كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ جعفر السبحاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

السادس : أنها قوية على إحالة المركب إليها وذلك ظاهر.

قال : والهواء حار رطب شفاف له أربع طبقات.

أقول : لما فرغ من البحث عن أحكام النار شرع في البحث عن الهواء الملاصق لها وذكر له أحكاما أربعة : الأول أنه حار وذلك فيما يرجع إلى الكيفية الفعلية وقد وقع التشاجر فيه فأكثر الناس ذهب إلى أنه حار لا في الغاية لأن الماء إذا أريد جعله هواء سخن فضل تسخين ومع استحكام التسخين ينقلب هواء ، وآخرون منعوا من ذلك لأنه لو اقتضى السخونة لطبعه لبلغ فيها الغاية لوجود العلة الخالية عن المعاوق. الثاني أنه رطب بمعنى سهولة قبول الأشكال لا بمعنى البلة وذلك ظاهر وهذا فيما يرجع إلى الكيفية الانفعالية. الثالث أنه شفاف وهو ظاهر لعدم إدراكه صرفا بالبصر. الرابع أنه ذو طبقات أربع الطبقة الأولى الملاصقة للأرض ، الثانية الطبقة الباردة بسبب ما يخالطها من الأبخرة ، الثالثة الطبقة الصرفة ، الرابعة الطبقة الممتزجة بشيء من النار.

قال : والماء بارد رطب شفاف محيط بثلاثة أرباع الأرض له طبقة واحدة.

أقول : ذكر للماء خمسة أحكام :

الأول أنه بارد والحس يدل عليه لأنه مع زوال المسخنات الخارجية يحس ببرده.

واختلفوا فالأكثر على أن الأرض أبرد منه لأنها أكثف وأبعد عن المسخنات والحركة الفلكية ، وقال قوم : إن الماء أبرد لأنا نحس بذلك وهو ضعيف لأن الشيء قد يكون أشد بردا في الحس ولا يكون في نفس الأمر كذلك كما في جانب السخونة ولهذا كانت السخونة في الأجسام الذائبة كالرصاص وغيره أشد في الحس من النار الصرفة الخالية عن الضد لسرعة انفصال النار الصرفة عن اليد لأجل لطافتها فلا يدوم أثرها كذلك هاهنا أثر الماء للطافته ينبسط على العضو ويصل إلى عمق كل جزء منه ويلتصق به بخلاف التراب المتناثر عنه سريعا فكان الإحساس ببرد الماء أكثر.

الثاني أنه رطب وهو ظاهر بمعنى البلة وقيل إنه يقتضي الجمود لأنه بارد بالطبع والبرد

١٦١

يقتضي الجمود وإنما عرض السيلان له بسبب سخونة الأرض والهواء ولو خلي وطبعه لاقتضى الجمود.

الثالث أنه شفاف لأنه مع صرافته لا يحجب عن الأبصار. وقيل إنه ملون وإلا لم يكن مرئيا ولضعف لونه لم يحجب عن الأبصار.

الرابع أنه محيط بأكثر الأرض وهو حكم ظني لأنهم جعلوا العناصر متعادلة وإلا لاستحال الأضعف وعدم عنصره فلو لا إحاطته بثلاثة أرباع الأرض لكان أقل من الأرض وإذا كان محيطا بأكثر الأرض كان هو البحر وإلا فإما أن يكون فوق الأرض أو تحتها والثاني باطل وإلا لكان أصغر من الأرض فبقي الأول وهو البحر.

الخامس أنه ذو طبقة واحدة هو البحر وهو ظاهر.

قال : والأرض باردة يابسة ساكنة في الوسط شفافة لها ثلاث طبقات.

أقول : ذكر للأرض أحكاما خمسة :

الأول أنها باردة لأنها كثيفة وقد سلف البحث في أنها أبرد العناصر.

الثاني أنها يابسة وهو أيضا ظاهر.

الثالث أنها ساكنة في الوسط وقد نازع في ذلك جماعة : فذهب قوم إلى أنها متحركة إلى السفل ، وآخرون إلى العلو ، وآخرون بالاستدارة ، والحق خلاف ذلك كله وإلا لما وصل الحجر المرمي إليها إن كانت هاوية ، ولما نزل الحجر المرمي إلى فوق إن كانت صاعدة ، ولما سقط على الاستقامة إن كانت متحركة على الاستدارة.

وقد أشار في هذا الحكم إلى فائدة بقوله في الوسط وهو الرد على من زعم أنها ساكنة بسبب عدم تناهيها من جانب السفل لا من حيث الطبع وبيان بطلان هذا القول ظاهر لأن الأجسام متناهية.

الرابع أنها شفافة وقد وقع فيه منازعة بين القوم فذهب جماعة إليه لأنها بسيطة ، وذهب آخرون إلى المنع لأنا نشاهد الأرض فإن كانت بسيطة فالمطلوب وإن كانت ممتزجة بغيرها كانت الأرضية عليها أغلب فكانت الشفافية أغلب وليس كذلك ، ثم

١٦٢

نقضوا كبرى أولئك بالقمر.

الخامس في طبقاتها وهي ثلاث : طبقة هي أرض محضة وهي المركز وما يقاربه ، وطبقة طينية ، وطبقة بعضها منكشف هو البر وبعضها أحاط به البحر.

