الفَرق بين الفِرق

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي

الفَرق بين الفِرق

المؤلف:

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨١

الفصل التاسع

(من هذا الباب)

في ذكر اصناف الحلولية وبيان خروجها عن فرق الاسلام

الحلولية في الجملة عشر فرق كلها كانت في دولة الاسلام وغرض جميعها القصد الى افساد القول بتوحيد الصانع وتفضيل (٩٩ ا) فرقها في الاكثر يرجع الى غلاة الروافض وذلك ان السبابية والبيانية والجناحية والخطابية والنميرية منهم باجمعها حلولية وظهر بعدهم المقنعية بما وراء نهر جيحون وظهر قوم بمرق يقال لهم رزامية وقوم يقال لهم بركوكية وظهر بعدهم قوم من الحلولية يقال لهم حلمانية وقوم يقال لهم حلاجيه ينسبون الى الحسين بن منصور المعروف بالحلّاج وقوم يقال لهم العذاقرة ينسبون الى ابن ابى العذاقرى وتبع هؤلاء الحلولية قوم من الخرمية شاركوهم في استباحة المحرمات واسقاط المفروضات ونحن نذكر تفصيلهم على الاختصار. اما السبابية فانما دخلت في جملة الحلولية لقولها بان عليا صار إلها بحلول روح الاله فيه. وكذلك البيانية زعمت ان روح الاله دارت فى الأنبياء والائمة حتى انتهت الى عليّ ثم

٢٤١

دارت الى محمد بن الحنفية ثم صارت الى ابنه أبي هاشم ثم حلّت بعده فى بيان بن سمعان. وادعوا بذلك إلاهية بيان بن سمعان وكذلك الجناحية منهم حلولية لدعواها ان روح الاله دارت فى على واولاده ثم صارت الى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فكفرت بدعواها حلول روح الاله فى زعيمها وكفرت مع ذلك بالقيامة والجنة والنار. والخطابية كلها حلولية لدعواها حلول روح الاله فى جعفر الصادق وبعده فى أبى الخطاب الاسدى. فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة ومن جهة دعواها ان الحسن والحسين واولادهما ابناء الله واحباؤه ومن ادعى منهم فى نفسه انه من ابناء الله فهو اكفر من سائر الخطابية والشريعية. والنميرية منهم حلولية لدعواها ان روح الاله حلت فى خمسة اشخاص النبي وعلى وفاطمة والحسن والحسين لدعواها ان هؤلاء الاشخاص الخمسة آلهة. واما الرزامية فقوم بمر وافرطوا فى موالاة ابى مسلم صاحب دولة (٩٩ ب) بنى العباس وساقوا الامامة من أبى هاشم إليه ثم ساقوها من محمد ابن على الى أخيه عبد الله بن عليّ السفاح ثم زعموا ان الامامة بعد السفاح صارت الى أبى مسلم واقروا مع ذلك بقتل ابى مسلم وموته الّا فرقة منهم يقال لهم ابو مسلمية افرطوا فى ابى مسلم غاية الافراط وزعموا انه صار إلها بحلول روح الاله فيه وزعموا ان أبا مسلم خير

٢٤٢

من جبريل وميكائيل وسائر الملائكة. وزعموا أيضا ان أبا مسلم حي لم يمت وهم على انتظاره. وهؤلاء بمرو وهرات يعرفون بالبركوكية فاذا سئل هؤلاء عن الّذي قتله المنصور قالوا كان شيطانا تصور للناس فى صورة أبى مسلم. واما المقنعية فهم المبيضة بماء وراء نهر جيحون وكان زعيمهم المعروف بالمقنع رجلا اعور فصاروا بمرو من أهل قرية يقال لها (كازه كيمن دات) وكان قد عرف شيئا من الهندسة والحيل والنيرنجات وكان على دين الرزامية بمرو ثم ادّعى لنفسه الإلهية واحتجب عن الناس ببرقع من حرير واغتر به أهل جبل ابلاق وقوم من الصعد. ودامت فتنته على المسلمين مقدار اربع عشرة سنة وعاونه كفرة الاتراك الخلجية على المسلمين للغارة عليهم وهزموا عساكر كثيرة من عساكر المسلمين فى ايام المهدى بن المنصور وكان المقنع قد اباح لاتباعه المحرمات وحرم عليهم القول بالتحريم واسقط عنهم الصلاة والصيام وسائر العبادات وزعم لاتباعه انه هو الا له وانه كان قد تصور مرة فى صورة آدم ثم تصور فى وقت آخر بصورة نوح وفى وقت آخر بصورة إبراهيم ثم تردد فى صور الأنبياء الى محمد ثم تصور بعده فى صورة على وانتقل بعد ذلك فى صور اولاده ثم تصور بعد ذلك فى صورة أبى مسلم ثم انه زعم انه فى زمانه الّذي كان فيه قد تصور بصورة

