الفَرق بين الفِرق

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي

الفَرق بين الفِرق

المؤلف:

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨١

إليها سؤال أصحابنا قدماء المعتزلة عن العالم منا هل فارق الجاهل بما علمه لنفسه او لعلة وأبطلوا مفارقته إياه لنفسه مع كونهما من جنس واحد وبطل ان تكون مفارقته إياه لا لنفسه ولا لعلة لانه لا يكون حينئذ بمفارقته له أولى من آخر سواه. فثبت أنه إنما فارقه فى كونه عالما لمعنى ما. ووجب أيضا ان يكون لله تعالى فى مفارقة الجاهل معنى او صفة بها فارقه. فزعم أنه إنما فارقه لحال كان عليها (٧٨ ا) فأثبت الحال فى ثلاثة مواضع. أحدها الموصوف الّذي يكون موصوفا لنفسه فاستحق ذلك الوصف لحال كان عليها. والثانى الموصوف بالشيء لمعنى صار مختصا بذلك المعنى لحال. والثالث ما يستحقه لا لنفسه ولا لمعنى فيختص بذلك الوصف دون غيره عنده لحال. وأحوجه الى هذا سؤال معمّر فى المعانى لما قال إن علم زيد اختص به دون عمرو لنفسه او لمعنى او لا لنفسه او لا لمعنى. فان كان لنفسه وجب ان يكون لجميع العلوم به اختصاص. لكونها علوما. وان كان لمعنى صحّ قول معمّر فى تعلق كل معنى بمعنى لا الى نهاية. وان كان لا لنفسه ولا لمعنى لم يكن اختصاصه به أولى من اختصاصه بغيره. وقال ابو هاشم انما اختص به لحال وقال اصحابنا ان علم زيد اختص به لعينه لا لكونه علما ولا لكون زيد كما

١٨١

تقول ان السواد سواد لعينه لا لان له نفسا وعينا. ثم قالوا لابى هاشم هل تعلم الاحوال؟ او لا تعلمها فقال لا من قبل انه لو قال انها معلومة لزمه اثباتها اشياء اذ لا يعلم عنده إلا ما يكون شيئا ثم ان لم يقل بانها احوال متغايرة لان التغاير إنما يقع بين الاشياء والذوات. ثم انه لا يقول فى الاحوال انها موجودة ولا انها معدومة ولا انها قديمة ولا محدثة ولا معلومة ولا مجهولة ولا تقول انها مذكورة مع ذكره لها بقوله انها غير مذكورة وهذا متناقض. وزعم أيضا ان العالم له فى كل معلوم حال لا يقال فيها انها حالة مع المعلوم الآخر. ولا جل هذا زعم ان احوال البارى عزوجل فى معلوماته لا نهاية لها وكذلك احواله فى مقدوراته لا نهاية لها كما ان مقدوراته لا نهاية لها. وقال له اصحابنا ما انكرت ان يكون لمعلوم واحد (٧٨ ب) احوال بلا نهاية لصحة تعلق المعلوم بكل عالم يوجد لا الى نهاية. وقالوا له هل احوال البارى من عمل غيره أم هى هو؟ فاجاب بانها لا هى هو ولا غيره. فقالوا له فلم انكرت على الصفاتية قولهم فى صفات الله عزوجل فى الازل انها لا هى ولا غيره؟

والفضيحة السابعة من فضائحه. قوله نبغى جملة من الأعراض التى اثبتها اكثر مثبتى الأعراض كالبقاء والإدراك والكدرة والألم