المسألة الثالثة

في البحث عن المركبات

قال : وأما المركبات فهذه الأربعة أسطقساتها.

أقول : لما فرغ من البحث عن البسائط شرع في البحث عن المركبات وبدأ من ذلك بالبحث عن بسائطها.

واعلم أن المركبات إنما تتركب من هذه العناصر الأربعة لأن العنصر الواحد بسيط لا يقع به التفاعل فلا بد من كثرة ولما دل الاستقراء على انتفاء صلاحية ما عدا الكيفيات الأربع أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أو ما ينسب إليها للفعل والانفعال وجب أن يكون التفاعل إنما هو في هذه الأربعة وحواملها وكانت الأسطقسات هذه العناصر الأربعة لا غير. وهذه العناصر من حيث هي أجزاء العالم تسمى أركانا ، ومن حيث إنها تتركب منه المركبات من المعادن والنباتات تسمى أسطقسات.

قال : وهي حادثة عند تفاعل بعضها في بعض.

أقول : المركبات عند محققي الأوائل تحدث عند تفاعل هذه العناصر الأربعة بعضها في بعض إلى أن تستقر الكيفية المتوسطة المسماة بالمزاج.

وذهب أصحاب الخليط مثل أنكساغورس وأتباعه إلى نفي ذلك وقال إن هنا أجزاء هي لحم وأجزاء هي عظام وأجزاء هي حنطة وغير ذلك من جميع المركبات وهي مختلطة مبثوثة في العالم غير متناهية فإذا اجتمع أجزاء من طبيعة واحدة ظن أن تلك الطبيعة حدثت وليس كذلك بل تلك الطبيعة كانت موجودة والحادث التركيب لا غير ،

١٦٣

والضرورة قاضية ببطلان هذه المقالة فإنا نشاهد تبدل ألوان وطعوم وروائح وغير ذلك من الصفات الحادثة.

قال : فتفعل الكيفية في المادة فتكسر صرافة كيفيتها وتحصل كيفية متشابهة في الكل متوسطة هي المزاج.

أقول : لما ذكر أن المركبات إنما تحصل عند تفاعل هذه العناصر بعضها في بعض شرع في كيفية هذا التفاعل ، واعلم أن الحار والبارد ، أو الرطب واليابس إذا اجتمعا وفعل كل منهما في الآخر لم يخل إما أن يتقدم فعل أحدهما على انفعاله أو يقترنا ويلزم من الأول صيرورة المغلوب غالبا وهو محال ، ومن الثاني كون الشيء الواحد غالبا مغلوبا دفعة واحدة وهو محال فلم يبق إلا أن يكون الفاعل في كل واحد منهما غير المنفعل فقيل : الفاعل هو الصورة والمنفعل هو المادة وينتقض بالماء الحار إذا مزج بالماء البارد واعتدلا فإن الفعل والانفعال بين الحار والبارد هناك موجود مع أنه لا صورة تقتضي الحرارة في الماء البارد.

وقيل الفاعل هو الكيفية والمنفعل هو المادة مثلا تفعل حرارة الماء الحار في مادة الماء البارد فتكسر البرودة التي هي كيفية الماء البارد وتحصل كيفية متشابهة متوسطة بين الحرارة والبرودة هي المزاج ، وهذا اختيار المصنف ـ رحمه‌الله ـ وفيه نظر لأن المادة إنما تنفعل في الكيفية الفاعلة لا في غيرها ويعود البحث من كون المغلوب يصير غالبا أو اجتماع الغالبية والمغلوبية للشيء الواحد في الوقت الواحد بالنسبة إلى شيء واحد وهو باطل.

قال : مع حفظ صور البسائط.

أقول : نقل الشيخ في هذا الموضوع في كتاب الشفاء أن هنا مذهبا غريبا عجيبا وهو أن البسائط إذا اجتمعت وتفاعلت بطلت صورها النوعية المقومة لها وحدثت صورة أخرى نوعية مناسبة لمزاج ذلك المركب واحتجوا بأن العناصر لو بقيت على طبائعها حتى اتصف

١٦٤

الجزء الناري مثلا بالصورة اللحمية أمكن أن يعرض للنار بانفرادها عارض ينتهي بها إلى أن تصير حرارتها إلى ذلك الحد الذي حصل لها عند كونها جزءا من المركب فتصير النار البسيطة لحما.

وأبطله الشيخ بأن ذلك يكون كونا وفسادا لا مزاجا ، ولأن الكاسر باق مع الانكسار فالطبائع باقية مع انكسار الكيفيات. ونقض ما ذكروه بوروده عليهم لأن مذهبهم أن الجزء الناري تبطل ناريته عند امتزاجه ويتصف بالصورة اللحمية فيجوز عروض هذا العارض للنار البسيطة فإن شرطوا التركيب كان هو جوابنا.

قال : ثم تختلف الأمزجة في الأعداد بحسب قربها وبعدها من الاعتدال.

