شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

وقد حكى أن نبيا من الأنبياء عارضه سبع فى طريقه فلطمه النبي فلطم السبع ذلك النبي ، صلوات الله على نبينا وعليه ، فقال ذلك النبي : إلهى هذا كلبك وأنا نبيك وقد لطمنى ، فأوحى الله إليه لطمة بلطمة والبادى أظلم.

وحكى أن رجلا نظر فى الطواف إلى شخص فأصاب عينه سهم وهتف به هاتف : نظرت فبصر ظاهرك إلى محظور فقلعناه ، ولو نظرت بسرك إلى غيرنا لقطعناه.

سمعت الإمام أبا بكر بن فورك ، رحمه‌الله تعالى ، يحكى هذه الحكاية وقيل : أوحى الله إلى بعض الأنبياء : احذر أن تلقانى ولا عذر لك ، فمن عرف عظمته خشى نقمته ، كما أن من عرف كرمه أمل لطفه ونعمه.

ثم إن أكثر انتقام الله تعالى من عباده إنما يكون بتسليط من لا يعرفه عليهم بذاك ، وردت الآثار إذا عصانى من يعرفنى سلطت عليه من لا يعرفنى.

قيل : إن جماعة اجتمعوا على نبى من الأنبياء ، فقالوا : ما علامة رضا الله عن الخلق؟ فأوحى الله إليه : قل لهم : إن علامة رضائى عنهم أن أولى أمورهم خيارهم ، وعلامة غضبى أن أولى أمورهم شرارهم.

وقيل : إن الله تعالى ينتقم من الظالم بالظالم ، يسلط بعضهم على بعض ، فانتقامه تعالى على قسمين : معجل ومؤجل ، فالعارفون يخشون مفاجآت النقمة وبغتات العقوبات والمحنة.

قالت ابنة الربيع بن خثيم لأبيها : يا أبت ، ما لك لا تنام بالليل؟ فقال : إن أباك يخاف البيات.

وقيل : من خاف البيات لم يأخذه السبات ، وربما يظل البلاء قوما فينبههم الله للاعتذار ويوفقهم للتوبة قبل حلول النقمة ، فيكشف عنهم الضر والبأس كما

٣٦١

فعل بقوم يونس ، عليه‌السلام ، لما غشيهم العذاب وطلبوا يونس ففقدوه ورجعوا إلى الله عزوجل بصدق الضرورة قبل منهم العذر وكشف عنهم الضر ، قال عز من قائل : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١).

حكى أن رجلا من بنى إسرائيل بلغ رتبة الصديقين ، فذبح يوما عجلا بين يدى أمه فأسقطه الله عن مقامه وسلبه قلبه ، فكان يهيم على وجهه يهزأ منه الصبيان ، فمر يوما فى هيمانه بفراخ طير قد وقعن من العش وقد غاب الطير فرحمهن فردهن إلى العش ، فلما عاد الطائر شكر إليه الفراخ فشكر الطائر الله تعالى فرد الله سبحانه إلى ذلك الرجل قلبه وأعاد وقته وبلغه رتبة الأنبياء وجعله نبيا.

ويروى عن أبى الدرداء أنه قال : إن العبد يكون له وقت طيب فيأمر الله جل جلاله جبريل عليه‌السلام أن يرفع ذلك عن قلبه ، فإن صاح العبد إلى الله تعالى بالدعاء والرغبة رده إليه وزاده ، وإن لم يبال به لم يصل إلى ذلك أبدا ، وكان ذلك منه نقمة ، وقد يكون العبد يستجير بربه عقب زلته بلا فصل فتتداركه الرحمة قبل حلول النقمة فيؤويه إلى كشف ستره ويعجل له المغفرة بلطيف بره.

يحكى أن بعض الأنبياء سرق له حمار فقال : إلهى نبيك سرق حماره ، فاطلعنى عليه ، فأوحى الله إليه أن ذلك الرجل الّذي سرق حمارك سألنى أن أستره وأنا لا أريد رده ولا ردك ، فخذ منى حمارا آخر حتى لا يفتضح ذلك الرجل ، أعاذنا الله من أليم نقمته ، وأكرمنا بجميل رحمته بجوده ومنته.

__________________

(١) يونس : ٩٨.

٣٦٢

باب

فى معنى اسمه تعالى

٨٠ ـ العفو (١)

جل جلاله

العفو اسم من أسمائه تعالى ورد به النص ، وهو مبالغة من العافى والعفو له معنيان :

أحدهما : الفضل ، ومنه قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢) يعنى ما فضل من أموالهم ، ومنه إعفاء اللحية ، وعفا مال فلان إذا كثر ، فالعفوّ على هذا الاشتقاق الّذي يعطى الكثير ويهب الفضل الجزيل.