١٨٢

والشك. وقد زعم ان الألم الّذي يلحق الانسان عند المصيبة والألم الّذي يجده عند شرب الدّواء الكريه ليس بمعنى اكثر من ادراك ما ينفر عنه الطبع والادراك ليس بمعنى عنده ومثله ادراك جواهر اهل النار فى النار وكذلك اللذات عنده ليست بمعنى ولا هى اكثر من ادراك المشتهى. والادراك ليس بمعنى وقال فى الألم الّذي يحدث عند الوباء إنه معنى كالألم عند الضّرب واستدلّ على ذلك بانه واقع تحت الحسن وهذا من عجائبه لأن ألم الضرب بالخشب والألم بسعوط الخردل والتلدغ بالنار وشرب الصبر سواء فى الحسن. ويلزمه اذا نفى كون الملذة معنى ألّا يزيد لذات اهل الثواب فى الجنة على لذات الاطفال التى نالوها بالفضل لاستحالة ان يكون لا شيء اكثر من لا شيء وقد قال ان اللذة فى نفسها نفع وحسن فاثبت نفعا وحسنا ليس بشيء وقال كل ألم ضرر وجاء من هذا ان الضرر ما ليس بشيء عنده والفضيحة الثامنة من فضائحه قوله فى باب الفناء ان الله تعالى لا يقدر على ان يفنى من العالم ذرة مع بقاء السماوات والارض وبناه على اصله فى دعواه ان الاجسام لا تفنى (٧٩ ا) الا بفناء يخلقه الله تعالى لا فى محل يكون ضدا لجميع الاجسام لأنه لا يختص ببعض الجواهر دون بعض اذا ليس هو قائما بشيء منها فاذا كان

١٨٣

ضدا لها نفاها كلها وحسبه من الفضيحة فى هذا قوله بأن الله يقدر على إفناء جملة لا يقدر على افناء بعضها

والفضيحة التاسعة قوله أن الطهارة غير واجبة والّذي الجأه الى ذلك ان سأل نقسه عن الطهارة بماء مغصوب على قوله وقول ابيه بأن الصلاة فى الارض المغصوبة فاسدة واجاب بأن الطهارة بالماء المغصوب صحيحة وفرق بينها وبين الصلاة فى الدار المغصوبة بأن قال ان الطهارة غير واجبة وانما امر الله تعالى العبد بأن يصلى اذا كان متطهرا ثم استدل على ان الطهارة غير واجبة بان غيره لو طهره مع كونه صحيحا أجزأه ثم انه طرد هذا الاعتلال فى الحج فزعم ان الوقوف والطوف والسعى غير واجب فى الحج لان ذلك كله مجزيه اذا اتى به راكبا ولزمه على هذا الاصل ألّا تكون الزكاة واجبة ولا الكفارة والنذور وقضاء الديون لان وكيله ينوب عنه فيها وفى هذا ارفع احكام الشريعة وبان بما ذكرناه فى هذا الفصل تكفير زعماء المعتزلة بعضها لبعض واكثرهم يكفرون اتباعهم المقلدين لهم ومثلهم فى ذلك كما قاله الله تعالى (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) (المائدة ١٥) واما مثل اتباعهم معهم فقول الله تعالى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (البقرة ١٦٧) (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَ

١٨٤

لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) (البقرة ١٦٨) ومن مكابرات زعمائهم مكابرة النظام فى الطفرة وقوله بأن الجسم يصير (٧٩ ب) من المكان الاول الى الثالث او العاشر من غير ضرورة بالوسط. ومكابرة اصحاب التوكل منهم فى دعواهم ان الموتى يقتلون الاحياء على الحقيقة. ومكابرة جمهورهم فى دعواهم ان الّذي يقدر على ان يرتفع من الارض شبرا قادر على ان يرتفع فوق السماوات السبع وان المقيد المغلول يداه قادر على صعوده الى السماء وان البقة الصغيرة تقدر على شرب القران (كذا) بمثله وبما هو افصح منه. وزعم المعروف منهم بقاسم الدمشقى أن حروف الصدق هى حروف الكذب وان الحروف التى فى قول القائل لا إله إلّا الله هى التى فى قول من يقول المسيح إله وان الحروف التى فى القرآن هى التى فى كتاب زردشت المجوس باعيانها لا على معنى انها مثلها. ومن لم يعد هذه الوجوه مكابرات للعقول لم يكن له ان يعد انكار السوفسطائية للمحسوسات مكابرة. وقد حكى أصحاب المقالات ان سبعة من زعماء القدرية اجتمعوا فى مجلس وتكلموا فى قدرة الله تعالى على الظلم والكذب وافترقوا عن تكفير كل واحد منهم لسائرهم وذلك ان قائلا منهم قال للنظام فى ذلك المجلس. هل يقدر الله تعالى على ما وقع منه لكان جورا وكذبا منه؟ فقال لو قدر عليه لم ندر لعله قد جار او

