شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

__________________

العاشر : دعوة الخليل للطيور : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) (البقرة : ٢٦٠).

الحادى عشر : دعاء إسرافيل بنفخ الصور يوم النشور لساكنى القبور : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٦) (القمر).

الثانى عشر : دعاء الخلق ربهم تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر : ٦٠).

فضل الدعاء

أما عن فضل الدعاء ووقته فنقول :

عن النعمان بن بشير رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (أبو داود والترمذي).

وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فتح له باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ، وما سئل الله تعالى شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية ، وإن الدعاء ينفع مما نزل ، ومما لم ينزل ، ولا يرد القضاء إلا الدعاء ، فعليكم بالدعاء» (الترمذي).

وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو صرف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» (الترمذي).

عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : من يدعونى فأستجب له ، من يسألنى فأعطيه ، من يستغفرنى فأغفر له» (الستة إلا النسائى).

عن أبى أمامة رضى الله عنه قال : قيل يا رسول الله : أى الدعاء أسمع؟ قال : «جوف الليل الآخر ، ودبر الصلوات المكتوبات» (الترمذي).

وعن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة» قيل : ما ذا نقول يا رسول الله؟ قال : «سلوا الله العافية فى الدنيا والآخرة» (الترمذي وأبو داود).

وعن سهل بن سعد رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثنتان لا تردان : الدعاء عند النداء ، وعند البأس ، حين يلحم بعضهم بعضا» أى فى قتال الأعداء (مالك ـ أبو داود).

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء» (مسلم ـ أبو داود).

٨١

__________________

وعنه رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فى إجابتهن :

دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده».

وعن ابن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب» (أبو داود ـ الترمذي).

أما عن هيئة الداعى فنقول :

عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تستروا الجدر ، ومن نظر فى كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر فى النار ، سلوا الله تعالى ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها ، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» (أبو داود).

وعن أنس رضى الله عنه قال : «رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه فى الدعاء حتى رأيت بياض إبطيه».

(البخارى)

وعن عمر رضى الله عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع يديه فى الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) (الترمذي).

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (الترمذي).

وعن سلمان الفارسى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربكم حييّ كريم ، يستحى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» (أبو داود ـ الترمذي).

كيفيّة الدعاء

وأما عن كيفية الدعاء فنقول :

عن فضالة بن عبيد رضى الله عنه قال : سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يدعو فى صلاته ولم يصلّ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «عجّل هذا» ثم دعاه فقال : «إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ليدع بعد بما شاء» (أخرجه أصحاب السنن).

وعن عمر رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلّى عليّ فلا تجعلونى كغمر الراكب (أى إذا ما أراده استعمله ، وإذا لم يرده تركه) ، صلوا عليّ أول الدعاء وأوسطه وآخره» (الترمذي).

٨٢

__________________

وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : كنت أصلي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر رضى الله عنهما معه ، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ، ثم بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم دعوت لنفسى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه ، سل تعطه».

فضيلة الدعاء

وأما عن فضيلة الدعاء فنقول :

قال الله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) (البقرة) وقال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (الأعراف : ٥٥) وقال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر : ٦٠).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقال : «الدعاء مخ العبادة» وقال : «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» وقال : «إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاث : إما ذنب يغفر له ، وإما خير يعجّل له ، وإما خير يدّخر له» وقال : «سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل ، وأفضل العبادة انتظار الفرج».

آداب الدعاء

أما عن آداب الدعاء فهى عشرة :

الأول : أن يترصد الداعى الأوقات الشريفة ، كيوم عرفة من السنة ، ورمضان من الشهور ، ويوم الجمعة من الأسبوع ، ووقت السحر من ساعات الليل.

الثانى : أن يغتنم الأحوال الشريفة ، كزحف الصفوف فى سبيل الله ، إذ عنده تفتح أبواب السماء ، وعند نزول الغيث (المطر) وعند إقامة الصلاة المكتوبة ، وأعقاب الصلوات المفروضة ، وبين الأذان والإقامة ، وحالة الصوم والسجود ، وعند إفطار الصائم.

الثالث : أن يدعو مستقبل القبلة ، ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه ، ويمسح بهما وجهه فى آخر الدعاء ، وينبغى أن يضم كفيه ويجعل بطونهما مما يلى وجهه ، وينبغى أن لا يرفع بصره إلى السماء ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم».

الرابع : خفض الصوت بين المخافتة والجهر ، كذا ورد الأثر عن عائشة رضى الله عنهما قالت فى ـ

٨٣

__________________

ـ قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠) (الإسراء) أى بدعائك.

