الفَرق بين الفِرق

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي

الفَرق بين الفِرق

المؤلف:

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨١

الأزلية وتبرّءوا من القدر والاعتزال واثبتوا رؤية الله تعالى بالابصار من غير تشبيه ولا تعطيل واثبتوا الحشر من القبور مع اثبات السؤال في القبر ومع اثبات الحوض والصراط والشفاعة وغفران الذنوب التى دون الشرك. وقالوا بدوام نعيم الجنة (١١٨ ا) على أهلها ودوام عذاب النار على الكفرة. وقالوا بامة ابى بكر وعمر وعثمان وعليّ واحسنوا الثناء على السلف الصالح من الامة ورأوا وجوب الجمعة خلف الأئمة الذين تبرّءوا من أهل الاهواء الضالة ورأوا وجوب استنباط احكام الشريعة من القرآن والسنّة ومن إجماع الصحابة ورأوا جواز المسح على الخفين ووقوع الطلاق الثلاث ورأوا تحريم المتعة ورأوا وجوب طاعة السلطان فيما ليس بمعصية. ويدخل في هذه الجماعة اصحاب مالك والشافعى والأوزاعىّ والثورى وابى حنيفة وابن أبى ليلى واصحاب ابى ثور واصحاب احمد بن حنبل واهل الظاهر وسائر الفقهاء الذين اعتقدوا في الابواب العقلية اصول الصفاتية ولم يخلطوا فقهه بشيء من بدع اهل الاهواء الضالة. والصنف الثالث منهم هم الذين أحاطوا علما بطرق الاخبار والسنن المأثورة عن النبي عليه‌السلام وميزوا بين الصحيح والسقيم منها وعرفوا اسباب الجرح والتعديل ولم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع اهل الاهواء الضالة.

٣٠١

والصنف الرابع منهم قوم احاطوا علما باكثر ابواب الادب والنحو والتصريف وجروا على سمت (١) أئمة اللغة كالخليل وابى عمرو بن العلاء وسيبويه والفراء والاخفش والأصمعى والمازنى وأبى عبيد وسائر ائمة النحو من الكوفيين والبصريين الذين لم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع القدرية او الرافضة او الخوارج. ومن مال منهم الى شيء من الاهواء الضالة لم يكن من اهل السنة ولا كان قوله حجة فى اللغة والنحو. والصنف الخامس منهم هم الذين أحاطوا علما بوجوه قراءات القرآن وبوجوه تفسير آيات القرآن وتأويلها على وفق مذاهب اهل السنة دون تأويلات اهل الاهواء الضالة. والصنف السادس منهم الزهاد الصوفية (١١٨ ب) الذين ابصروا فأقصروا واختبروا فاعتبروا ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور وعلموا ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك مسئول عن الخير والشر ومحاسب على مثاقيل الذر فاعدّوا خير الاعتداد ليوم المعاد وجرى كلامهم فى طريقى العبارة والاشارة على سمت اهل الحديث دون من يشترى لهو الحديث لا يعملون (٢) الخير رياء ولا يتركونه حياء. دينهم التوحيد ونفى التشبيه ومذهبهم التفويض الى الله تعالى والتوكل عليه والتسليم لامره والقناعة

