الفَرق بين الفِرق

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي

الفَرق بين الفِرق

المؤلف:

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨١

ان لا يكون للانسان عليها ثواب ولا عقاب لان الانسان لا يثاب ولا يعاقب على ما لا يكون كسبا له. كما لا يثاب ولا يعاقب على لونه وتركيب بدنه اذا لم يكن ذلك من كسبه. ومن فضائح الجاحظ أيضا قوله باستحالة عدم الاجسام بعد حدوثها. وهذا يوجب القول بان الله سبحانه وتعالى يقدر على خلق شيء ولا يقدر على افنائه. وانه لا يصح بقاؤه بعد ان خلق الخلق منفردا كما كان منفردا قبل ان خلق الخلق. ونحن وان قلنا ان الله لا يفنى الجنة ونعيمها والنار وعذابها ولسنا نجعل ذلك بان الله عزوجل قادر على افناء ذلك كله وانما نقول بدوام الجنة والنار بطريق الخبر ومن فضائح الجاحظ أيضا قوله بان الله لا يدخل النار احدا وانما النار تجذب اهلها الى نفسها بطبعها ثم تمسكهم فى نفسها على الخلود ويلزمه على هذا القول أن يقول فى الجنة انها تجذب اهلها الى نفسها بطبعها وان الله لا يدخل احدا الجنة. فان قال بذلك قطع الرغبة الى الله فى الثواب وابطل (٦٩ ب) فائدة الدعاء. وان قال ان الله تعالى هو يدخل اهل الجنة الجنة لزمه القول بان يدخل النار اهلها. وقد افتخر الكعبىّ بالجاحظ وزعم انه من شيوخ المعتزلة وافتخر بتصانيفه الكثيرة وزعم انه كنانىّ من بنى كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر فيقال له ان كان كنانيا

١٦١

كما زعمت فلم صنفت كتاب مفاخر القحطانية على الكنانية وسائر العدنانية. وان كان عربيا فلم صنف كتاب فضل الموالى على العرب. وقد ذكر فى كتابه المسمى بمفاخر قحطان على عدنان اشعارا كثيرة من هجاء القحطانية للعدنانية. ومن رضى بهجو آبائه كمن هجا أباه. وقد احسن جحظة فى هجاء ابن بسام الّذي هجا اباه فقال من كان يهجو أباه فهجوه قد كفاه لو انه من أبيه ما كان يهجو اباه. واما كتبه المزخرفة فاصناف منها كتاب فى حيل اللصوص وقد علم بها الفسقة وجوه السرقة. ومنها كتابه فى عشر الصناعات وقد افسد به على التجار سلعهم. ومنها كتابه فى النواميس وهو ذريعة للمحتالين يجتلبون بها ودائع الناس واموالهم. ومنها كتابه فى الفتيا وهو مشحون بطعن استاذه النظام على اعلام الصحابة. ومنها كتبه فى القحاب والكلاب واللاطة وفى حيل المكدين ومعانى هذه الكتب لائقة به وبصفته واسرته. ومنها كتاب طبائع الحيوان وقد سلخ فيه معانى كتاب الحيوان لارسطاطاليس وضمّ إليه ما ذكره المدائنى من حكم العرب وأشعارها فى منافع الحيوان ثم انه شحن الكتاب بمناظرة بين الكلب والديك والاشتغال بمثل هذه المناظرة يضيع الوقت (٧٠ ا) بالغث ومن افتخر بالجاحظ سلمناه إليه قول اهل السنة فى الجاحظ

١٦٢

كقول الشاعر فيه

لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا

ما كان الا دون قبح الجاحظ

رجل ينوب عن الجحيم بنفسه

وهو القذى فى كل طرف لاحظ

ذكر الشحامية منهم. هؤلاء اتباع أبى يعقوب الشحام وكان استاذ الجبّائى وضلالاته كضلالات الجبائى غير انه أجاز كون مقدور واحد لقادرين وامتنع الجبائى وابنه من ذلك وقد ظن بعض الاغبياء ان قول الشحام كقول الصفاتية فى مقدور لقادرين. وبين القولين فرق واضح وذلك ان الشحام اجاز كون مقدور واحد لقادرين يصح ان يحدثه كل واحد منهما على البدل. وكذلك حكاه الكعبى فى كتاب عيون المسائل على أبى الهذيل. والصفاتية لا يثبتون خالقين وانما يجيزون كون مقدور واحد لقادرين. أحدهما خالقه والآخر مكتسب له وليس الخالق مكتسبا ولا المكتسب خالقا. وفى هذا بيان الفرق بين الفرقين على اختلاف الطريقين