الخامس : أن لا يتكلف السجع فى الدعاء ، فإن السجع تكلف ولا يناسب ذلك فى محل التضرع ، والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة.

السادس : التضرع والخشوع والرغبة والرهبة ، كما هو شأن الدعاء.

السابع : أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقل أحدكم إذا دعا : اللهم اغفر لى إن شئت ، اللهم ارحمنى إن شئت ، فإنه لا مكره له» وقال : «إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء» وقال : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله عزوجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل».

الثامن : أن يلح فى الدعاء ، ويكرره ثلاثا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعا دعا ثلاثا ، وينبغى أن لا يستبطئ الإجابة فيقول : قد دعوت فلم يستجب لى ، بل يقول : الحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات ، إذا تعرف الإجابة ، ومن أبطأ عنه الإجابة يقول : الحمد لله على كل حال.

التاسع : يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى ، ولا يبدأ بالسؤال ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفتح بقوله : «سبحان ربى العلى الأعلى الوهاب» وقال أبو سلمان الدارانى : من أراد أن يسأل حاجة فليبدأ بالصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يختم بالصلاة عليه ، فإن الله عزوجل يقبل الصلاتين ، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.

العاشر : وهو الأدب الباطن ، والأصل فى الإجابة أن يتوب عن الذنوب ، ويرد المظالم ، ويقبل على الله عزوجل بكنه الهمة ، فذلك هو السبب القريب فى الإجابة.

فائدة الدعاء

أما عن فائدة الدعاء فنقول :

إن من القضاء رد البلاء بالدعاء ، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة ، كما أن الترس سبب لرد السهم ، والماء سبب لخروج النبات من الأرض ، وكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان ، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان ، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله عزوجل أن لا يحمل السلاح ، وأن لا تسقى الأرض بعد إلقاء البذر ، فيقال : إن سبق القضاء ـ

٨٤

__________________

ـ بالنبات نبت ، بل الله تعالى ربط الأسباب بالمسببات ، ويقال له : القضاء الأول هو كلمح البصر ، والدليل على ذلك أنك تأكل حين تجوع ، وتشرب حين تعطش.

عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن ، وعماد الدين ، ونور السماوات والأرض» (الحاكم فى مستدركه على الصحيحين).

أما عن الإلحاح فى الدعاء فنقول :

إنه من أنفع الأدوية ، فقد روى ابن ماجه فى سننه من حديث أبى هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يسأل الله يغضب عليه» وفى مستدرك الحاكم من حديث أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجزعوا فى الدعاء ، فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد» وذكر الأوزاعى عن الزهرى عن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يحب الملحين فى الدعاء» وذكر الإمام أحمد فى الزهد عن قتادة قال : قال مورق : ما وجدت للمؤمن مثلا إلا رجلا فى البحر على خشبة ، فهو يدعو : يا رب يا رب ، لعل الله عزوجل أن ينجيه.

الآفات التى تمنع إجابة الدعاء

ومن الآفات التى تمنع ترتب أثر الدعاء عليه :

أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر (أى يتعب ويسأم) ويدع الدعاء ، وهو بمنزلة من بذر بذرا ، أو غرس غرسا ، فجعل يتعاهده ويسقيه ، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله ، وفى البخارى من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لى» وفى صحيح مسلم عنه «لا يزال يستجاب للعبد ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، ما لم يستعجل» قيل : يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال : «يقول قد دعوت وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لى ، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء» وفى مسند أحمد من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل» قالوا : يا رسول الله ، كيف يستعجل؟ قال : «يقول : قد دعوت ربى فلم يستجب لى».

والمدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع ، وإن لم يكن قد قدر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله.

٨٥

فأما قوله : (تَبارَكَ) فقد اختلفوا فيه ، فقال كثير من المفسرين : إنه بمعنى تعظم وتقدس ، وقال : الفراء : البركة التقدس والعظمة ، وقيل : إنه تفاعل من البركة ، والبركة النفع والزيادة ، وقوله تعالى فى قصة عيسى : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) (مريم : ٣١) فقيل : نفاعا للخلق ، وقال الزجاج : البركة الخير الكثير فى كل شيء ، وقال بعض أهل اللغة : إن أصله من المبروك ، يقال : برك الطير على الماء إذا دام ، ومبارك الإبل مواضعها التى تستقر عليها ، فكل آية احتملت وجوها وليس بينها تناف ولا تضاد ولا حصل الإجماع على أن المراد منها البعض دون البعض فهى على العموم ، وهذه الوجوه كلها صحيحه فى معنى قوله : (تَبارَكَ) ووجوه الثناء على الله سبحانه تنحصر فى ثلاثة أقسام :

__________________

المواضع التى يستجاب فيها الدعاء

أما عن المواضع التى يستجاب فيها الدعاء فيقول النووى : هى خمسة عشر موضعا : فى الطواف ، وفى الملتزم ، وتحت الميزاب ، وداخل الكعبة ، وخلف المقام ، وعند زمزم ، وعلى الصفا وعلى المروة ، وفى حال السعى ، وجميع منى عموما ، وعند الجمرات الثلاث خصوصا ، وفى عرفة ، وفى مزدلفة.