١٨٥

كذب فيما مضى او يجور ويكذب فى المستقبل او جار في بعض اطراف الارض. ولم يكن لنا من جوره وكذبه امان الا من جهة حسن الظن به. قال ما دليل يؤمننا من وقوع ذلك منه فلا سبيل إليه؟ فقال له عليّ الاسوارى يلزمك على هذا الاعتلال ان لا يكون قادرا على ما علم انه لا يفعله (٨٠ ا) أو أخبر بانه لا يفعله لانه لو قدر على ذلك لم يأمن وقوعه منه فيما مضى او فى المستقبل. فقال النظام هذا الالزام فما قولك فيه؟ فقال أنا أسوي بينهما وأقول انه لا يقدر على ما علم ان لا يفعله او اخبر بانه لا يفعله كما أقول أنا وأنت انه لا يقدر على الظلم والكذب. فقال النظام للاسوارى قولك الحاد وكفر وقال أبو الهذيل للاسوارى ما تقول فى فرعون ومن علم الله تعالى منهم انهم لا يؤمنون هل كانوا قادرين على الايمان أم لا؟ فان زعمت انهم لم يقدروا عليه فقد كلفهم الله تعالى ما لم يطيقوه وهذا عندك كفر. وان قلت انهم كانوا قادرين عليه فما يؤمنك من ان يكون قد وقع من بعضهم ما علم الله تعالى ان لا يقع؟ او اخبر بانه لا يقع منه على قول اعتلالك واعتلال النظام انكار كما انكر قدرة الله تعالى على الظلم والكذب. فقال لابى الهذيل هذا الالزام لنا فما جوابك عنه؟ فقال انا أقول ان الله تعالى قادر على ان يظلم ويكذب وعلى ان يفعل ما علم انه لا يفعله. فقالا له

١٨٦

أرأيت لو فعل الظلم والكذب كيف يكون مكنون حال الدلائل التى دلت على ان الله تعالى لا يظلم ولا يكذب؟ فقال هذا محال. فقالا له كيف يكون المحال مقدورا لله تعالى ولم احلت وقوع ذلك منه مع كونه مقدورا له؟ فقال لانه لا يقع الا عن آفة تدخل عليه ومحال دخول الافات على الله تعالى. فقالا له ومحال أيضا ان يكون قادرا على ما يقع منه الا عن آفة تدخل عليه فبهت الثلاثة فقال لهم بشر كل ما انتم فيه تخليط فقال له أبو الهذيل فما تقول (٨٠ ب) أنت تزعم ان الله تعالى يقدر ان يعذب الطفل أم تقول «هذا يقول هذا»؟ يعنى النظام فقال أقول بانه قادر على ذلك فقال أرأيت لو فعل ما قدر عليه من تعذيب الطفل ظالما له فى تعذيبه لكان الطفل بالغا عاقلا عاصيا مستحقا للعقاب الذي اوقعه الله تعالى به وكانت الدلائل بحالها فى دلالتها على عدله؟ فقال له ابو الهذيل سخنت عينك كيف تكون عبادة لا تفعل ما تقدر عليه من الظلم؟ فقال له المردار انك قد انكرت على استاذى فكرا وقد غلط الاستاذ فقال له بشر فكيف تقول؟ قال اقول ان الله تعالى قادر على الظلم والكذب ولو فعل ذلك لكان إلها ظالما كاذبا. فقال له بشر فهل كان مستحقا للعبادة أم لا؟ فان استحقها فالعبادة شكر للمعبود واذا ظلم استحق الذم لا الشكر وان لم يستحق العبادة فكيف يكون