أقول : الأمزجة في المركبات هي المعدة لقبول المركب للصور والقوى المعدنية والنباتية والحيوانية إذ المركبات كلها اشتركت في طبيعة الجسمية ثم اختلفت في هذه القوى فبعضها اتصف بصورة حافظة لبسائطه عن التفرق جامعة لمتضادات مفرداته من غير أن يكون مبدأ لشيء آخر وهذه هي الصور المعدنية ، وبعضها اتصف بصورة تفعل مع ما تقدم التغذية والتنمية والتوليد لا غير وهي النفس النباتية ، وبعضها يفعل مع ذلك الحس والحركة الإرادية وهي النفس الحيوانية فلا بد وأن يكون هذا الاختلاف بسبب اختلاف القوابل المستند إلى اختلاف الاستعداد المستفاد من اختلاف الأمزجة بسبب بعدها وقربها من الاعتدال وكل من كان مزاجه أقرب إلى الاعتدال قبل نفسا أكمل.

قال : مع عدم تناهيها بحسب الشخص وإن كان لكل نوع طرفا إفراط وتفريط وهي تسعة.

أقول : الأمزجة تختلف باختلاف صغر أجزاء البسائط وكبرها وهذا الاختلاف بسبب الصغر والكبر غير متناه فكانت الأمزجة لذلك غير متناهية بحسب الشخص وإن كان لكل نوع طرفا إفراط وتفريط فإن نوع الإنسان مثلا له مزاج خاص معتدل بين طرفين هما إفراط وتفريط لكن ذلك المزاج الخاص يشتمل على ما لا يتناهى من الأمزجة

١٦٥

الشخصية ولا يخرج عن حد المزاج الإنساني وكذلك كل نوع.

إذا عرفت هذا فاعلم أن الأمزجة تسعة لأن البسائط إما أن تتساوى فيه وهو المعتدل ، أو يغلب أحدها فإما الحار مع اعتدال الانفعاليين أو البارد معه أو الحار مع غلبة الرطب أو اليابس أو البارد معهما أو يغلب الرطب مع اعتدال الفعليين أو اليابس معه.

قال :

١٦٦

الفصل الثالث

في

بقية أحكام الأجسام ، وتشترك الأجسام في وجوب التناهي لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به عند مقايسته بمثله مع فرض نقصانه عنه

أقول : لما فرغ عن البحث في الأجسام شرع في البحث عن باقي أحكامها إذ قد كان سبق البحث عن بعض أحكامها وهذا الفصل يشتمل على مسائل :

المسألة الأولى

في تناهي الأجسام

وقد اتفق أكثر العقلاء على ذلك وإنما خالف فيه حكماء الهند واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على ذلك بوجهين : الأول برهان التطبيق وتقريره أن الأبعاد لو كانت غير متناهية لأمكننا أن نفرض خطين غير متناهيين مبدأهما واحد ثم نفصل من أحدهما قطعة ثم نطبق أحد الخطين على الآخر بأن نجعل أول أحدهما مقابلا لأول الآخر ، وثاني الأول مقابلا لثاني الثاني والثالث للثالث وهكذا إلى ما لا يتناهى فإن استمرا كذلك كان الناقص مثل الزائد وهو محال بالضرورة ، وإن انقطع الناقص انقطع الزائد لأن الزائد إنما زاد بمقدار متناه هو القدر المقطوع والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهيا فالخطان متناهيان وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب : فقوله وتشترك الأجسام في وجوب التناهي ، إشارة إلى الدعوى مع التنبيه على كون هذا الحكم واجبا لكل جسم.

١٦٧

وقوله لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به ، معناه لوجوب اتصاف الخط الناقص الذي فرض له ضد التناهي لأنا فرضنا الخطين غير متناهيين بالتناهي.

وقوله عند مقايسته بمثله ، معناه عند مقايسة الخط الناقص بالخط الكامل المماثل له في عدم التناهي. ومعنى المقايسة هنا مقابلة كل جزء من الناقص بجزء من الكامل.

وقوله مع فرض نقصانه عنه ، يعني مع فرض قطع شيء من الخط الناقص حتى صار ناقصا فهذا ما خطر لنا في معنى هذا الكلام.

قال : ولحفظ النسبة بين ضلعي الزاوية وما اشتملا عليه مع وجوب اتصاف الثاني به.

أقول : هذا هو الدليل الثاني على تناهي الأبعاد وتقريره أنا إذا فرضنا زاوية خرج ضلعاها إلى ما لا يتناهى على الاستقامة فإن النسبة بين زيادة الضلعين وزيادة الأبعاد التي اشتمل الضلعان عليها محفوظة بحيث كلما زاد الضلعان زادت الأبعاد على نسبة واحدة فإذا استمرت زيادة الضلعين إلى ما لا يتناهى استمرت زيادة البعد بينهما إلى ما لا يتناهى مع وجوب اتصاف الثاني أعني البعد بينهما بالتناهي لامتناع انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين.

المسألة الثانية

في أن الأجسام متماثلة

قال : واتحاد الحد وانتفاء القسمة فيه يدل على الوحدة.

أقول : ذهب الجمهور من الحكماء والمتكلمين إلى أن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمية وإن اختلفت بصفات وعوارض وذهب النظام إلى أنها مختلفة لاختلاف خواصها وهو باطل لأن ذلك يدل على اختلاف الأنواع لا على اختلاف المفهوم من الجسم من حيث هو جسم.

