شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

باب

فى معنى اسميه

٦٩ ، ٧٠ ـ القادر (١) المقتدر (٢)

جل جلاله

القادر اسم من أسمائه تعالى ، والقدرة صفة من صفاته تعالى ، والمقتدر من أسمائه سبحانه ، قال الله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) وحقيقة القادر من له قدرة ، وحقيقة القدرة ما يقتدر بها المراد على حسب قصد الفاعل فى الوقوع ، ثم جهة الوقوع تختلف إلى خلق وكسب ، فقدرة الحق سبحانه تصلح للخلق ، وقدرة الخلق تصلح للكسب ، والخلق لا يوصف أحد منهم بالقدرة على الإيجاد ، والحق سبحانه لا يوصف بالقدرة على الكسب ، ولله قدرة واحدة يقدر بها على جميع المقدورات ، لا يخرج مقدوره عن قدرته ، ولا نهاية لمقدوراته ، والمعدوم يكون مقدورا ، والمخلوق فى حال الحدوث يكون مقدورا ، والاقتدار افتعال من القدرة ، والدليل على وجوب كونه

__________________

(١) القادر : هو ذو القدرة لا يعجزه شيء ، صاحب النفوذ والسلطان والتصرف التام ، فمشيئته تنفذ بلا واسطة ، ولا يستطيع أحد معارضته فى أمر أو ينازعه فى سلطان.

(٢) المقتدر : أكثر مبالغة من القادر ، فهو المستولى على كل شيء ، ذو القدرة العظيمة ، الّذي لا يستعين بأحد ، وقدرته ليس لها بداية ولا نهاية ، فهو المتمكن من ملكه بسلطانه ، المسيطر على خلقه بقدرته.

(٣) القمر : ٥٥.

٣٤١

قادرا استحالة الوصف له بأن يكون عاجزا ، ووجود أفعاله أيضا تدل على قدرته.

ومن عرف أنه قادر على الكمال خشى سطوات عقوبته عند ارتكاب مخالفته ، وأمّل لطائف رحمته ، وزوائد رحمته سؤاله ، وحاجته لا بوسيلة طاعته بل بابتداء كرمه ومنته ، وكذلك من عرف أن مولاه قدير سكن عن الانتقام ثقة بأن صنع الحق له وانتصاره له أتم من انتقامه لنفسه.

يحكى أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب عليه‌السلام وقال : تدرى لم فرقت بينك وبين يوسف كذا وكذا سنة؟ لأنك اشتريت جارية لها ولد ففرقت بينهما فى البيع ، فلما لم يصل ولدها إليها لم أوصل إليك يوسف.

بين بهذا أن تلك المملوكة وإن لم يكن لها يد نظر لها الحق سبحانه وإن كان الحكم على نبى من الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ولهذا قيل : احذروا من لا ناصر له إلا الله تعالى (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (١).

فصل : من عرف أنه تعالى كريم :

ومن عرف أنه كريم علم أنه يقدر ولكنه يعفو ويحلم ، ويبصر ولكنه يصبر.

روى أن حملة العرش ثمانية : أربعة تسبيحهم : سبحان الله عدد حلمه بعد علمه ، وأربعة تسبيحهم : سبحان الله عدد عفوه بعد قدرته.

فصل : من جميل صنع الله وكريم نظره تعالى :

وأنه بجميل صنعه وكريم نظره يؤوى عبده إلى كهف رحمته فيعصمه عما يشتهى برحمته ويعينه على ما يحتاج إليه بقدرته ، فمرة ينبهه لما فيه نجاته ، ومرة يوفقه لما فيه درجاته ، ومرة يؤهله لما يتحقق به قربه ومناجاته.

__________________

(١) البروج : ١٢.

٣٤٢

يحكى عن أحمد بن أبى الحوارى أنه قال : سمعت الدارانى يقول : نمت ليلة فجاءتنى واحدة من الحور العين فركضتنى برجلها وقالت لى : أتنام وأنا لك ، فقلت : لا نامت عينى بعد هذا ، فضحكت وخرجت وبها نور أضاء محرابى ومصلاى من ضياء وجهها ، فقلت : من أين لك هذا الحسن؟ فقالت : أتذكر الليلة الفلانية ـ وكانت ليلة باردة ـ قمت وتوضأت وصليت ثم دعوت وبكيت فأخذت من دموعك دمعة وحملت إلى فمسح بها وجهى فضياء وجهى من تلك الدمعة.