الذين يستجاب دعاؤهم

وأما عن الذين يستجاب دعاؤهم فهم : المضطر ، المظلوم مطلقا ، ولو كان فاجرا أو كافرا ، الوالد على ولده ، الإمام العادل ، الرجل الصالح ، الولد البار بوالديه ، المسافر ، الصائم حين يفطر ، المسلم حين يدعو لأخيه بظهر الغيب ، المسلم ، ما لم يدع بظلم أو قطيعة رحم ، التائب.

ساعة الجمعة التى يستجاب فيها الدعاء

وأما عن الساعة التى يستجاب فيها الدعاء فيقول ابن عبد ربه : الفضيل عن أبى حازم عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم أجمعوا أن الساعة التى يستجاب فيها الدعاء آخر ساعة من يوم الجمعة ، والله أعلى وأعلم.

٨٦

أحدها : الثناء عليه بذكر إحسانه وإنعامه.

والثانى : الثناء عليه بذكر استحقاقه لصفات ذاته.

والثالث : الثناء عليه بذكر وجوده على وصف لا يشاركه فيه موجود.

وهذه الآية تشتمل على هذه الوجوه ، فإنها إن كانت من البركة فهى فضله وإحسانه ، وذلك فعله ، وإن قلنا : إنه بمعنى تعظم ، فعظمته استحقاقه لصفات العلو والمجد كعلمه الشامل وإرادته النافذة وقدرته الماضية ، إلى سائر صفات ذاته ، وإن قلنا : إنه من بروك الطير على الماء فهو إخبار عن وجوده ، بشرط القدم ونعت البقاء والدوام.

وكل من ذكر الله سبحانه باسم من أسمائه وأثنى عليه بنعت من نعوته فإن من آداب ذلك أن يطالب نفسه بمقتضى ذلك الاسم وموجب ذلك الذكر ، فمن أثنى عليه بقوله : تبارك ، فمن الواجب أن يقوم بآداب هذا الخطاب ، فإن قلنا إنه من بروك الطير على الماء فهو إخبار عن وجوده بشرط البقاء ، فينبغى لهذا الذاكر إذا عرف وجود الحق سبحانه أن يصغر الخلق فى عينه.

وقد سئل بعضهم عن التوحيد فقال : هو أن تشهد للعالم وجودا بين طرفى عدم ، بمعنى أن الأغيار والرسوم والأطلال والأمثال والأشكال من العدم وجدت بقدرة خالقها ، وآثارها يستحيل عليها الدوام ، وما يصح لها البقاء منها فجواز العدم معها لأن بقاءها بإبقاء المبقى ، ولو قطع عنها البقاء لتلاشت ، وقد قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال بعض الناس : كل حي ميت إلا الله ، نظيره : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أى مات ، وقال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فإذا عرف العبد أن العالم بعرض الفناء لم يوطن إلا على كراهتها نفسه ، ولم يطلب فيها راحته وأنسه ،

٨٧

كيف لا وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سجن المؤمن» وقد قيل فى بعض الحكايات : عن جعفر الصادق أنه قال : من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق ، فقيل له : وما ذاك فقال : الراحة فى الدنيا ، وأنشدوا :

تطلب الراحة فى دار العنا

خاب من يطلب شيئا لا يكون

وقال غيره :

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

فإذا كان بهذا الوصف دخل عليه الزهد ، فإن من لم تتساو عنده الأخطار ولم يسقط عن قلبه للدنيا الوزن والمقدار ، لم يزل فى سجن حرصه وفى أسر نفسه ، وفى رق شهوته ، وفى ذل طمعه ، ومن استوت عنده الأخطار ، وصل إلى روح الحرية.

ولهذا قال مشايخ هذه الطريقة : من دخل الدنيا وهو عنها حر ، ارتحل إلى الآخرة وهو عنها حر ، ومن كانت بغيته من المطالبات ، فوق ما لا بد له من الضرورات فهو عن ربه محجوب.

وقد سئل الجنيد ، رحمه‌الله تعالى ، عمن خرج من الدنيا ولم يبق عليه إلا مص نواة فقال مستشهدا : «المكاتب (١) عبد ما بقى عليه درهم».