ذكر الخياطية منهم. هؤلاء اتباع ابى الحسين الخياط الّذي كان استاذ الكعبى فى ضلالته وشارك الخياط سائر القدرية فى اكثر ضلالاتها وانفرد عنهم بقول من لم يسبق إليه فى المعدوم. وذلك ان المعتزلة اختلفوا فى تسمية المعدوم شيئا منهم من قال لا يصح ان يكون المعدوم معلوما ومذكورا ولا يصح كونه شيئا ولا ذاتا

١٦٣

ولا جوهرا ولا عرضا. وهذا اختيار الصالحىّ منهم وهو موافق لاهل السنة فى المنع فى تسمية المعدوم شيئا (٧٠ ب) وزعم آخرون من المعتزلة ان المعدوم شيء ومعلوم ومذكور وليس بجوهر ولا عرض وهذا اختيار الكعبىّ منهم. وزعم الجبائى وابنه ابو هاشم ان كل وصف يستحقه الحادث لنفسه او لجنسه فان الوصف ثابت له فى حال عدمه. وزعم ان الجوهر كان فى حال عدمه جوهرا وكان العرض فى حال عدمه عرضا وكان السواد سوادا والبياض بياضا فى حال عدمهما. وامتنع هؤلاء كلهم عن تسمية المعدوم جسما من قبل ان الجسم عندهم مركب وفيه تاليف وطول وعرض وعمق. ولا يجوز وصف معدوم بما يوجب قيام معنى به. وفارق الخياط فى هذا الباب جميع المعتزلة وسائر فرق الامة فزعم ان الجسم فى حال عدمه يكون جسما لانه يجوز ان يكون فى حال حدوثه جسما ولم يجزان يكون المعدوم متحركا لان الجسم فى حال حدوثه لا يصح ان يكون متحركا عنده فقال. كل وصف يجوز ثبوته فى حال الحدوث فهو ثابت له فى حال عدمه ويلزمه على هذا الاعتلال ان يكون الانسان قبل حدوثه انسانا لان الله تعالى لو احدثه على صورة الانسان بكمالها من غير نقل له فى الاصلاب والارحام ومن غير تغيير له من صورة الى صورة اخرى

١٦٤

يصح ذلك. وحسان هؤلاء الخياطية يقال لهم المعدومية لافراطهم بوصفهم المعدوم باكثر اوصاف الموجودات. وهذا اللقب لائق بهم وقد نقض الجبائى على الخياط قوله بان الجسم جسم قبل حدوثه فى كتاب مفرد وذكر ان قوله بذلك يؤديه الى (٧١ ا) القول بقدم الاجسام. وهذا الالزام متوجه على الخياط ويتوجه مثله على الجبائى وابنه فى قولهما بان الجواهر والاعراض كانت فى حال العدم اعراضا وجواهر فاذا قالوا لم تزل اعيانا وجواهر واعراضا ولم يكن حدوثها لمعنى سوى اعيانها فقد لزمهم القول بوجودها فى الازل وصاروا فى تحقيق معنى قول الذين قالوا بقدم الجواهر والاعراض. وكان الخياطىّ مع ضلالته فى القدر وفى المعدومات منكر الحجة فى اخبار الآحاد وما اراد بانكاره الّا انكار اكثر احكام الشريعة فان اكثر فروض الفقه مبنية على اخبار من اخبار الآحاد. وللكعبى عليه كتاب فى حجة اخبار الآحاد وقد ضلّل فيه من انكر الحجة فيها وقلنا للكعبىّ يكفيك من الخزى والعار انتسابك الى استاذ تقرّ بضلالته

ذكر الكعبية منهم. هؤلاء اتباع ابى القاسم عبد الله بن احمد ابن محمود البنحىّ المعروف بالكعبىّ وكان حاطب قبل يدعى فى انواع العلوم على الخصوص والعموم ولم يحظ فى شيء منها باسراره

