الفَرق بين الفِرق

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي

الفَرق بين الفِرق

المؤلف:

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨١

مولى بنى تميم وكان جدّه من سبى كامل وما ظهرت البدع والضلالات فى الأديان إلا من ابناء السبايا كما روى في الخبر. وقد شارك عمرو واصلا فى بدعة القدر وفى ضلالة قولهما بالمنزلة بين المنزلتين وفى ردّهما شهادة رجلين أحدهما من أصحاب الجمل والآخر من أصحاب عليّ. وزاد عمرو على واصل فى هذه البدعة فقال بفسق كلتا الفرقتين المتقاتلتين يوم الجمل وذلك أنّ واصلا إنما ردّ شهادة رجلين أحدهما من أصحاب الجمل والآخر من أصحاب عليّ رضى الله عنه وقبل شهادة رجلين كلاهما (٤٣ ب) من أحد الفريقين وزعم عمرو أن شهادتهما مردودة وإن كانا من فريق واحد لأنه قال بفسق الفريقين جميعا. وقد افترقت القدريّة بعد واصل وعمرو فى هذه المسألة فقال النظّام ومعمر والجاحظ فى فريقى يوم الجمل بقول واصل وقال حوشب وهاشم الاوقص نجت القادة وهلكت الاتباع وقال أهل السنّة والجماعة بتصويب عليّ وأتباعه يوم الجمل وقالوا إن الزبير رجع عن القتال يومئذ تائبا فلما بلغ وادى السباع قتله بها عمرو بن حرمون غرّة وبشّر عليّ قاتله بالنار وهمّ طلحة بالرجوع فرماه مروان بن الحكم وكان مع أصحاب الجمل بسهم قتله. وعائشة رضى الله عنها قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو أزد وبنو ضبّة على

١٠١

أمرها حتى كان من الامر ما كان. ومن قال بتكفير الفريقين أو أحدهما فهو الكافر دونهم هذا قول أهل السنّة فيهم والحمد لله على ذلك

ذكر الهذيلية منهم ـ هؤلاء أتباع أبى الهذيل محمد بن الهذيل المعروف بالعلّاف كان مولى لعبد القيس وقد جرى على منهاج ابناء السبايا لظهور اكثر البدع منهم. وفضائحه تترى تكفّره فيها سائر فرق الأمة من أصحابه في الاعتزال ومن غيرهم وللمعروف بالمرداد من المعتزلة كتاب كبير فيه فضائح أبى الهذيل وفى تكفيره بما انفرد به من ضلالاته وللجبّائىّ أيضا كتاب فى الردّ على أبي الهذيل فى المخلوق ويكفّره فيه ولجعفر بن حرب أيضا (٤٤ ا) وهو المشهور فى زعماء المعتزلة كتاب سمّاه توبيخ أبى الهذيل وأشار الى تكفير أبي الهذيل وذكر فيه ان قوله يجرّ الى قول الدهرية فمن فضائح أبى الهذيل قوله بفناء مقدورات الله عزوجل حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرا على شيء. ولأجل هذا زعم ان نعيم اهل الجنة وعذاب اهل النار يفنيان ويبقى حينئذ اهل الجنة واهل النار خامدين لا يقدرون على شيء ولا يقدر الله عزوجل فى تلك الحال على إحياء ميت ولا على إماتة حىّ ولا على تحريك ساكن

