معجزات النبي

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

معجزات النبي

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


المحقق: إبراهيم أمين محمّد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة التوفيقيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

قصة المباهلة

وقد ذكرنا فى التفسير عن قوله تعالى فى سورة البقرة (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)) (١) ومثلها فى سورة الجمعة وهى قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)) (٢) وذكرنا أقوال المفسرين فى ذلك وأن الصواب أنه دعاهم إلى المباهلة وأن يدعو بالموت على المبطل منهم أو المسلمين ، فنكلوا عن ذلك لعلمهم بظلم أنفسهم ، وأن الدعوة تنقلب عليهم ، ويعود وبالها إليهم ، وهكذا دعا النصارى من أهل نجران حين حاجوه فى عيسى بن مريم ، فأمره الله أن يدعوهم إلى المباهلة فى قوله : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)) (٣) وهكذا دعا على المشركين على وجه المباهلة فى قوله (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (٤) وقد بسطنا القول فى ذلك عند هذه الآيات فى كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) سورة الجمعة ، الآية : ٦ ـ ٧.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٦١.

(٤) سورة مريم ، الآية : ٧٥.

٢٢١
٢٢٢

حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنه رسول الله

ويتضمن تحاكمهم ولكن بقصد منهم مذموم

وذلك أنهم ائتمروا بينهم أنه إن حكم بما يوافق هواهم تبعوه ، وإلا فاحذروا ذلك ، وقد ذمهم الله فى كتابه العزيز على هذا القصد ، قال عبد الله بن المبارك : حدثنا معمر عن الزهرى قال : كنت جالسا عند سعيد بن المسيب وعند سعيد رجل وهو يوقره ، وإذا هو رجل من مزينة ، كان أبوه شهد الحديبية وكان من أصحاب أبى هريرة ، قال : قال أبو هريرة : كنت جالسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ جاء نفر من اليهود ـ وقد زنا رجل منهم وامرأة ـ فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فانه نبى بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا حدا دون الرجم فعلناه واحتججنا عند الله حين نلقاه بتصديق نبى من أنبيائه ، قال مرة عن الزهرى ، وإن أمرنا بالرجم عصيناه فقد عصينا الله فيما كتب علينا من الرجم فى التوراة ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس فى المسجد فى أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى فى رجل منا زنا بعد ما أحصن؟ فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرجع إليهم شيئا ، وقام معه رجال من المسلمين ، حتى أتوا بيت مدارس اليهود فوجدوهم يتدارسون التوراة ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر اليهود ، أنشدكم بالله الّذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون فى التوراة من العقوبة على من زنا إذا أحصن؟ قالوا : نجبيه ، والتجبية أن يحملوا اثنين على حمار فيولوا ظهر أحدهما ظهر الآخر ، قال : وسكت حبرهم وهو فتى شاب ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صامتا ألظ به النشدة ، فقال حبرهم : أما إذ نشدتهم فإنا نجد فى التوراة الرجم على من أحصن ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما أول ما ترخصتم أمر الله عزوجل؟ فقال : زنا رجل منا ذو قرابة بملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم ، فزنا بعده آخر فى أسرة من الناس فأراد ذلك الملك أن يرجمه فقام قومه دونه ، فقالوا : لا والله

٢٢٣

لا نرجمه حتى يرجم فلانا ابن عمه ، فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإنى أحكم بما حكم فى التوراة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما فرجما ، قال الزهرى : وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) (١) وله شاهد فى الصحيح عن ابن عمر ، قلت : وقد ذكرنا ما ورد فى هذا السياق من الأحاديث عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) (٢) يعنى الجلد والتحميم الّذي اصطلحوا عليه وابتدعوه من عند أنفسهم ، يعنى إن حكم لكم محمد بهذا فخذوه ، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) (٣) ، يعنى وإن لم يحكم لكم بذلك فاحذروا قبوله ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)) (٤) إلى أن قال: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)) (٥) فذمهم الله تعالى على سوء ظنهم وقصدهم بالنسبة إلى اعتقادهم فى كتابهم ، وأن فيه حكم الله بالرجم ، وهم مع ذلك يعلمون صحته ، ثم يعدلون عنه إلى ما ابتدعوه من التحميم والتجبية.

وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن الزهرى قال : سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثهم فذكره ، وعنده

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٤١.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٤١.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٤١.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٤٣.

٢٢٤

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن صوريا : أنشدك بالله وأذكرك أيامه عند بنى إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنا بعد إحصانه بالرجم فى التوراة؟ فقال : اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم إنهم يعرفون أنك نبى مرسل ، ولكنهم يحسدونك ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده فى بنى تميم عند مالك بن النجار ، قال : ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) الآيات.

وقد ورد ذكر عبد الله ابن صوريا الأعور فى حديث ابن عمير وغيره بروايات صحيحة قد بيناها فى التفسير.

حديث آخر

قال حماد بن سلمة : حدثنا ثابت عن أنس أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرض فأتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوده ، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا يهودى ، أنشدك بالله الّذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجدون فى التوراة نعتى وصفتى ومخرجى؟ فقال : لا ، فقال الفتى : بلى والله يا رسول الله ، إنا نجد فى التوراة نعتك وصفتك ومخرجك ، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي لأصحابه : أقيموا هذا من عند رأسه ، ولو أخاكم ، ورواه البيهقى من هذا الوجه بهذا اللفظ.

حديث آخر

قال أبو بكر بن أبى شيبة : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء ابن السائب عن أبى عبيدة بن عبد الله عن أبيه قال : إن الله ابتعث نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإدخال رجل الجنة ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنيسة وإذا يهودى يقرأ التوراة ، فلما أتى على صفته أمسك ، قال: وفى ناحيتها رجل مريض ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لكم أمسكتم؟ فقال المريض : إنهم أتوا على صفة نبى فأمسكوا ، ثم جاء

٢٢٥

المريض يحبو حتى أخذ التوراة وقال : ارفع يدك ، فقرأ حتى أتى على صفته ، فقال : هذه صفتك وصفة أمتك ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ثم مات ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لوا أخاكم.

حديث آخر

إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقف على مدارس اليهود فقال : يا معشر يهود أسلموا ، فو الّذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنى رسول الله إليكم ، فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، فقال : ذلك أريد.

تبشير الكتب السابقة به

فالذى يقطع به من كتاب الله وسنة رسوله ، ومن حيث المعنى ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بشرت به الأنبياء قبله ، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك ، ولكن أكثرهم يكتمون ذلك ويخفونه ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)) (١) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (٢) وقال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)) (٣) وقال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآيتان : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١١٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٤٦.

٢٢٦

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) (١) وقال تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (٢) وقال تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٣) وقال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (٤) وقال تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)) (٥) فذكر تعالى بعثته إلى الأميين وأهل الكتاب وسائر الخلق من عربهم وعجمهم ، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والّذي نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهودى ولا نصرانى ولا يؤمن بى إلا دخل النار ، رواه مسلم.

وفى الصحيحين : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى «نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأعطيت السماحة (٦). وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة. وفيهما : بعثت إلى الحجر الأسود والأحمر ، قيل : إلى العرب والعجم ، وقيل : إلى الإنس والجن ، والصحيح أعم من ذلك ، والمقصود أن البشارات به صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودة فى الكتب الموروثة عن الأنبياء قبله حتى تناهت النبوة إلى آخر أنبياء بنى إسرائيل ، وهو عيسى بن مريم ، وقد قام بهذه البشارة فى بنى إسرائيل ، وقص الله خبره فى ذلك فقال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (٧) فأخبار محمد صلوات الله وسلامه عليه بأن ذكره موجود فى الكتب

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٢٠.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٥٢.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٩.

(٤) سورة هود ، الآية : ١٧.

(٥) سورة يس ، الآية : ٧٠.

(٦) البخاري : الشفاعة والحديث أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (٤٣٨) (٢ / ٢٨٣).

(٧) سورة الصف ، الآية : ٦.