__________________

(١) الست الطريق

(٢) الاصل يعلمون

٣٠٢

بما رزقوا والإعراض عن الاعتراض عليه (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). (الحديد ٢١ والجمعة ٤) والصنف السابع منهم قوم مرابطون فى ثغور المسلمين فى وجوه الكفرة يجاهدون اعداء المسلمين ويحمون حمى المسلمين ويذبون عن حريمهم وديارهم ويظهرون فى ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة. وهم الذين انزل الله تعالى فيهم قوله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (العنكبوت ٦٩) زادهم الله تعالى توفيقا بفضله ومنّه. والصنف الثامن منهم عامة البلدان التى غلب فيها شعائر اهل السنة دون عامة البقاع التى ظهر فيها شعار اهل الاهواء الضالة. وانما اردنا بهذا الصنف من العامة عامة اعتقدوا تصويب علماء السنة والجماعة فى ابواب العدل والتوحيد والوعد والوعيد ورجعوا إليهم فى معالم دينهم وقلدوهم في فروع الحلال والحرام. ولم يعتقدوا شيئا من بدع اهل الاهواء الضالة. وهؤلاء هم الذين سمتهم الصوفية حشو الجنّة. فهؤلاء اصناف اهل السنة والجماعة. ومجموعهم اصحاب الدين القويم والصراط المستقيم. ثبّتهم الله تعالى بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة انه بالإجابة جدير وعليها قدير

٣٠٣

الفصل الثاني

(من فصول هذا الباب (١١٩ ا))

فى بيان تحقيق النجاة لاهل السنّة والجماعة

قد ذكرنا فى الباب الاول من هذا الكتاب ان النبىّ عليه‌السلام لما ذكر افتراق امته بعدة ثلاثا وسبعين فرقة وأخبر ان فرقة واحدة منها ناجية سئل عن الفرقة الناجية وعن صفتها فأشار الى الذين هم على ما عليه هو واصحابه. ولسنا نجد اليوم من فرق الامة من هم على موافقة الصحابة رضى الله عنهم غير اهل فأشار الى الذين هم على ما عليه هو واصحابه. ولسنا نجد اليوم من فرق الامة من هم على موافقة الصحابة رضى الله عنهم غير اهل السنّة والجماعة من فقهاء الامة ومتكلميهم الصفاتية دون الرافضة والقدرية والخوارج والجهمية والنجارية والمشبهة والغلاة والحلولية. اما القدرية فكيف يكونون موافقين للصحابة وقد طعن زعيمهم النظّام فى اكثر الصحابة وأسقط عدالة ابن مسعود ونسبه الى الضلال من اجل روايته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ان السعيد من سعد فى بطن أمه والشقىّ من شقى فى بطن أمه) وروايته انشقاق القمر وما ذاك منه الّا لانكاره معجزات النبي عليه‌السلام. وطعن فى فتاوى عمر رضى الله عنه من اجل انه حدّ فى الخمر ثمانين ونفي نصر بن الحجاج الى البصرة حين خاف فتنته

٣٠٤

نساء المدينة به. وما هذا منه الا لقلة غيرته على الحرم. وطعن فى فتاوى عليّ رضى الله عنه لقوله فى امهات الاولاد. ثم رأيت أنهنّ يبعن وقال. من هو حتى يحكم برأيه وثلب عثمان رضى الله عنه لقوله فى الخرقا بقسم المال بين الجدّ والام والاخت ثلاثا بالسوية. ونسب أبا هريرة الى الكذب من اجل ان الكثير من رواياته على خلاف مذاهب القدرية. وطعن فى فتاوى كل من افتى من الصحابة بالاجتهاد وقال ان ذلك منهم انما كان لأجل امرين. إما لجهلهم بان ذلك لا يحل لهم. وإما لانهم ارادوا ان يكونوا زعماء وارباب مذاهب تنسب إليهم. فنسب اخيار الصحابة الى الجهل او النفاق. والجاهل باحكام الدين عنده كافر والمتعمد للخلاف بلا حجة عنده منافق كافر او فاسق فاجر وكلاهما (١١٩ ب) من أهل النار على الخلود. فاوجب بزعمه على أعلام الصحابة الخلود فى النار التى هو بها أولى. ثم انه أبطل اجماع الصحابة ولم ير حجة وأجاز اجتماع الامة على الضلالة. فكيف يكون على سمت الصحابة مقتديا بهم من يرى مخالفة جميعهم واجبا اذا كان رأيه خلاف رأيهم. وكان زعيمهم واصل بن عطا الغزال يشك فى عدالة عليّ وابنيه وابن عباس وطلحة والزبير وعائشة وكل من شهد حرب الجمل من الفريقين. ولذلك قال لو شهد عندي عليّ وطلحة على