٢٤٣

هشام بن حكيم وكان اسمه هاشم بن حكيم وقال انى انما انتقل فى الصور لان عبادى لا يطيقون رؤيتى فى صورتى التى انا عليها ومن رآنى احترق بنوري وكان له حصن عظيم وثيق بناحية كثير ويحشب فى جبل يقال له سيام وكان عرض جدار سورها اكثر من مائة آجرة دونها خندق (١٠٠ ا) كثيرة وكان معه أهل الصعد والاتراك الخلجية وجهز المهدى إليهم صاحب جيشه معاذ بن مسلم فى سبعين الف من المقاتلة واتبعهم لسعيد بن عمرو الحرش ثم افرد سعيدا بالقتال وبتدبير الحرب فقاتله سنين واتخذ سعيد من الحديد والخشب مائتى سلم ليضعها على عرض خندق المقنع ليعبر عليها رجاله واستدعى من مولتان الهند عشرة آلاف جلد جاموس وحشاها رملا وكبس بها خندق المقنع وقاتل جند المقنع من وراء خندقه فاستأمن منهم إليه ثلاثون الفا وقتل الباقون منهم واحرق المقنع نفسه فى تنوّر فى حصنه قد اذاب فيه النحاس مع السكر حتى ذاب فيه وافتتن به اصحابه بعد ذلك لما لم يجدوا له جثة ولا رمادا. وزعموا انه صعد الى السماء واتباعه اليوم فى جبال ابلاق اكره اهلها ولهم فى كل قرية من قراهم مسجد لا يصلون فيه ولكن يكترون مؤذنا يؤذن فيه وهم يستحلون الميتة والخنزير وكل واحد منهم يستمتع بامرأة غيره

٢٤٤

وان ظفروا بمسلم لم يره المؤذن الّذي فى مسجدهم قتلوه واخفوه غير انهم مقهورون بعامة المسلمين فى ناحيتهم والحمد لله على ذلك. واما الحلمانية من الحلولية فهم المنسوبون الى ابى حلمان الدمشقى وكان اصله من فارس ومنشؤه حلب واظهر بدعته بدمشق فنسب لذلك إليها وكان كفره من وجهين. احدهما انه كان يقول بحلول الاله فى الاشخاص الحسنة وكان مع اصحابه اذا رأوا صورة حسنة سجدوا لها يوهمون ان الاله قد حل فيها. والوجه الثانى من كفره قوله بالإباحة ودعواه ان من عرف الاله على الوصف الّذي يعتقده هو زال عنه الخطر والتحريم واستباح كل ما يستلذه ويشتهيه. قال عبد القاهر رأيت بعض هؤلاء الحلمانية يستدل على جواز حلول الاله فى الاجساد بقول الله تعالى للملائكة فى آدم (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (الحجر ٢٩). وكان يزعم ان الاله انما أمر الملائكة بالسجود لآدم لانه كان قد حل فى آدم وانما حله لانه خلقه فى احسن تقويم ولهذا قال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين ٢) فقلت له (١٠٠ ب) اخبرنى عن الآية التى استدللت بها فى امر الله الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام والآية الناطقة بان الانسان مخلوق فى احسن تقويم هل اريد بهما جميع الناس على العموم أم