١٠٢

ولا على تسكين متحرك ولا على إحداث شيء ولا على إفناء شيء مع صحة عقول الاحياء فى ذلك الوقت. وقوله في هذا الباب شر من قول من قال بفناء الجنة والنار كما ذهب إليه جهم لانّ جهما وإن قال بفنائهما فقد قال بأن الله عزوجل قادر بعد فنائهما على ان يخلق أمثالهما. وأبو الهذيل يزعم أن ربّه لا يقدر بعد فناء مقدوراته على شيء وقد شنّع المعروف منهم بالمرداد على أبى الهذيل في هذه المسألة فقال يلزمه اذا كان ولى الله عزوجل فى الجنة قد يناول باحدى يديه الكاس وبالاخرى بعض التحف ثم حضر وقت السكون الدائم ان يبقى ولىّ لله عزوجل ابدا على هيئة المصلوب. وقد اعتذر ابو الحسين الخياط عن أبى الهذيل فى هذا الباب باعتذارين. احدهما دعواه ان أبا الهذيل أشار الى ان الله عزوجل عند قرب انتهاء مقدوراته يجمع فى اهل الجنة اللذات كلها فيبقون على ذلك فى سكون دائم. واعتذاره الثانى دعواه ان (٤٤ ب) أبا الهذيل انه كان يقول هذا القول مجادلا به خصومه البحث عن جوابه. واعتذاره الاول عنه باطل من وجهين. أحدهما أنه يوجب اجتماع لذّتين متضادتين فى محل واحد فى وقت واحد وذلك محال كاستحالة اجتماع لذة وألم فى محل واحد. والوجه الثاني أن هذا الاعتذار لو صحّ لوجب أن يكون اهل الجنّة بعد فناء

١٠٣

مقدورات الله عزوجل أحسن من حالهم في حال كونه قادرا. وأما دعواه ان أبا الهذيل إنما قال بفناء المقدورات مجادلا به معتقدا لذلك فالفاصل بيننا وبين المعتذر عنه كتب أبو الهذيل وأشار فى كتابه الّذي سماه بالحجج إلى ما حكيناه عنه وذكر فى كتابه المعروف بكتاب القوالب بابا فى الردّ على الدهريّة وذكر فيه قولهم للموحّدين اذا جاز أن يكون بعد كل حركة حركة سواها لا إلى آخر وبعد كل حادث حادث آخر لا إلى غاية فهلّا صحّ قول من زعم أن لا حركة الا وقبلها حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا عن أول لا حالت قبله وأجاب عن هذا الالزام بتسويته بينهما وقال كما أن الحوادث لها ابتداء لم يكن قبلها حادث كذلك لها آخر لا يكون بعده حادث. ولاجل هذا قال بفناء مقدورات الله عزوجل وسائر المتكلمين من أصناف فرق الاسلام فرّقوا بين الحوادث الماضية والحوادث المستقبلة بفروق واضحة لم يهتد إليها أبو الهذيل فارتكب لاجل جهله بها قوله بفناء المقدورات وقد ذكرنا تلك الفروق الواضحة فى باب الدلالة على حدوث العالم فى كتبنا المؤلفة فى ذلك. والفضيحة الثانية (٤٥ ا) من فضائح أبى الهذيل قوله بان أهل الآخرة مضطرون الى ما يكون منهم وان أهل الجنة مضطرون

١٠٤

الى أكلهم وشربهم وجماعهم وأن أهل النار مضطرون الى أقوالهم. وليس لأحد فى الآخرة من الخلق قدرة على اكتساب فعل ولا على اكتساب قول. والله عزوجل خالق أقوالهم وحركاتهم وسائر ما يوصفون به. وكانت القدرية يعيبون جهما فى قوله ان العباد فى الدنيا مضطرون الى ما يكون منهم وينكرون على أصحابنا قولهم بأنّ الله عزوجل خالق اكساب العباد ويقولون لاصحابنا. اذا كان هو خالق ظلم العباد وجب ان يكون ظالما واذا خلق كذب الانسان وجب ان يكون كاذبا. فهلا قالوا لأبى الهذيل اذا قلت أنّ الله عزوجل يخلق فى الآخرة كذب اهل النار فى قولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الانعام ٢٢) وجب (١) ان يكون هو الكاذب بهذا القول ان كان الكاذب عندهم من فعل الكذب. ولا يتوجه علينا هذا الالزام لأنا لا نقول ان الكاذب والظالم من خلق الكذب والظلم. ولكنا نقول ان الظالم من قام به الظلم والكاذب من قام به الكذب لا من فعله. وقد اعتذر الخياط عن أبى الهذيل فى بدعته هذه بأن قال ان الآخرة دار جزاء وليست بدار تكليف فلو كان اهل الآخرة مكتسبين لاعمالهم لكانوا مكلفين ولوقع ثوابهم وعقابهم فى دار

