الفَرق بين الفِرق

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي

الفَرق بين الفِرق

المؤلف:

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨١

دعوانا عليهم القول بابطال الشرائع ان القيروانى قال أيضا فى رسالته الى سليمان بن الحسن : وينبغى ان تحيط علما بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم فى اقوالهم كعيسى بن مريم قال لليهود : لا ارفع شريعة موسى ثم رفعها بتحريم الاحد بدلا من السبت واباح العمل فى السبت وابدل قبلة موسى بخلاف جهتها ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته : ثم قال له : ولا تكن كصاحب الامة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال. الروح من امر ربى. لما لم يحضره جواب المسألة. ولا تكن كموسى فى دعواه التى لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة ولما لم يجد المحق فى زمانه عنده برهانا قال له لئن اتخذت إلها غيرى. وقال لقومه انا ربكم الأعلى لأنه كان صاحب الزمان فى وقته : ثم قال فى آخر رسالته : وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعى العقل ثم يكون له اخت او بنت حسناء وليست له زوجة فى حسنها فيحرمها على نفسه وينكحها من اجنبى. ولو عقل الجاهل لعلم انه أحق باخته وبنته من الاجنبى ما وجه ذلك الا ان صاحبهم حرّم عليهم الطيبات وخوّفهم بغائب لا يعقل وهو الاله الّذي يزعمونه واخبرهم بكون ما لا يرونه ابدا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلا وجعلهم له فى

٢٨١

حياته ولذريته بعد وفاته خولا واستباح بذلك اموالهم بقوله (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى ٢٣) فكان امره معهم نقدا وأمرهم معه نسيئة. وقد استعجل منهم بدل أرواحهم واموالهم على انتظار موعود لا يكون. وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه اصحاب الشرائع من التعب والنصب فى الصلاة والصيام والجهاد والحج. ثم قال (١١١ ب) لسليمان بن الحسن فى هذه الرسالة. وانت واخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس وفى هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع اصحاب النواميس فهنيئا لكم ما نلتم من الراحة عن امرهم. وفى هذا الّذي ذكرناه دلالة على ان غرض الباطنية القول بمذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات. ثم ان الباطنية لهم فى اصطياد الاغنام ودعوتهم الى بدعتهم حيل على مراتب سموها التفرس والتأنيس والتشكيك والتعليق والربط والتدليس والتأسيس والمواثيق بالايمان والعهود وآخرها الخلع والسلخ. فاما التفرس فانهم قالوا من شرط الداعى الى بدعتهم ان يكون قويا على التلبيس وعارفا بوجوه تأويل الظواهر ليردّها الى الباطن ويكون مع ذلك مخبرا بين من يجوز من يطمع فيه وفى اغوائه وبين من لا مطمع فيه. ولهذا

٢٨٢

قالوا فى وصاياهم للدعاة الى بدعتهم لا تتكلموا فى بيت فيه سراج يعنون بالسراج من يعرف علم الكلام ووجوه النظر والمقاييس. وقالوا أيضا لدعاتهم لا تطرحوا بذركم فى ارض سبخة. وارادوا بذلك منع دعاتهم عن اظهار بدعتهم عند من لا يؤثر فيهم بدعتهم كما لا يؤثر البذر فى الارض السبخة شيئا. وسموا قلوب اتباعهم الاغنام ارضا زاكية لانها تقبل بدعتهم. وهذا المثل بالعكس اولى وذلك ان القلوب الزاكية هى القابلة للدين القويم والصراط المستقيم وهى التى لا تصدأ بشبه اهل الضلال كالذهب الا بريز الّذي لا يصدأ فى الماء ولا يبلى فى التراب ولا ينقص فى النار. والارض السبخة كقلوب الباطنية وسائر الزنادقة الذين لا يزجرهم عقل ولا يردعهم شرع منهم ارجاس أنجاس أموات غير أحياء (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان ٤٤) وأقل حويلا (١١٢ ا) قد قسم لهم الحظّ من الرزق من قسم رزق الخنازير فى مراعيها وأباح طعمة العنب فى براريها (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء ٢٣) وقالوا أيضا من شرط الداعى الى مذهبهم ان يكون عارفا بالوجوه التي تدعى بها الاصناف. فليست دعوة الاصناف من وجه واحد بل لكل صنف من الناس وجه يدعى منه الى مذهب الباطن. فمن رآه الداعى مائلا