١٨٧

ربا لا يستحق العبادة؟ فقال لهم الاشبح انا أقول انه قادر على ان يظلم ويكذب ولو ظلم وكذب لكان عادلا كما انه قادر على ان يفعل ما علم انه لا يفعله علم لو فعله كان عالما بان يفعله. فقال له الاسكافى كيف ينقلب الجور عدلا. فقال كيف تقول انت؟ فقال أقول لو فعل الجور والكذب ما كان الفعل موجودا وكان ذلك واقعا لمجنون أو منقوص. فقال له جعفر بن حرب كانك تقول ان الله تعالى انما يقدر على ظلم المجانين ولا يقدر على ظلم العقلاء. فافترق القوم يومئذ عن انقطاع كل واحد منهم ولما انتهت نوبة الاعتزال الى الجبائى وابنه امسكا عن الجواب فى هذه المسألة بنصح ولا ذكر بعض أصحاب أبى هاشم فى كتابه هذه المسألة فقال من قال لنا أيصح وقوع ما يقدر الله تعالى عليه من الظلم (٨١ ا) والكذب؟ قلنا له يصحّ ذلك لانه لو لم يصحّ وقوعه منه ما كان قادرا عليه لان القدرة على المحال محال. فان قال أفيجوز وقوعه منه؟ قلنا لا يجوز وقوعه منه لقبحه وغناه عنه وعلمه بغناه عنه. فان قال أخبرونا لو وقع مقدوره من الظلم والكذب كيف كان يكون حاله فى نفسه هل كان يدل وقوع الظلم منه على جهله او حاجته؟ قلنا محال ذلك لانا قد علمناه عالما غنيا. فان قال فلو وقع منه الظلم والكذب هل كان يجوز ان يقال ان ذلك لا يدل على جهله وحاجته؟ قلنا لا

١٨٨

يوصف بذلك لانّا قد عرفنا دلالة الظلم على جهل فاعله او حاجته. فان قال فكانكم لا تجيبون عن سؤال من سألكم عن دلالة وقوع الظلم والكذب ممن على جهل وحاجة باثبات ولا نفى قلنا كذلك تقول. فهؤلاء زعماء قدرية عصرنا قد اقروا بعجزهم وعجز أسلافهم عن الجواب فى هذه المسألة ولو وفّقوا للصواب فيها لرجعوا الى قول أصحابنا بان الله قادر على كل مقدور وان كل مقدور له لو وقع منه لم يكن ظلما منه. ولو احالوا الكذب عليه كما أحاله أصحابنا لتخلصوا عن الالزام الذي توجه عليهم فى هذه المسألة. وكان الجبائى يعتذر فى امتناعه عن الجواب فى هذه المسألة «بنعم» او «لا» بان يقول مثال هذا ان قائلا لو قال اخبرونى عن النبي لو فعل الكذب لكان يدلّ على انه ليس بنبي او لا يدل على ذلك؟ وزعم ان الجواب فى ذلك مستحيل وهذا ظن منه على اصله فاما على أصل أهل السنّة فان النبي كان معصوما عن الكذب والظلم ولم يكن قادرا عليهما. والمعتزلة غير النظام والاسواري قد وصفوا الله تعالى بالقدرة (٨١ ب) على الظلم والكذب فلزمهم الجواب عن سؤال من سألهم عن وقوع مقدورة منهما. هل يدلّ على الجهل والحاجة أو لا يدلّ على ذلك؟ بنعم او لا. وأيهما أجابوا به نقضوا به أصولهم. والحمد لله الّذي أنقذنا من ضلالتهم المؤدية الى مناقضاتهم

١٨٩

الفصل الرابع

(من فصول هذا الباب)