٢٢٧

المتقدمة ، فيما جاء به من القرآن.

وفيما ورد عنه من الأحاديث الصحيحة كما تقدم ، وهو مع ذلك من أعقل الخلق باتفاق الموافق والمفارق ، يدل على صدقه فى ذلك قطعا ، لأنه لو لم يكن واثقا بما أخبر به من ذلك ، لكان من أشد المنفرات عنه ، ولا يقدم على ذلك عاقل ، والغرض أنه من أعقل الخلق حتى عند من يخالفه ، بل هو أعقلهم فى نفس الأمر ، ثم إنه قد انتشرت دعوته فى المشارق والمغارب ، وعمت دولة أمته فى أقطار الآفاق عموما لم يحصل لأمة من الأمم قبلها ، فلو لم يكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ، لكان ضرره أعظم من كل أحد ، ولو كان كذلك لحذر عنه الأنبياء أشد التحذير ، ولنفروا أممهم منه أشد التنفير ، فإنهم جميعهم قد حذروا من دعاة الضلالة فى كتبهم ، ونهوا أممهم عن اتباعهم والاقتداء بهم ، ونصوا على المسيح الدجال ، الأعور الكذاب ، حتى قد أنذر نوح ـ وهو أول الرسل ـ قومه ، ومعلوم أنه لم ينص نبى من الأنبياء على التحذير من محمد ، ولا التنفير عنه ، ولا الأخبار عنه بشيء خلاف مدحه ، والثناء عليه ، والبشارة بوجوده ، والأمر باتباعه ، والنهى عن مخالفته ، والخروج من طاعته ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)) (١) قال ابن عباس رضى الله عنهما : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه ، رواه البخارى ، وقد وجدت البشارات به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكتب المتقدمة وهى أشهر من أن تذكر ، وأكثر من أن تحصر ، وقد وجدت البشارات به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكتب المتقدمة وهى أشهر من أن

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآيتان : ٨١ ـ ٨٢.

٢٢٨

تذكر ، وأكثر من أن تحصر ، وقد قدمنا قبل مولده عليه‌السلام طرفا صالحا من ذلك ، وقررنا فى كتاب التفسير عند الآيات المقتضية لذلك آثارا كثيرة ، ونحن نورد هاهنا شيئا مما وجد فى كتبهم التى يعترفون بصحتها ، ويتدينون بتلاوتها ، مما جمعه العلماء قديما وحديثا ممن آمن منهم ، واطلع على ذلك من كتبهم التى بأيديهم ، ففى السفر الأول من التوراة التى بأيديهم فى قصة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ما مضمونه وتعريبه : إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام ، بعد ما سلمه من نار النمروذ : أن قم فاسلك الأرض مشارقها ومغاربها لولدك ، فلما قص ذلك على سارة طمعت أن يكون ذلك لولدها منه ، وحرصت على إبعاد هاجر وولدها ، حتى ذهب بهما الخليل إلى برية الحجاز وجبال فاران ، وظن إبراهيم عليه‌السلام أن هذه البشارة تكون لولده إسحاق ، حتى أوحى الله إليه ما مضمونه : أما ولدك إسحاق فإنه يرزق ذرية عظيمة ، وأما ولدك إسماعيل فإنى باركته وعظمته ، وكثرت ذريته ، وجعلت من ذريته ماذ ماذ ، يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعلت فى ذريته اثنا عشر إماما ، وتكون له أمة عظيمة ، وكذلك بشرت هاجر حين وضعها الخليل عند البيت فعطشت وحزنت على ولدها ، وجاء الملك فأنبع زمزم ، وأمرها بالاحتفاظ بهذا الولد ، فإنه سيولد له منه عظيم ، له ذرية عدد نجوم السماء ، ومعلوم أنه لم يولد من ذرية إسماعيل ، بل من ذرية آدم ، أعظم قدرا ولا أوسع جاها ، ولا أعلى منزلة ، ولا أجل منصبا ، من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الّذي استولت دولة أمته على المشارق والمغارب ، وحكموا على سائر الأمم ، وهكذا فى قصة إسماعيل من السفر الأول : أن ولد إسماعيل تكون يده على كل الأمم ، وكل الأمم تحت يده وبجميع مساكن إخوته يسكن ، وهذا لم يكن لأحد يصدق على الطائفة إلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأيضا فى السفر الرابع فى قصة موسى ، أن الله أوحى إلى موسى عليه‌السلام : أن قل لبنى إسرائيل : سأقيم لهم نبيا من أقاربهم مثلك يا موسى ، وأجعل وحيى بفيه وإياه تسمعون ، وفى السفر الخامس ـ وهو سفر الميعاد ـ أن موسى عليه‌السلام خطب بنى إسرائيل فى