٢٨٣

الى العبادات حمله على الزهد والعبادة. ثم سأله عن معانى العبادات وعلل الفرائض وشككه فيها. ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له العبادة بله وحماقة وانما الفطنة فى نيل اللذات وتمثل له بقول الشاعر

من راقب الناس مات همّا

وفاز باللذة الجسور

ومن رآه شاكا فى دينه او فى المعاد والثواب والعقاب صرح له بنفى ذلك وحمله على استباحة المحرمات واستروح معه الى قول الشاعر الماجن

أأترك لذة الصهباء صرفا

لما وعدوه من لحم وخمر

حياة ثم موت ثم نشر

حديث خرافة يا أمّ عمرو

ومن رآه من غلاة الرافضة كالسبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية لم يحتج معه الى تأويل الآيات والاخبار لأنهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم. ومن رآه من الرافضة زيديّا او اماميا مائلا الى الطعن فى اخبار الصحابة دخل عليه من جهة شتم الصحابة وزيّن له بغض بنى تيم لان أبا بكر منهم وبغض بنى عدىّ. لان عمر بن الخطاب كان منهم. وحثّه على بغض بنى أميّة لانه كان منهم عثمان ومعاوية وربما استروح الباطنىّ فى عصرنا هذا الى قول اسماعيل بن عباد

دخول النار فى حب الوصىّ

وفى تفضيل أولاد النبىّ

٢٨٤

أحبّ إليّ من جنات عدن

اخلّدها بتيم أو عدىّ

قال عبد القاهر قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه

أتطمع فى دخول جنات عدن

وأنت عدو تيم أو عدىّ

وهم تركوك أشقى من ثمود

وهم تركوك أفضح من دعىّ (١١٢ ب)

وفى نار الجحيم غدا ستصلى

إذا عاداك صديق النبىّ

ومن رآه الداعى مائلا الى أبى بكر وعمر مدحهما عنده وقال لهما حظّ فى تأويل الشريعة. ولهذا استصحب النبي أبا بكر الى الغار ثم الى المدينة وأفضى إليه فى الغار تأويل شريعته فاذا سأله الموالى لأبى بكر وعمر عن التأويل المذكور لأبى بكر وعمر أخذ عليه العهود والمواثيق فى كتمان ما يظهره له. ثم ذكر له على التدريج بعض التأويلات فان قبلها منه اظهر له الباقى وان لم يقبل منه التأويل الاوّل ربطه فى الباقى وكتمه عنه وشك الغر من أجل ذلك فى أركان الشريعة. والّذي يروج عليهم مذهب الباطنية أصناف. احدها العامة الذين قتلت بصائرهم بأصول العلم والنظر كالنبط والاكراد وأولاد المجوس. والصنف الثانى الشعوبية الذين يرون تفضيل العجم على العرب ويتمنّون عود الملك الى العجم. والصنف الثالث اغنام بنى ربيعة من أجل غيظهم على

