كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ جعفر السبحاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

لهذا الاعتبار فليس هنا ماهية للجسم وراء كونه جسما وكذلك البواقي وهذه الماهيات تقتضي هذا الاعتبار وإن اختلفت مع اشتراكه وكذلك البحث في العرض فإنا نعقل الاشتراك بين الكم والكيف وباقي الأعراض في الحاجة إلى المحل والعرضية في الوجود وهذا المعنى أمر اعتباري فليست العرضية جنسا.

المسألة الثالثة

في نفي التضاد عن الجواهر

قال : ولا تضاد بين الجواهر ولا بينها وبين غيرها.

أقول : لما فرغ من تعريف الجوهر والعرض وبيان أنهما ليسا بجنسين شرع في باقي أحكامهما فبين انتفاء الضدية عن الجواهر على معنى أنه لا ضد للجوهر من الجواهر ولا من غيرها وبيانه أن الضد هو الذات الوجودية المعاقبة لذات أخرى وجودية في الموضوع مع كونها في غاية البعد عنها وقد بينا أن الجوهر لا موضوع له فلا يعقل فيه هذا المعنى لا بالنظر إلى جوهر آخر ولا بالنظر إلى غيره من الأعراض.

قال : والمعقول من الفناء العدم.

أقول : لما بين انتفاء الضد عن الجوهر أخذ يرد على أبي هاشم وأتباعه حيث جعلوا للجواهر أضدادا هي الفناء فقال إن المعقول من الفناء العدم وليس الفناء أمرا وجوديا يضاد الجوهر لأنه إما جوهر أو عرض والقسمان باطلان فلا تحقق له.

قال : وقد يطلق التضاد على البعض باعتبار آخر.

أقول : إن بعض الجواهر قد يطلق عليه أنه ضد للبعض الآخر لكن يؤخذ التضاد باعتبار آخر وهو التنافي في المحل مطلقا وحينئذ يكون بعض الصور الجوهرية يضاد البعض الآخر.

١٤١

المسألة الرابعة

في أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال

قال : ووحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال إلا مع التماثل بخلاف العكس.

أقول : المحل الواحد قد يحل فيه أكثر من حال واحد مع الاختلاف كالجسم الذي يحله السواد والحركة والحرارة ، وكالمادة التي تحل فيها الصور الجسمية والنوعية.

هذا مع الاختلاف أما مع التماثل فإنه لا يجوز أن يحل المثلان محلا واحدا لاستلزامه رفع الاثنينية لانتفاء الامتياز بالذاتيات واللوازم لاتفاقهما فيهما ، وبالعوارض لتساوي نسبتهما إليها.

فقد ظهر أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال إلا مع التماثل وأما العكس فإنه يستلزم فإن وحدة الحال تستلزم وحدة المحل لاستحالة حلول عرض واحد أو صورة واحدة في محلين وهو ضروري وكلام أبي هاشم في التأليف وبعض الأوائل في الإضافات خطأ.

قال : وأما الانقسام فغير مستلزم في الطرفين.

أقول : انقسام المحل لا يستلزم انقسام الحال فإن الوحدة والنقطة والإضافات كالأبوة والبنوة أعراض قائمة بمحال منقسمة وهي غير منقسمة أما الوحدة والنقطة فظاهر وكذا الإضافة فإنه لا يعقل حلول نصف الأبوة أو البنوة في نصف ذات الأب أو الابن.

وذهب قوم إلى أن انقسام المحل يقتضي انقسام الحال لاستحالة قيامه مع وحدته بكل واحد من الأجزاء وتوزيعه عليها وانتفاء حلوله فيها وأما الحال فإنه لا يقتضي انقسامه انقسام المحل فإن الحرارة والحركة إذا حلا محلا واحدا لم يقتض ذلك أن يكون بعض المحل حارا غير متحرك وبعضه متحركا غير حار.

واعلم أن الأعراض السارية إذا حلت محلا منقسما انقسمت بانقسامه والأعراض

١٤٢

المنقسمة بالمقدار لا بالحقائق إذا حلت محلا انقسم بانقسامها.

المسألة الخامسة

في استحالة انتقال الأعراض

قال : والموضوع من جملة المشخصات.

أقول : الحكم بامتناع انتقال الأعراض قريب من البين والدليل عليه أن العرض إن لم يتشخص لم يوجد فتشخصه ليس معلول ماهيته ولا لوازمها وإلا لكان نوعه في شخصه ، ولا ما يحل فيه وإلا لاكتفى بموجده ومشخصه عن موضوعه فيقوم بنفسه وهو محال فبقي أن يكون معلول محله فيستحيل انتقاله عنه وإلا لم يكن ذلك الشخص ذلك الشخص.

قال : وقد يفتقر الحال إلى محل متوسط.

أقول : الحال قد يحل الموضوع من غير واسطة كالحركة القائمة بالجسم وقد يفتقر إلى محل متوسط فيحل فيه ثم يحل ذلك المحل في الموضوع كالسرعة القائمة بالجسم فإنها تفتقر إلى حلولها في الحركة ثم تحل الحركة في الجسم.

المسألة السادسة

في نفي الجزء الذي لا يتجزى

قال : ولا وجود لوضعي لا يتجزى بالاستقلال.