٢٤٥

اريد بهما انسان بعينه. فقال ما الّذي يلزمنى على كل واحد من القولين ان قلت به. فقلت ان قلت ان المراد بهما كل الناس على العموم لزمك ان تسجد لكل انسان وان كان قبيح الصورة لدعواك ان الاله حل فى جميع الناس وان قلت ان المراد به انسان بعينه وهو آدم عليه‌السلام دون غيره فلم تسجد لغيره من اصحاب الصور الحسنة ولم تسجد للفرس الرابع والشجرة المثمرة وذوات الصور الحسنة من الطيور والبهائم وربما كان لهب الناس فى صورة فان استجزت السجود له فقد جمعت بين ضلالة الحلولية وضلالة عابدى النار واذا لم تسجد للنار ولا للماء ولا للهواء ولا للسماء مع حسن صور هذه الاشياء فى بعض الاحوال فلا تسجد للاشخاص الحسنة الصور. وقلت له أيضا ان الصور الحسنة فى العالم كثيرة وليس بعضها بحلول الاله فيه اولى من بعض وان زعمت ان الاله حال فى جميع الصور الحسنة فهل ذلك الحلول على طريق قيام العرض بالجسم او على طريق كون الجسم فى الجسم به ويستحيل حلول عرض واحد فى محال كثيرة ويستحيل كون شيء واحد فى امكنة كثيرة واذا استحال هذا استحال ما يؤدى إليه. واما الحلاجية فمنسوبون الى أبى المغيث الحسين بن منصور المعروف بالحلاج وكان من ارض فارس من مدينة يقال لها البيضاء وكان

٢٤٦

فى بدء امره مشغولا بكلام الصوفية وكانت عباراته حينئذ من الجنس الّذي تسميه الصوفية الشطح وهو الّذي يحتمل معنيين. احدهما حسن محمود. والآخر قبح مذموم وكان يدعى انواع العلوم على الخصوص والعموم وافتتن به قوم من اهل بغداد وقوم من اهل طالقان خراسان. وقد اختلف فيه المتكلمون والفقهاء والصوفية. فاما المتكلّمون فاكثرهم على تكفيره وعلى انه كان على مذاهب الحلولية وقبله قوم من متكلمى السالمية بالبصرة ونسبوه الى حقائق معانى الصوفية. وكان القاضى ابو بكر محمد بن الطيب الاشعرى (١٠١ ا) رحمه‌الله نسبه الى معاطاة الحيل والمخاريق وذكر فى كتابه الّذي أبان فيه عجز المعتزلة عن تصحيح دلائل النبوة على اصولهم مخاريق الحلاج ووجوه حيله. واختلف الفقهاء أيضا فى شأن الحلاج فتوقف فيه ابو العباس بن سريح لما استفتى فى دمه وافتى ابو بكر بن داود بجواز قتله واختلف فيه مشايخ الصوفية فبرئ منه عمرو بن عثمان المكى وأبو يعقوب الاقطع وجماعة منهم وقال عمرو بن عثمان كنت أماشيه يوما فقرأت شيئا من القرآن فقال يمكننى ان اقول مثل هذا وروى ان الحلاج مر يوما على الجنيد فقال له انا الحق فقال الجنيد أنت بالحق أية خشبة تفسد فتحقق فيه ما قال الجنيد لانه صلب بعد ذلك وقبله جماعة من الصوفية. منهم أبو

٢٤٧

العباس بن عطا ببغداد وأبو عبد الله بن خفيف بفارس وأبو القاسم النصرآبادي بنيسابور وفارس الدينورى بناحيته. والذين نسبوه الى الكفر والى دين الحلولية حكوا عليه انه قال من هذب نفسه فى الطاعة وصبر على اللذات والشهوات ارتقى الى مقام المقربين ثم لا يزال يصفو ويرتقى فى درجات المصافات حتى يصفو عن البشرية فاذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الاله الّذي حل فى عيسى بن مريم. ولم يرد حينئذ شيئا الا كان كما اراد وكان جميع فعله فعل الله تعالى. وزعموا ان الحلاج ادعى لنفسه هذه الرتبة وذكر انه ظفروا بكتب له الى اتباعه عنوانها من الهوهو رب الارباب المتصور فى كل صورة الى عبده فلان فظفروا بكتب اتباعه إليه وفيها يا ذات اللذات ومنتهى غاية الشهوات نشهد انك المتصور فى كل زمان بصورة وفى زماننا هذا بصورة الحسين بن منصور ونحن نستجير لك ونرجو رحمتك يا علام الغيوب. وذكروا انه استمال ببغداد جماعة من حاشية الخليفة ومن حرمه حتى خاف الخليفة وهو جعفر المقتدر بالله معرة فتنته فحبسه واستفتى الفقهاء فى دمه واستروح الى فتوى أبى بكر ابن داود بإباحة دمه فقدم الى حامد بن العباس بضر به الف صوب وبقطع يديه ورجليه وصلبه بعد ذلك عند جسر بغداد (١٠١ ب)