٢٨٥

مضر لخروج النبي منهم. ولهذا قال عبد الله بن خازم السلمى فى خطبته بخراسان ان ربيعة لم تزل غضابا على الله مذ بعث نبيّه من مضر. ومن أجل حسد ربيعة لمضر بايعت بنو حنيفة مسيلمة الكذّاب طمعا فى أن يكون فى بنى ربيعة نبيّ كما كان من بنى مضر نبىّ. فاذا استأنس الاعجمىّ الغرّ او الربعىّ الحاسد لمضر يقول الباطنى له قومك أحق بالملك من مضر سأله عن السبب فى عود الملك الى قومه فاذا سأله عن ذلك قال له ان الشريعة المضرية لها نهاية وقد دنا انقضاؤها وبعد انقضائها يعود الملك إليكم. ثم ذكر له تأويل إنكار شريعة الاسلام على التدريج. فاذا قبل ذلك منه صار ملحدا خرسا واستثقل العبادات واستطاب استحلال المحرمات. فهذا بيان درجة التفرّس منهم. ودرجة التأنيس قربية من درجة التفرس عندهم وهى تزيين ما عليه الانسان من مذهبه فى عينه ثم سؤاله بعد ذلك عن تأويل ما هو عليه وتشكيكه اياه (١١٣ ا) فى اصول دينه فاذا سأله المدعو عن ذلك قال. علم ذلك عند الامام ووصل بذلك منه الى درجة التشكيك حتى صار المدعو الى اعتقاد ان المراد بالظواهر والسنن غير مقتضاها فى اللغة وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات وترك العبادات. والربط عندهم تعليق نفس المدعو بطلب تأويل اركان

٢٨٦

الشريعة. فإما ان يقبل منهم تأويلها على وجه يؤول الى رفعها وإما ان يبقى على الشك والحيرة فيها. ودرجة التدليس منهم قولهم للغرّ الجاهل بأصول النظر والاستدلال ان الظواهر عذاب وباطنها فيه الرحمة. وذكر له قوله فى القرآن (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (الحديد ١٣). فاذا سألهم الغرّ عن تأويل باطن الباب قالوا جرت سنّة الله تعالى فى أخذ العهد والميثاق على رسله. ولذلك قال (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (الاحزاب ٧) وذكروا له قوله (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) (النحل ٩١) فاذا حلف الغرّ لهم بالايمان المغلّظة وبالطلاق والعتق وبسبيل الاموال فقد ربطوه بها. وذكروا له من تأويل الظواهر ما يؤدى الى رفعها بزعمهم فان قبل الاحمق ذلك منهم دخل فى دين الزنادقة باطلا واستتر بالاسلام ظاهرا. وان نفر الحالف عن اعتقاد تأويلات الباطنية الزنادقة كتمها عليهم لانه قد حلف لهم على كتمان ما اظهروه لهم من اسرارهم. واذا قبلها منهم فقد حلّفوه وسلخوه عن دين الاسلام وقالوا له حينئذ. ان الظاهر كالقشر والباطن كاللّب واللّب خير من القشر. قال عبد القاهر. حكى له بعض من

٢٨٧

كان دخل فى دعوة الباطنية. ثم وفقه الله تعالى (١١٣ ب) لرشده وهداه الى حل ايمانهم أنهم لما وثقوا منه بايمانه قالوا له ان المسمين بالانبياء كنوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخاريق احبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم. قال هذا الحاكى لى ثم ناقض الّذي كشف لى هذا السر بأن قال له. ينبغى أن تعلم ان محمد بن اسماعيل بن جعفر هو الّذي نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (طه ١٢) قال فقلت سخنت عينك تدعونى الى الكفر برب قديم الخالق للعالم ثم تدعونى مع ذلك الى الاقرار بربوبية انسان مخلوق وتزعم انه كان قبل ولادته إلها مرسلا لموسى. فان كان موسى عندك رزاقا فالذى زعمت انه ارسله اكذب فقال لى انك لا تفلح أبدا وندم على افشاء أسراره إليّ وتبت من بدعتهم. فهذا بيان وجه حيلهم على اتباعهم. وأما ايمانهم فان داعيهم يقول للحالف جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسله وما أخذ الله تعالى من النبيين من عهد وميثاق انك تستر ما تسمعه منّى وما تعلمه من أمرى ومن أمر الامام الّذي هو صاحب زمانك وأمر أشياعه واتباعه فى هذا البلد وفى سائر البلدان وامر المطيعين