أقول : هذه مسألة اختلف الناس فيها فذهب جماعة من المتكلمين والحكماء إلى أن الجسم مركب من أجزاء لا تتجزى فذهب بعضهم إلى تناهيها وبعضهم إلى عدمه ، وذهب الباقون إلى أن الجسم بسيط في نفسه متصل كاتصاله عند الحس لكنه يقبل الانقسام إما إلى ما يتناهى كما ذهب إليه من لا تحقيق له ، أو إلى ما لا يتناهى كما

١٤٣

ذهب إليه الحكماء.

وقد نفى المصنف ـ رحمه‌الله ـ الجزء الذي لا يتجزى بقوله لا وجود لوضعي لا يتجزى بالاستقلال وذلك لأن ما لا يتجزى من ذوات الأوضاع أعني الأشياء المشار إليها بالحس قد توجد لا بالاستقلال كوجود النقطة في طرف الخط أو مركز الدائرة ولا يمكن وجوده بالاستقلال وقد استدل عليه بوجوه :

قال : لحجب المتوسط.

أقول : هذا أحد الأدلة على نفي الجزء وتقريره أنا إذا فرضنا جوهرا متوسطا بين جوهرين فإما أن يحجبهما عن التماس أو لا والثاني باطل وإلا لزم التداخل ، والأول يوجب الانقسام لأن الطرف الملاقي لأحدهما مغاير للطرف الملاقي للآخر.

قال : ولحركة الموضوعين على طرفي المركب من ثلاثة.

أقول : هذا وجه ثان وتقريره أنا إذا فرضنا خطا مركبا من ثلاثة جواهر وعلى طرفيه جزءين ثم تحركا على السواء في السرعة والبطء والابتداء فلا بد وأن يتلاقيا وإنما يمكن بأن يكون نصف كل واحد منهما على نصف الطرف والنصف الآخر على نصف المتوسط فتنقسم الخمسة.

قال : أو من أربعة على التبادل.

أقول : هذا وجه ثالث وتقريره أنا إذا فرضنا خطا مركبا من أربعة جواهر وفوق أحد طرفيه جزء وتحت طرفه الآخر جزء وتحركا على التبادل كل منهما من أول الخط إلى آخره حركة على السواء في الابتداء والسرعة فإنهما لا يقطعان الخط إلا بعد المحاذاة فموضع المحاذاة إن كان هو الثاني أو الثالث كان أحدهما قد قطع أكثر فلا بد وأن يكون بينهما وذلك يقتضي انقسام الجميع.

١٤٤

قال : ويلزمهم ما يشهد الحس بكذبه من التفكك وسكون المتحرك وانتفاء الدائرة.

أقول : هذه وجوه أخرى تدل على نفي الجزء :

أحدها أن الحس يشهد بأن المتحرك على الاستدارة باق على وضعه ونسبة أجزائه ومع القول بالجزء يلزم التفكك لأن الجزء القريب من المنطقة إذا تحرك جزءا فإن تحرك القريب من القطب جزءا تساوي المداران وهو باطل بالضرورة ، وإن تحرك أقل من جزء لزم الانقسام ، وإن لم يتحرك أصلا لزم التفكك

الثاني أن السرعة والبطء كيفيتان قائمتان بالحركة لا باعتبار تخلل السكنات وعدمه لأنه لو كان بسبب تخلل السكنات لزم أن يكون فضل سكنات الفرس السائر من أول النهار إلى آخره خمسين فرسخا على حركاته بإزاء فضل حركات الشمس من أول النهار إلى آخره على حركات الفرس لكن فضل حركات الشمس أضعاف أضعاف حركات الفرس فتكون سكنات الفرس أضعاف أضعاف حركاته لكن الحس يكذب ذلك. إذا ثبت هذا فإذا تحرك السريع جزءا فإن تحرك البطيء جزءا تساويا هذا خلف ، وإن تحرك أقل لزم الانقسام وإن لم يتحرك أصلا لزم المحال. هذا ما خطر لنا الآن من تفسير قوله ـ رحمه‌الله ـ وسكون المتحرك

الثالث أن الدائرة موجودة بالحس فإن كانت حقيقية لزم إبطال الجزء لأن الدائرة القطبية إن تلاقت أجزاؤها بظواهرها وبواطنها ساوت الدائرة المنطقية هذا خلف ، وإن تلاقت ببواطنها خاصة لزم الانقسام ، وإن لم تكن حقيقية كان ذلك لارتفاع بعض أجزائها وانخفاض البعض الآخر لكن المنخفض إذا ملئ بالجزء ولم يفضل كانت الدائرة حقيقية ولزم ما ذكرنا وإلا لزم الانقسام.

قال : والنقطة عرض قائم بالمنقسم باعتبار التناهي.

أقول : هذا جواب عن حجة من أثبت الجزء وتقريرها أن النقطة موجودة لأنها نهاية الخط فإن كانت جوهرا فهو المطلوب ، وإن كانت عرضا فمحلها إن انقسم انقسمت لأن

١٤٥

الحال في أحد الجزءين مغاير للحال في الآخر ، وإن لم ينقسم فهو المطلوب.

والجواب أنها عرض قائم بالمنقسم ولا يلزم انقسامها لانقسام المحل لأن الحال في المنقسم باعتبار لحوق طبيعة أخرى به لا يلزم انقسامه بانقسام محله وهاهنا النقطة حلت في الخط المنقسم باعتبار عروض التناهي له.