٢٢٩

آخر عمره ـ وذلك فى السنة التاسعة والثلاثين من سنى التيه ـ وذكرهم بأيام الله وأياديه عليهم ، وإحسانه إليهم ، وقال لهم. فيما قال : واعلموا أن الله سيبعث لكم نبيا من أقاربكم مثل ما أرسلنى إليكم ، يأمركم بالمعروف ، وينهاكم عن المنكر ، ويحل لكم الطيبات ، ويحرم عليكم الخبائث ، فمن عصاه فله الخزى فى الدنيا ، والعذاب فى الآخرة ، وأيضا فى آخر السفر الخامس وهو آخر التوراة التى بأيديهم : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران : وظهر من ربوات قدسه ، عن يمينه نور ، وعن شماله نار ، عليه تجتمع الشعوب. أى جاء أمر الله وشرعه من طور سيناء ـ وهو الجبل الّذي كلم الله موسىعليه‌السلام عنده ـ وأشرق من ساعير وهى جبال بيت المقدس ـ المحلة التى كان بها عيسى بن مريم عليه‌السلام ـ واستعلن أى ظهر وعلا أمره من جبال فاران ، وهى جبال الحجاز بلا خلاف ، ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة على الترتيب الوقوعى ، ذكر محلة موسى ، ثم عيسى ، ثم بلد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضل أولا ، ثم الأفضل منه ، ثم الأفضل منه ، على قاعدة القسم فقال تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)) (١) والمراد بها محلة بيت المقدس حيث كان عيسى عليه‌السلام (وَطُورِ سِينِينَ (٢)) (٢) وهو الجبل الّذي كلم الله عليه موسى (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)) (٣) وهو البلد الّذي ابتعث منه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله غير واحد من المفسرين فى تفسيره هذه الآيات الكريمات. وفى زبور داود عليه‌السلام صفة هذه الأمة بالجهاد والعبادة ، وفيه مثل ضربه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأنه ختام القبة المبنية.

كما ورد به الحديث فى الصحيحين : «مثلى ومثل الأنبياء قبلى كمثل

__________________

(١) سورة التين ، الآية : ١.

(٢) سورة التين ، الآية : ٢.

(٣) سورة التين ، الآية : ٣.

٢٣٠

رجل بنى دارا فأكملها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يطيفون بها ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة؟» (١) ومصداق ذلك أيضا فى قوله تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٢) وفى الزبور صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ستنبسط نبوته ودعوته وتنفذ كلمته من البحر إلى البحر ، وتأتيه الملوك من سائر الأقطار طائعين بالقرابين والهدايا ، وأنه يخلص المضطر ، ويكشف الضر عن الأمم ، وينقذ الضعيف الّذي لا ناصر له ، ويصلى عليه فى كل وقت ، ويبارك الله عليه فى كل يوم ، ويدوم ذكره إلى الأبد. وهذا إنما ينطبق على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى صحف شعيا فى كلام طويل فيه معاتبة لبنى إسرائيل ، وفيه فإنى أبعث إليكم وإلى الأمم نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ القلب ولا سخاب فى الأسواق ، أسدده لكل جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، ثم أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى فى ضميره ، والحكمة معقولة ، والوفاء طبيعته ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والهدى ملته ، والإسلام دينه ، والقرآن كتابه ، أحمد اسمه ، أهدى به من الضلالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين القلوب المختلفة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، قرابينهم دماؤهم ، أناجيلهم فى صدورهم ، رهبانا بالليل ، ليوثا بالنهار (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)) (٣) وفى الفصل الخامس من كلام شعيا : يدوس الأمم كدوس البيادر ، وينزل البلاء بمشركى العرب ، وينهزمون قدامه ، وفى الفصل السادس والعشرين منه : ليفرح أرض البادية العطشى ، ويعطى أحمد محاسن لبنان ، ويرون جلال الله بمهجته ، وفى صحف إلياس عليه‌السلام : أنه خرج مع جماعة من أصحابه سائحا ، فلما رأى العرب بأرض الحجاز قال لمن معه : انظروا إلى