وأنه سبحانه إذا أراد بعبد خيرا دله على طريق نجاته فرجع إلى الله مبتهلا فى سؤال حاجاته ، فيوصل إليه مراده بقدرته ويجبر حاله بنصرته.

حكى أن ابن أخ لصفوان بن محرز حبس فلم يبق بالبصرة أحد له جاه إلا كلم الأمير فى حاله فلم ينفع ، فرأى فى المنام كأن قائلا يقول له : ائت الأمر من بابه ، فقام الليل وصلى ركعتين فقرع عليه الباب فإذا بحاجب الأمير ومعه ابن أخيه فقال : إن الأمير دعانى الساعة وقال : احمله إليه.

٣٤٣

باب

فى معنى اسميه تعالى

٧١ ، ٧٢ ـ المقدم (١) المؤخر (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ورد بهما الخبر ، ومعناهما تقديمه بعض الأفعال على بعض، وتأخير بعض الأفعال عن بعض ، إما فى الوقت وإما فى الرتبة ، لأنه قدم بعض أفعاله على بعض ، وأخر بعضها عن بعض ، وذلك من دلالات إرادته ، لأن الطريق الّذي به يعرف أنه مريد قاصد جل جلاله ترتيب أفعاله فى الوجود وتخصيصها ببعض الأحكام الجائزة دون بعض ، فعلم أنه لو لا قصد قاصد قدم المتقدم وأخر المتأخر وإلا لم يكن تخصيصها ببعض الأحكام أولى من تخصيصها بغيرها ، وكذلك أفعاله متقدمة بعضها على بعض ، فى المعنى والرتبة ، فدل على رفعه لبعض وخفضه لبعض ، وإعزازه لقوم وإذلاله لقوم ، فطائفة قدمهم لطاعته وعبادته ، وطائفة أخرهم لماضى إرادته ونافذ مشيئته ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٣) وأن

__________________

(١) المقدم : هو الّذي يقدم الأشياء فيضع كل شيء فى موضعه الصحيح ، فيقدم العالم على الجاهل ، ويقدم الطائع على العاصى ، والتقى على الفاجر.

(٢) المؤخر : هو الّذي يؤخر الأشياء إلى أزمانها وأماكنها ، فهو المؤخر عقاب المذنبين ليتوبوا ، ويؤخر عذاب المشركين والكفار إلى أجل مسمى ، وهو الّذي يؤخر الأخذ للظالم حتى إذا أخذه يكون أخذ عزيز مقتدر.

(٣) الحجر : ٢٤.

٣٤٤

أولياءه مختلفون ، فمنهم من يتقدم بجهده وعبادته ويتكلف أن لا يتخلف عن أشكاله فى مرافقته.

سمعت الدقاق يقول : رئى بعضهم مجتهدا فقيل له فى ذلك ، فقال : ومن أولى منى بالجهد وأنا أحتاج أن ألحق بالأبرار والكبار من السلف ، قال الله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (١) وفى معناه أنشدوا :

السباق السباق قولا وفعلا

حذر النفس حسرة للسبوق

سمعت الدقاق يقول فى يوم عيد ، وقد اجتمع الناس فى المصلى : لو قيل لى : إن واحدا من هؤلاء يرى الله تعالى قبلك غدا لزهقت نفسى ، وقوم لم يروا لأنفسهم استحقاق التقدم وكانت همتهم السلامة فحسب.

وقال بعضهم فى مناجاته : إلهى إنى أعلم أنى لا أستوجب تلك الدرجات ولكن سترا من النار.

وقال يحيى بن معاذ : العارف شريف الطلب ، قيل له : وما شرف طلبه؟ قال لا يجاوز بهمته طلب المغفرة ، قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (٢) ثم قال تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) (٣).

يحكى عن ابن المبارك أنه خرج يوما على أصحابه ، فقال : تجاسرت البارحة على الله فسألته الجنة.

__________________

(١) المطففين : ٢٦.

(٢) آل عمران : ١٤٦.

(٣) آل عمران : ١٤٧.

٣٤٥

وفى معناه أنشدوا :

وما رمت الدخول عليه حتى

حللت محلة العبد الذليل

وأغضيت الجفون على قذاها

وصنت النفس عن قال وقيل

وقال غيره :

نزلوا بمكة فى قبائل نوفل

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

وقال أبو سعيد الخراز : خيرت يبن القرب والبعد فآثرت البعد على القرب.