والمعنى الثانى : العفو بمعنى المحو والإزالة ، يقال : عفت الرياح الآثار إذا أزلتها.

فالعفو فى وصفه تعالى على هذا التأويل إزالة آثار الأجرام بجميل المغفرة ، فالله سبحانه يعفو عن العباد إجرامهم وذنوبهم فيزيل أحكامها ، كما قال تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (٣) قيل : يمحو الذنوب من ديوان الحفظة وينسيها من قلوبهم وقلوب المذنبين.

__________________

(١) العفو : هو الّذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصى ، وهو قريب من الغفور ولكنه أبلغ منه ، فإن الغفران ينبئ عن الستر ، والعفو ينبئ عن المحو ، والمحو أبلغ من الستر.

(٢) البقرة : ٢١٩.

(٣) الرعد : ٣٩.

٣٦٣

وقال بعضهم : لما كتبت الحفظة على العباد المعاصى قال الله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) لئلا تقطع الملائكة بعصيانك لتجويزهم أن يكون قد عفا عنك.

وفى بعض الحكايات أنه كان شيخ سوء صاحب لهو فمات ، فرئى فى المنام ، فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : أقامنى وقال لى : لو لا أنى أستحي من شيبتك لعذبتك.

وروى عن بعض العلماء ، وكان كبيرا فى شأنه قال : قلت فى آخر مجلسى يوما : اللهم اغفر لأقسانا قلبا وأجمدنا عينا وأقربنا بالمعاصي عهدا ، وقال : وكان فى بلدنا محب معروف وقف على حلقتى فقال : أعد هذا الدعاء ثانيا فأنا أقساكم قلبا وأجمدكم عينا وأقربكم بالمعاصي عهدا ، فادع الله لى حتى يتوب عليّ ، قال : فرأيت الليلة الثانية فى المنام رب العزة يقول : سرنى حيث أوقعت الصلح بينى وبين عبدى ، وقد غفرت لك وله ولأهل مجلسك.

وقيل : إن رجلا من الصالحين قال يوما لرجل : والله لا يغفر الله لفلان ، قال : فأوحى الله سبحانه إلى نبى ذلك الزمان أن قل لفلان : قد غفرت له وأحبطت عمل ذلك الرجل.

وقيل : كان بعبادان رجل مشهور بالخير ، وكانت له امرأة صالحة ، وكان لهما ابن فاسق لا يدع شيئا من المعاصى ، وكان لا يقبل نصيحتهما ، فمرض فلم يعده أبواه ، فأرسل إليهما ، فقالا له : سحقا لك وبعدا ، فإنك لم ترع حق الله تعالى ، فقال لأمه : لو كان إليك أمرى ما ذا كنت تعملين مكانى؟ فقالت : كنت أتجاوز عنك ، فقال لها : إن ربى أرحم منك ، فمات فأظهر أبواه السرور بموته وقالا : إن الله سبحانه قد خلّصنا منه ، ثم قالت والدته للأب : ائذن لى الليلة حتى لا نوقد السراج ونصلى ونبكى على ولدنا إن كان من أهل النار ،

٣٦٤

ففعلا ، فرأت أمه فى المنام كأن قائلا يقول لها : إن الله سبحانه قد غفر لولدكما بحسن عزائكما ، روى كعب بن عجرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه يوما فقال : ما تقولون فى رجل قتل فى سبيل الله؟ فقالوا ، الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك فى الجنة ، قال : فما تقولون فى رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا : لا نعلم منه إلا خيرا؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك فى الجنة ، قال : فما تقولون فى رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا : لا نعلم فيه خيرا؟ فقالوا : ذلك فى النار ، قال : بئس ما قلتم ، عبد مذنب ورب غفور.

وأما قوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (١) فقيل : معناه خذ ما صفا من الإخلاص ، وقيل : معناه خذ العفو والفضل والمحاسن من الأخلاق ، فاعف عمن ظلمك ، وأحسن إلى من أساء إليك ، وصل من قطعك ، وتجاوز عمن يذنب ولا يحسن مكانك ، وآت من آثر حرمانك.