وحكى عن بنان الجمال أنه قال : كنت مطروحا على باب بنى شيبة سبعة أيام لم أذق شيئا فنوديت فى سرى أن من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى الله عين قلبه.

__________________

(١) وهو الّذي كاتبه سيده على مبلغ معين يدفعه على أقساط يشترى بها حريته.

٨٨

وكان الدقاق يقول : إن القلوب كانت متفرقة فى الدنيا فقبضها الله تعالى عنها بقوله: (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) (النساء : ٧٧) فلما تعلقت القلوب بالآخرة قطعها الله سبحانه عنها بقوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه : ٧٣).

وقال يحيى بن معاذ : الزاهد صيد الحق من الدنيا ، والعارف صيد الحق من الآخرة.

ولا غرو أن يزهد عارف بمن لم يزل فى حاصل بعد أن لم يكن إذا صفت همته عن كدورة أمنيته ، وتخلص سره عن وحشة حجبته ، وهذا المتنبى قال : من رأس دعواه على سبيل العادة من غير تحقيقه بمعنى ما قال ، وكل ما خلق الله وما لم يخلق محتقر فى همتى ، كشعرة فى مفرقى.

وأما من قال : «تبارك» أى تعظم فمن طالع عظمته ، وشاهد سلطانه ورفعته ، وتحقق علوه وعزته ، نسى صولته ، وترك سطوته ، فلا يدعى فى شيء أنه من حوله وقوته ، ولا يرى شيئا بقدرته واستطاعته ، واعتصم بعجزه وفاقته ، وفى معناه أنشدوا :

أذل فأعزز به من مذل

ومن طالب لدمى مستحل

إذا ما تعزز قابلته

بذل وذلك جهد المقل

فكنت لعزته خاضعا

ولو لا جلالته لم أذل

وقال بعض المشايخ : إذا عظم الرب فى القلب صغر الخلق فى العين ،

٨٩

وعلامة من صغر الخلق فى عينه رؤية الإفلاس ، والتحقق باليأس من الناس ، ولزوم الورع ، وقطع الطمع.

ووقف بعضهم على بعض عقلاء المجانين ، فقال : ألك حاجة؟ فقال : نعم ، قال: وما هى؟ قال : تزحزحنى عن النار وتدخلنى الجنة ، فقال : ذلك ليس إلى ، فقال : لم سألتنى عن حاجة لا تقدر على قضائها؟.

قال : وسئل بعضهم عن التصوف فقال : ذبح الأمانى بسكاكين اليأس ، فهاهنا يجد العبد العذر.

لهذا قال بعضهم : التصوف التكبر على أهل الدارين ثقة بالله تعالى.

وقال بعضهم لرابعة العدوية : إن فلانا صديقك يريد أن يواصيك بشيء من الدنيا ، فقالت : إن صديقنا فلان وفلان وكلنا عبيد ، ومن المحال أن الله يرزقهم ويتركنى.

٩٠

فصل

كيف تعظم ربك

وتعظيم العبد لربه على حسب كماله ومعرفته ، ولو كنت تعرف قدره لما كنت تترك أمره ، ولو تحققت اطلاعه عليك ، وقربه منك ، وسماعه لخطابك ، ورؤيته لأحوالك ، لما جعلته أهون الرائين إليك ، ولكن يستخفون من الناس ولا يستخفون الله وهو معهم ، وليس العجب من إخوة يوسف حيث باعوه بثمن بخس دراهم معدودة ، وإنما العجب ممن باع نصيبه من ربه بحظوظ هى فى الحقيقة مفقودة ، وإن كانت لذات ساعات بل لحظات موجودة إلا أنهم لو عرفوا قدر يوسف لما باعوه بثمن بخس ، ولكنهم وقعوا على ما صنعوا يوم وقفوا بين يديه فى مقام الخجلة ، وخروا له سجدا بدلا من التمكن على بساط الوصلة ، قال الله سبحانه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (يوسف : ١٠٠).

وهذا جزاء من لم يعرف قدر نسيبه (١) ، فما ظنك بجزاء من لم يعرف قدر حبيبه ، وقد حكى أن المهلب بن أبى صفرة مر يوما فى موكبه فطرق سمعه أن رجلا قال : ترون هذا لا يساوى أكثر من خمسمائة درهم ، فلما رجع المهلب إلى منزله بعث رجلا يعرف ذلك الرجل ، وبعث إليه معه خمسمائة درهم وقال : قل له هذه قيمتنا التى قومتنا بها ، ولو زدت زدناك ، فخجل الرجل من صنعه ، قال الله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) فمن رضى عنا بدنياه عجلنا له فيما هواه وأوصلنا إليه

__________________

(١) أى قريبه فى النسب كالأخ والأب.