١٦٥

ولم يحط بظاهره فضلا عن باطنه. وخالف البصريين من المعتزلة فى احوال كثيرة منها ان البصريين منهم أقروا بان الله تعالى يرى خلقه من الاجسام والالوان وانكروا ان يرى نفسه كما انكروا ان يراه غيره. وزعم الكعبىّ ان الله تعالى لا يرى نفسه ولا غيره الا على معنى علمه بنفسه وبغيره وتبع النظام فى قوله ان الله تعالى لا يرى شيئا فى الحقيقة ومنها ان البصريين منهم مع اصحابنا (٧١ ب) فى ان الله عزوجل سامع للكلام والاصوات على الحقيقة لا على معنى انه عالم بهما. وزعم الكعبى والبغداديون من المعتزلة ان الله تعالى لا يسمع شيئا على معنى الادراك المسمى بالسمع وتأوّلوا وصفه بالسميع البصير على معنى انه عليم بالمسموعات التي يسمعها غيره والمرئيات التي يراها غيره. ومنها ان البصرين منهم مع اصحابنا فى ان الله عزوجل مريد على الحقيقة غير ان اصحابنا قالوا انه لم يزل مريدا بإرادة ازلية وزعم البصريون من المعتزلة انه يريد بإرادة حادثه لا فى محل وخرج الكعبى والنظام واتباعهما عن هذين القولين. وزعموا انه ليست لله تعالى إرادة على الحقيقة. وزعموا انه اذا قيل ان الله عزوجل اراد شيئا من فعله فمعناه انه فعله واذا قيل انه اراد من عنده فعلا فمعناه انه أمره به. وقالوا ان وصفه بالارادة فى الوجهين جميعا مجاز كما ان وصف

١٦٦

الجدار بالارادة في قول الله تعالى (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) (الكهف ٧٨) مجاز وقد اكفرهم البصريون مع أصحابنا فى نفيهم إرادة الله عزوجل. ومنها ان الكعبىّ زعم ان المقتول ليس بميت وعاند قول الله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران ١٨٦) وسائر الامة مجمعون على ان كل مقتول ميت وان صح ميت غير مقتول. ومنها ان الكعبىّ على قول من اوجب على الله تعالى فعل الاصلح فى باب التكليف. ومنها ان البصريين مع اصحابنا فى ان الاستطاعة معنى غير صحة البدن والسلامة من الافات. وزعم الكعبىّ انها ليست غير الصحة والسلامة (٧٢ ا) والبصريون من المعتزلة يكفرون البغداد بين منهم. والبغداديون يكفرون البصريين وكلا الفريقين صادق فى تكفير الفريق الآخر كما بينّاه فى كتاب فضائح القدرية

ذكر الجبائية منهم. هؤلاء أتباع أبى على الجبائى الّذي أهوى اهل خوزستان وكانت المعتزلة البصرية فى زمانه على مذهبه ثم انتقلوا بعده الى مذهب ابنه أبى هاشم فمن ضلالات الجبائى انه سمى الله عزوجل مطيعا لعبده اذا فعل مرادا لعبد. وكان سبب ذلك انه قال يوما لشيخنا أبى الحسن الاشعرى رحمه‌الله ما معنى الطاعة عندك؟ فقال موافقة الامر وسأله عن قوله فيها فقال

١٦٧

الجبائى حقيقة الطاعة عندى موافقة الإرادة. وكل من فعل مراد غيره فقد اطاعه فقال شيخنا ابو الحسن رحمه‌الله. يلزمك على هذا الأصل ان يكون الله تعالى مطيعا لعبده اذا فعل مراده فالزم ذلك فقال له شيخنا رحمه‌الله. خالفت إجماع المسلمين وكفرت برب العالمين. ولو جاز ان يكون الله تعالى مطيعا لعبده لجاز أن يكون خاضعا له. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ثم ان الجبائى زعم ان اسماء الله تعالى جارية على القياس وأجاز اشتقاق اسم له من كل فعل فعله والزمه شيخنا أبو الحسن رحمه‌الله ان يسميه بمحبل النساء لانه خالق الحبل فيهنّ فالتزم ذلك فقال له. بدعتك هذه أشنع من ضلالة النصارى في تسمية الله أبا لعيسى مع امتناعهم من القول بانه محبل مريم. ومن ضلالات الجبائى أيضا انه أجاز وجود (٧٢ ب) عرض واحد فى امكنة كثيرة وفى اكثر من ألف ألف مكان. وذلك انه أجاز وجود كلام واحد فى ألف ألف محل وزعم ان الكلام المكتوب فى محل اذا كتب فى غيره كان موجودا فى المحلين من غير انتقال منه عن المكان الأول الى الثانى ومن غير حدوث فى الثانى. وكذلك ان كتبت فى ألف مكان او ألف ألف. وزعم هو وابنه أبو هاشم أن الله تعالى اذا أراد أن يفني العالم خلق عرضا لا فى محل أفنى به جميع الاجسام