٢٨٨

له من الذكور والاناث فلا تظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا ولا تظهر شيئا يدل عليه من كتابة او اشارة إلّا ما أذن لك فيه الامام صاحب الزمان او أذن لك فى اظهاره المأذون له فى دعوته فتعمل فى ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه. وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك وألزمته نفسك فى حالتى الرضاء والغضب والرغبة والرهبة قال نعم. فاذا قال نعم. قال له. وجعلت على نفسك أن تمنعنى وجميع من اسميه لك مما تمنع منه نفسك بعهد الله تعالى وميثاقه عليك (١١٤ ا) وذمّته وذمّة رسله وتنصحهم نصحا ظاهرا وباطنا. وألا تخون الامام وأولياءه وأهل دعوته فى أنفسهم ولا فى أموالهم. وأنك لا تتأوّل فى هذه الأيمان تأويلا ولا تعتقد ما يحلها. وإنك إن فعلت شيئا من ذلك فانت بريء من الله ورسله وملائكته ومن جميع ما أنزل الله تعالى من كتبه. وانك ان خالفت فى شيء مما ذكرناه لك فلله عليك ان تحج الى بيته مائة حجة ماشيا نذرا واجبا. وكل ما تملكه في الوقت الّذي أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين. وكل مملوك يكون فى ملكك يوم تخالف فيه او بعده يكون حرا. وكل امرأة لك الآن او يوم مخالفتك او تتزوجها بعد ذلك تكون طالقا منك ثلاث طلقات والله تعالى الشاهد على نيتك وعقد ضميرك فيما

٢٨٩

حلفت به. فاذا قال نعم. قال له كفى بالله شهيدا بيننا وبينك فاذا حلف الغرّ بهذه الايمان ظن انه لا يمكن حلها. ولن يعلم الغرّ انه ليس لايمانهم عندهم مقدار ولا حرمة وانهم لا يرون فيها ولا فى حلها إثما ولا كفارة ولا عارا ولا عقابا فى الآخرة. وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة؟ وهم لا يقرون بإله قديم بل يقرون بحدوث العالم ولا يثبتون كتابا منزلا من السماء ولا رسولا ينزل عليه الوحي من السماء. وكيف يكون لايمان المسلمين عندهم حرمة؟ ومن دينهم أن الله الرحمن الرحيم انما هو زعيمهم الذي يدعو إليه. ومن مال منهم الى دين المجوس زعم أن الإله نور بإزائه شيطان قد غلبه ونازعه فى ملكه. وكيف يكون لنذر الحج والعمرة عندهم مقدار؟ وهم لا يرون للكعبة مقدارا ويسخرون بمن يحج ويعتمر. وكيف يكون للطلاق عندهم حرمة؟ وهم يستحلون كل امرأة من غير عقد. فهذا بيان حكم الايمان عندهم. فأما حكم الايمان عند المسلمين. فإنا نقول. كل يمين يحلف بها الحالف ابتداء بطوع نفسه فهو على نيته. وكل يمين (١١٤ ب) يحلف بها عند قاض او سلطان يحلّفه ينظر فيها. فان كانت يمينا فى دعوى لمدع شيئا على الحالف المنكر وكان المدعى ظالما للمدعى عليه فيمين الحالف على نيته. وان كان المدعى محقا والمنكر