قال : والحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم نفيها مطلقا.

أقول : هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الحركة موجودة بالضرورة وهي من الموجودات الغير القارة فإما أن يكون لها في الحال وجود أو لا والثاني باطل لأن الماضي والمستقبل معدومان فلو لم تكن في الحال موجودة لزم نفيها مطلقا وإذا كانت موجودة في الحال فإن كانت منقسمة كان أحد طرفيها سابقا على الآخر فلا يكون الحاضر كله حاضرا هذا خلف ، وإن لم تكن منقسمة كانت المسافة غير منقسمة لأنها لو انقسمت لانقسمت الحركة لأن الحركة في أحد الجزءين مغايرة للحركة في الجزء الآخر فتكون الحركة منقسمة مع أنا فرضناها غير منقسمة.

والجواب : أن الحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم من نفيها في الحال نفيها مطلقا لأن الماضي والمستقبل وإن كانا معدومين في الحال لكن كل منهما له وجود في حد نفسه.

قال : والآن لا تحقق له خارجا.

أقول : هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الآن موجود لانتفاء الماضي والمستقبل فإن كان الآن منتفيا كان الزمان منتفيا مطلقا ويستحيل انقسامه وإلا لزم أن يكون الحاضر بعضه فلا يكون الآن كله آنا هذا خلف ، وإذا كان موجودا فالحركة الواقعة فيه غير منقسمة وإلا لكان أحد طرفيها واقعا في زمان والآخر في زمان آخر فينقسم ما فرضناه غير منقسم هذا خلف ، ويلزم من عدم انقسام الحركة عدم انقسام المسافة على ما مر تقريره.

وتقرير الجواب : أن الماضي والمستقبل موجودان في حد أنفسهما معدومان في الآن

١٤٦

لا مطلقا والآن لا تحقق له في الخارج.

قال : ولو تركبت الحركة مما لا يتجزى لم تكن موجودة.

أقول : لما فرغ من النقض شرع في المعارضة فاستدل على أن الحركة لا تتركب مما لا يتجزى لأنها لو تركبت مما لا يتجزى لم تكن موجودة والتالي باطل اتفاقا فكذا المقدم بيان الشرطية أن الجزء إذا تحرك من حيز إلى حيز فإما أن يوصف بالحركة حال كونه في الحيز الأول وهو باطل لأنه حينئذ لم يأخذ في الحركة ، أو حال كونه في الحيز الثاني وهو باطل أيضا لأن الحركة حينئذ قد انتهت وانقطعت ولا واسطة بين الأول والثاني وهذا المحال نشأ من إثبات الجوهر الفرد لأنه على تقدير عدمه تثبت الواسطة.

ويمكن أن يقرر بيان الشرطية من وجه آخر وهو أن الحركة إما أن تكون عبارة عن المماسة الأولى أو الثانية وهما محالان لما مر أو مجموعهما وهو محال لانتفائه.

قال : والقائل بعدم تناهي الأجزاء يلزمه مع ما تقدم النقض بوجود المؤلف مما يتناهى ويفتقر في التعميم إلى التناسب.

أقول : لما فرغ من إبطال مذهب القائلين بالجوهر الفرد شرع في إبطال مذهب القائلين بعدم تناهي الأجزاء فعلا وقد استدل عليه بما تقدم فإن الأدلة التي ذكرناها تبطل الجوهر الفرد مطلقا سواء قيل بتركب الجسم من أفراد متناهية منه أو غير متناهية.

واستدل عليه أيضا بوجوه الأول : أنا نفرض أعدادا متناهية من الجواهر الأفراد ونؤلفها في جميع الأبعاد فإما أن يزيد مقدارها على مقدار الواحد أو لا والثاني باطل وإلا لم يكن تأليفها مفيدا للمقدار ولا للعدد وهو باطل قطعا ، وإن زاد مقدارها على مقدار الواحد حتى حصلت أبعاد ثلاثة حصل جسم من أجزاء متناهية وهو يبطل قولهم إن كل جسم متألف من أعداد غير متناهية فهذا معنى لزوم النقض بوجود المؤلف مما يتناهى. وأما قوله ويفتقر في التعميم إلى التناسب فمعناه أنا إذا أردنا تعميم القضية بأن نحكم بأنه لا شيء من الأجسام بمؤلف من أجزاء غير متناهية فطريقه أن ينسب هذا المؤلف الذي ألفناه من

١٤٧

الأجزاء المتناهية إلى بقية الأجسام فنقول كل جسم فإنه متناه في المقدار فله إلى هذا المؤلف نسبة وهي نسبة متناهي المقدار إلى متناهي المقدار لكنا نعلم أن المقدار يزيد بزيادة الأجزاء وينقص بنقصانها فنسبة المقدار إلى المقدار كنسبة الأجزاء إلى الأجزاء لكن نسبة المقدار إلى المقدار نسبة متناه إلى متناه فكذا نسبة الأجزاء إلى الأجزاء.

قال : ويلزم عدم لحوق السريع البطيء.