__________________

(١) وجب. ساقطة فى الاصل

١٠٥

سواها. فيقال للخياط هل ترضى بهذا الاعتذار من أبي الهذيل أم تسخطه. فان رضيته فقل فيه بمثل قوله. وذلك خلاف قولك وان سخطته فلا معنى لاعتذارك عنه فى شيء (٤٥ ب) تكفّره وقلنا لابى الهذيل. ما تنكر من كون أهل الآخرة مكتسبين لاعمالهم وان يكونوا فيها مأمورين للشكر لله عزوجل على نعمه ولا يكونوا مأمورين بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا يكونوا منتهين عن المعاصى ويكون ثوابهم على الشكر وترك المعصية دوام النعيم عليهم وما انكرت عليهم من انهم يكونون فى الآخرة منهيين عن المعاصى ومعصومين منها كما قال أصحابنا مع أكثر الشيعة ان الأنبياء عليهم‌السلام كانوا فى الدنيا منتهين عن المعاصى ومعصومين عنها وكذلك الملائكة منتهون عن المعاصى ومعصومون عنها. ولذلك قال الله عزوجل فيهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (تحريم ٦)

والفضيحة الثالثة من فضائحه قوله بطاعات كثيرة لا يراد الله عزوجل بها كما ذهب إليه قوم من الخوارج الأباضية. وقد زعم أن ليس فى الارض هدىّ ولا زنديق الّا وهو مطيع لله تعالى فى أشباه كثيرة وان عصاه من جهة كفره. وقال أهل السنّة والجماعة. ان الطاعة لله عزوجل ممن لا يعرفه انما تصحّ

١٠٦

فى شيء واحد وهو النظر والاستدلال الواجب عليه قبل وصوله الى معرفة الله تعالى فان يفعل ذلك يكن مطيعا لله تعالى لأنه قد أمره به. وان لم يكن قصد بفعله لذلك النظر الاول التقرب به الى الله عزوجل. ولا تصح منه طاعة لله تعالى سواها الا اذا قصد بها التقرب بها إليه لانه يمكنه ذلك اذا توصل بالنظر الاول الى معرفة الله تعالى ولا يمكنه قبل النظر الاول التقرب به إليه اذا لم يكن عارفا به قبل نظره واستدلاله واستدل أبو الهذيل على دعواه صحة وقوع طاعات الله تعالى ممن لا يعرفه بأن قال (٤٦ ا) ان أوامر الله تعالى بإزائها زواجره. فلو كان من لا يعرفه فعل ترك جميع أوامره وجب ان يكون قد صار الى جميع زواجره. وان يكون من ترك جميع الطاعات قد صار الى جميع المعاصى. ولو كان كذلك لصار الدّهرى يهوديّا ونصرانيّا ومجوسيّا وعلى اديان سائر الكفرة. واذا صار المجوسى تاركا لكل كفر سوى المجوسية علمنا أنه عارض بمجوسيته التى قد نهى عنها ومطيع لله عزوجل بترك ما تركه من انواع الكفر لانه مأمور بتركها. فقلت له ليس الامر فى أوامر الله تعالى وزواجره على ما ظننته ولكن لا خصلة من الطاعة الا ويضادّها معاص متضادة ولا خصلة من الايمان الا ويضادّها خصال متضادّة كل نوع منها يضادّ النوع الآخر

١٠٧

كما يضادّها الطاعة وذلك بمنزلة القيام والقعود والاضطجاع والاستلقاء. وقد يخرج عن القعود من لا يصير الى جميع أضداده وانما يخرج من القعود بنوع واحد من أضداده. كذلك يخرج عن كل طاعة لله تعالى بنوع واحد من الكفر المضادّ للطاعات كلها. لان ذلك النوع من الكفر يضادّ نوعا آخر من الكفر كما يضادّ سائر الطاعات وهذا واضح فى نفسه وان جهله أبو الهذيل