٩١

منها مناه ، ولكن الفرقة قصاراه ، والنار مأواه ، والجحيم مثواه ، قال الله سبحانه : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى : ٢٠).

* * *

فصل

تبارك من البركة وكيفية التبرك بها

وأما من قال : إن معنى تبارك من البركة ، وهى النفع وفيضان الخير فينبغى أن يكون نفاعا لخلقه جيدا فى قومه مشفقا على عباده ، فإن رأس المعرفة تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله.

وقد قيل فى تفسير قوله تعالى فى قصة يوسف صلوات الله عليه : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : إنه كان يداوى المريض ويواسى الفقير ويجمع المساكين على الطعام ... إلى غير ذلك.

وليست الفتوة أن تحسن إلى من أحسن إليك لأن ذلك جزاء ومكافأة ، ولكن الفتوة أن تحسن إلى من أساء إليك بطيب نفس ، ولهذا أدب الله سبحانه وتعالى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال له : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف : ١٩٩) الآية ، ففى الخبر أنه سأل جبريل عليه‌السلام وقال : بما ذا أمرنى ربى؟ فقال له : يقول : صل من قطعك ، واعف عمن ظلمك ، وأعط من حرمك.

وحكى أن الحسن البصرى سرق له إزار فرئي الحسن وهو فى الطواف يقول : اللهم اغفر لسارق إزارى ، ومعناه أنه لم يرد أن يصيب أحدا مكروه بسببه بوجه من الوجوه (١).

٩٢

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» عفا عنهم ثم تشفع لهم ثم اعتذر عنهم.

ويجب أن يكون متبركا بخلق الله يطالعهم بعين الإضافة لا بعين الصورة.

وقد حكى أن شيخا من المشايخ اجتمع عنده مال لعمارة بعض الرباطات فمر به قوم من اللصوص فتشبهوا بزى الصالحين وأخفوا سلاحهم واستضافوه ، فلما قدم إليهم الطعام وغسلوا أيديهم وكانت له أننة (٢) زمنة فشربت واستعملت من ذلك الماء تبركا بالضيفان ، فشفاها الله تعالى فى الوقت ، فجاء الشيخ وتلطف بهم وقال : إنكم مباركون ... وقص عليهم القصة ، فوقع عليهم الندم وقالوا : إنا لغير هذا حضرنا ، ولكن بعد ما أحسن الله إلينا هذا الإحسان وأسبل علينا هذا الستر فقد تبنا.

__________________

(١) وحسن المجازاة له فى الدنيا والآخرة خير وأبقى.

(٢) هى التى يسمع لها صوت أنين بسبب المرض ، وكانت مريضة بمرض مزمن يدوم ويستمر.

٩٣

فصل

الفضل والإحسان من صاحب الفضل والإحسان

ويجب على من قال : إن معنى تبارك من البركة أن لا يرى الإحسان إلا من الله ويعرف أن الله تعالى إذا أعطى أسبغ ، وإذا نول مولى ، وإذا بذل أوسع.

وقد قيل : إن الكريم إذا صفح عن مجرم عفا عن كل من كان له سميّا ، وتجاوز عن كل من تعاطى مثل ما عفا عنه.

وقد حكى أن بعض أسخياء العرب كان جالسا فى أصحابه ففتح له بمملوك فقال : إن فى الخبر : «جلساؤكم شركاؤكم» فاستبشارى بهذا لا يجمل وتخصيص بعضكم به أيضا لا يحسن ، لأنكم كلكم إخوان ، وقسمته عليكم لا تمكن ، فعدهم فبلغوا ثمانين فأمر حتى اشترى لكل واحد منهم جارية أو غلاما.

وقد أنشدوا :

نحن فى المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر

وأما معنى قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) فمن قال إن الاسم هو المسمى فله فى الآية تعلق لأن الموصوف بأنه تبارك هو الله تعالى : ومن لم يقل : إن الاسم هو المسمى قال : إن الاسم هنا صلة.

وأما معنى قوله : (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فالإخبار عن الجلال يوجب محو العبد عن وصفه ، وسماع لإكرام يوجب محوه ، بشهود لطفه ، فقائل هذا اللفظ ومستمعه متردد بين عيش وبين طيش ، وبين سرور وبين ثبور ، وبين قبض وبين بسط.

وسنذكر إن شاء الله تعالى فى معناه قدر ما يوفق الله تعالى إليه إذا انتهينا إلى موضعه فى ترتيب الأسماء وبالله التوفيق.