١٦٨

والجواهر ولا يصح فى قدرة الله تعالى أن يفنى بعض الجواهر مع بقاء بعضها. وقد خلقها تفاريق ولا يقدر على إفنائها تفاريق. وقد حكى ان شيخنا أبا الحسن رحمه‌الله قال للجبائي. اذا زعمت ان الله تعالى قد شاكل ما أمر به فما تقول في رجل له على غيره حق يماطله فيه؟ فقال له والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله ثم لم يعطه حقه فى غده. فقال يحنث فى يمينه لان الله تعالى قد شاء ان يعطيه حقه فيه. فقال له خالفت إجماع المسلمين قبلك لانهم اتفقوا قبلك على ان من قرن يمينه بمشيئة الله عزوجل لم يحنث اذا لم يقربه

ذكر البهشمية. هولاء اتباع أبى هاشم والجبائى واكثر معتزلة عصرنا على مذهبه لدعوة ابن عبّاد وزير آل بويه إليه. ويقال لهم الدمية لقولهم باستحقاق الدم لا على فعل وقد شاركوا المعتزلة فى اكثر ضلالاتها وانفردوا عنهم بفضائح لم يسبقوا إليها. منها قولهم باستحقاق الدم والعقاب لا على فعل وذلك انهم زعموا (٧٣ ا) ان القادر منها يجوز ان يخلو من الفعل والشرك مع ارتفاع الموانع من الفعل. والّذي الجأهم الى ذلك أن اصحابنا قالوا للمعتزلة اذا اجزتم تقدم الاستطاعة على الفعل لزمتكم التسوية بين الوقتين والاوقات الكثيرة في تقدمها عليه فكانوا يختلفون في الجواب عن هذا الالزام. فمنهم من كان يوجب وقوع الفعل او ضده بالاستطاعة في

١٦٩

الحال الثانية من حال حدوث الاستطاعة الى وقت حدوث الفعل ويوجب وقوع الفعل او ضده عند عدم الموانع. ويزعم مع ذلك ان القدرة لا تكون قدرته عليه في حال حدوثه. ومنهم من اجاز عدم القدرة مثل حدوث الفعل ومع حدوث العجز الذي هو ضد القدرة التي قد عدمت بعد وجودها. ورأى أبو هاشم بن الجبائى توجه الزام أصحابنا عليهم في التسوية بين الوقتين والاوقات الكثيرة في جواز تقدم الاستطاعة على الفعل ان جاز تقدمها عليه ولم يجد للمعتزلة عنه انفصالا صحيحا فالتزم التسوية وأجاز بقاء المستطيع ابدا مع بقاء قدرته وتوفر الآية وارتفاع الموانع عنه عاليها من الفعل والترك. فقيل له على هذا الاصل أرأيت لو كان هذا القادر مكلفا ومات قبل ان يفعل بقدرته طاعة له معصية ما ذا يكون حاله؟ فقال يستحق الذم والعقاب الدائم لا على فعل ولكن من أجل أنه لم يفعل ما أمر به مع قدرته عليه وتوفر (٧٣ ب) الآية فيه وارتفاع الموانع منه. فقيل له كيف استحق العقاب بأن لم يفعل ما أمر به وان لم يفعل ما نهى عنه دون ان يستحق الثواب بأن لم يفعل ما نهى عنه وان لم يفعل ما أمر به؟ وكان اسلافه من المعتزلة يكفّرون من يقول إن الله تعالى يعذّب العاصى على اكتساب معصية لم يخترعها العاصى. وقالوا الآن إن تكفير أبى هاشم في