أقول : هذا هو الوجه الثاني الدال على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء وتقريره أن الجسم لو تركب من أجزاء غير متناهية لم يلحق السريع البطيء والتالي باطل بالضرورة فكذا المقدم ، بيان الشرطية أن البطيء إذا قطع مسافة ثم ابتدأ السريع وتحرك فإنه مع قطع تلك المسافة يكون البطيء قد قطع شيئا آخر فإذا قطعه السريع يقطع البطيء شيئا آخر وهكذا إلى ما لا يتناهى فلا يلحق السريع البطيء.

قال : وأن لا يقطع المسافة المتناهية في زمان متناه.

أقول : هذا وجه ثالث قريب من الوجه الثاني وتقريره أنا لو فرضنا الجسم يشتمل على ما لا يتناهى من الأجزاء لزم أن لا يقطع المتحرك المسافة المتناهية في زمان متناه لأنه لا يمكنه قطعها إلا بعد قطع نصفها ولا يمكنه قطع نصفها إلا بعد قطع ربعها وهكذا إلى ما لا يتناهى فيكون هناك أزمنة غير متناهية وقد تكلمنا على هذه الوجوه في كتاب الأسرار بما لم يسبقنا إليه أحد.

قال : والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل.

أقول : اعلم أن القائلين بعدم تناهي الأجزاء اعتذروا عن الوجه الأول بالتداخل فقالوا لا يلزم من عدم تناهي الأجزاء عدم تناهي المقدار لأن الأجزاء تتداخل فيصير جزءان وأزيد في حيز واحد وفي قدره فلا يلزم بقاء النسبة

واعتذروا عن الوجهين الأخيرين بالطفرة فإن المتحرك إذا قطع مسافة غير متناهية

١٤٨

الأجزاء في زمان متناه فإنه يطفر بعض تلك الأجزاء ويتحرك على البعض الآخر ، وكذلك السريع يطفر بعض الأجزاء ليلحق البطيء. وهذان العذران باطلان بالضرورة.

قال : والقسمة بأنواعها تحدث اثنينية يساوي طباع كل واحد منهما طباع المجموع.

أقول : يريد أن يبطل مذهب ذيمقراطيس في هذا الموضع وهو أن الجسم ينتهي في القسمة الانفكاكية إلى أجزاء قابلة للقسمة الوهمية لا الانفكاكية.

وبيانه أن القسمة بأنواعها الثلاثة أعني الانفكاكية والوهمية والتي باختلاف الأعراض الإضافية أو الحقيقية تحدث في المقسوم اثنينية تكون طبيعة كل واحد من القسمين مساوية لطبيعة المجموع ولطبيعة الخارج عنه وكل واحد من القسمين لما صح عليه الانفكاك عن صاحبه فكذلك كل واحد من قسمي القسمين إلى ما لا يتناهى.

قال : وامتناع الانفكاك لعارض لا يقتضي الامتناع الذاتي.

أقول : بعض الأجسام قد تمتنع عليها القسمة الانفكاكية لا بالنظر إلى ذاتها بل بالنظر إلى عارض خارج عن الحقيقة الجسمية إما لصغر المقسوم بحيث لا تتناوله الآلة القاسمة أو صلابته أو وصول صورة تقتضي ذلك كما في الفلك عندهم ولكن ذلك الامتناع لا يقتضي الامتناع الذاتي.

قال : فقد ثبت أن الجسم شيء واحد متصل يقبل الانقسام إلى ما لا يتناهى.

أقول : هذا نتيجة ما مضى لأنه قد بطل القول بتركب الجسم من الجواهر الأفراد سواء كانت متناهية أو غير متناهية فثبت أنه واحد في نفسه متصل لا مفاصل له بالفعل ولا شك في أنه يقبل الانقسام فإما أن يكون قابلا لما يتناهى من الأقسام لا غير وهو باطل لما تقدم في إبطال مذهب ذيمقراطيس ، أو لما لا يتناهى وهو المطلوب.

١٤٩

المسألة السابعة

في نفي الهيولى

قال : ولا يقتضي ذلك ثبوت مادة سوى الجسم لاستحالة التسلسل ووجود ما لا يتناهى.

أقول : يريد أن يبين أن الجسم البسيط لا جزء له وقد ذهب إلى ذلك جماعة من المتكلمين وأبو البركات البغدادي.

وقال أبو علي : إن الجسم مركب من الهيولى والصورة واحتج عليه بأن الجسم متصل في نفسه وقابل للانفصال ويستحيل أن يكون القابل هو الاتصال نفسه لأن الشيء لا يقبل عدمه فلا بد للاتصال من محل يقبل الانفصال والاتصال وذلك هو الهيولى والاتصال هو الصورة فاستدرك المصنف ـ رحمه‌الله ـ ذلك وقال : إن ذلك أي قبول الانقسام لا يقتضي ثبوت مادة كما قررناه في كلام أبي علي لأن الجسم المتصل له مادة واحدة فإذا قسمناه استحال أن تبقى المادة على وحدتها اتفاقا بل يحصل لكل جزء مادة ، فإن كانت مادة كل جزء حادثة بعد القسمة لزمه التسلسل لأن كل حادث عندهم لا بد له من مادة ، وإن كانت موجودة قبل القسمة لزم وجود مواد لا نهاية لها بحسب ما في الجسم من قبول الانقسامات التي لا تتناهى.

المسألة الثامنة

في إثبات المكان لكل جسم

قال : ولكل جسم مكان طبيعي يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق.