٩٤

باب

فى معنى قوله تعالى

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١)

هذه السورة مكية بلا خلاف ومعنى التسبيح التنزيه وهو إبعاد الله عن السوء مما لا يليق بوصفه من الآفات والنقائص كذلك قال أهل التفسير وأهل اللغة ، وجاء لفظ التسبيح فى القرآن والمراد به الصلاة مثل قوله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور : ٤٨) (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (آل عمران : ٤١).

__________________

حقيقة الاسم والمسمى والتسمية

المشهور من قول أهل الحق رحمهم‌الله تعالى : أن الاسم نفس المسمى وغير التسمية ، وقالت المعتزلة : إنه غير التسمية وغير المسمى ، واختار الشيخ الغزالى رضى الله عنه أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متباينة.

واعلم أن القول بأن الاسم نفس المسمى أو غيره لا بد وأن يكون مسبوقا ببيان أن الاسم ما هو؟ وأن المسمى ما هو؟ وأن التسمية ما هى؟ فإن كل تصديق لا بد وأن يكون مسبوقا بتصور ماهية المحكوم عليه والمحكوم به.

فنقول : إن كان الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء بالوضع وكان المسمى عبارة عن نفس ذلك الشيء فالعلم الضرورى حاصل بأن الاسم غير المسمى ، وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء والمسمى أيضا ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء ، وهذا مما لا يمكن وقوع النزاع فيه بين العقلاء ، فثبت أن الخلاف الواقع فى هذه المسألة إنما كان بسبب أن التصديق ما كان بالتصور ، وهذا القدر كاف فى هذه المسألة.

وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية ، بل هاهنا دقيقة يمكن أن ـ

٩٥

__________________

ـ يحمل عليها قول من قال : الاسم نفس المسمى ، وهو أن العقلاء اتفقوا على أن لفظ الاسم اسم لكل ما يدل على معنى من غير أن يكون دالا على زمان معين ، ولا شك أن لفظ الاسم كذلك ، فليزم من هاتين المقدمتين أن يكون الاسم مسمى بالاسم ، فهاهنا الاسم والمسمى واحد قطعا ، إلا أن فيه إشكالا وهو : أن اسم الشيء مضاف إلى الشيء وإضافة الشيء إلى نفسه محال ، فامتنع كون الشيء الواحد اسما لنفسه ، فهذا حاصل التحقيق فى هذه المسألة. ولنرجع إلى الكلام المألوف فنقول : الّذي يدل على أن الاسم غير المسمى وجوه :

الحجة الأولى : أسماء الله تعالى كثيرة والمسمى ليس بكثير ، فالاسم غير المسمى ، إنما قلنا أسماء الله كثيرة لوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (الأعراف : ١٨٠).

وثانيها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعا وتسعين اسما».

وثالثها : قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) (طه).

وأما أن المسمى بهذه الأسماء ليس بكثير فهو متفق عليه.

فثبت أن الأسماء كثيرة وأن المسمى ليس بكثير ، وكانت الأسماء مغايرة للمسمى لا محالة.

فإن قيل : لا نسلم أن الأسماء كثيرة ، وما ذكرتم من القرآن والخبر محمول على كثرة التسميات لا على كثرة الأسماء ، سلمنا أن الأسماء كثيرة لكن لا نسلم أن المسمى واحد ، لأن المفهوم من الخالق حصول الخلق ، والمفهوم من الرازق حصول الرزق ، وبين المفهومين فرق.

والجواب عن الأول من وجوه :

أحدها : أن المذكور فى القرآن والخبر إثبات الأسماء الكثيرة ، إلا إذا بين الخصم أن التسمية غير المسمى ، وأن المراد من الأسماء المذكورة فى هذه النصوص التسمية ، لكن كل ذلك عدول عن الظاهر.

وثانيها : أن المفهوم من التسمية وضع الاسم للمسمى ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان وضع الاسم للمسمى عبارة عن وضع الشيء لنفسه ، وذلك غير معقول.

وثالثها : أن المعقول هاهنا أمور ثلاثة : ذات الشيء ، وهذه الألفاظ المخصوصة ، وجعل هذه الألفاظ المخصوصة معرفة لتلك المعانى المخصوصة بالوضع والاصطلاح ، أما ذات ـ

٩٦

__________________

ـ الشيء فهو المسمى ، فلو كان الاسم عبارة عن ذات الشيء لزم كون الشيء اسما لنفسه ، وذلك غير معقول.

وأما السؤال الثانى فجوابه أن الخالق ليس اسما للخلق ، بل للشىء الّذي يصدر عنه الخلق ، والرزاق ليس اسما للرزق بل للشىء الّذي يصدر عنه الرزق ، ثم من المعلوم أن الّذي صدر عنه الخلق والّذي صدر عنه الرزق شيء واحد ، فثبت أن المسمى بالخالق والرزاق شيء واحد.