والفضيحة الرابعة من فضائحه قوله بأن علم الله سبحانه وتعالى هو الله وقدرته هى هو ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علما وقدرة. ولو كان هو علما وقدرة لاستحال ان يكون عالما قادرا. لأنّ العلم لا يكون عالما والقدرة لا تكون قادرة. ويلزمه أيضا اذا قال ان علم الله هو الله وقدرته هى هو ان يقول (٤٦ ب) ان علمه هو قدرته ولو كان علمه قدرته لوجب ان يكون كل معلوم له مقدورا له وهذا يوجب ان يكون رأيه مقدورا له. لانه معلوم له وهذا كفر. فما يؤدّى إليه مثله

والفضيحة الخامسة. تقسيمه كلام الله عزوجل الى ما يحتاج الى محل والى ما لا يحتاج الى محل. وقد زعم ان قول الله سبحانه للشىء كن حادث لا فى محل. وسائر كلامه حادث فى جسم من الاجسام. وكل كلامه عنده أعراض وقد زعم ان قوله للشيء

١٠٨

كن من جنس قول الانسان كن ففرق بين عرضين من جنس واحد فى حاجة أحدهما الى محل واستغناء الآخر عن المحل. فاما قوله بحدوث إرادة الله سبحانه لا فى محل وقد شاركه فيه المعتزلة البصرية مع قولهم بانها من جنس واحد ارادتنا المفتقرة الى المحل ووجود كلمة لا فى محل يوجب أن لا يكون بعض المتكلمين بان يتكلم بها أولى من بعض. وليس لأبى الهذيل ان يقول ان فاعلها أولى بان يتكلم بها من غيره لانه قد قال بان الله تعالى يخلق فى الآخرة كلام أهل الجنة وكلام أهل النار ولا يكون متكلما بكلامهم فقد أدّاه قوله بوجود كلمة لا فى محل الى تصحيح كلام لا لمتكلم وهذا محال فما يؤدّى إليه مثله

والفضيحة السادسة من فضائحه. قوله ان الحجة من طريق الاخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم‌السلام وفيما سواها لا تثبت بأقلّ من عشرين نفسا فيهم واحد من اهل الجنة او أكثر ولم يوجب بأخبار الكفرة والفسقة حجة وان بلغوا عدد التواتر الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب اذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنة وزعم أن خبر ما دون الاربعة لا يوجب حكما ومن فوق الاربعة (٤٧ ا) الى العشرين قد يصح وقوع العلم بخبرهم وقد لا يقع العلم بخبرهم وخبر العشرين اذا كان فيهم واحد من

١٠٩

اهل الجنة يجب وقوع العلم منه لا محالة. واستدلّ على ان العشرين حجة بقول الله تعالى (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) (الأنفال ٦٥) وقال لم يبح لهم قتالهم الا وهم عليهم حجة. وهذا يوجب عليه ان يكون خبر الواحد حجة موجبة للعلم لأن الواحد فى ذلك الوقت كان له قتال العشرة من المشركين فيكون جواز قتاله لهم دليلا على كونه حجة عليهم. قال عبد القاهر ما أراد ابو الهذيل باعتباره عشرين فى الحجة من جهة الخبر اذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الاخبار الواردة فى الاحكام الشرعية عن فوائدها لانه أراد بقوله ينبغي ان يكون فيهم واحد من أهل الجنة واحد يكون على بدعته فى الاعتزال والقدر وفى فناء مقدورات الله عزوجل لان من لم يقل بذلك لا يكون عنده مؤمنا ولا من أهل الجنة. ولم يقل قبل أبى الهذيل أحد على بدعة أبى الهذيل حتى تكون روايته فى جملة العشرين على شرطه

الفضيحة السابعة. انه فرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح فقال لا يجوز وجود أفعال القلوب من الفاعل مع قدرته عليه ولا مع موته وأجاز وجود أفعال الجوارح من الفاعل منا بعد موته وبعد عدم قدرته ان كان حيّا لم يمت وزعم ان الميت والعاجز يجوز ان يكونا فاعلين لافعال الجوارح بالقدرة التي كانت موجودة