ومن عرف أنه سبحانه عفوّ طلب عفوه ، ومن طلب عفوه تجاوز عن خلقه ، فإن الله سبحانه بذلك أدبهم وإليه ندبهم ، فقال عز من قائل : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (٢) وأن الكريم إذا عفا حفظ قلب المسيء عن الاستيحاش بتذكيره سوء فعله ، بل يزيل عنه ذلك الخجل بما يسبل عليه من ثوب العفو ويفيض عليه من ذيول الصفح ، كما يحكى عن قيس بن عاصم المنقرى أنه عثر مملوك له وبيده شيء مشوى على سفود فوقع على ولد له صغير فمات ، فقال قيس بن عاصم له : اذهب فأنت حر ، يريد بذلك صيانته عن استشعار الخجل.

واعلم أن عفو الله تعالى عن العباد ليس مما يستقصى بالعبارات كنه معانيه ، وفيما ذكرناه كفاية وبالله التوفيق.

__________________

(١) الأعراف : ١٩٩.

(٢) النور : ٢٢.

٣٦٥

باب

فى معنى اسمه تعالى

٨١ ـ الرءوف (١)

جل جلاله

الرءوف : اسم من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه وتعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢) والرأفة شدة الرحمة ، يقال : رأف يرأف رأفة ، على وزن فعلة ، ورآفة على وزن فعالة ، ورؤف يرؤف على وزن عظم يعظم ، فهو رؤف على وزن فعل ، ورءوف على وزن فعول أولى لأن فى صفاته على وزن فعول كثير كشكور وغفور ، وقد مضى القول فى معنى وصفه بالرحمة فيما تقدم ، وذكرنا أن معنى الرحمة فى الحقيقة إرادة النعمة ، ثم تسمى النعمة رحمة على المجاز.

ورحمة الله تعالى لعباده إرادته الإحسان إليهم ، وليس ذلك شرطا عليه ، والله تعالى أرحم بعباده من كل أحد ، ورحمته سبحانه فى الدنيا عامة للبر والفاجر ، وهى فى الآخرة للمؤمنين خاصة.

وفى بعض الروايات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى بعض الأسفار فمر بامرأة

__________________

(١) الرءوف : هو المتعطف على المذنبين بالتوبة ، وعلى الأولياء بالعصمة ، وقيل : هو الّذي جاد بلطفه ، ومنّ بتعطفه ، وقيل : هو الّذي ستر ما رأى من العيوب ، ثم عفا عما ستر من الذنوب ، وقيل : هو الّذي صان أولياءه عن ملاحظة الأشكال ، وكفاهم بفضله مئونة الأشغال.

(٢) البقرة : ٢٠٧.

٣٦٦

تخبز ومعها صبى لها ، فقيل لها : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر ، فجاءته وقالت : يا رسول الله ، بلغنى أنك قلت : إن الله سبحانه أرحم بعباده من الأم الشفيقة بولدها ، أفهو كما قيل لى؟ فقال : نعم ، فقالت : إن الأم لا تلقى ولدها فى هذا التنور ، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن الله لا يعذب إلا من أنف أن يقول لا إله إلا الله ، ومن رحمته سبحانه بعباده أن يصونهم عن موجبات عقوبته ، فإن عصمته عن الزلة أبلغ فى باب الرحمة من غفران المعصية ، وربما يرحم عباده بما يكون فى الظاهر مشقة وشدة ، وهو فى الحقيقة نعمة ورحمة.

وقد روى فى بعض الأخبار أن العبد يدعو الله تعالى فيقول الله سبحانه : يا جبريل ، قد قضيت حاجة عبدى ، وقد أجبت دعاءه ، ولكن احبس عنه حاجته فإنى أحب أن أسمع صوته ، وكم من عبد يرحمه الخلق لما به من الضر والفاقة وسوء الحالة ، وهو فى الحقيقة فى غاية الرحمة تغبطه الملائكة فى حالته ، والناس يرقون له لظاهر محنته.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : مات فقير فكنت أغسله ، فرأيت فى عنقه بين الجلد واللحم طوبى لك يا غريب ، وكم من عبد يظهر عليه اليوم آثار زلته وهو فى سابق علمه بل رحمته وحكمه من خواص عباده.

يحكى عن بعضهم أنه قال : كان فى جيرانى إنسان شرير فمات فرفعت جنازته فتنحيت عن الطريق لئلا أحتاج إلى الصلاة عليه فرئي فى المنام على حالة حسنة ، وكان اسم هذا العبد أيوب ، فقال له هذه الرائى : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لى وقال لى : قل لأيوب : (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١).

__________________

(١) الإسراء : ١٠٠.

٣٦٧

وفى بعض الكتب أن نبيا من الأنبياء شكا إلى الله الجوع والعرى والقمل فأوحى الله تعالى إليه : ما تعرف ما فعلت بك ، سددت عنك باب الشكر وفتحت عليك الصبر ، ومن رحمته بعباده أن يصونهم عن ملاحظة الأغيار والأطلال ، ورفع الحوائج إلى الأمثال والأشكال بصدق الرجوع إلى الملك الجبار ، وحسن الاستغناء به فى جميع الأحوال.