٣٠٥

باقة بقل لم احكم بشهادتهما لعلمى بان أحدهما فاسق ولا أعرفه بعينه. فجائز على اصله أن يكون عليّ واتباعه فاسقين مخلدين فى النار. وجائز أن يكون الفريق الآخر الذين كانوا أصحاب الجمل فى النار خالدين فشك فى عدالة عليّ وطلحة والزبير مع شهادة النبي عليه‌السلام لهؤلاء الثلاثة بالجنّة ومع دخولهم فى بيعة الرضوان وفى جملة الذين قال الله تعالى فيهم (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (الفتح ١٨) وكان عمرو بن عبيد يقول بقول واصل فى فريقي الجمل وزاد عليه القول بالقطع على فسق كل فرقة من الفرقتين. وذلك ان واصلا إنما قطع بفسق أحد الفريقين ولم يحكم بشهادة رجلين أحدهما من أصحاب عليّ والآخر من اصحاب الجمل وقبل شهادة رجلين من أصحاب عليّ وشهادة رجلين من أصحاب الجمل. وقال عمرو بن عبيد لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين وكان بعضهم من حزب عليّ وبعضهم من حزب الجمل فاعتقد فسق الفريقين جميعا. وواجب على أصله ان يكون عليّ وابناه وابن عباس وعمار وأبو أيوب الانصارى وخزيمة بن ثابت الانصارى الّذي جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادته بمنزلة شهادة رجلين عدلين وسائر أصحاب عليّ مع طلحة والزبير وعائشة

٣٠٦

وسائر اصحاب الجمل فاسقين مخلدين (١٢٠ ا) فى النار وفيهم من الصحابة ألوف. وقد كان مع على خمسة وعشرون بدريا واكثر اصحاب أحد وستمائة من الانصار وجماعة من المهاجرين الاوّلين. وقد كان أبو الهذيل والجاحظ واكثر القدرية فى هذا الباب على رأى واصل بن عطا فيهم. فكيف يكون مقتديا بالصحابة من يفسّق اكثرهم ويراهم من أهل النار : ومن لا يرى شهادتهم مقبولة كيف يقبل روايتهم؟ ومن ردّ رواياتهم وردّ شهاداتهم خرج عن سمتهم ومتابعتهم. وانما يقتدى بهم من يعمل برواياتهم ويقبل شهاداتهم كدأب اهل السنة والجماعة فى ذلك. واما الخوارج فقد اكفروا عليا وابنيه وابن عباس وأبا أيوب الانصارىّ. واكفروا أيضا عثمان وعائشة وطلحة والزبير واكفروا كل من لم يفارق عليا ومعاوية بعد التحكيم. واكفروا كل ذي ذنب من الامة. ولا يكون على سمت الصحابة من يقول بتكفير اكثرها. واما الغلاة من الروافض كالسبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والجناحية والخطّابية وسائر الحلولية فقد بيّنا خروجهم عن فرق الاسلام وبيّنا أنهم فى عداد عبدة الاصنام أو فى عداد الحلولية من النصارى. وليس لعبدة الاصنام ولا للنصارى وسائر الكفرة