وقد استدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على قوله بأن الجسم من حيث هو جسم يحد بحد

١٦٨

واحد عند الجميع : أما عند الأوائل فإن حده الجوهر القابل للأبعاد ، وأما المتكلمون فإنهم يحدونه بأنه الطويل العريض العميق وهذا الحد الواحد لا قسمة فيه فالمحدود واحد لاستحالة اجتماع المختلفات في حد واحد من غير قسمة بل متى جمعت المختلفات في حد واحد وقع فيه التقسيم ضرورة كقولنا الحيوان إما ناطق أو صاهل ويراد بهما الإنسان والفرس.

المسألة الثالثة

في أن الأجسام باقية

قال : والضرورة قضت ببقائها.

أقول : المشهور عند العقلاء ذلك ونقل عن النظام خلافه بناء منه على امتناع استناد العدم إلى الفاعل وأنه لا ضد للأجسام مع وجوب فنائها يوم القيامة فالتزم بعدم بقائها وأنها تتجدد حالا فحالا كالأعراض غير القارة والمحققون على خلاف ذلك واعتمادهم على الضرورة فيه.

وقيل إن النظام ذهب إلى احتياج الجسم حال بقائه إلى المؤثر فتوهم الناقل أنه كان يقول بعدم بقاء الأجسام.

المسألة الرابعة

في أن الأجسام يجوز خلوها عن الطعوم والروائح والألوان

قال : ويجوز خلوها عن الكيفيات المذوقة والمرئية والمشمومة كالهواء.

أقول : ذهب المعتزلة إلى جواز خلو الأجسام عن الطعوم والروائح والألوان ، ومنعت الأشعرية منه ، أما المعتزلة فاحتجوا بمشاهدة بعض الأجسام كذلك كالهواء واحتجت الأشعرية بقياس اللون على الكون وبما قبل الاتصاف على ما بعده وهما ضعيفان لأن

١٦٩

القياس المشتمل على الجامع لا يفيد اليقين فكيف الخالي عنه مع قيام الفرق فإن الكون لا يعقل خلو متحيز عنه بالضرورة بخلاف اللون فإنه يمكن أن يتصور الجسم خاليا عنه ، وأما امتناع الخلو عنها بعد الاتصاف فممنوع ولو سلم لظهر الفرق أيضا لأن الخلو بعد الاتصاف إنما امتنع لافتقار الزائل بعد الاتصاف إلى طريان الضد بخلاف ما قبل الاتصاف لعدم الحاجة إليه.

المسألة الخامسة

في أن الأجسام يجوز رؤيتها

قال : ويجوز رؤيتها بشرط الضوء واللون وهو ضروري.

أقول : ذهب الأوائل إلى أن الأجسام مرئية لكن لا بالذات بل بالعرض فإنها لو كانت مرئية بالذات لرئي الهواء والتالي باطل فالمقدم مثله وإنما يمكن رؤيتها بتوسط الضوء واللون وهذا حكم ضروري يشهد به الحس وجمهور العقلاء على ذلك ولم أعرف فيه مخالفا.

المسألة السادسة

في أن الأجسام حادثة

قال : والأجسام كلها حادثة لعدم انفكاكها من جزئيات متناهية حادثة فإنها لا تخلو عن الحركة والسكون وكل منهما حادث وهو ظاهر.

أقول : هذه المسألة من أجل المسائل وأشرفها في هذا الكتاب وهي المعركة العظيمة بين الأوائل والمتكلمين وقد اضطربت أنظار العقلاء فيها وعليها مبنى القواعد الإسلامية وقد اختلف الناس فيها : فذهب المسلمون والنصارى واليهود والمجوس إلى أن الأجسام محدثة ، وذهب جمهور الحكماء إلى أنها قديمة وتفصيل قولهم في ذلك ذكرناه في كتاب

١٧٠

المناهج.

إذا عرفت هذا فنقول الدليل على أن الأجسام حادثة أنها لا تخلو عن أمور متناهية حادثة وكل ما لم يخل عن أمور متناهية حادثة فهو حادث فالأجسام حادثة أما الصغرى فلأن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهي أمور حادثة متناهية ، أما بيان عدم انفكاك الجسم عنهما فضروري لأن الجسم لا يعقل موجودا في الخارج منفكا عن المكان فإن كان لابثا فيه فهو الساكن ، وإن كان منتقلا عنه فهو المتحرك. وأما بيان حدوثهما فظاهر لأن الحركة هي حصول الجسم في الحيز بعد أن كان في حيز آخر ، والسكون هو الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز فماهية كل واحد منهما تستدعي المسبوقية بالغير والأزلي غير مسبوق بالغير فماهية كل واحد منهما ليست قديمة.