فصل : الله أعلم بما قدم وأخر :

وإن الله تعالى قدم قوما فى سابق حكمه ، فربما يجرى عليهم أوصاف المطرودين ، ويقيمهم فى صورة المبعدين ، وهم بحقائق رحمته بالحكم السابق مقربون.

يحكى عن جبر بن عمران اللؤلؤى ، وكان صالحا يخدم الفقراء ، وداره بيت الضيافة ، فتزل عليه قوم فمضى إلى القاضى يطلب لهم شيئا منه فلم يقدر ، فمضى إلى إنسان يهودى كان يميل إلى الفقراء وكان يدفع إليهم أحيانا شيئا ، فذكر حاجته إليه فبعث إلى داره ما احتاج إليه ، فلما نام القاضى رأى فى منامه أنه كان على باب قصر من لؤلؤة حمراء فهمّ أن يدخله فمنع منه ، فقيل له : إن هذا كان لك فدفع إلى فلان اليهودى ، فلما أصبح القاضى بكى وتضرع ومضى إلى جبر بن عمران فسأله عن القصة فأخبره بحديث اليهودى ، فاستحضر القاضى اليهودى وقال له : قصر لك فى الجنة تبعنيه بعشرة آلاف درهم ، فقال :

٣٤٦

لا ، فزاده فأبى ، فسأله عن القصة ، فقص عليه الرؤيا ، فقال : لا أبيعه ، ولو طلبته منى بألوف ، ثم قال اليهودى لجبر بن عمران ، اعرض عليّ الشهادة فأسلم.

وكان اليهودى ممن قدّمه الله فى سابق حكمه وأخّر القاضى فى مساواة حاله.

حكى عن بعض الصالحين أنه قال كان عندنا ببغداد رجل يسمى صالحا ، أذّن خمسا وعشرين سنة ، فدخل يوما فى رمضان يوم الخامس والعشرين منه وقد أذّن للظهر إلى دار أخيه فرآهم يشربون الخمر فحلف أخوه بالطلاق أن يشرب واحدا فشرب لئلا تطلق امرأة أخيه ، ثم شرب ثانيا وثالثا حتى سكر ، فدعاه الإمام لإقامة الصلاة فحلف لا يصلى أبدا ومات فى سكره.

فهذا أخّره الله فى سابق حكمه فلم ينفعه طول جهده ، فإن من سبق عليه الحكم والقضاء لم ينفعه الجهد والعناء ، فنسأل الله تعالى حسن العاقبة.

* * *

٣٤٧

باب

فى معنى اسمائه تعالى

٧٣ ، ٧٤ ـ الأول (١) والآخر (٢)

٧٥ ، ٧٦ ـ والظاهر (٣) والباطن (٤)

جل جلاله

قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (٥) والأول فى اللغة أصله من آل يؤول إذا رجع ، وكان فى الأصل أأول على وزن أفعل ، وتأنيثه أولى على وزن فعلى كأكبر وكبرى ، وأصغر وصغرى ثم قلبت إحدى الهمزتين واوا فاجتمع واوان فأدغمت إحداهما فى الأخرى فقيل : أول ، والتأويل تفعيل

__________________

(١) الأول : هو الّذي لم يسبقه شيء ، وليس قبله شيء ، فهو القديم الأزلى الّذي لا ابتداء له ، فهو المستغنى عن غيره بنفسه ، لا يحتاج إلى أحد والكل محتاج إليه.

(٢) الآخر : هو الباقى الدائم بعد فناء الخلق ، فهو الّذي لا انتهاء له ولا انقضاء لوجوده (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٧).

(٣) الظاهر : هو الّذي لا يخفى عليه شيء ، وهو الظاهر فوق كل شيء ليس فوقه شيء ، وقيل : هو الظاهر للعقول السليمة بآياته وبراهينه ودلائل توحيده ، فلم يحجب عن المؤمنين آيات وحدانيته.

(٤) الباطن : هو الّذي ليس دونه شيء ، وهو الباطن يعلم ما بطن وما خفى ، وقيل الباطن : أى الّذي حجب عن الكفار معرفته ، وعن المؤمنين رؤيته ، رحمة بهم حتى نتمتع برؤية وجهه الكريم يوم القيامة ، وقيل : الباطن الّذي احتجب عن الخلق من عظمته وعلو شأنه.