الحجة الثانية : أنّا إذا قلنا : معدوم ومنفى وسلب واللاثبوت واللاتحقق ، فهاهنا الأسماء موجودة والمسميات معدومة ، فكان الاسم غير المسمى لا محالة.

الحجة الثالثة : أن أهل اللغة اتفقوا على أن الكلام جنس تحتها أنواع ثلاثة : الاسم والفعل والحرف ، فالاسم كلمة ، والكلمة هى الملفوظ بها ، وأما المسمى فهو ذات الشيء وحقيقته ، واللفظ والمعنى كل واحد منهما يوصف بما لا يوصف به الآخر ، فيقال فى اللفظ : إنه عرض وصوت وحالّ فى المحل وغير باق ومركب من حروف متعاقبة وإنه عربى وعبرانى ، ويقال فى المعنى : إنه جسم وقائم بالنفس وموصوف بالأعراض وباق ، فكيف يخطر ببال العاقل أن يقول : الاسم هو المسمى.

والحجة الرابعة : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (الأعراف : ١٨٠) أمرنا بأن يدعى الله تعالى بأسمائه ، والشيء الّذي يدعى مغاير للشىء الّذي يدعو ذلك المدعو به ، فوجب أن يكون الاسم غير المسمى.

والحجة الخامسة : أنه يقال : فلان وضع هذا الاسم لهذا الشيء ، فلو كان الاسم نفس المسمى لكان معناه أنه وضع ذلك الشيء لذلك الشيء ، وأنه محال.

وأما القول بأن التسمية ليس نفس الاسم فالذى يدل عليه أن التسمية عبارة عن جعل ذلك اللفظ المعين معرفا لماهية ذلك المسمى ، ووضع الاسم للمسمى مغاير لذات الاسم ، كما أن المفهوم من التحريك مغاير للمفهوم من نفس الحركة.

واحتج القائلون بأن الاسم نفس المسمى بوجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) (الأعلى) وقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) (الواقعة).

٩٧

__________________

وقوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) (الرحمن) ووجه الاستدلال أنه أمر بتسبيح اسم الله تعالى ، ودل العقل على أن المسبّح هو الله تعالى لا غيره ، وهذا يقتضي أن اسم الله تعالى هو هو لا غيره.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (يوسف : ٤٠) أخبر الله تعالى أنهم عبدوا الأسماء ، والقول ما عبدوا إلا تلك الذوات ، فهذا يدل على أن الاسم هو المسمى.

الحجة الثالثة : اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب أن لا يكون لله تعالى فى الأزل شيء من الأسماء ، إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

الحجة الرابعة : إذا قال القائل : محمد رسول الله ، فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد ، وذلك باطل قطعا ، وكذا قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١) (المسد) فلو كان اسم أبى لهب غير أبى لهب كان الموصوف بالمذمة غير أبى لهب ، وهكذا إذا كانت امرأة مسماة بحفصة فقال : حفصة طالق ، فبتقدير أن يكون الاسم غير المسمى كان قد أوقع الطلاق على غير حفصة ، فوجب أن لا يقع الطلاق على حفصة وذلك باطل.

الحجة الخامسة : التمسك بقول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وإنما أراد باسم السلام نفس السلام ، وهذا يقتضي أن يكون الاسم نفس المسمى.

الحجة السادسة : التمسك بقول سيبويه : الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، ومن المعلوم أن الأحداث التى هى المصادر صادرة عن المسميات لا عن الألفاظ ، فدل هذا على أن قوله : من لفظ أحداث الأسماء ، أى : من لفظ أحداث المسميات.

والجواب : أن الشروع فى الاستدلال لا بد وأن يكون مسبوقا بتصور ماهية الموضوع والمحمول ، فإن كان المراد من هذا الاستدلال أن اللفظ الدال على الشيء هو نفس ذلك الشيء ، فذلك باطل بالبديهة ، فالاستدلال فيه غير معقول مقبول ، وإن كان المراد من الاسم نفس ذلك الشيء ، ومن المسمى نفس ذلك الشيء ، فحينئذ يكون قولكم : الاسم نفس المسمى ، أى ذات الشيء هو نفس ذاته ، ومعلوم أن هذا مما لا حاجة فى إثباته إلى ـ

٩٨

__________________

ـ الدليل ، وإن كان المراد من قولكم : الاسم نفس المسمى مفهوما مغايرا لهذين المفهومين فلا بد من تلخيصه حتى يصير مورد الاستدلال معلوما.