٣٠٧

بالصحابة اسوة ولا قدوة. واما الزيدية منهم. فالجارودية منهم يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان واكثر الصحابة. ولا يقتدى بهم من يكفر اكثرهم. والسليمانية والبشرية من الزيدية يكفّرون عثمان أو يوقفون فيه ويفسّقون ناصريه ويكفّرون اكثر اصحاب الجمل. واما الامامية منهم فقد زعم اكثرهم أن الصحابة ارتدت بعد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى عليّ وابنيه ومقدار ثلاثة عشر منهم وزعمت (١٢٠ ب) الكاملية منهم أن عليا أيضا ارتدّ وكفر بتركه قتالهم. فكيف يكون على سمت الصحابة من يقول بتكفيرهم؟ ثم نقول كيف يكون الرافضة والخوارج والقدرية والجهمية والنجارية والبكرية والضرارية موافقين للصحابة؟ وهم بأجمعهم لا يقبلون شيئا مما روى عن الصحابة فى أحكام الشريعة لامتناعهم من قبول روايات الحديث والسير والمغازى من اجل تكفيرهم لأصحاب الحديث الذين هم نقلة الاخبار والآثار ورواة التواريخ والسير. ومن اجل تكفيرهم فقهاء الامة الذين ضبطوا آثار الصحابة وقاسوا فروعهم على فتاوى الصحابة. ولم يكن بحمد الله ومنّه فى الخوارج ولا فى الروافض ولا فى الجهمية ولا فى القدرية ولا فى المجسّمة ولا فى سائر اهل الاهواء الضالة قط إمام فى الفقه. ولا إمام فى رواية الحديث. ولا إمام

٣٠٨

فى اللغة والنحو. ولا موثوق به فى نقل المغازى والسير والتواريخ. ولا إمام في الوعظ والتذكير. ولا إمام فى التأويل والتفسير. وانما كان أئمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من اهل السنة والجماعة. واهل الاهواء الضالة اذا ردّوا الروايات الواردة عن الصحابة فى احكامهم وسيرهم لم يصح اقتداؤهم بهم متى لم يشاهدوهم ولم يقبلوا رواية اهل الرواية عنهم. وبان من هذا أن المقتدين بالصحابة من يعمل بما قد صح بالرواية الصحيحة في احكامهم وسيرهم. وذلك سنّة اهل السنة دون ذوى السنة. وصح بصحة ما ذكرناه تحقيق نجاتهم كحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنجاة المقتدين باصحابه. والحمد لله على ذلك

الفصل الثالث

(من فصول هذا الباب)

في بيان الاصول (١٢١ ا) التى اجتمع عليها اهل السنة

قد اتفق جمهور اهل السنة والجماعة على اصول من اركان الدين كل ركن منها يجب على كل عاقل بالغ معرفة حقيقته. ولكل ركن منها شعب وفي شعبها مسائل اتفق اهل السنة فيها على قول واحد وضللوا من خالفهم فيها. واوّل الاركان التى رأوها من

٣٠٩

اصول الدين اثبات الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم. والركن الثانى هو العلم بحدوث العالم في اقسامه من اعراضه واجسامه. والركن الثالث فى معرفة صانع العالم وصفات ذاته. والركن الرابع في معرفة صفاته الازلية. والركن الخامس في معرفة اسمائه واوصافه. والركن السادس في معرفة عدله وحكمته. والركن السابع في معرفة رسله وانبيائه. والركن الثامن في معرفة معجزات الأنبياء وكرامات الاولياء. والركن التاسع في معرفة ما أجمعت الامة عليه من اركان شريعة الاسلام. والركن العاشر في معرفة احكام الامر والنهى والتكليف. والركن الحادى عشر في معرفة الخلافة والامامة وشروط الزعامة. والركن الثالث عشر (كذا) في احكام الايمان والاسلام في الجملة. والركن الرابع عشر في معرفة احكام الاولياء ومراتب الأئمة الاتقياء. والركن الخامس عشر في معرفة احكام الاعداء من الكفرة واهل الاهواء

فهذه اصول اتفق أهل السنّة على قواعدها وضللوا من خالفهم فيها. وفى كل ركن منها مسائل اصول ومسائل فروع وهم يجمعون على اصولها وربما اختلفوا فى بعض فروعها اختلافا لا يوجب تضليلا ولا تفسيقا