١٧٠

قوله بعقاب من ليس فيه معصية لا من فعله ولا من فعل غيره اولى. والثانى انه سمى من لم يفعل ما أمر به عاصيا وان لم يفعل معصية ولم يوقع اسم المطيع الا على من فعل طاعة. ولو صح عارض بلا معصية لصح مطيع بلا طاعة او لصح كافر بلا كفر. ثم إنه مع هذه البدع الشنعاء زعم أن هذا المكلّف لو تغير تغيرا قبيحا لا يستحق بذلك قسطين من العذاب. أحدهما للقبيح الّذي فعله. والثانى لأنه لم يفعل الحسن الّذي أمر به. ولو تغيّر تغيّرا حسنا وفعل مثل أفعال الأنبياء وكان الله تعالى قد أمره بشيء فلم يفعل ولا فعل ضده لصار مخلدا. وسائر المعتزلة يكفّرونه في هذه المواضيع الثلاثة. أحدها استحقاق العقاب لا على فعل. والثانى استحقاق قسطين من العذاب اذا تغيّر تغيّرا قبيحا. والثالث في قوله انه لو تغيّر تغيّرا حسنا وأطاع بمثل طاعة الأنبياء عليهم‌السلام ولم يفعل شيئا واحدا مما أمره الله تعالى به ولا ضده لا يستحق الخلود في النار. وألزمه اصحابنا في الحدود مثل قوله في القسطين حتى يكون عليه حدان حد الزنى الذي قد فعله والثانى لأنه لم (٧٤ ا) يفعل ما وجب عليه من ترك الزنى. وكذلك القول في حدود القذف والقصاص وشرب الخمر. وألزموه ايجاب كفارتين على المفطر في شهر رمضان إحداهما لفطره الموجب للكفارة. والثانية

١٧١

بان لم يفعل ما وجب عليه من الصوم والكفّ عن الفطر. فلما رأى ابن الجبائى توجه هذا الالزام عليه في بدعته هذه ارتكب ما هو أشنع منها فرارا من ايجاب حدين وكفارتين في فعل واحد فقال. إنما نهى عن الزنى والشرب والقذف. فأما ترك هذه الافعال فغير واجب عليه. وألزموه أيضا القول بثلاثة اقساط واكثر لا الى نهاية لانه اثبت قسطين فيما هو متولّد عنده قسطا لانه لم يفعله. وقسطا لانه لم يفعل سببه وقد وجدنا من السببات ما يتولّد عنده من اسباب كثيرة يتقدّمه كاصابة الهدف بالسهم فانها يتولّد عنده من حركات كثيرة يفعلها الرمى في السهم. وكل حركة منها سبب لما يليها الى الاصابة. ولو كانت مائة حركة فالمائة منها سبب الاصابة فيبقى على أصله اذا أمره الله تعالى بالاصابة فلم يفعلها ان يستحق مائة قسط وقسطا آخر الواحد منها ان لم يفعل الاصابة والمائة لانه لم يفعل تلك الحركات. ومن اصله أيضا انه اذا كان مأمورا بالكلام فلم يفعله استحق عليه قسطين قسطا لانه لم يفعل الكلام وقسطا لانه لم يفعل سببه ولو انه فعل ضد سبب الكلام لا يستحق قسطين. وقام هذا عنده مقام السبب الذي لم يفعله فقلنا له هل استحق ثلاثة اقساط. قسطا لانه (٧٤ ب) لم يفعل الكلام. وقسطا لانه لم يفعل سببه. وقسطا لانه ضد سبب الكلام. وقد حكى