فى بيان الفرق المرجئة وتفصيل مذاهبهم

والمرجئة ثلاثة أصناف. صنف منهم قالوا بالارجاء فى الايمان وما يقدر على مذاهب القدرية المعتزلة كغيلان وأبى شمر ومحمد ابن أبى شبيب البصرى. وهؤلاء داخلون فى مضمون الخبر الوارد فى لعن القدرية والمرجئة يستحقون اللعنة من وجهين. وصنف منهم قالوا بالارجاء بالايمان وبالخبر فى الاعمال على مذهب جهم ابن صفوان فهم اذا من جملة الجهمية. والصنف الثالث منهم خارجون عن الخبر والقدرية وهم فيما بينهم خمس فرق : اليونسية ، والغسانية ، والثوبانية ، والتومنية ، والمريسية ، وانما سموا مرجئة لانهم أخروا العمل عن الايمان. والارجاء بمعنى التأخير. يقال ارجيت وارجأته اذا آخرته. وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيا. قيل من المرجئة يا رسول الله؟ قال الذين يقولون «الايمان كلام» يعنى الذين زعموا ان الايمان هو اقرار وحده دون غيره. والفرق الخمس التى ذكرناها من المرجئة

١٩٠

تضل كل فرقة منها اختها ويضللها سائر الفرق. وسنذكرها على التفصيل ان شاء الله عزوجل

ذكر اليونسية منهم. هؤلاء اتباع يونس بن عون الّذي زعم ان الايمان في القلب واللسان وانه هو المعرفة (٨٢ ا) بالله تعالى والمحبة والخضوع له بالقلب والإقرار باللسان أنه واحد ليس كمثله شيء. ما لم تقم حجة الرسل عليهم‌السلام. فان قامت عليهم حجتهم بالتصديق لهم ومعرفة ما جاء من عندهم فى الجملة من الايمان وليست معرفة تفصيل ما جاء من عندهم أيمانا ولا من جملته. وزعم هؤلاء أن كل خصلة من خصال الايمان ليست بأيمان ولا بعض إيمان ومجموعها ايمان

ذكر الغسانية منهم. هؤلاء اتباع غسّان المرجئ الّذي زعم أن الايمان هو الإقرار او المحبة لله تعالى وتعظيمه وترك الاستكبار عليه. وقال انه يزيد ولا ينقص وفارق اليونسية بأن سمّى كل خصلة من الأيمان بعض الأيمان. وزعم غسّان هذا فى كتابه ان قوله فى هذا الكتاب كقول أبى حنفية فيه. وهذا غلط منه عليه. لان أبا حنفية قال إن الايمان هو المعرفة والاقرار بالله تعالى وبرسله وبما جاء من الله تعالى ورسله فى الجملة دون التفصيل وانه لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه. وغسان قد قال بأنه

١٩١

يزيد ولا ينقص

ذكر التومنية منهم. هؤلاء اتباع أبى معاذ التومنى الّذي زعم ان الايمان ما عصم من الكفر وهو اسم لخصال من تركها أو ترك خصلة منها كفر. ومجموع تلك الخصال إيمان ولا يقال للخصلة منها أيمان ولا بعض أيمان. وقال كل ما لم تجتمع الامة على كفره بتركه من الفرائض فهو من شرع الأيمان وليس بأيمان. وزعم أن تارك الفريضة التى ليست بايمان يقال له فسق ولا يقال له فاسق (٨٢ ب) على الاطلاق اذا لم يتركها جاحدا. وزعم أيضا أن من لطم نبيّا او قتله كفر لا من أجل لطمه وقتله لكن من أجل عداوته وبغضه له واستخفافه بحقه

ذكر الثوبانية منهم. هؤلاء اتباع أبى ثوبان المرجئ الّذي زعم ان الايمان هو الإقرار والمعرفة بالله وبرسله وبكل ما يجب فى العقل فعله وما جاز فى العقل ان لا يفعل فليست المعرفة من الايمان. وفارقوا اليونسية والغسّانية بايجابهم فى العقل شيئا قبل ورود الشرع بوجوبه

ذكر المريسية منهم. هؤلاء مرجئة بغداد من أتباع بشر المريسى. وكان فى الفقه على رأى أبى يوسف القاضى غير أنه لما أظهر قوله بخلق القرآن هجره أبو يوسف وضللته الصفاتية