ولنشرع الآن فى الجوابات المفصلة على الوجه المعتاد :

الجواب عن الأول من وجوه :

الوجه الأول : أن التمسك بقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وقوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) يدل على أن الاسم غير المسمى من وجوه :

الأول : أن قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) تصريح بإطلاق إضافة الاسم إلى الرب ، والأصل أن لا تجوز إضافة الشيء إلى نفسه.

والثانى : أن اسم الله سبحانه وتعالى لو كان هو ذات الرب لوجب أن لا يبقى فرق بين قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وبين قوله سبح اسم اسمك ، وقوله سبح ربك ربك ، ولما كان الفرق معلوما بالضرورة علمنا أن اسم الرب مغاير للرب.

والثالث : أن أصحابنا قالوا : السبيل إلى معرفة أسماء الله تعالى هو التوقيف لا العقل ، والسبيل إلى معرفة الرب هو العقل لا التوقيف ، وهذا يقتضي أن يكون الاسم غير المسمى.

فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية تدل على فساد مذهبهم من هذه الوجوه.

الوجه الثانى فى الجواب : أن نقول : للمفسرين فى قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وجهان :

أحدهما : أن المراد منه الأمر بتنزيه اسم الله وتقديسه.

والثانى : أن الاسم صلة ، والمراد منه الأمر بتسبيح ذات الله تعالى.

أما الطريق الأول فقد ذكروا فى تفسير تسبيح أسماء الله تعالى وجوها :

الأول : أن المراد منه : نزه اسم ربك عن أن تجعله اسما لغيره ، فيكون ذلك نهيا أن يدعى غير الله تعالى باسم من أسماء الله ، فإن المشركين كانوا يسمون الصنم باللات ، ومسيلمة برحمان اليمامة ، وكانوا يسمون أوثانهم آلهة ، قال الله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (سورة ص : ٥).

والثانى : أن المراد بتسبيح أسمائه أن لا تفسر تلك الأسماء بما لا يصح ثبوته فى حق الله سبحانه وتعالى ، نحو أن يفسر قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) (الأعلى) ـ

٩٩

__________________

ـ بالعلو المكانى ، ويفسر قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) (طه) بالاستقرار ، بل يفسر العلو بالقهر والاقتدار ، وكذا الاستواء يفسر بذلك.

الثالث : أن تصان أسماء الله تعالى عن الابتذال والذكر ، ولا تذكر إلا على وجه التعظيم ، ويدخل فى هذا الباب أن تذكر تلك الأسماء عند الغفلة ، وعدم الوقوف على حقائقها ومعانيها ورفع الصوت بها وعدم الخضوع والخشوع والتضرع عند ذكرها.

الرابع : أن يكون المراد بقوله سبحانه : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) (الواقعة) أى مجده بالأسماء التى أنزلتها إليك وعرفتك أنها أسماؤه ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (الإسراء : ١١٠) وعلى هذا التأويل فالمقصود من هذا أن لا يذكر الله إلا بالأسماء التى ورد التوقيف بها.

والخامس : أن يكون المراد من التسبيح الصلاة ، قال الله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١٧) (الروم) وكأنه قيل : صل باسم ربك لا كما يصلى المشركون بالمكاء والتصدية.

والسادس : قال أبو مسلم الأصفهانى : المراد من الاسم هنا الصفة وكذا فى قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فيكون المراد الأمر بتقديس صفات الله.

أما الطريق الثانى : وهو أن يقال : قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) معناه : سبح ربك وهو اختيار جمع من المفسرين ، قالوا : والفائدة فى ذكر الاسم أن المذكور إذا كان فى غاية العظمة والجلالة ، فإنه لا يذكر هو بل يذكر اسمه وحضرته وجنابه ، فيقال : سبح اسمه ومجد ذكره ، ويقال : سلام الله تعالى على المجلس العالى وعلى الحضرة العالية.

والكلام إذا ذكر على هذا الوجه كان ذلك أدل على تعظيم المذكور مما إذا لم يذكر كذلك وبيانه من وجوه:

أحدها : أنه إذا قيل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) فإنه يدل على أنه سبحانه أعظم وأجل من أن يقدر أحد من الخلق على تسبيحه وتقديسه ، بل الغاية القصوى للخلق أن يشتغلوا بتسبيح أسمائه ، ومعلوم أن هذا أدل على التعظيم من أن يقال سبح ربك.

وثانيها : أنه إذا قيل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وقيل : سلام الله على المجلس العالى ، فمعناه أنه بلغ فى استحقاق التسبيح إلى حيث إن اسمه يستحق التسبيح ، وبلغ فى استحقاق السلام ـ

١٠٠