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده (٣ / ٣٦١) ، والبخاري في كتاب المناقب (٣٥٣٤) (١٠ / ٣٨١).

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة الحديد ، الآية : ٢١.

٢٣١

هؤلاء فإنهم هم الذين يملكون حصونكم العظيمة ، فقالوا : يا نبى الله فما الّذي يكون معبودهم؟ فقال : يعظمون رب العزة فوق كل رابية عالية ، ومن صحف حزقيل : إن عبدى خيرتى أنزل عليه وحيى ، يظهر فى الأمم عدلى ، اخترته واصطفيته لنفسى ، وأرسلته إلى الأمم بأحكام صادقة ، ومن كتاب النبوات : أن نبيا من الأنبياء مرّ بالمدينة فأضافه بنو قريظة والنضير ، فلما رآهم بكى ، فقالوا له : ما الّذي يبكيك يا نبى الله؟ فقال : نبى يبعثه الله من الحرة ، يخرب دياركم ويسبى حريمكم ، قال : فأراد اليهود قتله فهرب منهم ، ومن كلام حزقيل عليه‌السلام : يقول الله : من قبل أن صورتك فى الأحشاء قدستك وجعلتك نبيا ، وأرسلتك إلى سائر الأمم ، وفى صحف شعيا أيضا ، مثل مضروب لمكة شرفها الله : افرحى يا عاقر بهذا الولد الّذي يهبه لك ربك ، فإن ببركته تتسع لك الأماكن ، وتثبت أوتادك فى الأرض وتعلو أبواب مساكنك ، ويأتيك ملوك الأرض عن يمينك وشمالك بالهدايا والتقادم ، وولدك هذا يرث جميع الأمم ، ويملك سائر المدن والأقاليم ، ولا تخافى ولا تحزنى فما بقى يلحقك ضيم من عدو أبدا ، وجميع أيام ترملك تنسيها ، وهذا كله إنما حصل على يدى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما المراد بهذه العاقر مكة ، ثم صارت كما ذكر فى هذا الكلام لا محالة ، ومن أراد من أهل الكتاب أن يصرف هذا ويتأوله على بيت المقدس وهذا لا يناسبه من كل وجه والله أعلم ، وفى صحف أرميا : كوكب ظهر من الجنوب ، أشعته صواعق ، سهامه خوارق ، دكت له الجبال ، وهذا المراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى الإنجيل يقول عيسى عليه‌السلام : إنى مرتق إلى جنات العلى ، ومرسل إليكم الفارقليط روح الحق يعلمكم كل شيء ، ولم يقل شيئا من تلقاء نفسه. والمراد بالفارقليط محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا كما تقدم عن عيسى أنه قال: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (١) ، وهذا باب متسع ، ولو تقصينا جميع

__________________

(١) سورة الصف ، الآية : ٦.