٢٩٠

ظالما للمدعى فيمين المنكر على نية القاضى او السلطان الذي أحلفه. ويكون الحالف خائنا فى يمينه. وإذا صحت هذه المقدمة فالباحث عن دين الباطنية اذا قصد اظهار بدعتهم للناس او اراد النقض عليهم معذور فى يمينه وتكون يمينه على نيته. فاذا استثنى بقلبه مشيئة الله تعالى فيها لم ينعقد عليه ايمانه ولم يحنث فيها باظهاره أسرار الباطنية للناس ولم تطلق نساؤه ولا تعتق مماليكه ولا تلزمه صدقة بذلك. وليس زعيم الباطنية عند المسلمين إماما. ومن اظهر سرّه لم يظهر سر امام وانما اظهر سر كافر زنديق. وقد جاء فى ذكر الحديث المأثور : اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس : فهذا بيان حيلتهم على الأغمار (١) بالايمان. فاما احتيالهم على الأغمار بالتشكيك فمن جهة أنهم يسألونهم عن مسائل من أحكام الشريعة يوهمونهم فيها خلاف معانيها الظاهرة. وربما سألوهم عن مسائل فى المحسوسات يوهمون ان فيها علوما لا يحيط بها إلّا زعيمهم فمن مسائلهم قول الداعى منهم للغرّ. لم صار للانسان أذنان ولسان واحد؟ ولم صار للرجل ذكر واحد وخصيتان؟ ولم صارت الأعصاب متصلة بالدماغ والاوراد متصلة بالكبد والشرايين متصلة بالقلب؟ ولم صار الانسان مخصوصا بنبات

__________________

(١) الأغمار. جمع غمر والغمر من لم يجرب الامور

٢٩١

الشعر على جفنيه الأعلى والاسفل؟ وسائر الحيوان ينبت الشعر على جفنه الأعلى دون الاسفل. ولم صار ثدى الانسان على صدره. وثدى البهائم على بطونها؟ ولما ذا لم يكن للفرس غدد (١) ولا كرش ولا كعب؟ وما الفرق بين الحيوان الّذي يبيض ولا يلد ولا يبيض وبما ذا (١١٥ ا) يميز بين السمكة النهرية والسمكة البحرية. ونحو هذا كثير يوهمون ان العلم بذلك عند زعيمهم. ومن مسائلهم فى القرآن سؤالهم عن معاني حروف الهجاء في أوائل السور كقوله الم وحم وطس ويس وطه وكهيعص. وربما قالوا ما معنى كل حرف من حروف الهجاء ولم صارت حروف الهجاء تسعة وعشرين حرفا؟ ولم عجم بعضها بالنقط وخلا بعضها من النقط؟ ولم جاز وصل بعضها بما بعدها بحرف؟ وربما قالوا للغر. ما معنى قوله (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (الحاقة ١٧)؟ ولم جعل الله تعالى أبواب الجنّة ثمانية وأبواب النار سبعة؟ وما معنى قوله (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (المدثر ٣٠)؟ وما فائدة هذا العدد؟ وربما سألوا عن آيات اوهموا فيها التناقض وزعموا انه لا يعرف تأويلها الا زعيمهم كقوله (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (الرحمن ٣٩) مع قوله فى موضع آخر

__________________

(١) الغدد جمع غدة وهي كل عقدة في الجسد اطاف بها شحم

٢٩٢

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر ٩٢) ومنها مسائلهم في أحكام الفقه كقولهم. لم صارت صلاة الصبح ركعتين والظهر اربعا والمغرب ثلاثا؟ ولم صار فى كل ركعة ركوع واحد وسجدتان؟ ولم كان الوضوء على أربعة اعضاء والتيمم على عضوين؟ ولم وجب الغسل من المنىّ وهو عند اكثر المسلمين طاهر ولم يجب الغسل من البول مع نجاسته عند الجميع؟ ولم أعادت الحائض ما تركت من الصيام ولم تعد ما تركت من الصلاة؟ ولم كانت العقوبة فى السرقة بقطع اليد وفى الزنى بالجلد؟ وهلّا قطع الفرج الّذي به زنى فى الزنى كما قطعت اليد التى بها سرق فى السرقة. فاذا سمع الغرّ منهم هذه الاسئلة ورجع إليهم فى تأويلها قالوا له. علمها عند إمامنا وعند المأذون له فى كشف أسرارنا فاذا تقرر عند الغر (١١٥ ب) ان امامهم. أو ما دونه هو العالم بتأويله اعتقد ان المراد بظواهر القرآن والسنة غير ظاهرها فأخرجوه بهذه الحيلة عن العمل باحكام الشريعة. فاذا اعتاد ترك العبادة واستحل المحرّمات كشفوا له القناع وقالوا له. لو كان لنا إله قديم غنىّ عن كل شيء لم يكن له فائدة فى ركوع العباد وسجودهم ولا فى طوافهم حول بيت من حجر ولا فى سعى بين جبلين. فاذا قبل منهم ذلك فقد انسلخ عن توحيد ربه وصار جاحدا له زنديقا. قال عبد القاهر. والكلام