أقول : كل جسم على الإطلاق فإنه يفتقر إلى مكان يحل فيه لاستحالة وجود جسم مجرد عن كل الأمكنة ولا بد وأن يكون ذلك المكان طبيعيا له لأنا إذا جردنا الجسم عن

١٥٠

كل العوارض فإما أن لا يحل في شيء من الأمكنة وهو محال ، أو يحل في الجميع وهو أيضا باطل بالضرورة ، أو يحل في البعض فيكون ذلك البعض طبيعيا ولهذا إذا أخرج عن مكانه عاد إليه وإنما يرجع إليه على أقرب الطرق وهو الاستقامة.

قال : فلو تعدد انتفى.

أقول : يريد أن يبين أن المكان الطبيعي واحد لأنه لو كان لجسم واحد مكانان طبيعيان لكان إذا حصل في أحدهما كان تاركا للثاني بالطبع وكذا بالعكس فلا يكون واحد منهما طبيعيا له فلهذا قال فلو تعدد يعني الطبيعي انتفى ولم يكن له مكان طبيعي.

قال : ومكان المركب مكان الغالب أو ما اتفق وجوده فيه.

أقول : المركب إن تركب من جوهرين فإن تساويا وتمانعا وقف في الوسط بينهما وإلا تفرقا وإن غلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب ، وإن تركب من ثلاثة وغلب أحدها كان مكانه مكان الغالب وإلا كان في الوسط ، وإن تركب من أربعة متساوية حصل في الوسط أو ما اتفق وجوده فيه وإن غلب أحدها كان في مكانه ولا استمرار للمعتدل لسرعة انفعاله بالأمور الغريبة.

قال : وكذا الشكل والطبيعي منه الكرة.

أقول : قيل في تعريف الشكل أنه ما أحاط به حد واحد أو حدود وفي التحقيق أنه من الكيفيات المختصة بالكميات وهو هيئة إحاطة الحد الواحد أو الحدود بالجسم وهو طبيعي وقسري لأن كل جسم متناه على ما يأتي وكل متناه مشكل بالضرورة فإذا فرض خاليا عن جميع العوارض لم يكن له بد من شكل فيكون طبيعيا ولما كانت الطبيعة واحدة لم تقتض أمورا مختلفة ولا شكل أبسط من الاستدارة فيكون الشكل الطبيعي هو المستدير وباقي الأشكال قسري.

١٥١

المسألة التاسعة

في تحقيق ماهية المكان

قال : والمعقول من الأول البعد فإن الأمارات تساعد عليه.

أقول : الأول يعني به المكان لأنه قد تبين أن الجسم يقتضي بطبعه شيئين المكان والشكل ولما كان الشكل ظاهرا وكان طبيعيا ذكره بعقب المكان ثم عاد إلى تحقيق ماهية المكان وقد اختلف الناس فيه والذي عليه المحققون أمران أحدهما البعد المساوي لبعد المتمكن وهذا مذهب أفلاطون.

والثاني السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهو مذهب أرسطو وأبي علي بن سينا.

وقد اختار المصنف الأول وهو اختيار أبي البركات ومذهب المتكلمين قريب منه والدليل على ما اختاره المصنف أن المعقول من المكان إنما هو البعد فإنا إذا فرضنا الكوز خاليا من الماء تصورنا الأبعاد التي يحيط بها جرم الكوز بحيث إذا ملئ ماء شغلها الماء بجملتها ، والأمارات المشهورة في المكان من قولهم إنه ما يتمكن المتمكن فيه ويستقر عليه ويساويه وما يوصف بالخلو والامتلاء يساعد على أن المكان هو البعد.

قال : واعلم أن البعد منه ملاق للمادة وهو الحال في الجسم ويمانع مساويه ، ومنه مفارق تحل فيه الأجسام ويلاقيها بجملتها ويداخلها بحيث ينطبق على بعد المتمكن ويتحد به ولا امتناع لخلوه عن المادة.

أقول : لما فرغ من بيان ماهية المكان شرع في الجواب عن شبهة مقدرة تورد على كون المكان بعدا وهي أن المكان لو كان هو البعد لزم اجتماع البعدين والتالي محال فالمقدم مثله بيان الشرطية أن المتمكن له بعد فإن بقيا معا لزم الاجتماع والاتحاد إذ لا يزيد بعد الحاوي عند حلول المحوي ، وإن عدم أحدهما كان المعدوم حالا في الموجود أو بالعكس

١٥٢

وهما محالان. وأما بيان استحالة التالي فضروري لما تقدم من امتناع الاتحاد ، ولأن المعقول من البعد الشخصي إنما هو البعد الذي بين طرفي الحاوي فلو تشكك العقل في تعدده لزم السفسطة.

وتقرير الجواب أن البعد ينقسم إلى قسمين أحدهما بعد مقارن للمادة وحال فيها وهو البعد المقارن للجسم ، والثاني مفارق للمادة وهو الحاصل بين الأجسام المتباعدة والأول يمانع مساويه يعني البعد المقارن للمادة أيضا فلا يجامعه لاستحالة التداخل بين بعدين مقارنين والثاني لا يستحيل عليه مداخلة بعد مادي بل يداخله ويطابقه ويتحد به وهو محل الجسم المداخل بعده له فلا امتناع في هذه المداخلة والاتحاد لأن هذا البعد خال عن المادة.