٢٣٢

ما ذكره الناس لطال هذا الفصل جدا ، وقد أشرنا إلى نبذ من ذلك يهتدى بها من نور الله بصيرته وهداه إلى صراطه المستقيم ، وأكثر هذه النصوص يعلمها كثير من علمائهم وأحبارهم، وهم مع ذلك يتكاتمونها ويخفونها.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقى : أنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى ابن الطفيل قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن عبيد الله بن أبى داود المنادى ، حدثنا يونس ابن محمد المؤدب ، حدثنا صالح بن عمر ، حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه عن الغليان بن عاصم قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ شخص ببصره إلى رجل فدعاه فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان ، فجعل يقول : يا رسول الله ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أتشهد أنى رسول الله؟ فجعل لا يقول شيئا إلا قال : يا رسول الله ، فيقول : أتشهد أنى رسول الله؟ فيأبى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتقرأ التوراة؟ قال : نعم ، قال : والإنجيل؟ قال : نعم ، والفرقان ورب محمد لو شئت لقرأته ، قال : فأنشدك بالذى أنزل التوراة والإنجيل وأنشأ خلقه بها ، تجدنى فيهما؟ قال : نجد مثل نعتك ، يخرج من مخرجك ، كنا نرجو أن يكون فينا ، فلما خرجت رأينا أنك هو ، فلما نظرنا إذا أنت لست به ، قال : من أين؟ قال : نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، وإنما أنتم قليل ، قال : فهلل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر ، وهلل وكبر ، ثم قال : والّذي نفس محمد بيده إننى لأنا هو ، وإن من أمتى لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين.

جوابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن ساءل عما سأل قبل

أن يسأله عن شيء منه

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أنا الزبير أبو عبد السلام ، عن أيوب ابن عبد الله بن مكرز ـ ولم يسمعه منه ـ قال : حدثنى جلساؤه وقد رأيته عن وابصة الأسدى ، وقال عفان : حدثنا غير مرة ولم

٢٣٣

يقل : حدثنى جلساؤه ، قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه ، وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه ، فجعلت أتخطاهم ، فقالوا : إليك وابصة عن رسول الله ، فقلت : دعونى فأدنو منه ، فإنه أحب الناس إلى أن أدنو منه ، قال: دعوا وابصة ، ادن يا وابصة ، مرتين أو ثلاثا ، قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، فقال : يا وابصة أخبرك أم تسألنى؟ فقلت : لا ، بل أخبرنى ، فقال : جئت تسأل عن البر والإثم ، فقلت : نعم ، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن فى صدرى ويقول : يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك (ثلاث مرات) البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك فى النفس وتردد فى الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك (١).

__________________

(١) أحمد في مسنده (٤ / ٢٢٨).

٢٣٤

باب

ما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكائنات المستقبلة فى حياته وبعده

وهذا باب عظيم لا يمكن استقصاء جميع ما فيه لكثرتها ، ولكن نحن نشير إلى طرف منها وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم ، وذلك منتزع من القرآن ومن الأحاديث ، أما القرآن فقال تعالى فى سورة المزمل : ـ وهى من أوائل ما نزل بمكة ـ (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١) ومعلوم أن الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة بعد الهجرة. وقال تعالى فى سورة اقترب : ـ وهى مكية ـ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)) (٢) ووقع هذا يوم بدر ، وقد تلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خارج من العريش ورماهم بقبضة من الحصباء فكان النصر والظفر ، وهذا مصداق ذاك ، وقال تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)) (٣) فأخبر أن عمه عبد العزى بن عبد المطلب الملقب بأبى لهب سيدخل النار هو وامرأته ، فقدر الله عزوجل أنهما ماتا على شركهما لم يسلما ، حتى ولا ظاهرا ، وهذا من دلائل النبوة الباهرة ، وقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)) (٤) وقال تعالى فى سورة البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٢٠.

(٢) سورة القمر ، الآيتان : ٤٤ ـ ٤٥.