وقد حكى عن بعضهم أنه قيل له : سل حاجتك فقال : من وضع قدمه على بساط المعرفة لا يحسن أن يكون لغير الله عليه منة.

وقال رجل لواحد منهم : ألك حاجة؟ فقال : لا حاجة لى إلى من لا يعلم حاجتى.

وقيل لممشاد الدينورى : ألا تجيء معنا إلى باب السلطان ، فإن الشيوخ مجتمعون هناك ليسعوا فى شأن فلان ، فقال : وما الّذي يمنعكم عن باب الله تعالى ، إنما يحضر الموتى باب الموتى ، ونحن نحضر باب الملك الجبار ، وأن الله تعالى ربما يدنى العبد من المحنة ثم يمن عليه بعد يأسه ، بفتح باب الرحمة» قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) (١) وإذا كانت الحسنى بعد اليأس كانت أوجب للسرور والاستئناس.

يحكى عن بعض الصالحين أنه قال : رأيت بعضهم فى المنام فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال : وزنت حسناتى وسيئاتى فرجحت سيئاتى على حسناتى ، فجاءت صرة من السماء وسقطت فى كفة الحسنات فرجحت ، فحلت الصرة فإذا فيها كف تراب ألقيته فى قبر مسلم.

هكذا تحيط بالعبد جهات البلاء فتكشف عنه بأدنى حسنة وأقل طاعة ، فضلا منه سبحانه ورحمة.

__________________

(١) الشورى : ٢٨.

٣٦٨

باب (١)

فى معنى اسمه تعالى

٨٢ ـ ذى الجلال والإكرام (٢)

جل جلاله

مضى الكلام فى معنى جل جلاله فيما تقدم وأنه بمعنى استحقاقه الرفعة وصفات التعالى ، ومن عرف جلاله تذلل وتواضع له.

جاء فى بعض الروايات أن لله ملائكة مذ خلقهم لا يفترون عن البكاء ولا تقطر من دموعهم قطرة إلا ويخلق الله تعالى منها ملكا لا يرفعون لنا رءوسهم إلى يوم القيامة من هيبة الله سبحانه ، فإذا كان يوم القيامة يقولون : ما عبدناك حق عبادتك.

وقيل : إن من جملة حملة العرش ملائكة صورتهم كصورة العجل فمذ عبد بنو إسرائيل العجل وضعوا أيديهم على وجوههم حياء من الله تعالى.

وقيل : الإجلال أن ترى ما دونه بعين الإقلال.

يحكى عن ابن الجلاء أنه قال : كنت راكبا جملا مرة فقلت : جل الله ،

__________________

(١) لم يذكر المؤلف اسمه تعالى : مالك الملك ، الّذي هو قبل «ذى الجلال والإكرام» ومعنى مالك الملك : هو الّذي ينفذ مشيئته فى مملكته كيف يشاء ، وكما شاء ، إيجادا وإعداما ، وإبقاء وإفناء.

(٢) ذو الجلال والإكرام : هو الّذي لا جلال ولا كمال إلا وهو له ، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهى صادرة منه ، فالجلال له فى ذاته ، والكرامة فائضة منه على خلقه ، وفنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر ولا تتناهى ، وعليه دل قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (الإسراء : ٧٠).

٣٦٩

فسمعت الجمل يقول بلسان فصيح : جل الله ، وليس جلاله بأنصار يعينونه ولا بأشكال ينصرونه ولا برسوم وأطلال وأجلال وأفعال ، ولا سلف ولا خلف ولا نسب أو سبب أو استظهار بنشب ، وإنما جلاله وكبرياؤه وعلوه وبهاؤه كونه بالوصف الّذي يحق له العز.

وأما الإكرام فقريب من معنى الإنعام ، إلا أنه أخص لأنه ينعم على من لا يقال أكرمه ، ولكن لا يكرم إلا من يقال : أنعم عليه ، وإكرامه للعبد يكون فى الدنيا معجلا وفى الآخرة مؤجلا ، فقد يربى عبدا برحمته ويتولى جميع أمره بفضله ومنته من أول أمره إلى آخر عمره ، أما ترى كيف أكرم موسى عليه‌السلام حيث سلمته إليه أمه كيف رباه فى حجر عدوه ، وكيف صرف عنه كيده؟ أسلمته إلى البحر متوكلة على الله بالغداة فرده إليها قبل الظهر.