١٩٢

فى ذلك. ولما وافقوا الصفاتية فى القول بان الله تعالى خالق اكساب العباد وفى ان الاستطاعة مع الفعل اكفرته المعتزلة فى ذلك. فصار مهجور الصفاتية والمعتزلة معا. وكان يقول فى الايمان انه هو التصديق بالقلب واللسان جميعا كما قال ابن الراوندي فى ان الكفر هو الجحد والانكار. وزعما ان السجود للصنم ليس بكفر ولكنه دلالة على الكفر. فهؤلاء الفرق الخمس هم المرجئة الخارجة عن الخبر والقدر. واما المرجئة القدرية كأبي شمر وابن شبيب وغيلان وصالح قبة فقد اختلفوا فى الايمان فقال ابن مبشر الايمان هو المعرفة والاقرار بالله تعالى وبما جاء من عنده مما اجتمعت عليه الامة كالصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ووطء المحارم ونحو ذلك وما عرف بالعقل من عدل الايمان وتوحيده ونفى (٨٣ ا) التشبيه عنه وأراد بالعقل قوله بالقدر وأراد بالتوحيد نفيه عن الله تعالى صفاته الأزلية. قال كل ذلك إيمان والشاك فيه كافر والشاك في الشاك أيضا كافر ثم كذلك أبدا. وزعم أن هذه المعرفة لا تكون ايمانا الّا مع الاقرار. وكان أبو شمر مع بدعته هذه لا يقول لمن فسق من موافقيه فى القدر انه فاسق مطلقا. ولكنه كان يقول إنه فاسق فى كذا. وهذه الفرقة عند أهل السنّة والجماعة أكفر أصناف المرجئة لانها جمعت

١٩٣

بين ضلالتى القدر والإرجاء. والعدل الّذي أشار إليه أبو شمر شرك على الحقيقة لانه أراد به اثبات خالقين كبيرين غير الله تعالى. وتوحيده الّذي أشار إليه تعطيل لانه أراد به نفى علم الله تعالى وقدرته ورؤيته وسائر صفاته الازلية. وقوله فى مخالفيه إنهم كفرة وان الشاك فى كفرهم كافر مقابل بقول أهل السنّة فيه إنه كافر وان الشاك فى كفره كافر. وكان غيلان القدرىّ يجمع بين القدر والإرجاء ويزعم أنّ الايمان هو المعرفة الثانية بالله تعالى والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء من الله تعالى. وزعم ان المعرفة الاولى اضطرار وليس بايمان. وحكى زرقان فى مقالاته عن غيلان أن الايمان هو الاقرار باللسان وان المعرفة بالله تعالى ضرورية فعل الله تعالى وليست من الايمان. وزعم غيلان أن الايمان لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه. وزعم محمد بن شبيب أن الايمان هو الاقرار بالله والمعرفة برسله وبجميع ما جاء من عند الله تعالى مما نص عليه المسلمون من الصلاة والزكاة والصيام والحج وكل ما لم يختلفوا فيه. وقال ان الايمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه والخصلة الواحدة من الايمان قد تكون بعض الايمان وتاركها يكفر بترك (٨٣ ب) بعض الايمان ولا يكون مؤمنا باصابة كله. وزعم الصالحى أن الايمان

١٩٤

هو المعرفة بالله تعالى فقط والكفر هو الجهل به فقط. وأن قول القائل ان الله تعالى ثالث ثلاثة ليس بكفر لكنه لا يظهر الا من كافر. ومن جحد الرسل لا يكون مؤمنا لا من أجل أنّ ذلك محال لكن لان الرسول قال «من لا يؤمن بى فليس مؤمنا بالله تعالى» وزعم ان الصلاة والزكاة والصيام والحج طاعات وليست بعبادة لله تعالى وأن لا عبادة له الا الايمان به وهو معرفته. والايمان عنده خصلة واحدة لا تزيد ولا تنقص. وكذلك الكفر خصلة واحدة. فهذه اقوال المرجئة فى الايمان الّذي لاجل تأخيرهم الاعمال عن الايمان سموا مرجئة

الفصل الخامس

(فى ذكر مقالات الفرق النجارية)

هؤلاء اتباع الحسين بن محمد النجار وقد وافقوا أصحابنا فى أصول ووافقوا القدرية فى اصول وانفردوا باصول لهم. فالذى وافقوا فيه أصحابنا قولهم معنا بان الله تعالى خالق اكساب العباد وأن الاستطاعة مع الفعل وانه لا يحدث فى العالم الا ما يريده الله تعالى. ووافقونا أيضا فى أبواب الوعيد وجواز المغفرة لاهل الذنوب