٢٩٣

عليهم فى مسائلهم التي يسألون عنها عند قصدهم الى تشكيك الاغمار فى اصول الدين من وجهين. أحدهما أن يقال لهم. أنكم لا تخلون من أحد امرين. اما أن تقرّوا بحدوث العالم وتثبتوا له صانعا قديما عالما حكيما يكون له تكليف عباده ما شاء كيف شاء. وإما ان تنكروا ذلك وتقولوا بقدم العالم ونفى الصانع. فان اعتقدتم قدم العالم ونفى الصانع فلا معنى لقولكم. لم فرض الله كذا ولم حرّم كذا ولم خلق كذا ولم جعل كذا على مقدار كذا؟ اذا لم تقروا باله فرض شيئا أو حرّمه او خلق شيئا او قدّره. ويصير الكلام بيننا وبينكم كالكلام بيننا وبين الدهرية فى حدوث العالم. وإن أقررتم بحدوث العالم وتوحيد صانعه وأجزتم له تكليف عباده ما شاء من الاعمال كان جواز ذلك جوابا لكم عن قولكم لم فرض ولم حرّم كذا لاقراركم بجواز ذلك منه إن أقررتم به وبجواز تكليفه. وكذلك سؤالهم عن خاصية المحسوسات يبطل إن أقرّوا بصانع احدثها وان أنكروا الصانع فلا معنى لقولهم. لم خلق الله ذلك؟ مع انكارهم أن يكون لذلك صانع قديم. والوجه الثانى من الكلام عليهم فيما سألوا عنه من عجائب خلق الحيوان. أن يقال لهم. كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك. وقد ذكرته الاطباء والفلاسفة فى كتبهم وصنف

٢٩٤

(١١٦ ا) ارسطاطاليس فى طبائع الحيوان كتابا وما ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئا إلّا مسروقا من حكماء العرب الذين كانوا قبل زمان الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الاصناف الحميرية. وقد ذكرت العرب فى اشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان ولم يكن فى زمانها باطنىّ ولا زعيم للباطنية. وإنما أخذ ارسطاطاليس الفرق بين ما يلد وما يبيض من قول العرب فى أمثالها : كل شرقاء ولود وكل صكاء بيوض : ولهذا كان الخفاش من الطير ولودا لا بيوضا لان لها أذنا شرقاء. وكل ذات أذن صكاء بيوض كالحية والضب (١) والطيور البائضة وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى وعبد الملك بن قريب الأصمعىّ أن العرب قالت بتحريمها فى الجاهلية. أن كل حيوان لعينيه أهداب على الجفن الأعلى دون الاسفل إلّا الانسان فان اهدابه على الجفن الأعلى والاسفل. وقالوا كل حيوان ألقى فى الماء يسبح فيه إلّا الإنسان والقرد والفرس الاعسر فانه يغرق فيه إلّا أن يتعلم الانسان السباحة. وقالوا في الانسان انه اذا قطع رأسه وألقى فى الماء انتصب قائما فى وسط الماء. وقالوا كل طائر كفه فى رجليه وكف الانسان والقرد فى اليد. وكل ذى أربع ركبته فى يده.