جاء فى الروايات أن فرعون قتل فى ذلك اليوم سبعين ألف صبى ، وموسى فى حجره يربيه.

وهكذا قالت أيضا أم مريم : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١) فلما وضعتها أنثى خجلت لأن الأنثى لا تصلح لخدمة المسجد فتقبلها ربها بقبول حسن ، وبلغها المقام الّذي بلغها حتى وقع الغلط لجماعة من الناس لا يحصون فى أمرها حتى قالوا ما قالوا.

نكتة : إذا سلم إليه ولده فرباه فى حجر عدوه وصرف عنه كيده ، فمن سلم إليه قلبه حفظه ، كما فى الخبر : «إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» أى : بين نعمتين من نعمه ، ترى أنه يضيعه ولا يحفظه ، حاش لله.

نكتة أخرى : من سلم إليه ولده وجعله لخدمة المسجد لم يرده بنقص

__________________

(١) آل عمران : ٣٥.

٣٧٠

الأنوثية ، ترى أن من سلم قلبه إلى صحبة الملك يرده بنقص زلة البشرية أنه لا يفعل ذلك.

وقد روى فى بعض القصص أن العبد إذا هم بالمعصية يقول الله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (١) فإذا عمل المعصية يقول الله تعالى : (تُوبُوا إِلَى اللهِ) (٢) فإذا أصر يقول الله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٣).

بئس البدل من الله لأن ربنا عزيز لم يزل ، وغيره ذليل لم يكن ، وإذا كان الحق تعالى ينعم والعبد يشكر غيره ، ويرزق والعبد يخدم غيره ، وهو يعطى والعبد يسأل غيره ، فقد أخطأ طريق الرشد وسلك سوء الطريق.

يحكى أن رجلا أتى الحجاج يسأله حاجة فوجد الحجاج فى الصلاة فقال فى نفسه : كيف أسأل من هو محتاج مثلى ، بل أسأل من ربى حاجتى ، فانصرف ، فلما فرغ الحجاج من صلاته دعا بالرجل فقضى له حاجته وأمر له بعشرة آلاف درهم وقال له : أعطاك من سألته وأنا ساجد.

__________________

(١) الزمر : ٥٤.

(٢) النور : ٣١.

(٣) الكهف : ٥٠.

٣٧١

باب

فى معنى اسميه تعالى

٨٣ ، ٨٤ ـ المقسط (١) الجامع (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ، فأما المقسط فهو بمعنى العادل ، وأما القاسط فهو بمعنى الجائر ، يقال : قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل ، ومعنى العادل فى وصفه أن أفعاله حسنة جميلة ، والفعل الحسن ما للفاعل أن يفعله ، وأما الجامع فى وصفه تعالى فيكون بمعنى الجائز لهم يوم القيامة للثواب والعقاب ، فيجمع لحومهم المتفرقة وجلودهم المتمزقة وعظامهم النخرة ، ويكون الجامع اليوم لأجزائهم وأوصالهم ، ركبهم على ما أراد من التركيب ورتب أحوالهم على ما شاء من الترتيب ، قال الله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) (٣) شد أوصالهم وربط أجزاءهم بعضها ببعض ، فمن عظم

__________________

(١) المقسط : هو الّذي ينتصف للمظلوم من الظالم ، وكماله فى أن يضيف إلى إرضاء المظلوم إرضاء الظالم ، وذلك غاية العدل والإنصاف ، ولا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فهو العادل فى حكمه.

(٢) الجامع : هو الّذي جمع الأجزاء وألفها وركبها تأليفا وتركيبا مخصوصا ، وهو الّذي جمع بين قلوب الأحباب ، وهو الّذي يجمع أجزاء الخلق عند الحشر والنشر بعد تفرقها ، وبجميع بين الجسد والروح بعد الانفصال بالموت ، وهو الجامع للخلق يوم القيامة ، وهو الجامع بين الظالم والمظلوم ، وقيل : هو الّذي جمع قلوب أوليائه إلى شهود عظمته ، وصانهم عن ملاحظة الأغيار برحمته.

(٣) الإنسان : ٢٨.