١٩٥

وفى اكثر أبواب التعديل والتحوير. وأما الّذي وافقوا فيه القدرية فنفى علم الله تعالى وقدرته وحياته وسائر صفاته الازلية وإحالة رؤيته بالابصار والقول بحدوث كلام الله تعالى. واكفرتهم القدرية فيما وافقوا فيه أصحابنا. وأكفرهم أصحابنا فيما وافقوا فيه القدرية. والّذي يجمع النجارية فى الأيمان قولهم بان الايمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسله وفرائضه التى أجمع عليها المسلمون والخضوع له والإقرار باللسان. فمن جهل شيئا من ذلك بعد قيام الحجة به عليه (٨٤ ا) او عرفه ولم يقر به فقد كفر. وقالوا كل خصلة من خصال الأيمان طاعة وليست بايمان ومجموعها ايمان وليست خصلة منها عند الانفراد ايمانا ولا طاعة. وقالوا ان الايمان يزيد ولا ينقص. وزعم النجار أن الجسم اعراض مجتمعة وهى إلّا أعراض التى لا ينفك الجسم عنها كاللون والطعم والرائحة وسائر ما لا يخلو الجسم منه ومن ضده. فأما الّذي يخلو الجسم منه ومن ضده كالعلم والجهل ونحوهما فليس شيء منها بعضا للجسم. وزعم أيضا ان كلام الله تعالى عرض اذا قرئ وجسم اذا كتب. وانه لو كتب بالدم صار ذلك الدم المقطع تقطيع حروف الكلام كلاما لله تعالى بعد ان لم يكن كلاما حين كان دما مسفوحا. فهذه اصول النجارية. وافترقوا بعد هذا فيما بينهم فى العبادة عن خلق القرآن

١٩٦

وفى حكم أقوال مخالفيهم فرقا كبيرة كل فرقة منها تكفّر سائرها. والمشهورون منها ثلاث فرق وهى البرغوثية والزعفرانية والمستدركة من الزعفرانية

ذكر البرغوثية منهم. هؤلاء اتباع محمد بن عيسى الملقب ببرغوث. وكان على مذهب النجار فى اكثر مذاهبه وخالفه فى تسمية المكتسب فاعلا فامتنع منه. واطلقه النجار وخالفه أيضا فى المتوالدات فزعم انها فعل لله تعالى بايجاب الطبع. على معنى ان الله تعالى طبع الحجر طبعا يذهب إذا وقع. وطبع الحيوان طبعا يألم اذا ضرب. وقال النجار فى المتولدات بمثل قول أصحابنا فيها انها من فعل الله تعالى باختيار لا من طبع الجسم الّذي سموه مولدا

ذكر الزعفرانية منهم. هؤلاء اتباع الزعفرانى الّذي كان بالرى وكان يناقض بآخر كلامه اوّله. فيقول ان كلام الله تعالى غيره وكل ما هو غير الله تعالى مخلوق. ثم يقول مع ذلك «الكلب خير ممن يقول كلام الله مخلوق» (٨٤ ب). وذكر بعض أصحاب التواريخ أن هذا الزعفرانى أراد ان يشهر نفسه فى الآفاق فاكترى رجلا على أن يخرج الى مكة ويسبه ويلعنه فى مواسم مكة ليشتهر ذكره عند حجيج الآفاق. وقد بلغ حمق أتباعه بالرىّ أن قوما منهم لا يأكلون العنجد حرمة للزعفرانى ويزعمون انه كان يحب ذلك