فأما الركن الاول فى اثبات الحقائق والعلوم فقد اجمعوا

٣١٠

على اثبات العلوم معانى قائمة بالعلماء وقالوا بتضليل نفاة العلم وسائر الاعراض وبتجهيل السوفسطائية الذين (١٢١ ب) ينفون العلم وينفون حقائق الاشياء كلها وعدوهم معاندين لما قد علموه بالضرورة وكذلك السوفسطائية الذين شكوا فى وجود الحقائق. وكذلك الذين قالوا منهم بان حقائق الاشياء تابعة للاعتقاد وصححوا جميع الاعتقادات مع تضادها وتنافيها. وهذه الفرق الثلاث كلها كفرة معاندة لموجبات العقول الضرورية. وقال أهل السنّة ان علوم الناس وعلوم سائر الحيوانات ثلاثة أنواع. علم بديهى. وعلم حسىّ. وعلم استدلالىّ. وقالوا من جحد العلوم البديهية او العلوم الحسية الواقعة من جهة الحواس الخمس فهو معاند. ومن انكر العلوم النظرية الواقعة عن النظر والاستدلال نظر فيه. فان كان من السمنية المنكرة للنظر في العلوم العقلية فهو كافر ملحد وحكمه حكم الدهرية لقوله معهم بقدم العالم وانكار الصانع مع زيادته عليهم القول بابطال الاديان كلها. وان كان ممن يقول بالنظر في العقليات وينكر القياس في فروع الاحكام الشرعية كأهل الظاهر لم يكفر بانكار القياس الشرعى. وقالوا بان الحواس التي يدرك بها المحسوسات خمس وهى حاسة البصر لادراك المرئيات. وحاسة السمع لادراك المسموعات. وحاسة

٣١١

الذوق لادراك الطعوم. وحاسة الشم لادراك الروائح. وحاسة اللمس لادراك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة بها. وقالوا ان الادراكات الواقعة من جهة هذه الحواس معانى قائمة بالآلات التى تسمى حواس وضللوا أبا هاشم بن الجبائي في قوله ان الادراك ليس بمعنى ولا عرض ولا شيء سوى المدرك وقالوا ان الخبر المتواتر طريق العلم الضرورى بصحة ما تواتر عنه الخبر اذا كان (١٢٢ ا) المخبر عنه مما يشاهد ويدرك بالحس والضرورة كالعلم بصحة وجود ما تواتر الخبر فيه من البلدان التى لم يدخلها السامع المخبر عنها وكعلمنا بوجود الأنبياء والملوك الذين كانوا قبلنا. فاما صحة دعاوى الأنبياء في النبوّة فمعلوم لنا بالحجج النظرية. واكفروا من انكر من السمنية وقوع العلم من جهة التواتر. وقالوا ان الاخبار التى يلزمنا العمل بها ثلاثة انواع تواتر وآحاد ومتوسط بينهما مستفيض. فالخبر المتواتر الّذي يستحيل التواطؤ على وضعه يوجب العلم الضروري بصحة مخبره وبهذا النوع من الاخبار علمنا البلدان التى لم ندخلها وبها عرفنا الملوك والأنبياء والقرون الذين كانوا قبلنا. وبه يعرف الانسان والديه اللذين هو منسوب إليهما. وأما اخبار الآحاد فمتى صح اسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبة

٣١٢

موجبة للعمل بها دون العلم وكانت بمنزلة شهادة العدول عند الحاكم فى انه يلزمه الحكم بها فى الظاهر وان لم يعلم صدقهم فى الشهادة. وبهذا النوع من الخبر اثبت الفقهاء اكثر فروع الاحكام الشرعية فى العبادات والمعاملات وسائر ابواب الحلال والحرام وضللوا من اسقط وجوب العمل باخبار الآحاد فى الجملة من الرافضة والخوارج وسائر اهل الاهواء. واما الخبر المستفيض المتوسط بين التواتر والآحاد فانه يشارك التواتر فى ايجابه للعلم والعمل ويفارقه من حيث ان العلم الواقع عنه يكون علما مكتسبا نظريا والعلم الواقع عن التواتر يكون ضروريا غير مكتسب وهذا النوع من الخبر على اقسام منها اخبار الأنبياء فى انفسهم وكذلك خبر من أخبر النبي عن صدقه يكون العلم لصدقه مكتسبا. ومنها الخبر المنتشر من بعض الناس اذا اخبر به بحضرة قوم لا يصح منهم التواطؤ على الكذب وادعى عليهم وقوع ما اخبر عنه (١٢٢ ب) بحضرتهم. فاذا لم ينكر عليه احد منهم علمنا صدقه فيه. وبهذا النوع من الاخبار علمنا معجزة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى انشقاق القمر وتسبيح الحصا فى يده وحنين الجذع إليه لما فارقه واشباعه الخلق الكثير من الطعام اليسير ونحو ذلك من معجزاته غير القرآن المعجز نظمه فان ثبوت القرآن وظهوره عليه وعجز