(٥) الحديد : ٣.

٣٤٨

من آل ، وأما الآخر فهو على وزن فاعل وتأنيثه الآخرة ، وأصل آخر يأخر لكنهم أماتوا هذا التصريف ، ويقال : نظر فلان بمؤخر عينه ، ويقال : باعه بآخرة ، بكسر الخاء ، أى نظرة ، ويقال : جاء فلان بآخرة ، بفتح الخاء ، أى أخيرا ، وأما الآخر بفتح الخاء فتأنيثه الأخرى ، وفى وصف القديم سبحانه الأول بمعنى القديم الّذي لا ابتداء له ، وهو بمعنى السابق فى وصفه والأبدى والأزلى ، وأما الآخر فى وصفه فهو بمعنى أنه لا نهاية ولا انقضاء لوجوده ، وكونه أولا لا يقتضي أن لا يكون معه غيره ، وإنما علمنا أنه لم يكن معه غيره فى الأزل بدليل آخر لا بكونه أولا قديما ، وليس إذا كان آخرا يجب أن يكون معه غيره فيما لا يزال كما توهم بعضهم وقال : إنه يفنى الجنة والنار حتى لا يبقى غيره لأنه قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) فكما لم يكن معه فى الأزل غيره لأنه أول ، كذلك لا يكون معه فيما لا يزال غيره لأنه آخر ، وهذا الّذي قاله باطل لما ذكرناه.

وأما الظاهر فى وصفه تعالى فقيل : معناه القادر على خلقه ، يقال : ظهر فلان على فلان ، أى قدر عليه وقهره.

والباطن فى وصفه تعالى قيل بمعنى العليم بخلقه المدبر لأحوالهم ، وقيل معناه : الظاهر بآياته وبراهينه ودلالات توحيده ، والباطن المتعزز على قوم حتى جحدوه ولم يتحققوا بوجوده.

وقيل : الأول إخبار عن قدمه والآخر إخبار عن استحالة عدمه ، والظاهر إخبار عن قدرته ، والباطن إخبار عن علمه وحكمته ، وقال بعضهم : معناه أنه الأول بالأمور ، وهو مجريها ومتوليها ، كما يقول فلان : أول هذا الحديث وآخره وظاهر هذا الأمر وباطنه ، أى هو متوليه ومدبره ، وله ذلك وإليه يعود كله ، ويقال : إنه يشير إلى صفات أفعاله بهذه الأسماء ، وهو الأول بإحسانه والآخر بغفرانه ، والظاهر بنعمته والباطن برحمته ، وقيل : هو الأول

٣٤٩

بحسن تعريفه ، إذ لولاه ولو لا فضله ولو لا ما بدأك به من إحسانه لما عرفته ، وفى معناه أنشدوا :

سقيا لمعهدك الّذي لو لم يكن

ما كان قلبى للصبابة معهدا

وهو الآخر بإكمال لطفه عما كان أولا بابتداء عرفه ، وهو الظاهر بما يفيض عليك من العطايا والنعماء ، والباطن بما يدفع عنك من فنون البلاء وصنوف الأذى ، وقيل الظاهر لقوم فلذلك وجدوه ، والباطن عن قوم فلذلك جحدوه ، وقيل : ظاهر للقلوب بحكم البرهان ، باطن عن العيون بحق العيان وقيل : الأول بالهداية والآخر بالرعاية والظاهر بالكفاية والباطن بالعناية ، وقيل : الأول بالتحقيق والآخر بالتوفيق ، والظاهر بالتأييد والباطن بالتسديد ، وقيل : الأول بالإسعاد والآخر بالإمداد ، والظاهر بالإيجاد والباطن بالإرشاد ، وقيل : الأول بأن عرفك والآخر بأن شرفك ، والظاهر بما أسعفك والباطن بما لاطفك.

ويحكى عن أبى يزيد أنه قال : إن لم أعرف ما أولى وما أخرى ، وما ظاهر حالى وباطن أمرى ، فأنا لا أعلم من الأول والآخر والظاهر والباطن.

وقيل : لما قال إبليس : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) (١) أى لآتينهم من بين أيديهم لأشككهم فى أمر آخرتهم ، ومن خلفهم لأزين لهم أحوال الدنيا ، وعن أيمانهم لأنسينهم أمر الآخرة ، وعن شمائلهم لأزين الباطل فى أعينهم ، قال الله تعالى : «أنا الأول أحفظ عليهم دينهم ، وأنا الآخر أختم لهم بالسعادة ، والظاهر أفيض عليهم النعم ، والباطن أسبغ عليهم المنن ، وأكفيهم أشغالهم وأصون بالسعادة مالهم وأصلح أعمالهم وأصدق آمالهم.