١١٠

قبل الموت والعجز وزعم الجبّائىّ وابنه أبو هشام ان أفعال القلوب فى هذا الباب كأفعال الجوارح فى انه يصحّ وجودها بعد فناء القدرة عليها ومع وجود (٤٧ ب) العجز عنها وقول الجبائى وابنه فى هذا الباب شرّ من قول أبى الهذيل غير ان أبا الهذيل سبق الى القول باجازة كون الميت والعاجز فاعلين لأفعال الجوارح ونسج الجبائى وابنه على منواله فى هذه البدعة وقاسا عليه إجازة كون العاجز فاعلا لأفعال القلوب ومؤسس البدعة عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة من غير نقصان يدخل فى وزن العاملين بها

الفضيحة الثامنة من فضائحه. إنما لما وقف على اختلاف الناس في المعارف هل هى ضرورية أم اكتسابية ترك قول من زعم انها كلها ضرورية وقول من زعم أنها كلها كسبية وقول من قال ان المعلوم منها بالحواس والبداية ضرورية وما علم منها بالاستدلال اكتسابية. واختار لنفسه قولا خارجا عن أقوال السلف فقال المعارف ضربان. أحدهما باضطرار وهو معرفة الله عزوجل ومعرفة الدليل الداعى الى معرفته وما بعدها من العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس فهو علم اختيار واكتساب. ثم انه بنى على ذلك قوله فى مهلة المعرفة فخالف فيها سائر الامة فقال

١١١

فى الطفل انه لا يلزمه فى الحال الثانية من حال معرفته بنفسه أن يأتى بجميع معارف التوحيد والعدل بلا فصل وكذلك عليه ان يأتى مع معرفته بتوحيد الله سبحانه وعدله بمعرفة جميع ما كلفه الله تعالى بفعله حتى ان لم يأت بذلك كله فى الحال الثانية من معرفته بنفسه ومات فى الحال الثالثة مات كافرا وعدوّا لله تعالى مستحقا للخلود في النار. واما معرفته بما لا يعرف الا بالسمع من جهة (٤٨ ا) الاخبار فعليه ان يأتى بمعرفة ذلك فى الحال الثانية من سماعه للخبر الّذي يكون حجة قاطعة للعذر. وكان بشر بن المعتمر يقول عليه ان يأتى بالمعارف العقلية فى الحال الثالثة مع معرفته بنفسه لان الحال الثانية حال نظر وفكر فان لم يأت بها فى الحالة الثالثة ومات فى الحال الرابعة كان عدوّا لله تعالى مستحقا للخلود فى النار فهذان القدريان اللذان انكرا على الازارقة قولهما بان اطفال مخالفيهم فى النار وعلى من زعم ان أطفال المشركين فى النار قد زعما ان اطفال المؤمنين اذا ماتوا فى الحال الثالثة او الرابعة من معرفتهم بأنفسهم قبل اتيانهم بالمعارف العقلية كفرة مخلدون فى النار من غير كفر اعتقدوه

الفضيحة التاسعة من فضائحه. انه أجاز حركة الجسم الكثير الاجزاء بحركة تحل فى بعض اجزائه ولم يخبر مثل هذا فى اللون

١١٢

وقال سائر المتكلمين ان الجزء الّذي قامت به الحركة هو المتحرك بها دون غيره من اجزاء الجملة كما ان الجزء الّذي يقوم به السواد هو الاسود به دون غيره من اجزاء الجملة وان تحركت الجملة كان فى كل جزء منها حركة كما لو اسودت الجملة كان فى كل جزء منها سواد

الفضيحة العاشرة من فضائحه قوله بان الجزء الذي لا يتجزأ لا يصح قيام اللون به اذا كان منفردا ولا تصح رؤيته اذا لم يكن فيه لون وهذا يوجب عليه ان الله تعالى لو خلق جزءا منفردا لم يكن رائيا له. والحمد لله الّذي انقذ اهل السنّة من البدع التى حليناها فى هذا الباب من أبى الهذيل (٤٨ ب)