١٧٢

بعض أصحابنا عنه انه لم يكن يثبت القسطين إلا في ترك سبب الكلام وحده. وقد نص في كتاب استحقاق الذمّة على خلافه. وقال فيه كل ماله ترك مخصوص فحكمه حكم سبب الكلام. وما ليس له ترك مخصوص فحكمه حكم ترك العطية الواجبة كالزكاة والكفارة وقضاء الدين ورد المظالم. واراد بهذا ان الزكاة والكفارة وما أشبههما لا تقع بجارحة مخصوصة ولا له ترك واحد مخصوص. بل لو صلى أو حجّ أو فعل غير ذلك كان جميعه تركا للزكاة. والكلام سبب تركه مخصوص فكان تركه قبيحا فاذا ترك سبب الكلام استحق لاجله قسطا. وليس للعطية ترك قبيح فلم يستحق عليه قسطا آخر اكثر من ان يستحق الذمّ لانه لم يود فيقال له. ان لم يكن ترك الصلاة والزكاة قبيحا وجب ان يكون حسنا. وهذا خروج عن الدين فما يؤدي إليه مثله. ومن مناقضاته في هذا الباب انه سمى من لم يفعل ما وجب عليه ظالما وان لم يوجد منه ظلم. وكذلك سماه كافرا وفاسقا وتوقف في تسميته إياه عاصيا. فأجاز أن يخلّد الله في النار عبدا لم يستحق اسم عاص. وتسميته اياه فاسقا وكافرا يوجب عليه تسميته بالعاصى. وامتناعه من هذه التسمية يمنعه من تسميته فاسقا وكافرا. ومن مناقضاته فيه أيضا ما خالف فيه الاجماع بفرقه بين الجزاء والثواب حتى انه قال يجوز ان يكون

١٧٣

في الجنة ثواب كثير لا يكون جزاء ويكون في النار عقاب كثير لا يكون جزاء وانما امتنع من تسميته جزاء (٧٥ ا) لان الجزاء لا يكون الا على فعل وعنده انه قد يكون عقاب لا على فعل. وقيل له اذا لم يكن جزاء الا على فعل فما تنكر انه لا ثواب ولا عقاب إلا على فعل. والفضيحة الثانية من فضائح أبى هاشم قوله باستحقاق الذم والشكر على فعل الغير. فزعم ان زيدا لو أمر عمرا بأن يعطى غيره فأعطاه استحق الشكر على فعل الغير من قابض العطيّة على العطية التى هى فعل غيره. وكذلك لو أمره بمعصية ففعلها لا يستحق الذم على نفس المعصية التى هى فعل غيره. وليس قوله في هذه كقول سائر فرق الامة انه يستحق الشكر او الذم على امره إياه به لا على الفعل المأمور به الّذي هو فعل غيره. وهذا المبتدع يوجب له شكرين أو ذمّين أحدهما على الامر الّذي هو فعله والآخر على المأمور به الّذي هو فعل غيره. وكيف يصح هذا القول على مذهبه؟ مع انكاره على اصحاب الكسب قولهم بأن الله تعالى يخلق اكساب عباده ثم يثيبهم او يعاقبهم عليها ويقال له. ما أنكرت على هذا الاصل الّذي هو فعل غيره انفردت به من قول الازارقة ان الله تعالى يعذّب طفل المشرك على فعل أبيه. وقيل اذا أجزت ذلك فأجز أن يستحق العبد الشكر

١٧٤

والثواب على فعل فعله الله تعالى عند فعل العبد مثل ان يسقى او يطعم من قد اشرف على الهلاك فيعيش ويحيى فيستحق الشكر والثواب على نفس الحياة والشبع والرىّ الّذي هو من فعل الله تعالى

والفضيحة الثالثة من فضائحه. قوله في التوبة لانها لا تصح مع ذنب مع الاصرار على قبيح آخر يعلمه قبيحا او يعتقده قبيحا وان كان (٧٥ ب) حسنا. وزعم أيضا ان التوبة من الفضائح لا تصح مع الاصرار على منع حبة تجب عليه وعوّل فيه على دعواه في الشاهد ان من قتل ابنا لغيره وزنى بحرمته يحسن منه قبوله توبة من احد الذنبين مع اصراره على الآخر وهذه دعوى غير مسلمة له في الشاهد. بل يحسن في الشاهد قبوله التوبة من ذنب مع العقاب على الآخر كالإمام يعقّه ابنه ويسرق أموال الناس ويزنى بجواريه ثم يعتذر الى أبيه في العقوق فيقبل توبته في العقوق عقوقه وفيما خانه فيه من ماله ويقطع يده في مال غيره ويجلده في الزنى. ومما عول عليه في هذا الباب قوله. أنما وجب عليه ترك القبيح لقبحه فاذا اصرّ على قبح آخر لم يكن تاركا للقبيح المتروك من أجل قبحه. وقلنا له ما تنكر ان يكون وجوب ترك القبيح لإزالة عقابه عن نفسه فيصحّ خلاصه من عقاب ما تاب عنه وان عوقب على ما لم يتب عنه. وقلنا له اكثر ما فى هذا الباب أن يكون التائب