__________________

(١) الأعراف : ١٧.

٣٥٠

وقيل : قال لإبليس : إنى سلطتك عليهم عن جهاتهم الأربع ، فما سلطتك عليهم من فوقهم ولا من تحتهم ، بل أمطر عليهم من فوقهم الرحمة ، وأخسف من تحتهم ما اجترحوه من معاصيهم ، ذلك جزاء من كان الله تعالى فى أزله قبل أن كان لنفسه بلاحق فعله.

فصل : فائدة زائدة فى معانى تلك الأسماء :

ويقال : الأول بوده لك بديا ، إذ لو لا أنه بدأك بسابق وده لما أخلصت له فى عقده وعهده ، فأين كنت حيث كان لك؟ ومتى كانت رحمة أبيك وشفقة أمك وذويك وقد قسم لك الإيمان ورضى لك الإسلام ووسمك بالصلاح ، فقال عز من قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١) جاء فى التفسير أنهم أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آثرك فى سابق القدم ، وحكم لك بصدق القدم ، رباك بفنون النعم ، وعصمك عن سجود الصنم ، واختارك على جميع الأمم ، وردّاك برداء الإيمان ، وتلقاك بجميل الإحسان ، ورقاك إلى درجة الرضوان ، وحرسك من الشرك والبدع ، وألقى فى قلبك حسن الرجاء والطمع ، وإن لم يلبسك رداء الوفاء والورع فلم يؤيسك من لطفه بنهاية الفزع ، وإن الّذي هداك فى الابتداء لهو الّذي يكفيك فى الانتهاء.

يقال : إن العبد يبتهل إلى الله تعالى فى الاعتذار والحق سبحانه وتعالى يقول له : «عبدى لو لم أقبل عذرك لما وفقتك للعذر» وإن من فكر فى صنوف الضلال ، وكثرة طرق المحال ، وشدة أغاليط الناس فى البدع والأهواء وما تشيع به كل قوم من مختلفى النحل والآراء ، ثم فكر فى ضعفه ونقصان عقله وكثرة تحيره فى الأمور ، وشدة جهله وتناقض تدبيره فى أحواله وشدة حاجته

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

٣٥١

إلى الاستعانة بأشكاله فى أعماله ، ثم رأى خالص يقينه وقوة استبصاره فى دينه ، ونقاوة توحيده عن غبرة الشرك وصفا عين عرفانه عن وهج الشك ، علم أن ذلك ليس من طاقته ولا بجهده وكده وسعة وجده ، بل بفضل ربه وسابق طوله.

قال الله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (١) فهو الظاهر بنعمائه ، وآثار نعمه عليك متظاهرة والباطن بآلائه وزوائد كرمه لديك متواترة.

فصل : من آداب من عرف تلك الأسماء :

ومن آداب من عرف أن له هذه الأسامى أن لا يؤخر فى ظاهره وباطنه وسره وعلنه وقلبه وبدنه ودقه وجله شيئا من أمره وحكمه ، كيف لا وهو منشئ أوائل أمره ومجرى أواخر حكمه ، والمتولى لأمور ظاهره والعالم بسرائره وباطنه (٢).

__________________

(١) لقمان : ٢٠.

(٢) لم يذكر المؤلف ، رحمة الله عليه ، اسمه تعالى : الوالى ، المتعالى ، ونقول :

الوالى : هذا الاسم لم يرد فى القرآن ، ومعناه هو المالك للأشياء ، المستولى عليها المتصرف فيها بمشيئته ، ينفذ فيها أمره ، ويجرى عليها حكمه.

المتعالى : هو العالى الكامل فى العلو والعظمة ، المنتهى فى الرفعة والكبرياء فى ذاته ، المنزه عن النقائص وصفات الحوادث.