قال : ولو كان المكان سطحا لتضادت الأحكام.

أقول : لما بين حقيقة المكان شرع في إبطال مذهب المخالفين القائلين بأن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي وتقرير البطلان أن المكان لو كان هو السطح لتضادت الأحكام الثابتة للجسم الواحد فإن الحجر الواقف في الماء والطير الواقف في الهواء يفارقان سطحا بعد سطح مع كونهما ساكنين ولو كان المكان هو السطح لكانا متحركين لأن الحركة هي مفارقة الجسم لمكان إلى مكان آخر ، ولكانت الشمس المتحركة الملازمة لسطحها ساكنة فيلزم سكون المتحرك وحركة الساكن وذلك تضاد في الأحكام محال.

قال : ولم يعم المكان.

أقول : هذا وجه ثان دال على بطلان القول بالسطح وتقريره أن العقلاء حكموا باحتياج كل جسم إلى مكان ولو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي لزم أحد الأمرين وهو إما عدم تناهي الأجسام حتى يكون كل جسم محاطا بغيره ، أو حصول جسم لا في مكان بأن يكون محيطا بجميع الأجسام والقسمان باطلان فالمقدم مثله.

١٥٣

المسألة العاشرة

في امتناع الخلاء

قال : وهذا المكان لا يصح عليه الخلو من شاغل وإلا لساوت حركة ذي المعاوق حركة عديمه عند فرض معاوق أقل بنسبة زمانيهما.

أقول : اختلف الناس في هذا المكان فذهب قوم إلى جواز الخلاء وذهب آخرون إلى امتناعه وهو اختيار المصنف واستدل عليه بأن الخلاء لو كان ثابتا لكانت الحركة مع العائق كالحركة مع عدم العائق والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله وبيان الشرطية أنا إذا فرضنا متحركا يقطع مسافة ما خالية في ساعة ثم نفرض تلك المسافة ممتلية فإن زمان الحركة يكون أطول لأن الملاء الموجود في المسافة معاوق المتحرك عن الحركة فلنفرضه يقطعها في ساعتين ، ثم نفرض ملاء آخر أرق من الأول على نسبة زمان الحركة في الخلاء إلى زمانها في الملاء وهو النصف فيكون معاوقته نصف المعاوقة الأولى فيتحركها المتحرك في ساعة لكن الملاء الرقيق معاوق أيضا فتكون الحركة مع المعاوق كالحركة بدونه وهو باطل.

المسألة الحادية عشرة

في البحث عن الجهة

قال : والجهة طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة.

أقول : لما بحث عن المكان وكانت الجهة ملائمة له حتى ظن أنهما واحد عقبه بالبحث عنها وهي على ما فسرها جماعة من الأوائل عبارة عن طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة وذلك لأنا نتوهم امتدادا آخذا من المشير ومنتهيا إلى المشار إليه فذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة.

١٥٤

قال : وليست منقسمة.

أقول : لما كانت الجهة عبارة عن الطرف لم تكن منقسمة لأن الطرف لو كان منقسما لم يكن الطرف كله طرفا بل متناهية فلا يكون الطرف طرفا هذا خلف ، ولأن المتحرك إذا وصل إلى المنتصف لم يخل إما أن يكون متحركا عن الجهة فلا يكون ما تخلف من الجهة أو يكون متحركا إليها فلا يكون المتروك من الجهة.

قال : وهي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها وبالإشارة.

أقول : الجهة ليست أمرا مجردا عن المواد وعلائقها بل هي من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسية وتقصد بالحركة وبالإشارة فتكون موجودة. وإنما قيد القصد بالحركة بقوله للحصول فيها لأن ما يقصد بالحركة قد يكون موجودا كالجهة فإنها تقصد بالحركة لأنها تقصد الحصول فيها ، وقد يكون معدوما كالبياض الذي يتحرك الجسم إليه من السواد فإنه معدوم وليس مقصودا بالحركة للحصول فيه بل لتحصيله.

قال : والطبيعي منها فوق وسفل وما عداهما غير متناه.

أقول : الجهة منها ما هو طبيعي وهو ثنتان لا غير : الفوق والسفل ، ومنها ما هو غير طبيعي وهو ما عداهما ونعني بالطبيعي ما يستحيل تغيره وانتقاله عن هيئته ، وبغير الطبيعي ما يمكن تغيره فإن القدام قد يصير خلفا وكذا اليمين قد يصير يسارا ، وأما الفوق والسفل فلا وهذه الجهات التي ليست طبيعية غير متناهية لأنها أطراف الخطوط المفروضة في الامتداد وتلك الخطوط غير متناهية.

١٥٥

الفصل الثاني

في الأجسام

قال : الفصل الثاني في الأجسام

وهي قسمان فلكية وعنصرية أما الفلكية فالكلية منها تسعة واحد غير مكوكب محيط بالجميع وتحته فلك الثوابت ، ثم أفلاك الكواكب السيارة السبعة ، وتشتمل على أفلاك تداوير وخارجة المراكز ، والمجموع أربعة وعشرون وتشتمل على سبعة متحيرة وألف ونيف وعشرين كوكبا ثوابت.