وأيضا فإن كل واحد منهما يجوز عليه العدم ، والقديم لا يجوز عليه العدم أما الصغرى فلأن كل متحرك على الإطلاق فإن كل جزء من حركته يعدم ويوجد عقيبه جزء آخر منها وكل ساكن فإنه إما بسيط أو مركب ، وكل بسيط ساكن يمكن عليه الحركة لتساوي الجانب الملاقي منه لغيره من الأجسام والجانب الذي لا يلاقيه في قبول الملاقاة فأمكن على غير الملاقي الملاقاة كما أمكنت على الملاقي لكن ذلك إنما يكون بواسطة الحركة فكانت الحركة جائزة عليه ، وأما المركب فإنه مركب من البسائط ونسوق الدليل الذي ذكرناه في البسيط إلى كل جزء من أجزاء المركب وأما الكبرى فلأن القديم إن كان واجب الوجود لذاته استحال عدمه ، وإن كان جائز الوجود استند إلى علة موجبة لاستحالة صدور القديم عن المختار لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد والداعي والقصد إنما يتوجه إلى إيجاد المعدوم فكل أثر لمختار حادث ، فلو كان القديم أثرا لمؤثر لكان ذلك المؤثر موجبا فإن كان واجبا لذاته استحال عدمه فاستحال عدم معلوله ، وإن كان ممكنا نقلنا الكلام إليه فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهي إلى مؤثر موجب يستحيل عدمه فيستحيل عدم معلوله فقد ظهر أن القديم يستحيل عليه العدم وقد بينا جواز العدم على الحركة والسكون فيستحيل قدمهما.

١٧١

قال : وأما تناهي جزئياتها فلأن وجود ما لا يتناهى محال للتطبيق ، ولوصف كل حادث بالإضافتين المتقابلتين ويجب زيادة المتصف بإحداهما من حيث هو كذلك على المتصف بالأخرى فينقطع الناقص والزائد أيضا.

أقول : لما بين حدوث الحركة والسكون شرع الآن في بيان تناهيهما لأن بيان حدوثهما غير كاف في الدلالة وهذا المقام هو المعركة بين الحكماء والمتكلمين فإن المتكلمين يمنعون من اتصاف الجسم بحركات لا تتناهى ، والأوائل جوزوا ذلك

والمتكلمون استدلوا على قولهم بوجوه أحدها أن كل فرد حادث فالمجموع كذلك. وهو ضعيف إذ لا يلزم من حدوث كل فرد حدوث المجموع.

الثاني أنها قابلة للزيادة والنقصان فتكون متناهية. وهو ضعيف بمعلومات الله تعالى ومقدوراته فإن الأولى أزيد من الثانية ولا يلزم تناهيهما.

الثالث : التطبيق وهو أن تؤخذ جملة الحركات من الآن إلى الأزل جملة ، ومن زمان الطوفان إلى الأزل جملة أخرى ثم تطبق إحدى الجملتين بالأخرى فإن استمرا إلى ما لا يتناهى كان الزائد مثل الناقص هذا خلف ، وإن انقطع الناقص تناهى وتناهى الزائد لأنه إنما زاد بمقدار متناه والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهيا.

الرابع أن كل حادث يوصف بإضافتين متقابلتين هما السابقية والمسبوقية لأن كل واحد من الحوادث غير المتناهية يكون سابقا على ما بعده ولاحقا لما قبله والسبق واللحوق إضافتان متقابلتان وإنما صح اتصافه بهما لأنهما أخذا بالنسبة إلى شيئين.

إذا عرفت هذا فنقول إذا اعتبرنا الحوادث الماضية المبتدأة من الآن تارة من حيث إن كل واحد منها سابق ، وتارة من حيث هو بعينه لاحق كانت السوابق واللواحق المتباينتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب الذي وقع فيه النزاع ، وإلى هذا أشار بقوله ويجب زيادة المتصف بإحداهما أعني بإحدى الإضافتين وهو إضافة السبق على المتصف بالأخرى أعني إضافة اللحوق فإذن اللواحق منقطعة في الماضي قبل انقطاع

١٧٢

السوابق فتكون متناهية ، والسوابق أيضا تكون متناهية لأنها زادت بمقدار متناه وهذا الوجه الأخير استنبطه المصنف ـ رحمه‌الله ـ ولم نعثر عليه في كلام القدماء.

قال : والضرورة قضت بحدوث ما لا ينفك عن حوادث متناهية.

أقول : لما بين أن الأجسام لا تنفك عن الحركة والسكون وبين حدوثهما وتناهيهما وجب القول بحدوث الأجسام لأن الضرورة قضت بحدوث ما لا ينفك عن حوادث متناهية.

قال : فالأجسام حادثة ولما استحال قيام الأعراض إلا بها ثبت حدوثها.

أقول : هذا نتيجة ما ذكر من الدليل وهو القول بحدوث الأجسام. وأما الأعراض فإنه يستحيل قيامها بأنفسها وتفتقر في الوجود إلى محل تحل فيه وهي إما جسمانية أو غير جسمانية والكل حادث : أما الجسمانية فلامتناع قيامها بغير الأجسام وإذا كان الشرط حادثا كان المشروط كذلك بالضرورة ، وأما غير الجسمانية فبالدليل الدال على حدوث كل ما سوى الله تعالى. والمصنف ـ رحمه‌الله ـ إنما قصد الأعراض الجسمانية لقوله : لما استحال قيام الأعراض إلا بها ثبت حدوثها.

قال : والحدوث اختص بوقته إذ لا وقت قبله ، والمختار يرجح أحد مقدوريه لا لأمر عند بعضهم.

أقول : لما بين حدوث العالم شرع في الجواب عن شبه الفلاسفة وأقوى شبههم ثلاثة أجاب المصنف ـ رحمه‌الله ـ عنها في هذا الكتاب.