٢٤٨

ففعل به ذلك يوم الثلاثاء لست بقين من ذى القعدة سنة نسع وثلاثمائة ثم انزل من جذعه الّذي صلب عليه بعد ثلاث واحرق وطرح رماده فى الدجلة وزعم بعض المنسوبين إليه انه حي لم يقتل وانما قتل من ألقى عليه شبهه والذين تولوه من الصوفية وزعموا انه كشف له احوال من الكرامة فاظهرها للناس فعوقب بتسليط منكرى الكرامات عليه لتبقى حاله على التلبيس. وزعم هؤلاء ان حقيقة التصوف حال ظاهرها تلبيس وباطنها تقديس واستدلوا على تقديس باطن الحلاج بما روى انه قال عند قطع يديه ورجليه حسب الواحد افراد الواحد وبأنه سئل يوما عن ذنبه فانشأ يقول ثلاثة احرف لا عجم فيها ومعجومان ـ وانقطع الكلام وأشار بذلك الى التوحيد ـ واما العذاقرة فقوم ببغداد اتباع رجل ظهر ببغداد فى ايام الراضى بن المقتدر فى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وكان معروفا بابن أبى العذاقر واسمه محمد بن على السلمقانى وادعى حلول روح الاله فيه وسمى نفسه روح القدس ووضع لاتباعه كتابا سماه بالحاسة السادسة وصرح فيه برفع الشريعة واباح اللواط وزعم انه ايلاج الفاضل نوره فى المفضول. واباح اتباعه له حرمهم طمعا فى ايلاجه نوره فيهنّ. وظفر الراضي بالله به وبجماعة من اتباعه منهم الحسين بن القسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وابو عمران

٢٤٩

إبراهيم بن محمد بن احمد بن المنجم ووجد كتبهما إليه يخاطبانه فيها بالرب والمولى ويصفانه بالقدرة على ما يشاء واقروا بذلك بحضرة الفقهاء ومنهم ابو العباس احمد بن عمر بن سريج وابو الفرح المالكى وجماعة من الائمة فاعترفوا بذلك وامر المعروف منهم بالحسين بن القسم بن عبيد الله بالبراءة من ابن أبى العذاقر بأن يصفعه ففعل ذلك واظهر التوبة وافتى ابن سريج بجواز قبول توبته على مذهب الشافعي رحمه‌الله وافتى المالكيون برد توبة الزنديق بعد العثور عليه فامر الراضى بحبسه الى ان ينظر فى امره وأمر (١٠٢ ا) بقتل ابن ابى العذاقر وصاحبه ابى عون فقال له ابن ابى العذاقر امهلنى ثلاثة ايام لينزل فيها براءتى من السماء او نقمة على اعدائى واشار الفقهاء على الراضى بتعجيل قتلهما فصلبهما ثم احرقهما بعد ذلك وطرح رمادهما فى الدجلة

٢٥٠

الفصل الحادي عشر

(من فصول هذا الباب)

فى ذكر اصحاب الاباحة من الخرمية وبيان خروجهم

عن جملة فرق الاسلام

فهؤلاء صنفان صنف منهم كانوا قبل دولة الاسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات وزعموا ان الناس شركاء فى الاموال والنساء ودامت فتنة هؤلاء الى ان قتلهم انوشروان فى زمانه. والصنف الثانى خرمدينيّة ظهروا في دولة الاسلام وهم فريقان بابكية ومازيارية وكلتاهما معروفة بالمحمّرة. فالبابكية منهم اتباع بابك الخزى الّذي ظهر في جبل اليدين بناحية آذربيجان وكثر بها اتباعه واستباحوا المحرمات وقتلوا الكثير من المسلمين وجهز إليه خلفاء بنى العباس جيوشا كثيرة مع الفشين الحاجب ومحمد بن يوسف التّعرى وابى دلف العجلى واقرانهم وبقيت العساكر في وجهه مقدار عشرين سنة الى ان أخذ بابك واخوه إسحاق بن إبراهيم وصلبا بعين من راى في ايام المعتصم واتهم الفشين الحاجب بممالأة بابك في حربه وقتل لأجل ذلك. واما المازيارية منهم فهم اتباع