٣١٣

العرب والعجم عن المعارضة مثله معلوم بالتواتر الموجب للعلم الضرورى. ومنها أخبار مستفيضة بين ائمة الحديث والفقه وهم مجمعون على صحتها كالاخبار في الشفاعة والحساب والحوض والصراط والميزان وعذاب القبر وسؤال الملكين فى القبر. وكذلك الأخبار المستفيضة فى كثير من أحكام الفقه كنصب الزكاة واخبار الهواء وحد الخمر فى الجملة والاخبار فى المسح على الخفين وفى الرجم وما أشبه ذلك مما اجمع الفقهاء على قبول الاخبار فيها وعلى العمل بمضمونها وضللوا من خالف فيها من أهل الاهواء كتضليل الخوارج في انكارها الرجم. وتضليل من انكر من النجدات حدّ الخمر. وتضليل من انكر المسح على الخفين. وتكفير من أنكر الرؤية والحوض والشفاعة وعذاب القبر. وكذلك ضللوا الخوارج الذين قطعوا يد السارق في القليل والكثير من الحرز وغير الحرز كردّهم الاخبار الصحاح في اعتبار النصاب والحرز في القطع. وكما ضللوا من ردّ الخبر المستفيض ضللوا من ثبت على حكم خبر اتفق الفقهاء من فريقي الرأى والحديث على نسخه كتضليل الرافضة في المتعة التى قد نسخت إباحتها واتفق أهل السنة على أن الله تعالى كلّف العباد معرفته وأمرهم بها وأنه أمرهم بمعرفة رسوله وكتابه والعمل بما يدل عليه الكتاب والسنة.

٣١٤

وأكفروا من زعم من القدرية والرافضة أن الله تعالى ما كلف أحدا معرفته كما ذهب إليه ثمامة (١٢٣ ا) والجاحظ وطائفة من الرافضة. واتفقوا على أن كل علم كسبىّ نظرىّ يجوز أن يجعلنا الله تعالى مضطرين الى العلم بمعلومه. واكفروا من زعم من المعتزلة أن المعرفة بالله عزوجل فى الآخرة مكتسبة من غير اضطرار الى معرفته. واتفقوا على أن اصول احكام الشريعة القرآن والسنة وإجماع السلف. واكفروا من زعم من الرافضة أن لا حجة اليوم في القرآن والسنة لدعواه فيها أن الصحابة غيروا بعض القرآن وحرفوا بعضه. واكفروا الخوارج الذين ردّوا جميع السنن التى رواها نقلة الاخبار لقولهم بتكفير ناقليها. واكفروا النظام في انكاره حجة الاجماع وحجة التواتر وقوله بجواز اجتماع الامة على الضلالة وجواز تواطؤ أهل التواتر على وضع الكذب. فهذا بيان ما اتفق عليه أهل السنة من مسائل الركن الأول

واما الركن الثانى وهو الكلام فى حدوث العالم فقد أجمعوا على ان العالم كل شيء هو غير الله عزوجل. وعلى ان كل ما هو غير الله تعالى وغير صفاته الازلية مخلوق مصنوع. وعلى أن صانعه ليس بمخلوق ولا مصنوع ولا هو من جنس العالم ولا من جنس شيء من اجزاء العالم. واجمعوا على ان اجزاء العالم قسمان