٣٧٢

الغالب عليه اليبوسة ولحم كساه الغالب عليه اللين والرطوبة ومخ بين العظم الغالب عليه اللين والرخاوة ، فسبحان من جمع بين هذه الأشياء المختلفة ، وانظر إلى التئام كل نوع وكل جنس ، كيف جمع بين الأشياء المختلفة فى الطعم واللون والرائحة ، كالرمان مثلا انظر إلى قشره فى لونه وشكله وطعمه ، وما قال أهل الطب فيه ، وإن لم تكن له حقيقة فى القول بطبعه ، ولكن على ما أجرى به العادة فى الآثار التى يخلقها الله سبحانه عقيب أكله واستعماله فى الطبع وغيره ، ثم انظر شكل حبه ولونه وطعمه ثم ما بين الحب من عجمه ، ثم ما بين الحباب من رقيق قشره ، ثم هكذا القول فى الأترج ، من قشره ولحمه وحماضه وحبه وسائر الثمار ، وجميع أصناف المخلوقات والحيوانات من الجمادات ، كيف جمع هذه الأعراض المختلفة وهذه الجواهر المتجانسة ، ومن صرف قلبه إلى الاعتبار بما توعد به عباده من أحوال يوم القيامة وصنوف أهوالها تحقق بديع قدرته وظاهر حكمته ، وتنبه للانزجار عن أليم مساخطه.

ومما روى فى أوصاف يوم القيامة أنه يوقف شيخ للحساب فيقول الله له : يا شيخ ، ما أنصفت ، غذوتك بالنعم صغيرا ، فلما كبرت عصيتنى ، أما إنى لا أكون لك كما كنت لنفسك ، اذهب فقد غفرت لك ما كان منك.

وإنه ليؤتى بالشاب كثير الذنوب ، فإذا وقف تضعضعت أركانه واصطكت ركبتاه فيقول الرب جل جلاله : أما استحييت منى؟ أما راقبتنى؟ أما خشيت نقمتى؟ أما علمت أنى مطلع عليك؟ خذوه إلى أمه الهاوية.

وفى خبر أن الوحوش والبهائم تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة فتقول الملائكة : ليس هذا يوم سجود ، هذا يوم الثواب والعقاب ، فتقول البهائم : هذا منا سجود شكر حيث لم يجعلنا الله من بنى آدم.

٣٧٣

ويقال : إن الملائكة تقول للبهائم : لم يحشركم الله جل جلاله لثواب ولا لعقاب وإنما حشركم لتشهدوا فضائح بنى آدم.

وقيل : لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيا وله خصم بنصف دانق ، لا يدخل الجنة حتى يرضى خصمه.

وقيل : إن الدانق من الفضة يؤخذ به يوم القيامة سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى إلى الخصم.

وفى خبر مسند عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا ، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ، ما نفعكم ذلك إلا بورع صادق».

وقيل : كما يرجو الظالم رحمة الله فإن المظلوم أيضا يرجو رحمة الله سبحانه ، فإذا أخذ حقه من الظالم فذلك برحمة منه ، ولو لم يأخذ للمظلوم حقا من الظالم لما رحم المظلوم.

وروى عن ابن مسعود أنه قال : يؤخذ بيد العبد يوم القيامة على رءوس الأشهاد فينادى مناد : ألا من له قبل هذا حق فليأخذه.

وقيل : لا يكون شيء أشد على أهل القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يدعى عليه شيئا (١).

فصل : لا راحة لمؤمن دون لقاء الله تعالى :

وقد يجمع اليوم قلب وليه إلى شهود تقديره حتى يتخلص عن أسباب التفرقة فيطيب عيشه ، إذ لا راحة للمؤمن دون لقاء الله تعالى فلا يرى الوسائط ولا ينظر إلى الحادثات إلا بعين التقدير ، إن كانت نعمة علم أن الله سبحانه

__________________

(١) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) (عبس).

٣٧٤

منتجها ، وإن كانت شدة علم أن الله تعالى هو الكاشف لها ومزيحها ، وأنشد بعضهم :

فلا ألبس النعمى وغيرك ملبسى

ولا أقبل الدنيا وغيرك واهب

يحكى عن بعضهم أنه قال لبعض أصحابه : ائتنى بباقلا فأتاه به ، فكان بين يديه سنور مهزول ، قال : فألقى إليه شيئا من ذلك فلم يأكل ، فلما طرح القشور مضى السنور وأكله ، فقال فى نفسه : ما أخسه ، لم يأكل بالعز وقد أعطيته ثم ذهب يلتقط من القمامات ، قال : فغفا غفوة ، فرأى السنور فيما يرى النائم على صورة حسنة قال : لم لم تأكل بالعز وأكلت بالذل؟ قال : فصاح فى وجهه وقال : أمرنا أن لا نأخذ بالواسطة.