الشبهة الأولى وهي أعظمها قالوا المؤثر التام في العالم إما أن يكون أزليا أو حادثا فإن كان أزليا لزم قدم العالم لأن عند وجود المؤثر التام يجب وجود الأثر لأنه لو تأخر عنه ثم وجد لم يخل إما أن يكون لتجدد أمر أو لا والأول يستلزم كون ما فرضناه مؤثرا تاما ليس بتام هذا خلف ، والثاني يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن لا لمرجح لأن اختصاص وجود

١٧٣

الأثر بالوقت الذي وجد فيه دون ما قبله وما بعده مع حصول المؤثر التام يكون ترجيحا من غير مرجح.

وإن كان المؤثر في العالم حادثا نقلنا الكلام إلى علة حدوثه ويلزم التسلسل أو الانتهاء إلى المؤثر القديم وهو محال لتخلف الأثر عنه وهذا المحال إنما نشأ من فرض حدوث العالم.

وقد أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة بوجوه : أحدها أن المؤثر التام قديم لكن الحدوث اختص بوقت الإحداث لانتفاء وقت قبله فالأوقات التي يطلب فيها الترجيح معدومة ولا يتمايز إلا في الوهم وأحكام الوهم في مثل ذلك غير مقبولة بل الزمان يبتدأ وجوده مع أول وجود العالم ولم يمكن وقوع ابتداء سائر الموجودات قبل ابتداء وجود الزمان أصلا.

الثاني أن المؤثر التام إنما يجب وجود أثره معه لو كان موجبا أما إذا كان مختارا فلا لأن المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح فالعالم قبل وجوده كان ممكن الوجود وكذا بعد وجوده لكن المؤثر المختار أراد إيجاده وقت وجوده دون ما قبله وما بعده لا لأمر.

الثالث أنه لم لا يجوز اختصاص بعض الأوقات بمصلحة تقتضي وجود العالم فيه بها دون ما قبل ذلك الوقت وبعده فالمؤثر التام وإن كان حاصلا في الأزل لكن لا يجب وجود العالم فيه تحصيلا لتلك المصلحة.

الرابع أن الله تعالى علم وجود العالم وقت وجوده وخلاف علمه محال فلم يمكن وجوده قبل وقت وجوده.

الخامس أن الله تعالى أراد إيجاد العالم وقت وجوده والإرادة مخصصة لذاتها.

السادس أن العالم محدث لما تقدم فيستحيل وجوده في الأزل لأن المحدث هو ما سبقه العدم والأزل ما لم يسبقه العدم والجمع بينهما محال ثم عارضوهم بالحادث اليومي فإنه معلول إما لقديم فيلزمه قدمه أو لحادث فيتسلسل.

قال : والمادة منفية.

أقول : هذا جواب عن الشبهة الثانية وتقريرها أنهم قالوا كل حادث فهو مسبوق

١٧٤

بإمكان وجوده وذلك الإمكان ليس أمرا عدميا وإلا فلا فرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفي ، ولا قدرة القادر لأنا نعللها به فهو مغاير ، وليس جوهرا لأنه نسبة وإضافة فهو عرض فمحله يكون سابقا عليه وهو المادة فتلك المادة إن كانت قديمة ويستحيل انفكاكها عن الصورة لزم قدم الصورة فيلزم قدم الجسم وإن كانت حادثة تسلسل.

والجواب قد بينا أن المادة منفية وقد سلف تحقيقه.

قال : والقبلية لا تستدعي الزمان وقد سبق تحقيقه.

أقول : هذا جواب عن الشبهة الثالثة وتقريرها أنهم قالوا كل حادث فإن عدمه سابق على وجوده وأقسام السبق منفية هنا إلا الزماني فكل حادث يستدعي سابقة الزمان عليه فالزمان إن كان حادثا لزم أن يكون زمانيا وهو محال وإن كان قديما وهو مقدار الحركة لزم قدمها لكن الحركة صفة للجسم فيلزم قدمه.

والجواب ما تقدم من أن السبق لا يستدعي الزمان وإلا لزم التسلسل.

قال :

١٧٥

الفصل الرابع

في الجواهر المجردة

أما العقل فلم يثبت دليل على امتناعه :

أقول : لما فرغ من البحث عن الجواهر المقارنة شرع في البحث عن الجواهر المجردة ولبعدها عن الحس أخرها عن البحث عن المقارنات وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى

في العقول المجردة

(واعلم) أن جماعة من المتكلمين نفوا هذه الجواهر واحتجوا بأنه لو كان هاهنا موجود ليس بجسم ولا جسماني لكان مشاركا لواجب الوجود في هذا الوصف فيكون مشاركا له في ذاته. وهذا الكلام سخيف لأن الاشتراك في الصفات السلبية لا يقتضي الاشتراك في الذوات فإن كل بسيطين يشتركان في سلب ما عداهما عنهما مع انتفاء الشركة بينهما في الذات ، بل الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي اشتراك الذوات لأن الأشياء المختلفة قد يلزمها لازم واحد فإذا ثبت ذلك لم يلزم من كون هذه الجواهر المجردة مشاركة للواجب تعالى في وصف التجرد وهو سلبي مشاركتها له في الحقيقة فلهذا لم يجزم المصنف ـ رحمه‌الله ـ بنفي هذه الجواهر المجردة.

قال : وأدلة وجوده مدخولة كقولهم الواحد لا يصدر عنه أمران ، ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده ، ولا لما انتفت صلاحية التأثير عنه لأن المؤثر هنا مختار.