(٣) سورة المسد بكاملها.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

٢٣٥

مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (١) الآية ، فأخبر أن جميع الخليفة لو اجتمعوا وتعاضدوا وتناصروا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فى فصاحته وبلاغته ، وحلاوته وإحكام أحكامه ، وبيان حلاله وحرامه ، وغير ذلك من وجوه إعجازه ، لما استطاعوا ذلك ، ولما قدروا عليه ، ولا على عشر سور منه ، بل ولا سورة ، وأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا ، ولن لنفى التأبيد فى المستقبل ، ومثل هذا التحدى ، وهذا القطع ، وهذا الإخبار الجازم ، لا يصدر إلا عن واثق بما يخبر به ، عالم بما يقوله ، قاطع أن أحدا لا يمكنه أن يعارضه ، ولا يأتى بمثل ما جاء به عن ربه عزوجل ، وقال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (٢) الآية ، وهكذا وقع سواء بسواء ، مكن الله هذا الدين وأظهره ، وأعلاه ونشره فى سائر الآفاق ، وأنفذه وأمضاه ، وقد فسر كثير من السلف هذه الآية بخلافة الصديق ، ولا شك فى دخوله فيها ، ولكن لا تختص به ، بل تعمه كما تعم غيره.

كما ثبت فى الصحيح «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، والّذي نفسى بيده لننفقن كنوزهما فى سبيل الله» ، وقد كان ذلك فى زمن الخلفاء الثلاثة أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم وأرضاهم ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)) (٣) وهكذا وقع وعم هذا الدين ، وغلب وعلا على سائر الأديان ، فى مشارق الأرض ومغاربها ، وعلت كلمته فى زمن الصحابة ومن بعدهم ، وذلت لهم سائر البلاد ، ودان لهم

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيتان : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) سورة النور ، الآية : ٥٥.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ٣٣.

٢٣٦

جميع أهلها ، على إختلاف أصنافهم ، وصار الناس إما مؤمن داخل فى الدين ، وإما مهادن باذل الطاعة والمال ، وإما محارب خائف وجل من سطوة الإسلام وأهله.

وقد ثبت فى الحديث : إن الله زوى لى مشارق الأرض ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها. وقال تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (١) الآية ، وسواء كان هؤلاء هوازن أو أصحاب مسيلمة ، أو الروم ، فقد وقع ذلك ، وقال تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١)) (٢) وسواء كانت هذه الأخرى خيبر أو مكة فقد فتحت وأخذت كما وقع به الوعد سواء بسواء ، وقال تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)) (٣) فكان هذا الوعد فى سنة الحديبية عام ست ، ووقع إنجازه فى سنة سبع عام عمرة القضاء كما تقدم.

وذكرنا هناك الحديث بطوله ، وفيه أن عمر قال : يا رسول الله ألم تكن تخبرنا أنا سنأتى البيت ونطوف به؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال : لا ، قال: فإنك تأتيه وتطوف به ، وقال تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (٤) وهذا الوعد كان فى وقعة بدر لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة ليأخذ عير قريش ، فبلغ قريشا خروجه إلى عيرهم ، فنفروا فى قريب من

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية : ١٦.

(٢) سورة الفتح ، الآيتان : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.

(٤) سورة الأنفال ، الآية : ٧.

٢٣٧

ألف مقاتل ، فلما تحقق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قدومهم وعده الله إحدى الطائفتين أن سيظفره بها ، إما العير وإما النفير ، فود كثير من الصحابة ـ ممن كان معه ـ أن يكون الوعد للعير ، لما فيه من الأموال وقلة الرجال ، وكرهوا لقاء النفير لما فيه من العدد والعدد ، فخار الله لهم وأنجز لهم وعده فى النفير فأوقع بهم بأسه الّذي لا يرد ، فقتل من سراتهم سبعون وأسر سبعون وفادوا أنفسهم بأموال جزيلة ، فجمع لهم بين خيرى الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)) (١) وقد تقدم بيان هذا فى غزوة بدر ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)) (٢) وهكذا وقع فإن الله عوض من أسلم منهم بخير الدنيا والآخرة.

ومن ذلك ما ذكره البخارى أن العباس جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أعطنى ، فإنى فاديت نفسى ، وفاديت عقيلا ، فقال له : خذ ، فأخذ فى ثوب مقدارا لم يمكنه أن يقله ، ثم وضع منه مرة بعد مرة حتى أمكنه أن يحمله على كاهله ، وانطلق به كما ذكرناه فى موضعه مبسوطا ، وهذا من تصديق هذه الآية الكريمة ، وقال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) (٣) الآية.