__________________

(١) الضب دويبة على حد فرخ التمساح الصغير وذنبه كثير العقد ولذلك قالوا : أعقد من ذنب الضب :

٢٩٥

وركبتا الانسان فى رجليه. وقالوا ليس للفرس غدد ولا كرش ولا طحال ولا كعب. وليس للبعير مرارة. وليس للظليم مخّ. كذلك طير الماء وحيتان البحر ليس لها ألسن ولا أدمغة. وقد يكون حوت النهر ذا لسان ودماغ. وقالوا ان السموك كلها لا رئة لها كذلك ولا تتنفس. وقالت العرب من تجاربها أنّ الضأن تضع فى السنة مرّة وتفرد ولا تتيم. والماعز تضع فى السنة مرتين وتضع الواحدة والاثنتين والثلاثة. والعدد والنماء والبركة فى الضأن اكثر منها فى الماعز. وقالوا أيضا اذا رعت الضان نبتا وفصيلا نبت ولا ينبت ما يأكله الماعز لأن الضأن تقرضه بأسنانها والماعز تقلعه من أصله. وقالوا ان الماعز اذا حملت انزلت اللبن فى (١١٦ ب) اوّل الحمل الى الضرع والضائنية لا تنزل اللبن الا عند الولادة. وقالوا إن اصوات الذكور من كل جنس أجهر من اصوات الاناث الا المعزى فان اصوات اناثها اجهر من اصوات ذكورها. ومن امثال العرب فى الحيوان فهو لهم كل ثور افطس وكل بعير اعلم وكل ذى ناب افرج. وقالوا بالتجربة ان الاسد لا يأكل شيئا حامضا ولا يدنو من النار ولا يدنو من الحامض وقالوا ان حمل الكلب ستون يوما فان وضعت حملها لأقل من ذلك لم تكد اولادها تعيش. وقالوا ان اناث الكلاب يحضن

٢٩٦

لسبعة اشهر. ثم ان الكلبة تحيض فى كل سبعة ايام. وعلامة حيضها ورم اثغارها (١) وقالوا فى الكلب انه لا يلقى من اسنانه شيئا الا الثامن. وقالوا في الذئب انه ينام باحدى عينيه ويحترس بالاخرى. ولذلك قال فيه حميد بن ثور

ينام باحدى مقلتيه ويتقى

باخرى المنايا فهو يقظان نائم

والأرنب تنام مفتوحة العينين. وقالوا ليس في الحيوان ما لسانه مقلوب الا الفيل. وليس في ذوات الاربع ما ثديه على صدره الا الفيل. وقالوا ان الفيل تضع لسبع سنين والحمار لسنة والبقرة في ذلك كالمرأة. وقالوا في قضيب الارنب والثعلب انه عظم. وقالوا كل ذى رجلين اذا انكسرت احداهما قام على الاخرى وعرج الّا الظليم (٢) فانه اذا انكسرت احدى رجليه جثم في مكانه. ولهذا قال الشاعر في نفسه واخيه

فانى واياه كرجلى نعامة

على ما بنا من ذى غنى وذى فقر

يريد انه لا غنى لأحدهما (٣) عن صاحبه. وقالوا في النعامة أنها تبيض من ثلاثين بيضة الى اربعين لكنها تخرج ثلاثين منها تحضن عليها كخيط ممدود على الاستواء. وربما تركت بيضها وحضنت بيض غيرها. ولهذا قال فيها ابن هرمة