١٧٦

أقول : لما بين انتفاء الجزم بعدم الجوهر المجرد الذي هو العقل شرع في بيان انتفاء الجزم بثبوته وذلك ببيان ضعف أدلة المثبتين.

واعلم أن أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أن المعلول الأول هو العقل الأول وهو موجود مجرد عن الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معا ثم إن ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك لتكثيره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة من ذاته ومن فاعله ، ثم يصدر عن العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير وهو المسمى بالعقل الفعال ، وإلى الفلك الأخير التاسع وهو فلك القمر.

واستدلوا على إثبات الجواهر المجردة التي هي العقول بوجوه :

الأول قالوا إن الله تعالى واحد فلا يكون علة للمتكثر فيكون الصادر عنه واحدا فلا يخلو إما أن يكون جسما أو مادة أو صورة أو نفسا أو عرضا أو عقلا والأقسام كلها باطلة سوى الأخير.

أما الأول : فلأن كل جسم مركب من المادة والصورة وقد بينا أن المعلول الأول يكون واحدا وإلى هذا القسم أشار بقوله الواحد لا يصدر عنه أمران.

وأما الثاني : فلأن المادة هي الجوهر القابل فلا تصلح للفاعلية لأن نسبة القبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفاعل نسبة الوجوب ويستحيل أن تكون نسبة الشيء الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب فإذا لم تصلح المادة للفاعلية لم تكن هي المعلول الأول السابق على غيره لأن المعلول الأول يجب أن يكون علة فاعلية لما بعده وإلى هذا القسم أشار بقوله ولا لما انتفت صلاحية التأثير عنه أي لا سبق للمادة التي لا تصلح أن تكون فاعلا وإذا لم تكن سابقة لم تكن هي المعلول الأول لما بينا أن المعلول الأول سابق على غيره من المعلولات.

وأما الثالث : فلأن الصورة مفتقرة في فاعليتها وتأثيرها إلى المادة لأنها إنما تؤثر إذا كانت موجودة مشخصة وإنما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادة فلو كانت الصورة هي المعلول الأول السابق على غيره لكانت مستغنية في عليتها عن المادة وهو محال فالحاصل أن الصورة محتاجة في وجودها الشخصي إلى المادة فلا تكون سابقة عليها وعلى غيرها من

١٧٧

الممكنات لاستحالة اشتراط السابق باللاحق ، وإلى هذا القسم أشار بقوله ولا سبق لمشروط أي الصورة باللاحق أي بالمادة في وجوده.

وأما الرابع : فلأن النفس إنما تفعل بواسطة البدن فلو كانت هي المعلول الأول لكانت علة لما بعدها من الأجسام فتكون مستغنية في فعلها عن البدن فلا تكون نفسا بل عقلا وهو محال فهي إذا مشروطة بأسرها بالأجسام فلو كانت سابقة عليها لكان السابق مشروطا باللاحق في تأثيره المستند إليه وهو محال ، وإلى هذا أشار بقوله ولا سبق لمشروط أي النفس باللاحق أي الجسم في تأثيره.

وأما الخامس : فلأن العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر فلو كان المعلول الأول عرضا لكان علة للجواهر كلها فيكون السابق مشروطا في وجوده باللاحق وهو باطل بالضرورة وإليه أشار بقوله ولا سبق لمشروط باللاحق في وجوده فالحاصل أن الصورة والعرض مشروطان بالمادة والجوهر فلا يكونان سابقين عليهما والنفس إنما تؤثر بواسطة الجسم فلا تكون متقدمة عليه تقدم العلة على المعلول وإلا استغنت في تأثيرها عنه.

إذا عرفت هذا الدليل فنقول بعد تسليم أصوله إنه إنما يلزم لو كان المؤثر موجبا ، أما إذا كان مختارا فلا فإن المختار تتعدد آثاره وأفعاله وسيأتي الدليل على أنه مختار.

قال : وقولهم : استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبه بالكامل إذ طلب الحاصل فعلا أو قوة يوجب الانقطاع ، وغير الممكن محال لتوقفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه ، وعلى حصر أقسام الطلب ، مع المنازعة في امتناع طلب المحال.

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول المجردة مع الجواب عنه.

وتقرير الدليل أن نقول حركات السموات إرادية لأنها مستديرة وكل حركة مستديرة إرادية لأن الحركة إما طبيعية أو قسرية والمستديرة لا تكون طبيعية لأن المطلوب بالطبع لا يكون متروكا بالطبع وكل جزء من المسافة في الحركة المستديرة فإن تركه بعينه هو التوجه إليه وإذا انتفت الطبيعة انتفت القسرية لأن القسر على خلاف الطبع وحيث