أقول : لما فرغ من البحث عن مطلق الجوهر شرع في البحث عن جزئياته وبدأ بالجسم لأنه أقرب إلى الحس وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى

في البحث عن الأجسام الفلكية

اعلم أن الأجسام تنقسم قسمين فلكية وعنصرية والأفلاك إما كلية تظهر منها حركة واحدة إما بسيطة أو مركبة وإما جزئية.

أما الكلية فتسعة واحد منها محيط بالجميع يسمى الفلك المحيط وهو غير مكوكب ويسمى الفلك الأطلس بهذا الاعتبار ، وتحته فلك الثوابت ويسمى فلك البروج يماس المحيط بمقعره محدب هذا الفلك وتحت هذا زحل وتحته المشتري وتحته المريخ وتحته الشمس وتحته الزهرة وتحته عطارد وتحته القمر يماس العالي بمقعره محدب السافل وهذه التسعة متوافقة المراكز وموافقة للأرض في مركزها.

ثم إن كل فلك من هذه الأفلاك السبعة ينفصل إلى أجسام كثيرة يقتضيه اختلاف حركات ذلك الكواكب في الطول والعرض والاستقامة والرجوع والسرعة والبطء والبعد

١٥٦

والقرب من الأرض فأثبتوا لكل كوكب فلكا ممثلا بفلك البروج مركزه مركز العالم يماس بمحدبه مقعر ما فوقه وبمقعره محدب ما تحته وهو فلكه الكلي المشتمل على سائر أفلاكه إلا القمر فإن ممثله محيط بآخر يسمى المائل.

وأثبتوا أيضا فلكا خارج المركز عن مركز الأرض ينفصل عن الممثل أو المائل يتماس محدباهما ومقعراهما على نقطتين يسمى الأبعد عن الأرض أوجا والأقرب منه حضيضا.

وأثبتوا فلكا آخر يسمى فلك التدوير غير محيط بالأرض بل هو في ثخن الخارج المركز يماس محدبه سطحيه على نقطتين تسمى الأبعد ذروة والأقرب إلى الأرض حضيضا في السبعة عدا الشمس فإنهم أثبتوا لها فلكا خارج المركز خاصة.

وأثبتوا لعطارد فلكين خارجي المركز يسمى أحدهما المدير والثاني الحامل فالمجموع مع الفلكين العظيمين أربعة وعشرون فلكا تشتمل سبعة أفلاك منها على خمسة كواكب متحيرة. وفلك البروج يحتوي على ألف ونيف وعشرين كوكبا ثابتة وكون الثوابت في فلك واحد غير معلوم وكذلك انحصار الأفلاك فيما ذكروه غير معلوم بل يجوز أن توجد أفلاك كثيرة إما وراء المحيط أو بين هذه الأفلاك وقول بعضهم إن أبعد بعد كل سافل مساو لأقرب قرب العالي باطل لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد ثخن فلك جوزهر القمر

قال : والكل بسائط.

أقول : ذهبوا إلى أن الفلك بسيط لأن كل مركب يتطرق إليه الانحلال والفلك لا يتطرق إليه الانحلال في هذه المدد المتطاولة فيكون بسيطا وهذا حكم واجب عندهم وممكن عندنا لأن الأجسام عندنا حادثة يمكن تطرق التغير إليها والانحلال.

قال : خالية من الكيفيات الفعلية والانفعالية ولوازمها.

أقول : هذا حكم آخر للأفلاك وهو أنها غير متصفة بالكيفيات الفعلية أعني الحرارة والبرودة وما ينسب إليهما ، ولا الكيفيات الانفعالية أعني الرطوبة واليبوسة وما ينسب

١٥٧

إليهما ، وغير متصفة بلوازمها أعني الثقل والخفة.

واستدلوا على ذلك بأن الأفلاك لو كانت حارة لكانت في غاية الحرارة والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أن الفاعل موجود في مادة بسيطة لا عائق لها فيجب حصول كمال الأثر ، وبيان بطلان التالي أن الهواء العالي أبرد من الهواء الملاصق لوجه الأرض.

وكذا لو اقتضت البرودة لبلغت الغاية فيها فكان يستولي الجمود على العناصر فما كان يتكون شيء من الحيوان.

ولقائل أن يقول لا يلزم من اقتضاء الحرارة حصول النهاية لأن الشديد والضعيف مختلفان بالنوع ولا يلزم من اقتضاء الماهية نوعا ما اقتضاؤها النوع الآخر ولهذا كان الهواء مقتضيا للسخونة ولم يقتض البالغ منها. ولا يصح الاعتذار بأن الرطوبة مانعة عن الكمال ، لأن الرطوبة إنما تمنع عن كمال السخونة إذا أخذت بمعنى البلة لا بمعنى الرقة واللطافة ولإمكان أن تكون الطبيعة الفلكية تقتضي ما يمنع عن الكمال ، ولأن الرطوبة إذا منعت عن كمال الحرارة كانت الطبيعة الواحدة تقتضي أمرين متنافيين إذا عرفت هذا فنقول لما انتفت الحرارة والبرودة انتفى لازمهما أعني الثقل والخفة.

قال : شفافة :

أقول : استدلوا على شفافية الأفلاك بوجهين : أحدهما أنها بسائط وهو منقوض بالقمر. والثاني أنها لا تحجب ما وراءها عن الأبصار فإنا نبصر الثوابت وهي في الفلك الثامن وهذا أيضا ظني لا يفيد اليقين لجواز أن يكون لها لون ضعيف غير حاجب كما في البلور.