كتاركة بيضها بالعراء وملبسة بيض اخرى (١١٧ ا) جناحا

__________________

(١) اسنانها

(٢) الظليم الذكر من النعام

(٣) الاصل باحداهما

٢٩٧

وقالوا فى الفرج والفروج انهما يخلقان من البياض والصفرة غذاؤهما. وقالوا فى القطا انها لا تضع الّا فردا. وفى العقاب انها تضع ثلاث بيضات فتخرج بيضتين وتطرح واحدة فيخرجها الطير المعروف بكاسى العظام. ولهذا قيل فى المثل : أبر من كاسى العظام : وقالوا فى الضب انها تضع سبعين بيضة. ولكنها تأكل ما خرج من الحسولة عن البيض إلّا الحسل (١) الذي يعدو ويهرب منها. ولهذا قالوا فى المثل : أعقّ من ضب : والضب لا يرد الماء ولهذا قالوا فى المثل : اروى من ضب : وقالوا في الضب إنه ذو ذكرين (٢) وللأنثى من الضباب فرجان من قبل. وقالوا في الحية لها لسانان ولسانها اسود على اختلاف الوان قشرها والحيات كلها تكره ريح السذاب (٣) والبنفسج وتعجب بريح التفاح والبطيخ والجرو (٤) والخردل واللبن والخمر. وقالوا في الضفادع انها لا تصيح الّا وفي أفواهها الماء ولا تصيح في دجلة بحال وان صاحت في الفرات وسائر الانهار. وقال الشاعر في الضفدع يدخل في الاشداق ما ينضفه (٥) حتى ينق والنقيق يتلفه

يعنى ان نقيقها يدل عليها الحية فتصيدها فتأكلها (٦). وقالوا

__________________

(١) الحسل ولد الضب حين يخرج من بيضه

(٢) الاصل انه ذكرين

(٣) السذاب نبات

(٤) الجرو الصغير من القثاء والصغير من الحنظل والرمان

(٥) من نضفه اذا شرب جميع ما فيه

(٦) الاصل فتصيد فتأكله

٢٩٨

ان الضفادع لا عظام لها وقالوا في الجعل (١) انه اذا دفن في الورد سكن كالميت فاذا اعيد الى الروث (٢) تحرك

فهذا وما جرى مجراه من خواص الحيوانات وغيرها قد عرفته العرب في جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها الى زعماء الباطنية. بل عرفوها قبل وجود الباطنية في الدنيا باحقاب كثيرة. وفي هذا بيان كذب الباطنية في دعواها أن زعماءها مخصصون بمعرفة أسرار الاشياء وخواصها وقد بينا خروجهم عن جميع فرق الاسلام بما فيه كفاية والحمد لله على ذلك

الباب الخامس (١١٧ ب)

(من ابواب هذا الكتاب)

فى بيان اوصاف الفرقة الناجية وتحقيق النجاة لها وبيان محاسنها

هذا باب يشتمل على فصول هذه ترجمتها. فصل فى بيان اصناف فرق السنة والجماعة. فصل فى بيان تحقيق النجاة لاهل السنة والجماعة. فصل فى بيان الاصول التي اجتمع عليها اهل السنة والجماعة. فصل فى بيان قول اهل السنة فى السلف الصالح

__________________

(١) الجعل ضرب من الخنافس تضر به ريح الورد

(٢) الروث زيل الفرس وكل ذي حافر

٢٩٩

من الامة. فصل فى بيان عصمة الله اهل السنة عن تكفير بعضهم بعضها. فصل فى بيان فضائل اهل السنة وانواع علومهم وذكر أئمتهم. فصل فى بيان آثار اهل السنة في الدين والدنيا وذكر مفاخرهم فيهما. فهذه فصول هذا الباب وسنذكر في كل منها مقتضاه (١) بعون الله وتوفيقه

الفصل الاول

(من فصول هذا الباب)

في بيان اصناف اهل السنة والجماعة

اعلموا اسعدكم الله ان اهل السنة والجماعة ثمانية اصناف من الناس. صنف منهم احاطوا العلم بابواب التوحيد والنبوّة واحكام الوعد والوعيد والثواب والعقاب وشروط الاجتهاد والامامة والزعامة وسلكوا في هذا النوع من العلم طرق الصفاتية من المتكلمين الذين تبرّءوا من التشبيه والتعطيل ومن بدع الرافضة والخوارج والجهمية والنجّارية وسائر اهل الاهواء الضالة. والصنف الثانى منهم ائمة الفقه من فريقى الرأى والحديث من الذين اعتقدوا في اصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته

__________________

(١) الاصل مقتضاها

٣٠٠