ذكر النظامية منهم. هؤلاء اتباع أبى إسحاق ابراهيم بن سيار المعروف بالنظام والمعتزلة يموهون على الاغمار بديته يوهمون انه كان نظّاما للكلام المنثور والشعر الموزون وانما كان ينظم الخرز فى سوق البصرة ولاجل ذلك قيل له النظام وكان في زمان شبابه قد عاشر قوما من الثنوية وقوما من السمتيّة القائلين بتكافؤ الادلة وخالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة ثم خالط هشام بن الحكم الرافضى فاخذ عن هشام وعن ملحدة الفلاسفة قوله بابطال الجزء الذي لا يتجزأ ثم بنى عليه قوله بالطفرة التي لم يسبق إليها وهم احد قبله واخذ من الثنوية قوله بان فاعل العدل لا يقدر على

١١٣

فعل الجور والكذب واخذ من هشام بن الحكم أيضا قوله بان الالوان والطعوم والروائح والاصوات اجسام وبنى على هذه البدعة قوله بتداخل الاجسام فى حيز واحد ودلين مذاهب الثنوية وبدع الفلاسفة وشبه الملحدة فى دين الاسلام وأعجب بقول البراهمة بابطال النبوات ولم يجسر على اظهار هذا القول خوفا من السيف فانكر اعجاز القرآن فى نظمه. وانكر ما روى فى معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من انشقاق القمر وتسبيح الحصا فى يده ونبوع الماء من بين اصابعه ليتوصل بانكار معجزات نبينا عليه‌السلام الى انكار نبوته. ثم انه استثقل احكام شريعة الاسلام فى فروعها ولم يجسر على اظهار رفعها فابطل الطرق الدالة عليها فانكر لاجل ذلك حجة الاجماع وحجة القياس فى الفروع الشرعية (٤٩ ا) وانكر الحجة من الاخبار التى لا توجب) والعلم الضرورى ثم انه علم اجماع الصحابة على الاجتهاد فى الفروع الشرعية فذكرهم بما يقرءوه غدا من صحيفة مخازيه. وطعن فى فتاوى اعلام الصحابة رضى الله عنهم وجميع فرق الامة من فريقى الرأى والحديث مع الخوارج والشيعة والنجارية. واكثر المعتزلة متفقون على تكفير النظام وانما تبعه فى ضلالته شر ذمة من القدرية كالاسوارى وابن حائط وفضل الحدثي والجاحظ مع مخالفة كل واحد منهم له فى

١١٤

بعض ضلالاته وزيادة بعضهم عليه فيها واعجاب هؤلاء النفر اليسير به كاعجاب الجعل بدحروجته. وقد قال بتكفيره اكثر شيوخ المعتزلة منهم أبو الهذيل فانه قال بتكفيره فى كتابه المعروف بالرد على النظام وفى كتابه عليه فى الاعراض والانسان والجزء الّذي لا يتجزأ. ومنهم الجبائى كفر النظام فى قوله ان المتولدات من افعال الله بايجاب الخلقة. والجبائى فى هذا الباب هو الكافر دون غيره غير انا أردنا ان نذكر تكفير شيوخ المعتزلة بعضها بعضا. وكفره الجبائى فى احالته قدرة الله تعالى على الظلم وكفره في قوله بالطبائع. وله فى ذلك كتاب عليه وعلى معمر فى الطبائع. ومنهم الاسكافى له كتاب على النظام كفره فيه فى اكثر مذاهبه. ومنهم جعفر بن حرب صنّف كتابا فى تكفير النظام بابطاله الجزء الّذي لا يتجزأ. واما كتب اهل السنة والجماعة فى تكفيره فالله يحصيها. ولشيخنا ابى الحسن الاشعرى رحمه‌الله فى تكفير النظام ثلاثة كتب وللقلانسى عليه كتب ورسائل (٤٩ ب) وللقاضى ابى بكر محمد بن أبى الطيب الاشعرى رحمه‌الله كتاب كبير فى بعض اصول النظام. وقد أشار الى ضلالاته فى كتاب اكفار المتأوّلين ونحن نذكر فى هذا الكتاب ما هو المشهور من فضائح النظام. فاولها قوله بان الله عزوجل لا يقدر ان يفعل بعباده خلاف ما