٣١٥

جواهر واعراض خلاف قول نفاة الاعراض فى نفيها الاعراض. وأجمعوا على ان كل جوهر جزء لا يتجزأ. واكفروا النظام والفلاسفة الذين قالوا بانقسام كل جزء الى أجزاء بلا نهاية لان هذا يقتضي الا تكون اجزاؤها محصورة عند الله تعالى وفي هذا رد قوله (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (الجنّ ٢٨) وقالوا باثبات الملائكة والجنّ والشياطين في اجناس حيوانات العالم. واكفروا من أنكرهم من الفلاسفة والباطنية. وقالوا بتجانس الجواهر والاجسام. وقالوا إن اختلافها في الصور والالوان والطعوم والروائح انما هو لاختلاف الاعراض القائمة بها. وضللوا من قال باختلاف الاجسام لاختلاف الطبائع. وضللوا أيضا من قال من الفلاسفة بخمس طبائع وزعم ان الفلك طبيعة (١٢٣ ب) خامسة لا تقبل الكون والفساد كما ذهب إليه أرسطاطاليس. وضللوا من قال من الثنوية إن الاجسام نوعان نور وظلمة. وان الخير من النور والشر من الظلمة. وان فاعل الخير والصدق لا يفعل الشر والكذب. وفاعل الشر والكذب لا يفعل الخير والصدق. وسألناهم عن رجل قال. أنا شرير وظلمة من القائل لهذا القول. فان قالوا هو النور فقد كذب وان قالوا هو الظلمة فقد صدق. وفي هذا بطلان قولهم ان النور لا يكذب والظلام لا يصدق.

٣١٦

وهذا الزام لهم على اصولهم. فاما نحن فانا لا نثبت النور والظلمة فاعلين قديمين. بل نقول انهما مخلوقان لا فعل لهما. واتفق أهل السنة على اختلاف اجناس الاعراض واكفروا النظام في قوله إن الاعراض كلها جنس واحد وانها كلها حركات لان هذا يوجب عليه ان يكون الايمان من جنس الكفر والعلم من جنس الجهل والقول من جنس السكوت. وان يكون فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جنس فعل الشيطان الرجيم. وينبغى له على هذا الاصل ألّا يغضب على من لعنه وشتمه لان قول القائل. لعن الله النظّام عنده من جنس قوله رحمه‌الله. واتفقوا على حدوث الاعراض فى الاجسام. واكفروا من زعم من الدهرية انها كامنة في الاجسام وانما يظهر بعضها عند كمون ضده في محله. واتفقوا على ان كل عرض حادث في محل وان العرض لا يقوم بنفسه. واكفروا من قال من المعتزلة البصرية بحدوث إرادة الله سبحانه لا في محل. وبحدوث فناء الاجسام لا في محل. واكفروا أبا الهذيل في قوله. ان قول الله عزوجل للشىء : كن : عرض حادث لا في محل. واتفقوا على أن الاجسام لا تخلو ولم تخل قط من الاعراض المتعاقبة عليها واكفروا من قال من أصحاب الهيولى ان الهيولى كانت في الازل

٣١٧

خالية من الاعراض ثم حدثت فيها الاعراض حتى صارت على صورة العالم. وهذا القول غاية في الاستحالة لان حلول العرض (١٢٤ ا) فى الجوهر يغير صفته ولا يزيد فى عدده. فلو كان هيولى العالم جوهرا واحدا لم يصر جواهر كثيرة بحلول الاعراض فيها. وأجمعوا على وقوف الارض وسكونها. وان حركتها انما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها خلاف قول من زعم من الدهرية أن الارض تهوى أبدا ولو كانت كذلك لوجب ألّا يلحق الحجر الّذي نلقيه من ايدينا الارض أبدا. لان الخفيف لا يلحق ما هو أثقل منه فى انحداره. وأجمعوا على أن الارض متناهية الأطراف من الجهات كلها. وكذلك السماء متناهية الاقطار من الجهات الست خلاف قول من زعم من الدهرية انه لا نهاية للارض من اسفل ولا عن اليمين واليسار ولا من خلف ولا من امام وانما نهايتها من الجهة التى تلاقى الهواء من فوقها. وزعموا ان السماء أيضا متناهية من تحتها ولا نهاية لها من خمس جهات سوى جهة السفل. وبطلان قولهم ظاهر من جهة عود الشمس الى مشرقها كل يوم وقطعها جرم السماء وما فوق الارض فى يوم وليلة. ولا يصح قطع ما لا نهاية لها من المسافة فى الامكنة فى زمان متناه. وأجمعوا على ان السماوات سبع سماوات طباق خلاف قول