١٧٨

لا طبع فلا قسر فثبت أنها إرادية وكل حركة إرادية فإنها تستدعي مطلوبا ، ولأن العبث لا يدوم وذلك المطلوب يجب أن يستكمل الطالب به وإلا لم يتوجه بالطلب نحوه فإما أن يكون كمالا في نفسه أو لا والثاني محال وإلا لجاز انقطاع الحركة لأنه لا بد وأن يظهر لذلك الطالب أن ذلك المطلوب ليس بكمال في ذاته فيترك الطلب وإذا كان المطلوب كمالا حقيقيا فإما أن يحصل بالكلية وهو محال وإلا لوقفت الحركة فيجب أن يحصل على التعاقب ولما كانت كمالات الفلك حاضرة بأسرها سوى الوضع لأنه كامل في جوهره وباقي مقولاته غير الوضع فإن أوضاعه الممكنة ليست حاضرة بأسرها إذ لا وضع يحصل له إلا وهناك أوضاع لا نهاية لها معدومة عنه ولا يمكن حصولها دفعة فهي إنما تحصل على التعاقب ثم إن الفلك لما تصور كمال العقل وأنه لم يبق فيه شيء بالقوة إلا وقد خرج إلى الفعل اشتقاق إلى التشبه به في ذلك ليستخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل ولما تعذر ذلك دفعة استخرج كماله في أوضاعه على التعاقب فقد ظهر من هذا وجود عقل يتشبه به الفلك في حركته فإن كان واحدا لزم تشابه الحركات الفلكية في الجهات والسرعة والبطء وليس كذلك فيجب وجود عقول متكثرة بحسب تكثر الحركات في الجهة والسرعة والبطء.

لا يقال لم لا يتحرك لأجل نفع السافل أو لم لا يختلف في السرعة والبطء والجهة لذلك؟ لأنا نقول الفلكيات أشرف من هذا العالم ويستحيل أن يفعل العالي شيئا لأجل السافل وإلا لكان مستكملا به فالكامل مستكمل بالناقص هذا خلف فلا يمكن أن تكون الحركة في أصلها ولا في هيئتها لأجل نفع السافل فهذا تقرير الدليل.

والجواب أن هذا مبني على دوام الحركة ونحن قد بينا حدوث العالم فيجب انقطاعها فبطل هذا الدليل من أصله. وأيضا فهذا الدليل يتوقف على حصر أقسام الطلب والأقسام التي ذكروها ليست حاصرة ، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون الطلب لما يستحيل حصوله أو لما هو حاصل ولا شعور للطالب بذلك ونمنع وجوب الشعور بذلك ، ثم نقول لا نسلم أن الحركة الفلكية دورية فلم لا يتحرك على الاستقامة؟ سلمنا أنها دورية فلم لا تكون قسرية قوله انتفاء الطبع يقتضي انتفاء القسر ، قلنا ممنوع فإن حركة المحوي بالحاوي حركة قسرية وإن كانت بالعرض وهي دورية ، سلمنا لكن الحركة ليست مقصودة

١٧٩

بالذات بل إنما تراد لغيرها فلم حصرتم ذلك الغير في استخراج الأوضاع ولم لا يجوز أن تكون للفلك كمالات غير الأوضاع معدومة كالتعقلات المتجددة ، وأيضا فإنه على قدر خاص فباقي أنواع الكم عنه معدومة ، وكذا كثير من أنواع الكيف فلم أوجبتم الحركة في الوضع للتشبه باستخراج أنواع الأوضاع ولم توجبوا استخراج باقي الأعراض من الكم والكيف بل الأيون عنه معدومة مع استحالة حصولها له عندكم فلم لا يجوز مثله في الأوضاع سلمنا ذلك لكن لم أوجبتم وجود عقل يتشبه به الفلك ولم لا يقال إن خروج الأوضاع كمال مقصود له فيتحرك لطلبه من غير حاجة إلى متشبه به سلمنا لكن لم أحلتم نفع السافل وحديث الاستفادة مع أنه خطابي غير لازم وبالجملة فهذا الوجه ضعيف جدا

إذا عرفت هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب فقوله وقولهم يقرأ بالجر عطفا على قوله كقولهم. وقوله استدارة الحركة توجب الإرادة إشارة إلى ما نقلناه عنهم من أن الحركة المستديرة لا تكون إلا إرادية. (وقوله) المستلزمة للتشبه بالكامل إشارة إلى أن الغاية من الحركة ليس كمالا يحصل دفعة ولا يمتنع من الحصول بل هو التشبه الحاصل على التعاقب. وقوله إذ طلب الحاصل فعلا أو قوة يوجب الانقطاع ، إشارة إلى أن ذلك الكمال ليس حاصلا بالفعل وإلا لوقفت الحركة ولا بالقوة التي يمكن حصولها دفعة لذلك أيضا. وقوله وغير الممكن محال ، إشارة إلى أن الكمال إذا كان ممتنع الحصول استحال طلبه. وقوله لتوقفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه ، إشارة إلى بيان ضعف هذا الدليل فإنه مبني على دوام الحركة وقد بينا وجوب انقطاعه. (وقوله) وعلى حصر أقسام الطلب ، إشارة إلى اعتراض ثان وهو أن نمنع حصر أقسام الطلب في أنه إما أن يكون كمالا حاصلا أو ممتنع الحصول أو يحصل على التعاقب. وقوله مع المنازعة في امتناع طلب المحال ، إشارة إلى اعتراض آخر وهو أنا نمنع استحالة طلب المحال لجواز الجهل على الطالب.

قال : وقولهم لا علية بين المتضايفين وإلا لأمكن الممتنع أو علل الأقوى بالأضعف لمنع الامتناع الذاتي.

أقول : هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول وتقريره أن

١٨٠