١٧٥

عن بعض ذنوبه قد ناقض وتاب عن ذنبه لقبحه وأصرّ على قبيح آخر فلم لا تصحّ توبته من الذي تاب منه كما أن الخارجيّ وغيره ممن يعتقد اعتقادات فاسدة وعنده انها حسنة يصحّ عندك من التوبة عن قبائح يعلم قبحها مع اصراره على قبائح قد اعتقد حسنها ويلزمك على أصلك هذا اذا قلت انه مأمور باجتناب كل ما اعتقده قبيحا أن تقول في الواحد منا إذا اعتقد قبح مذاهب أبى هاشم وزنى وسرق أن لا يصح توبته الّا بترك جميع ما اعتقده قبيحا فيكون مأمورا باجتناب الزنى والسرقة وباجتناب مذاهب أبى هاشم كلها لاعتقاده (٧٦ ا) قبحها. وقد سأله أصحابنا عن يهودى اسلم وتاب عن جميع القبائح غير انه أصرّ على منع حبة فضة من مستحقها عليه من غير استحلالها ولا جحود لها هل صحت توبته من الكفر؟ فان قال نعم. نقض اعتلاله. وان قال لا عاند اجماع الامة ومن قوله أنه لم يصح اسلامه وانه كافر على يهوديته التي كانت قبل توبته. ثم انه لم تجر عليه احكام اليهود فزعم انه غير تائب من اليهودية بل هو مصرّ عليها وهو مع ذلك ليس يهوديّا. وهذه مناقضة بيّنة وقيل له ان كان مصرا على يهوديته فأبح ذبيحته وخذ الجزية منه. وذلك خلاف قول الامة

والفضيحة الرابعة من فضائحه. قوله في التوبة أيضا إنها لا تصحّ

١٧٦

عن الذنب بعد العجز عن مثله فلا يصحّ عنده توبة من خرس لسانه عن الكذب ولا توبة من جبّ ذكره عن الزنى. وهذا خلاف قول جميع الامّة قبله. وقيل له أرأيت لو اعتقد أنه لو كان له لسان وذكر لكذب وزنى كان ذلك من معصيته فاذا قال نعم. قيل فكذلك إذا اعتقد انه لو كان له آلة الكذب والزنى لم يعص الله تعالى بهما وجب أن يكون ذلك من طاعة وتوبة. وكان ابو هاشم مع افراطه في الوعيد أفسق أهل زمانه. وكان مصرا على شرب الخمر. وقيل انه مات في سكره حتى قال فيه بعض المرجئة

يعيب القول بالإرجاء حتى

يرى بعض الرجاء من الجرائر

واعظم من ذوي الارجاء جرما

وعبدي (كذا) أصرّ على الكبائر

والفضيحة الخامسة من فضائحه. قوله في الإرادة المشروطة واصلها عنده قوله بانه لا يجوز أن يكون شيء واحد مرادا من وجه (٧٦ ب) مكروها من وجه آخر. والّذي الجأه الى ذلك أن تكلّم على من قال بالجهات فى الكسب والخلق فقال. لا تخلو الوجهة التى هى الكسب من أن تكون موجودة أو معدومة