٢٥١

مازيار الّذي اظهر دين المحمرة بجرجان. وللبابكية في جبلهم ليلة عيد لهم يجتمعون فيها على الخمر والزمر وتختلط فيها رجالهم ونساؤهم فاذا أطفئت سرجهم ونيرانهم افتض فيها الرجال النساء على تقدير من عزّ بزّ. والبابكية ينسبون أصل دينهم الى أمير كان لهم في الجاهلية اسمه شروين. ويزعمون ان اباه كان من الزنج وأمه بعض بنات ملوك الفرس. ويزعمون ان شروين كان افضل من محمد ومن سائر الأنبياء وقد بنوا في جبلهم مساجد للمسلمين يؤذن فيها المسلمون وهم (١٠٢ ب) يعلمون أولادهم القرآن لكنهم لا يصلون في السر ولا يصومون في شهر رمضان ولا يرون جهاد الكفرة. وكانت فتنة مازيار قد عظمت في ناحيته الى ان اخذ في ايام المعتصم أيضا وصلب بسرّ من رأى بحذاء بابك الخزّى واتباع مازيار اليوم في جبلهم اكرة من يليهم من سواد جرجان يظهرون الاسلام ويضمرون خلافه والله المستعان على اهل الزيغ والطغيان

٢٥٢

الفصل الثاني عشر

(من فصول هذا الباب)

فى ذكر اصحاب التناسخ من اهل الاهواء وبيان خروجهم

عن فرق الاسلام

القائلون بالتناسخ اصناف صنف من الفلاسفة وصنف من السمنية. وهذان الصنفان كانا قبل دولة الاسلام. وصنفان آخران ظهرا في دولة الاسلام. أحدهما من جملة القدرية. والآخر من جملة الرافضة الغالية. فاصحاب التناسخ من السمنية قالوا بقدم العالم وقالوا أيضا بابطال النظر والاستدلال. وزعموا انه لا معلوم الا من جهة الحواس الخمس وانكر اكثرهم المعاد والبعث بعد الموت. وقال فريق منهم بتناسخ الارواح في الصور المختلفة. واجازوا ان ينقل روح الانسان الى كلب وروح الكلب الى انسان وقد حكى اقلوطرخس مثل هذا القول عن بعض الفلاسفة. وزعموا ان من أذنب في قالب ناله العقاب على ذلك الذنب في قالب آخر. وكذلك القول في الثواب عندهم. ومن اعجب الاشياء دعوى السمنية في التناسخ الّذي لا يعلم بالحواس مع

٢٥٣

قولهم انه لا معلوم الّا من جهة الحواس وقد ذهبت المانوية أيضا الى التناسخ وذلك ان مانيا قال في بعض كتبه إنّ الارواح التى تفارق الاجسام نوعان أرواح الصديقين وأرواح أهل الضلالة. فأرواح الصديقين اذا فارقت أجسادها سرت في عمود الصبح الى النور الّذي فوق الفلك فبقيت في ذلك العالم على السرور الدائم. وأرواح أهل الضلال اذا فارقت الاجساد وأرادت اللحوق بالنور الأعلى ردّت منعكسة إلى السفل. فتتناسخ في أجسام الحيوانات الى ان تصفو من شوائب الظلمة ثم تلتحق بالنور العالى (١٠٣ ا)

وذكر أصحاب المقالات عن سقراط وافلاطن واتباعهما من الفلاسفة انهم قالوا بتناسخ الأرواح على تفصيل قد حكيناه عنهم فى كتاب الملل والنحل. وقال بعض اليهود بالتناسخ. وزعم انه وجد في كتاب دانيال ان الله تعالى مسخ بخت نصّر في سبع صور من صور البهائم والسباع وعذّبه فيها كلها ثم بعثه في آخرها موحّدا. وأما أهل التناسخ في دولة الاسلام فان البيانيّة والجناحيّة والخطابيّة والرونديّة من الروافض الحلولية كلها قالت بتناسخ روح الاله في الأئمة بزعمهم. وأول من قال بهذه الضلالة السبابيّة من الرافضة لدعواهم أن عليا صار إلها حين حلّ روح الاله فيه.