١١٥

فيه صلاحهم ولا يقدر على ان ينقص من نعيم اهل الجنة ذرة لان نعيمهم صلاح لهم. والنقصان مما فيه الصلاح ظلم عنده ولا يقدر ان يزيد فى عذاب اهل النار ذرة ولا على ان ينقص من عذابهم شيئا. وزعم أيضا ان الله تعالى لا يقدر على ان يخرج احدا من اهل الجنة عنها ولا يقدر على ان يلقى فى النار من ليس من اهل النار. وقال لو وقف طفل على شفير جهنم لم يكن الله قادرا على القائه فيها وقدر الطفل على القاء نفسه فيها وقدرت الزبانية أيضا على القائه فيها. ثم زاد على هذا بان قال ان الله تعالى لا يقدر على ان يعمى بصيرا او يزمن صحيحا او يفقر غنيا اذا علم ان البصر والصحة والغنى اصلح لهم. وكذلك لا يقدر على ان يغنى فقيرا او يصحح زمنا اذا علم ان المرض والزمانة والفقر اصلح لهم ثم زاد على هذا ان قال انه لا يقدر على ان يخلق حية او عقربا او جسما يعلم ان خلق غيره اصلح من خلقه. وقد أكفرته البصرية من المعتزلة فى هذا القول وقالوا ان القادر على العدل يجب ان يكون قادرا على الظلم والقادر على الصدق يجب ان يكون قادرا (٥٠ ا) على الكذب وان لم يفعل الظلم والكذب لقبحهما او غناه عنهما وعلم بغناه عنهما لان القدرة على الشيء يجب ان يكون قدرة على صده. فاذا قال النظام ان الله تعالى لا يقدر على الظلم والكذب لزمه

١١٦

ان لا يكون قادرا على الصدق والعدل. والقول بانه لا يقدر على العدل كفر فما يؤدى إليه مثله. وقالوا أيضا لا فرق بين قول النظام إنه يكون من الله تعالى ما لا يقدر على صدّه ولا على تركه وبين قول من زعم انه مطبوع على فعل لا يصح منه خلافه وهذا كفر فما يؤدى إليه مثله. ومن عجائب النظام فى هذه المسألة انه صنّف كتابا على الثنوية وتعجب فيه من قول المانوية بان النور يأمر اشكاله المختلفة بالظلمة يفعل الخير وهي مما لا تقدر على الشر ولا يصح منها فعل الشرور وتعجب من ذم الثنوية الظلمة على فعل الشرّ مع قولها بان الظلمة لا تستطيع فعل الخير ولا تقدر الا على الشر فيقال له. اذا كان الله عندك مشكورا على فعل العدل والصدق وهو غير قادر على فعل الظلم والكذب فما وجه انكارك على الثنوية ذم الظلم على الشر وهى عندهم لا تعذر على خلاف ذلك الفضيحة الثانية من فضائحه قوله ان الانسان هو الروح وهو جسم لطيف فداخل لهذا الجسم الكثيف مع قوله بان الروح هى الحياة المشابكة لهذا الجسد. وقد زعم انه فى الجسد على سبيل المداخلة وأنه جوهر واحد غير مختلف ولا متضاد. وفى قوله هذا فضائح له منها ان (٥٠ ب) الانسان على هذا القول لا يرى على الحقيقة وانما يرى الجسد الّذي فيه الانسان ومنها انه يوجب ان الصحابة ما رأوا رسول الله