* * *

٣٧٥

باب (١)

فى معنى اسميه تعالى

٨٥ ، ٨٦ ـ المغنى (٢) المانع (٣)

جل جلاله

المغنى معطى الغنى لعباده ، ويكون بمعنى معطى الكفاية ، والغنى هو الكفاية ، والله تعالى مغنى عباده بعضهم عن بعض ، على الحقيقة ، لأن الحوائج لا تكون على الحقيقة ، إلا إلى الله سبحانه ، فإن المخلوق لا يكون له إلى مخلوق اشتداد حاجة ، ولهذا قيل : تعلق الخلق بالخلق كتعلق المسجون بالمسجون.

قيل : من أشار إلى الله ثم رجع عند حوائجه إلى غير الله ابتلاه الله سبحانه بالحاجة إلى الخلق ثم ينزع الرحمة من قلوبهم ، ومن شهد محل افتقاره إلى الله سبحانه فرجع إليه بحسن العرفان أغناه من حيث لا يحتسب ، وأعطاه من حيث لا يرتقب.

__________________

(١) لم يذكر المؤلف ، رحمه‌الله ، اسمه تعالى : الغنى ، وهو قبل المغنى ، ومعناه : الّذي لا يحتاج إلى أحد ، المتعالى فوق عباده ، يرزقهم بالغنى ، وهو الغنى عن عبادتهم وطاعتهم ، المتفضل عليهم بإحسانه ، فلا يزيد فى ملكه العابدون ، ولا ينقص من ملكه الكافرون.

(٢) المغنى : هو الّذي يغنى من يشاء من عباده ، فمنهم من يغنيه بالمال ، ومنهم من يغنيه بالذرية ، ومنهم من يغنيه بالطاعة والورع ، فهو سبحانه الّذي يستغنى به العباد.

(٣) المانع : هو الّذي يرد أسباب الهلاك والنقصان فى الأديان والأبدان بما يخلقه من الأسباب المعدة للحفظ ، وهو الّذي إذا منع فلا معطى لما منع.

٣٧٦

وإغناء الله تعالى لعباده على قسمين : منهم من يغنيه بتنمية أمواله ، ومنهم من يغنيه بتصفية أحواله ، وهذا هو الغنى الحقيقى.

سمعت بعض المشايخ ببغداد قال : جاء رجل ببغداد إلى الجنيد فعرض عليه نفسه وماله وسأله أن يباسطه فيما يسنح له من حوائجه ، فقال له : لعلك تحتاج إلى ما معك ، فقال : لا ، فإنى رجل موسر ، ولى صامت وعقار وضياع ، فقال : أتريد غيره وتستزيده إلى ما معك؟ فقال : نعم ، فأخرج خرقة فيها كسوة فحلها وناوله إياه ، وقال له : أضفها إلى ما معك ، فإنى لست أحتاج إليها وأنت تحتاج إلى الزيادة ، وصاحب الحال أبدا يجود على صاحب المال ، وصاحب المال عيال على صاحب الحال ، وصاحب المال يشفق وصاحب الحال ينفق ويتخلق مع الخلق بالهمة ، والخلق إلى همة صاحب الحال أحوج منهم إلى نعمة صاحب المال.

يحكى أن أبا العباس الفقيه التبان ، وكان موسرا عاد أبا بشر الخياط ، وكان شيخا كبيرا فقال : إن لى ثوبا عرضته على كثير من الخياطين ، وأردت أن يقطفوا لى منه ثوبا لنفسى فقالوا : لا يتم لك منه ثوب ، فقدر أنت لعله يجيء ببركتك منه ثوب واسع ، فقدره أبو بشر فوجده لا يجيء منه ثوب واسع كما أراد ، فقال : يجيء إن شاء الله تعالى كما تريد ، وحمل الثوب إلى حانوته واشترى من ماله قطعة توافق ذلك الثوب وخاطه كما أراد وحمله إليه فسر به أبو العباس التبان ، فقيل لأبى بشر فى ذلك : إن جود الفقير مع الغنى أتم من جود الغنى مع الفقير.

وأما المانع فى وصفه جل جلاله فيكون بمعنى منع البلاء عن أوليائه ويكون بمعنى منع العطاء عمن شاء من أوليائه وأعدائه ، فإذا منع البلاء عن أوليائه كان

٣٧٧

ذلك لطفا جميلا ، وإذا منع العطاء عن أوليائه كان ذلك أيضا فضلا جزيلا ، وإذا لم يمنع الخير عن أعدائه كان ذلك فى الحال احتجاجا عليهم واستدراجا ، وإذا منعهم الخير فى الآخرة كان عقوبة وإذلالا.

فصل : لا يقع فى ملكه تعالى إلا ما أراده جل جلاله :

حكى أن موسى ، عليه‌السلام قال فى مناجاته : إلهى إنى جائع ، فأوحى الله إليه إنى لأعلم ذلك يا موسى ، قال : فأطعمنى ، قال : حتى أريد.