٣١٨

من زعم من الفلاسفة والمنجمين انها تسع. واجمعوا انها ليست بكريّة تدور حول الارض خلاف قول من زعم انها كرات بعضها فى جوف بعض وان الارض فى وسطها كمركز الكرة فى جوفها ومن قال بهذا لم يثبت فوق السماوات عرشا ولا ملائكة ولا شيئا مما يثبته الموجودون فوق السماوات : وأجمعوا أيضا على جواز الفناء على العالم كله من طريق القدر والامكان. وانما قالوا بتأييد الجنّة ونعيمها وتأييد جهنم وعذابها من طريق الشرع. واجازوا أيضا فناء بعض الاجسام دون بعض. واكفروا أبا الهذيل بقوله بانقطاع نعيم الجنة وعذاب النار. واكفروا من قال من الجهمية بفناء الجنة والنار. واكفروا الجبائي وابنه ابى هاشم في قولهما ان الله لا يقدر على افناء بعض الاجسام مع ابقاء بعضها. وانما يقدر على افناء جميعها بفناء يخلقه لا في محل

وقالوا في الركن الثالث (١٢٤ ب) وهو الكلام فى صانع العالم وصفاته الذاتية التى استحقها لذاته. ان الحوادث كلها لا بد لها من محدث صانع. واكفروا ثمامة واتباعه من القدرية في قولهم ان الافعال المتولدة لا فاعل لها. وقالوا ان صانع العالم خالق الاجسام والاعراض. واكفروا معمرا واتباعه من القدرية في قولهم ان الله تعالى لم يخلق شيئا من الاعراض. وانما خلق

٣١٩

الاجسام. وان الاجسام هى الخالقة للاعراض في أنفسها. وقالوا ان الحوادث قبل حدوثها لم تكن أشياء ولا اعيانا ولا جواهر ولا اعراضا خلاف قول القدرية في دعواها ان المعدومات في حال عدمها اشياء. وقد زعم البصريون منهم ان الجواهر والاعراض كانت قبل حدوثها جواهر وأعراضا. وقول هؤلاء يؤدى الى القول بقدم العالم. والقول الّذي يؤدى الى الكفر كفر في نفسه وقالوا ان صانع العالم قديم لم يزل موجودا خلاف قول المجوس في قولهم بصانعين. احدهما شيطان محدث. وخلاف قول الغلاة من الروافض الذين قالوا في عليّ جوهر مخلوق محدث بانه صار إلها صانعا بحلول روح الإله فيه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وقالوا بنفى النهاية والحدّ عن صانع العالم خلاف قول هشام بن الحكم الرافضى في دعواه ان معبوده سبعة اشبار بشبر نفسه. وخلاف قول من زعم من الكرامية انه ذو نهاية من الجهة التى تلاقى منها العرش ولا نهاية له من خمس جهات سواها. واجمعوا على احالة وصفه بالصورة والاعضاء خلاف قول من زعم من غلاة الروافض ومن اتباع داود الحوارى أنه على صورة الانسان وقد زعم هشام بن سالم الجواليقى واتباعه من الرافضة ان معبودهم (١٢٥ ا) على صورة الانسان وعلى رأسه وفرة سوداء وهو نور

٣٢٠