المسألة الثانية

في البحث عن العناصر البسيطة

قال : وأما العناصر البسيطة فأربعة كرية النار والهواء والماء والأرض واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيات الفعلية والانفعالية.

١٥٨

أقول : لما فرغ من البحث عن الأجرام الفلكية شرع في البحث عن الأجسام العنصرية وهي إما بسيطة أو مركبة ولما كان البسيط جزءا من المركب وكان البحث عن الجزء متقدما على البحث عن الكل قدم البحث عن البسائط.

واعلم أن البسائط العنصرية أربعة وأقربها إلى الفلك النار ثم الهواء ثم الماء ثم الأرض ومركزها مركز العالم لأن النار حارة في الغاية فطلبت العلو ، والهواء حار لا في الغاية فطلب العلو فوق باقي العناصر والأرض أبرد العناصر فطلبت المركز.

وهذه الأربعة كرات منطبق بعضها على بعض لبساطتها ، ولأن خسوف القمر إذا اعتبر في وقت بعينه في بعض البلاد لم يوجد في البلد المخالف لذلك البلد في الطول في ذلك الوقت بعينه ، والسائر على خط من خطوط نصف النهار إلى الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي وبالعكس وهذا يدل على كرية الأرض ، والأغوار والأنجاد لا تؤثر في الكرية لصغرها بالنسبة إليها.

وأما الماء فلأن راكب البحر إذا قرب من جبل ظهرت له قلته أولا ثم أسفله ثانيا والبعد بينه وبين القلة أكثر مما بينه وبين الأسفل والسبب فيه منع حدبة الماء عن إبصار الأسفل وأما الباقيان فلما مر من بساطتهما وهي تقتضي الكرية.

وإنما استفيد عدد هذه العناصر وانحصارها في أربعة من مزاوجات الكيفيات الفعلية والانفعالية أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

قال : وكل منها ينقلب إلى الملاصق ، وإلى الغير بواسطة أو بوسائط.

أقول : هذه العناصر الأربعة كل واحد منها ينقلب إلى الآخر أما ابتداء كصيرورة النار هواء أو بواسطة واحدة كصيرورتها ماء بواسطة انقلابها هواء ثم انقلاب الهواء ماء ، أو بوسائط كصيرورتها أرضا بواسطة انقلابها هواء ثم ماء ثم أرضا والأصل فيه أن غالب الأمر انقلاب العنصر إلى ملاصقه كانقلاب النار هواء ابتداء ، وإلى البعيد بواسطة ويدل على انقلاب كل واحد منها إلى صاحبه ما يشاهد من صيرورة النار هواء عند الانطفاء وصيرورة الهواء نارا عند إلحاح النفخ وصيرورة الهواء ماء عند حصول البرد

١٥٩

في الجو وانعقاد السحاب الماطر من غير وصول بخار إليه ، وصيرورة الماء هواء عند إسخانه ، وصيرورة الماء أرضا كما يعقد أهل الحيل المياه الجارية أحجارا صلبة ، وصيرورة الأرض ماء كما يتخذون مياها حارة ويحلون فيها أجسادا صلبة حجرية حتى تصير مياها جارية.

قال : فالنار حارة يابسة شفافة متحركة بالتبعية لها طبقة واحدة وقوة على إحالة المركب إليها.

أقول : لما فرغ من الأحكام المشتركة بين العناصر شرع في البحث عن الكيفيات المختصة بكل عنصر عنصر وبدأ بالنار وذكر من أحكامها ستة :

الأول : أنها حارة والحس يدل على حرارة النار الموجودة عندنا ، وأما النار البسيطة التي هي الفلك الأثير فإنها كذلك لوجود الطبيعة خالية عن العائق ولبساطتها فإن الحرارة موجودة في النار التي عندنا مع امتزاجها بالضد فكيف بالنار الصرفة.

الثاني : أنها يابسة وهو معلوم بالحس أيضا إن عني باليبوسة ما لا يلتصق بغيره ، أما إن عني بها ما يعسر تشكله بالأشكال القريبة فالنار ليست يابسة بهذا المعنى.

الثالث : أنها شفافة وإلا لحجبت الثوابت عن الأبصار ، ولأن النار كلما كانت أقرب إلى الشفافية كانت أقوى كما في أصول الشعل.

الرابع : أنها متحركة بالتبعية وهو حكم ظني لأنهم لما رأوا الشهب متحركة حكموا بحركة كرة النار ثم طلبوا العلة فقالوا إن كل جزء من الفلك تعين مكانا لجزء من النار فإذا انتقل ذلك الجزء انتقل المتمكن فيه كالساكن في السفينة.

وهذا ضعيف لأن الشهب لا تتحرك إلى جهة واحدة بل قد يكون إلى الشمال تارة وإلى الجنوب أخرى وما ذكروه من العلة فهو بعيد وإلا لزم حركة كرة الهواء والماء والأرض مع أن الفلك بسيط لا جزء له ولو فرض له أجزاء لكانت متساوية فكيف يصح اختلافها في كون بعضها مكانا لبعض أجزاء النار البسيطة والبعض الآخر مكانا للآخر.

الخامس : أنها ذات طبقة واحدة وذلك لقوتها على إحالة ما يمازجها فلا يوجد في مكانها غيرها

١٦٠