١١٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانما رأوا قالبا فيه الرسول ومنها يوجب ان لا يكون احد قد رأى اباه وأمه وانما رأى قالبيهما. ومنها انه اذا قال فى الانسان انه ليس هو الجسد الظاهر وانما هو روح مداخل للجسد لزمه أن يقول فى الجماد أيضا انه ليس هو جسده وانما هو روح فى جسده وهو الحياة المشابكة للجسد. وكذلك القول فى الفرس وسائر البهائم وجميع الطيور والحشرات واصناف الحيوانات. وكذلك القول فى الملائكة والجن والانس والشياطين. وهذا يوجب ان احدا ما رأى حمارا ولا فرسا ولا طيرا ولا نوعا من الحيوان. ويوجب أيضا ان لا يكون النبي رأى ملكا ويوجب ان الملائكة لا يرى بعضهم بعضا وانما رأى الراءون قوالب هذه الاشياء التي ذكرناها. ومنها انه اذا قال ان الروح التى فى الجسد هى الانسان وهى الفاعلة دون الجسد الّذي هو قالبه لزمه ان يقول ان الروح هى الزانية والسارقة والقاتلة فاذا جلد الجسد وقطعت يده صار المقطوع غير السارق والمجلود غير الزانى وفى هذا غنى. ويقول الله عزوجل (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور ٢) وقوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة ٤١) وكفاه بعناد القرآن خزيا

الفضيحة الثالثة من فضائحه قوله بان الروح التى هى

١١٨

الانسان بزعمه مستطيع بنفسه (٥١ ا) حىّ بنفسه وانما يعجز لآفة تدخل عليه والعجز عنده جسم ولا يخلو من ان يقول فى العاجز والميت انهما نفس الانسان الّذي يكون حيا قادرا او يقول ان الميت العاجز جسده. فان قال ان الانسان هو الّذي يعجز ويموت أبطل قوله بأنّ الانسان حىّ بنفسه ومستطيع بنفسه لوجود نفسه فى حال موته. وعجزه ميته او عاجزه وان زعم ان الروح هى قوى بنفسه وان الجسد هو الذي يموت ويعجز غير الّذي كان حيا قادرا ويجب على هذا القول ان لا يكون الله تعالى قادرا على احياء ميت ولا على امانة حىّ ولا على اقدار عاجز ولا على تعجيز قادر. لان الحىّ عنده لا يموت والقوىّ لا يعجز. وقد وصف الله تعالى نفسه بانه يحيى الموتى وان زعم ان الروح حىّ قوى بنفسه وانما تموت وتعجز لأنه تدخل عليه لم ينفصل ممن يزعم انها ميتة عاجزة بنفسها وانما تحيى وتقوى بحياة وقدرة تدخلان عليهما

الفضيحة الرابعة من فضائحه قوله ان الروح جنس واحد وافعاله جنس واحد وان الاجسام ضربان حىّ وميت وان الحى منها يستحيل ان يصير ميتا والميت يستحيل ان يصير حيا. وانما اخذ هذا القول من الثّنوية البرهانية الذين زعموا ان النور حىّ

١١٩

خفيف من شأنه الصعود ابدا وان الظلام موات ثقيل من شأنه التسفل ابدا وان الثقيل الميت محال ان يصير خفيفا وان الخفيف الحىّ محال ان يصير ثقيلا ميتا (٥١ ب)

الفضيحة الخامسة من فضائحه دعواه ان الحيوان كله جنس واحد لاتفاق حمية منه فى تدريك الادراك. وزعم ان العمل اذا اتفق دلّ اتفاقه على اتفاق ما ولده. وزعم أيضا ان الجنس الواحد لا يكون منه عملان مختلفان كما لا يكون من النار تسخين وتبريد ولا من الثلج تسخين وتبريد. وهذا تحقيق قول الثنوية ان النور يفعل الخير ولا يكون منه الشر. والظلام يفعل الشر ولا يكون منه الخير لان الفاعل الواحد لا يفعل فعلين مختلفين كما لا يقع من النار تسخين وتبريد ولا من الثلج تسخين وتبريد. ومن العجب انه صنف كتابا على الثنوية ألزمهم فيه استحالة مزاج النور والظلمة اذا كانا مختلفين فى الجنس والعمل وكانت جهات تحركهما مختلفة. ثم زعم مع ذلك ان الخفيف والثقيل من الاجسام مع اختلافهما فى جنسيهما واختلاف جهتى حركتهما تتداخلان والمداخلة فى حيّز واحد اعظم من المزاج الّذي انكره على الثنوية الفضيحة السادسة من فضائحه قوله بان النار من شأنها ان تعلو بطباعها على كل شيء وانها اذا شملت من الشوائب الحابسة لها فى

١٢٠