١٩٧

وقالوا لا نأكل محبوبه

ذكر المستدركة منهم. هؤلاء قوم من النجارية يزعمون انهم استدركوا ما خفى على اسلافهم لان اسلافهم منعوا اطلاق القول بأن القرآن مخلوق. وزعمت المستدركة أنه مخلوق ثم افترقوا فيما بينهم فرقتين فرقة زعمت أن النبي عليه‌السلام قد قال ان كلام الله مخلوق على ترتيب هذه الحروف. ولكنه اعتقد ذلك بهذه اللفظة على ترتيبه حروفها. ومن لم يقل إن النبي عليه‌السلام قال ذلك على ترتيب هذه الحروف فهو كافر. وقالت الفرقة الثانية منهم إن النبي عليه‌السلام لم يقل كلام الله مخلوق على ترتيب هذه الحروف. ولكنه اعتقد ذلك ودل عليه. ومن زعم أنه قال إن كلام الله مخلوق بهذه اللفظة فهو كافر. ومن هؤلاء المستدركة قوم بالرىّ يزعمون أن أقوال مخالفيهم كلها كذب حتى لو قال الواحد منهم فى الشمس انها شمس لكان كاذبا فيه. قال عبد القاهر ناظرت بعض هذه الطائفة بالرىّ فقلت له اخبرنى عن قولى لك أنت إنسان عاقل مولود من نكاح لا من سفاح هل أكون صادقا فيه؟ فقال أنت كاذب فى هذا القول فقلت له أنت صادق فى هذا الجواب فسكت خجلا والحمد لله على ذلك

١٩٨

الفصل السّادس

(من فصول هذا الباب)

في ذكر الجهمية والبكرية (٨٥ ا) والضرارية وبيان مذاهبها

الجهمية اتباع جهم بن صفوان الّذي قال بالاجبار والاضطرار الى الاعمال وانكر الاستطاعات كلها. وزعم ان الجنة والنار تبيدان وتفنيان. وزعم أيضا ان الايمان هو المعرفة بالله تعالى فقط وان الكفر هو الجهل به فقط. وقال لا فعل ولا عمل لاحد غير الله تعالى وانما تنسب الاعمال الى المخلوقين على المجاز. كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين او مستطيعين لما وصفتا به. وزعم أيضا أن علم الله تعالى حادث وامتنع من وصف الله تعالى بانه شيء او حي او عالم أو مريد. وقال لا أصفه بوصف يجوز اطلاقه على غيره كشىء موجود وحي وعالم ومريد ونحو ذلك. ووصفه بانه قادر وموجد وفاعل وخالق ومحيى ومميت. لان هذه الاوصاف مختصة به وحده. وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدرية ولم بسمّ الله تعالى متكلما به. واكفره أصحابنا فى جميع ضلالاته

١٩٩

واكفرته القدرية فى قوله بان الله تعالى خالق اعمال العباد. فاتفق أصناف الامة على تكفيره. وكان جهم مع ضلالاته التي ذكرناها يحمل السلاح ويقاتل السلطان. وخرج مع شريح بن الحرث على نصر بن يسار وقتله سلم بن اجون المازنى فى آخر زمان بنى مروان واتباعه اليوم بنهوند. وخرج إليهم فى زماننا اسماعيل بن ابراهيم بن كبوس الشيرازى الديلى فدعاهم الى مذهب شيخنا ابى الحسن الاشعرى فاجابه قوم منهم وصاروا مع اهل السنة يدا واحدة والحمد له على ذلك

واما البكرية فاتباع بكر بن اخت عبد الواحد بن زيد وكان يوافق النظام فى دعواه ان الانسان (٨٥ ب) هو الروح دون الجسد الّذي فيه الروح. ويوافق اصحابنا فى ابطال القول بالتولد وفى ان الله تعالى هو المخترع الألم عند الضرب وأجاز وقوع الضرب من غير حدوث ألم وقطع بعدها كما أجاز ذلك أصحابنا. وانفرد بضلالات اكفرته الامة فيها. منها قوله بان الله تعالى يرى فى القيامة في صورة يخلقها وان يكلم عباده من تلك الصورة. ومنها قوله في الكبائر الواقعة من اهل القبلة انها نفاق وان صاحب الكبيرة منافق وعابد للشيطان وان كان من اهل الصلاة. وزعم أيضا أنه مع كونه منافقا مكذب لله تعالى جاحد له وان يكون

٢٠٠