٢٥٤

وزعمت البيانيّة منهم ان روح الاله دارت في الأنبياء ثم في الأئمة الى ان صارت في بيان بن سمعان. وادّعت الجناحيّة منهم مثل ذلك في عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وكذلك دعوى الخطابيّة في ابن الخطاب. وكذلك دعوى قوم من الرونديّة في أبى مسلم صاحب دولة بني العباس. فهؤلاء يقولون بتناسخ روح الاله دون أرواح الناس تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. واما أهل التناسخ من القدرية فجماعة منهم أحمد بن حائط وكان معتزليّا منتسبا الى النظام. وكان على بدعته في الفطرة وفي نفى الجزء الّذي يتجزأ وفي نفى قدرة الله تعالى على الزيادة في نعيم أهل الجنّة أو في عذاب أهل النار وزاد على النظّام في ضلالته في التناسخ. ومنهم احمد بن ايّوب بن يانوش وكان تلميذ احمد بن حائط في التناسخ. لكنهما اختلفا بعد في كيفية التناسخ. ومنهم محمد بن احمد القحطي وافتخر بأنه كان منهم في التناسخ والاعتزال. ومنهم عبد الكريم بن أبى العوجاء وكان خال ممن بن زائدة. وجمع بين أربعة أنواع من الضلالة. أحدها انه كان يرى في السرّ دين المانويّة من الثنويّة. والثانى قوله بالتناسخ والثالث ميله الى الرافضة في الامامة. والرابع قوله بالقدر فى أبواب التعديل والتحوير. وكان وضع أحاديث كثيرة باسانيد

٢٥٥

يغتر بها من لا معرفة له بالجرح والتعديل. وتلك الأحاديث التى وضعها كلها ضلالات في التشبيه (١٠٣ ب) والتعطيل وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة وهو الذي أفسد على الرافضة صوم رمضان بالهلال وردّهم عن اعتبار الأهلة بحساب وضعه لهم ونسب ذلك الحساب الى جعفر الصادق ورفع خبر هذا الضال الى أبى جعفر بن محمد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة فامر بقتله فقال لن يقتلونى لقد وضعت أربعة ألف حديث أحللت بها الحرام وحرمت بها الحلال وفطّرت الرافضة في يوم من أيام صومهم وصوّمتهم في يوم من أيام فطرهم. وتفصيل قول هؤلاء في التناسخ ان احمد بن حائط زعم ان الله تعالى أبدع خلقة أصحابه سالمين عقلاء بالغين في دار سوى الدنيا التي هم فيها اليوم واكمل عقولهم وخلق فيهم معرفته والعلم به واسبغ عليهم نعمه. وزعم ان الانسان المأمور المنهى المنعم عليه هو الروح التي في الجسم وان الاجسام قوالب للأرواح. وزعم ان الروح هى الحي القادر العالم وان الحيوان كله جنس واحد. وزعم أيضا ان جميع انواع الحيوان محتمل للتكليف وكان قد توجّه الامر والنهي عليهم على اختلاف صورهم ولغاتهم. وقال ان الله تعالى لما كلفهم في الدار التي خلقهم فيها شكره على ما انعم به عليهم

٢٥٦

أطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به وعصاه بعضهم في جميع ما أمرهم به. فمن اطاعه في جميع ما امره به أقره في دار النعيم التي ابتدأه فيها. ومن عصاه في جميع ما أمره به أخرجه من دار النعيم الى دار العذاب الدائم وهى النار. ومن أطاعه في بعض ما أمره به وعصاه في بعض ما أمره به أخرجه الى الدنيا وألبسه بعض هذه الاجسام التى هى القوالب الكثيفة وابتلاه بالبأساء والضراء والشدة والرجاء واللذات والآلام في صور مختلفة من صور الناس والطيور والبهائم والسباع والحشرات وغيرها على مقادير ذنوبهم ومعاصيهم في الدار الاولى التى خلقهم فيها فمن كانت معاصيه في تلك الدار أقل وطاعاته اكثر كانت صورته فى الدنيا احسن. ومن كانت طاعاته فى تلك الدار أقل ومعاصيه (١٠٤ ا) اكثر صار قالبه فى الدنيا أقبح. ثم زعم ان الحيوان الّذي من الروح لا يزال في هذه الدنيا يتكرر فى قوالب وصور مختلفة ما دامت طاعاته مشوبة بذنوبه. وعلى قدر طاعاته وذنوبه يكون منازل قوالبه فى الانسانية والبيهمية ثم لا يزال من الله تعالى رسول الى كل نوع من الحيوان وتكليف للحيوان ابدا الى ان يتمحّض عمل الحيوان طاعات فيرد الى دار النعيم الدائم وهى الدار التى خلق فيها او يمحض عمله معاصى فينقل الى النار الدائم عذابها.