١٧٧

فان كان ذلك الوجه معدوما كان فيه إثبات شيء واحد موجودا ومعدوما. وإن كان موجودا لم يخل من أن يكون مخلوقا أم لا. فان كان مخلوقا ثبت أنه مخلوق من كل وجه. وان لم يكن مخلوقا صار العقل قديما من وجه خلقا من وجه آخر. وهذا محال فألزم على هذا كون الشيء مرادا من وجه مكروها من وجه آخر وقبل له إنّ الإرادة عندك لا تتعلق بالشيء إلا على جهة الحدوث. وكذلك الكراهة. فاذا كان مرادا من جهة مكروها من جهة أخرى وجب أن يكون المريد قد اراد ما اراد وكره ما اراد. وهذا متناقض. فقال لا يكون المريد للشىء مريدا له إلا من جميع وجوهه حتى لا يجوز أن يكرهه من وجه فألزم عليه المعلوم والمجهول اذ لا ينكر كون شيء واحد معلوما من وجه مجهولا من وجه آخر. ولما ارتكب قوله بأن الشيء الواحد لا يكون مرادا من جهة مكروها من جهة أخرى حلّت على نفسه مسائل فيها هدم اصول المعتزلة. وقد ارتكب اكثرها. منها انه يلزمه ان يكون من القبائح العظام ما لم يكرهه الله تعالى ومن الحسن الجميل ما لم يرده. وذلك انه اذا كان السجود لله تعالى عبادة عبادة الصنم مع ان السجود للصنم قبيح عظيم. وكذلك اذا اراد أن يكون القول بأنّ محمدا رسول الله إخبارا عن محمد بن عبد الله

١٧٨

وجب أن لا يكرهه ان يكون (٧٧ ا) إخبارا عن محمد آخر مع كون ذلك كفرا ولزمه اذا كره الله تعالى ان يكون السجود عبادة للصنم ان لا يريد كونه عبادة لله تعالى مع كونه عبادة لله طاعة حسنة وركب هذا كله وذكر فى جامعه الكبير أنّ السجود للصنم لم يكرهه الله تعالى وأبى ان يكون الشيء الواحد مرادا مكروها من وجهين مختلفين. وقال فيه أما ابو عليّ يعنى أباه فانه يجيز ذلك وهو عندى غير مستمر على الأصول لأن الإرادة لا تتناول الشيء إلا على طريق الحدوث عندنا وعنده. فلو اراد حدوثه وكره لوجب ان يكون قد كره ما اراد. اللهمّ إلا ان يكون له حدوثان. وهو الّذي عوّل عليه على اصلنا باطل لان الإرادة عندنا قد تتعلق بالمراد على وجه الحدوث وعلى غير وجه الحدوث وليس يلزم اباه ما ألزمه وله عن إلزامه جواب وقلب. اما الجواب فان اباه لم يرد بقوله إن الإرادة تتعلق بالشيء على وجه الحدوث ما ذهب إليه أبو هاشم وانما أراد بذلك انها تتعلق به فى حال حدوثه بحدوثه او بصفة يكون عليها فى حال الحدوث. مثل أن يريد حدوثه ويريد كونه طاعة لله تعالى وهى صفة عليها يكون فى حال الحدوث وهذا كقولهم إن الأمر والخبر لا يكونان امرا وخبرا إلا بالارادة اما إرادة المأمور به على أصل أبى هاشم وغيره او إرادة

١٧٩

كونه امرا وخبرا كما قاله ابن الاخشيد منهم لأن الله تعالى قد قال (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) (الكهف ٢٦) وقد اراد حدوث كلامه وأراد الأيمان منهم وليس قولهم فليؤمن مع ذلك امرا. بل هو تهديد لأنه لم يرد (٧٧ ب) كون هذا القول امرا. وكذلك الخبر لا يكون خبرا عندهم وحتى يريد كونه خبرا عن زيد دون عمرو. مع أن هذا السبب بإرادة لحدوث الشيء وبان بهذا أن كراهة الله تعالى ان يكون السجود عبادة للصنم غير ارادته لحدوثه فلم يلزم ما ذكره ابو هاشم من كونه مرادا من الوجه الّذي كرهه. ووجه القلب عليه أن يقال إن الله تعالى قد نهى عن السجود للصنم وقد نصّ عليه وقد ثبت من اصل المعتزلة أن الله تعالى لا يأمر إلا بحدوث الشيء ولا ينهى إلا عن حدوثه. وقد ثبت أنه أمر بالسجود عبادة له فيلزمه ان يكون قد نهى عنه من الوجه الّذي امر به. لانه لا ينهى الا عن إحداث الشيء وليس للسجود الا حدوث واحد. ولو كان له حدوثان لزمه أن يكون محدثا من وجه غير محدث من وجه آخر فلزمه فى الامر والنهى ما ألزم إياه والتجار فى الإرادة والكراهة

والفضيحة السادسة من فضائحه. قوله بالاحوال التى كفّره فيها مشاركوه فى الاعتزال فضلا عن سائر الفرق. والّذي ألجأه

١٨٠