وهكذا وقع عوضهم الله عما كان يغدو إليهم مع حجاج المشركين ، بما شرعه لهم من قتال أهل الكتاب ، وضرب الجزية عليهم ، وسلب أموال من قتل منهم على كفره ، كما وقع بكفار أهل الشام من الروم ومجوس الفرس ، بالعراق وغيرها من البلدان التى انتشر الإسلام على أرجائها ، وحكم على

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٧.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٧٠.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ٢٨.

٢٣٨

مدائنها وفيفائها ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)) (١) وقال تعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) (٢) الآية ، وهكذا وقع ، لما رجعصلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك كان قد تخلف عنه طائفة من المنافقين ، فجعلوا يحلفون بالله لقد كانوا معذورين فى تخلفهم ، وهم فى ذلك كاذبون ، فأمر الله رسوله أن يجرى أحوالهم على ظاهرها ، ولا يفضحهم عند الناس ، وقد أطلعه الله على أعيان جماعة منهم أربعة عشر رجلا كما قدمناه لك فى غزوة تبوك ، فكان حذيفة بن اليمان ممن يعرفهم بتعريفه إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً (٧٦)) (٣) وهكذا وقع ، لما اشتوروا عليه ليثبتوه : أو يقتلوه أو يخرجوه من بين أظهرهم ، ثم وقع الرأى على القتل ، فعند ذلك أمر الله رسوله بالخروج من بين أظهرهم ، فخرج هو وصديقه أبو بكر ، فكمنا فى غار ثور ثلاثا ، ثم ارتحلا بعدها كما قدمنا ، وهذا هو المراد بقوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)) (٤) وهو المراد من قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)) (٥) ولهذا قال : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً (٧٦)) (٦)

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٣٣.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٩٥.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ٧٦.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ٤٠.

(٥) سورة الأنفال ، الآية : ٣٠.

(٦) سورة الإسراء ، الآية : ٧٦.

٢٣٩

وقد وقع كما أخبر فإن الملأ الذين اشتوروا على ذلك لم يلبثوا بمكة بعد هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ريثما استقر ركابه الشريف بالمدينة وتابعه المهاجرون والأنصار ، ثم كانت وقعة بدر فقتلت تلك النفوس ، وكسرت تلك الرءوس ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ذلك قبل كونه من إخبار الله له بذلك ، ولهذا قال سعد ابن معاذ لأمية بن خلف : أما إنى سمعت محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر أنه قاتلك ، فقال : أنت سمعته؟ قال : نعم ، قال : فإنه والله لا يكذب ، وسيأتى الحديث فى بابه ، وقد قدمنا أنه عليه‌السلام جعل يشير لأصحابه قبل الوقعة إلى مصارع القتلى ، فما تعدى أحد منهم موضعه الّذي أشار إليه ، صلوات الله وسلامه عليه ، وقال تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)) (١) وهذا الوعد وقع كما أخبر به ، وذلك أنه لما غلبت فارس الروم فرح المشركون ، واغتم بذلك المؤمنون ، لأن النصارى أقرب إلى الإسلام من المجوس ، فأخبر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الروم ستغلب الفرس بعد هذه المدة بسبع سنين ، وكان من أمر مراهنة الصديق رءوس المشركين على أن ذلك سيقع فى هذه المدة ، ما هو مشهور كما قررنا فى كتابنا التفسير ، فوقع الأمر كما أخبر به القرآن ، غلبت الروم فارس بعد غلبهم غلبا عظيما جدا ، وقصتهم فى ذلك يطول بسطها ، وقد شرحناها فى التفسير بما فيه الكفاية ولله الحمد والمنة ، وقال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)) (٢) وكذلك وقع ، أظهر الله من آياته ودلائله فى أنفس البشر وفى الآفاق بما أوقعه من الناس بأعداء النبوة ، ومخالفى الشرع ممن كذب به من أهل الكتابين ، والمجوس

__________________

(١) سورة الروم ، الآيات : ١ ـ ٦.

(٢) سورة فصلت ، الآية : ٥٣.

٢٤٠