ويحكى عن ابن المنكدر أنه قال : قلت ليلة فى الطواف : اللهم اعصمنى ، وأقسمت على الله طويلا ، فرأيت فى المنام كأن قائلا يقول لى : أنت الّذي قلت : اعصمنى ، فقلت : نعم ، فقال : إنه لا يفعل ، فقلت : لم؟ فقال : لأنه يريد أن يعصى حتى يغفر ، وربما يكون فى منعه لبعض عباده منع قلبه عما يضره بأن لا يخلق له إرادة ذلك ، فيكون رفقا به ، قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (١) وأنه سبحانه يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولكنه لا يحمى قلب أحد عن المخالفات إلا وهو من خواص أوليائه ، وقد يمنع التمنى والشهوات من نفوس العوام ويمنع الإرادات والاختيارات عن قلوب الخواص ، ويمنع الشبهة عن القلوب والبدع عن العقائد والمخالفات فى الأوقات والزلل عن النفوس من أجل النعم التى يخص بها عباده المقربين ويكرم به أولياءه المنتخبين جعلنا الله من جملتهم وحشرنا فى زمرتهم.

__________________

(١) الأنفال : ٢٤.

٣٧٨

باب

فى معنى اسميه تعالى

٨٧ ، ٨٨ ـ الضار (١) النافع (٢)

جل جلاله

ورد الخبر بهذين الاسمين ، وفى معناهما إشارة إلى التوحيد ، وهو أنه لا يحدث شيء فى ملكه إلا بإيجاده وحكمه وقضائه وإرادته ومشيئته وتكوينه ، قال الله سبحانه : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) (٣) ثم أخبر عن بيانه فقال سبحانه : (هُوَ مَوْلانا) ليعلم العالمون أن له أن يتصرف فى ملكه بموجب إرادته ، فلا يلحق أحد آخر لا نفع ولا خير ولا شر ولا سرور ولا حزن إلا من قبله جل جلاله ، فإن تك نعمة فهو النافع والدافع ، وإن تك محنة فهو الضار القامع الحابس المانع ، ومن استسلم لحكمه عاش فى راحة ، ومن نافر اختياره وقع فى كل آفة.

يقال : أول ما كتب الله جل جلاله فى اللوح المحفوظ : أنا الله لا إله إلا

__________________

(١) الضار : هو الّذي يضر الكافرين بما سبق لهم من قديم عداوته ، وهو الّذي يضر العاصين بحرمانه ، وهو الّذي يقدر الضرر لمن أراد وكيف شاء.

(٢) النافع : هو الّذي ينفع الأبرار بما تحقق لهم من كريم رعايته ، وهو الّذي ينفع الطائعين بتوفيقه وإحسانه ، وهو الّذي ينفع المؤمنين برحمته يوم القيامة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(٣) التوبة : ٥١.

٣٧٩

أنا ، من لم يستسلم لقضائى ، ولم يصبر على بلائى ، ولم يشكر نعمائى فليطلب ربا سوائى.

وقيل : ناجى داود عليه‌السلام ربه جل جلاله فقال : إلهى ، من شر الناس؟ فقال عز من قائل : من استخارنى فى أمر ، فإذا خرت له اتهمنى ولم يرض بحكمى.

وقيل : من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء.

وقال الواسطى : الطينة (١) إذا نازعت الربوبية أظهرت رعونتها.

وفى خبر مسند : إياكم ولو فإن لو من أقوال المنافقين ، فإذا عرف العبد توحد مولاه فى الإيجاد وتفرده فى الاختراع فوض الأمور إليه وعاش فى راحة من الخلق ، والخلق فى راحة منه ، فبذل النصيحة من نفسه ولم يستشعر الغش والخيانة لغيره.

وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدين النصيحة».

يحكى عن أيوب السختيانى أنه كان يجيء إلى السوق فرأى رجلا اشترى من غلام شيئا فقال : بكم باعك هذا؟ فقال : بكذا ، فقال : ارجع فإن عليك غبنا إن هذا لا يساوى هذا الثمن ، ثم قال لغلامه على وجه العتاب : أتخدع الرجل؟ رد عليه الفضل.

وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : «اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادى تعيشوا فى أكنافهم ، فإنى جعلت فيهم رحمتى ، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم ، فإن فيهم غضبى» وأن رحمة الله تعالى أتم من رحمة بعضهم لبعض.

فمن عرف ذلك علم أنه سبحانه يحب من عباده من يرحم خلقه ، ولا

__________________

(١) يقصد ابن آدم إذ أصله من طين.

٣٨٠