبه بشيء يقوله أبدا.

٤٢٠