٢٥٧

فهذا قول ابن حائط فى تناسخ الارواح. وقال احمد بن أيوب بن بانوش ان الله تعالى خلق الخلق كله دفعة واحدة. وحكى عنه بعض أصحابه أنّ الله تعالى خلق أولا الاجزاء المقدرة التى كل واحد منها جزء لا يتجزأ. وزعم ان تلك الاجزاء كانت أحياء عاقلة وان الله تعالى كان قد سوّى بينهم فى جميع امورهم اذ لم يستحق واحد منهم تفضيلا على غيره ولا كان من احد منهم جناية يؤخر لا جلها عن غيره. قال ثم انه خيّرهم بين ان يمتحنهم بعد اسباغ النعمة عليهم بالطاعات ليستحقوا بها الثواب عليها لان منزلة الاستحقاق أشرف من منزلة التفضيل. وبين ان يتركهم فى تلك الدار تفضلا عليه بها فاختار بعضهم المحبة واباها بعضهم. فمن اباها تركه فى الدار الاولى على حاله فيها. ومن اختار الامتحان امتحنه فى الدنيا ولما امتحن الذين اختاروا الامتحان عصاه بعضهم وأطاعه بعضهم. فمن عصاه حطه الى رتبة هى دون المنزلة التى خلقوا فيها. ومن اطاعه رفعه الى رتبة أعلى من المنزلة التى خلق عليها. ثم كرّرهم فى الاشخاص والقوالب إلى ان صار قوم منهم اناسا وآخرون صاروا بهائم أو سباعا بذنوبهم ومن صار منهم الى البهيمية ارتفع عنه التكليف. وكان يخالف ابن حائط فى تكليف البهائم. ثم قال فى البهائم انها لا تزال تترد فى الصور (١٠٤ ب)

٢٥٨

القبيحة وتلقى المكاره من الذبح والتسخير الى ان تستوفى ما تستحق من العقاب بذنوبها ثم تعاد الى الحالة الاولى ثم يخيرهم الله تعالى تخييرا ثانيا فى الامتحان. فان اختاروه اعاد تكليفهم على الحال التى وصفناها وان امتنعوا منه تركوا على حالهم غير مكلفين. وزعم ان من المكلفين من يعمل الطاعات حتى يستحق ان يكون نبيّا او ملكا فيفعل الله تعالى ذلك به. وزعم القحطى منهم ان الله تعالى لم يعرض عليهم فى اوّل امرهم التكليف بل هم سألوه الرفع عن درجاتهم والتفاضل بينهم فاخبرهم بانهم لا يصفون بذلك الا بعد التكليف والامتحان وانهم وان كلفوا فعصوا استحقوا العقاب فابوا الامتحان. قال فذلك قوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب ٧٦) وزعم ابو مسلم الحرّانى ان الله تعالى خلق الارواح وكلف منها من علم انه يعطيه دون من يعصيه وان العصاة إنما عصوه ابتداء فعوقبوا بالنسخ والمسخ فى الاجساد المختلفة على مقادير ذنوبهم. فهذا تفصيل قول اصحاب التناسخ وقد نقضنا عللهم فى كتاب الملل والنحل بما فيه

٢٥٩

الفصل الثالث عشر

(من فصول هذا الباب)

فى بيان ضلالات الحائطية من القدرية وبيان خروجهم

عن فرق الامة

هؤلاء اتباع احمد بن حائط القدرى وكان من اصحاب النظّام فى الاعتزال وقد ذكرنا قوله فى التناسخ قبل هذا ونذكر في هذا الفصل ضلالاته فى توحيد الصانع. وذلك ان ابن حائط وفضلا الحدثى زعما ان للخلق ربين وخالقين. احدهما قديم وهو الله سبحانه والآخر مخلوق وهو عيسى بن مريم. وزعما ان المسيح ابن الله على معنى النبي دون الولادة. وزعما أيضا ان المسيح هو الّذي يحاسب الخلق فى الآخرة وهو الّذي عناه الله بقوله (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر ٢٢) وهو الّذي يأتى (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (البقرة ٢١١) وهو الّذي خلق آدم على صورة نفسه وذلك تأويل ما روى ان الله تعالى خلق إلها على صورته. وزعم انه هو الّذي عناه (١٥ ا) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وهو الّذي عناه بقوله ان الله تعالى خلق

٢٦٠