٣٥٢

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧٧ ـ البر (١)

جل جلاله

البر اسم من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢) يقال : رجل بر وبار ، وامرأة برة وبارة ، والبر هو المحسن ، وفلان بار بوالديه إذا كان محسنا إليهما ، والبر فى صفات الخلق من تتوالى منه أعمال البر ، ومن كان الله سبحانه بارا به عصم عن المخالفات نفسه ، وأدام بفنون اللطائف أنسه ، طيب فؤاده وحصل مراده ووفق فى طريقة اجتهاده ، وجعل التوفيق زاده ، وجعل قصده سداده ومبتغاه رشاده ، أغناه عن أشكاله بإفضاله وحماه عن مخالفته بيمن إقباله ، فهو غنى بلا مال وعزيز بلا أشكال ، ملك لا يستظهر بجيش وعدد ، وغنى بلا تمول مال وعدد ، تشهده فى زى مسكين وهو بربه متعزز مكين.

يحكى عن خلف المقدسى أنه قال : ورد عليّ بعض الفقراء فاعتل بعلة شديدة فتغافلت عنه أياما ثم ذكرت حاله فجئته معتذرا وقلت : قد غفلت عنك فاعذرنى ، فقال : ولينى من لا ينسانى ، فلما مات دخلت بيت الأكفان فرفعت

__________________

(١) البر : هو المحسن ، وهو الّذي منّ على المريدين بكشف طريقه ، وعلى العابدين بفضله وتوفيقه ، وقيل : هو الّذي من على السائلين بحسن عطائه ، وعلى العابدين بجميل جزائه ، وقيل : هو الّذي لا يقطع الإحسان بسبب العصيان.

(٢) الطور : ٢٨.

٣٥٣

كفنا فوجدته طويلا فقطعت منه قطعة ودفنته فيه ، فرأيت فى منامى كأن قائلا يقول لى : بخلت بقطعة كفن على ولى من أوليائنا ، لا حاجة لنا فى كفنك ، فأصبحت ودخلت بيت الأكفان فوجدت الكفن ملفوفا فى زاوية من زواياه.

ومن آداب من عرف أنه البر أن يكون بارا بكل أحد لا سيما بأبويه ، فإن الخبر ورد عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رضا الرب فى رضا الوالدين ، وسخط الرب فى سخط الوالدين».

يحكى أن موسى ، عليه‌السلام ، لما كلمه الله تعالى رأى رجلا قائما عند ساق العرش فتعجب من علو مكانه فقال : يا رب ، بم بلغ هذا العبد هذا المحل؟ فقال : إنه كان لا يحسد عبدا من عبادى على ما آتيته ، وكان بارا بوالديه.

ويقال : إن الحسن بن على رضى الله عنهما كان لا يأكل مع فاطمة رضى الله عنها فقالت له فى ذلك فقال : أخشى أن يقع بصرك على شيء فأسبقك بأخذه ولا أشعر ، فأكون عاقا لك ، فقالت : كل معى يا بنى ، وأنت منى فى حل.

ويحكى عن أبى يزيد البسطامى أنه قال : كنت فى ابتداء أمرى صبيا ولى دون عشر سنين ، فكان لا يأخذنى النوم بالليل ، وكنت أصلي ، فأقسمت عليّ والدتى ليلة أن أبيت معها فى الفراش وأنام ، فلم أرد مخالفتها ، فنمت معها ، وكانت يدى تحت جنبها فلم أخرجها مخافة أن تنتبه ، ولم يأخذنى النوم فقرأت عشرة آلاف مرة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وعوذتها بها ، قال : فلم تعلم بيدى هذه ولم أخرجها من تحتها مخافة أن تنتبه.

٣٥٤

فصل : البر بالشيوخ والأساتذة :

واعلم أن بر الأصاغر من التلامذة للشيوخ والأساتذة يجب أن يكون أكثر من برهم بوالديهم ، فإن الأب يحمى ولده عن آفات الدنيا ، والشيخ يحمى تلميذه عن آفات الآخرة ، والأب يربى ولده بنعمته والشيخ يربى تلميذه بهمته.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى يقول : سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكى يقول : من قال لأستاذ : لا ، لم يفلح أبدا.

يحكى عن أبى الحسن العلوى أنه قال : كنت تلميذا لجعفر بن نصير ، رحمه‌الله تعالى ، فكنت ليلة عنده ، وكنا علقنا طيرا فى التنور فى البيت ، وكان قلبى مع ذلك الطير ، فقال لى الشيخ جعفر : بت عندنا الليلة فاعتللت بعلة ، ورجعت إلى البيت ، قال : فأخرج الطير من التنور ووضع بين يدى ، وكان باب الدار مفتوحا فدخل كلب فأخذ الطير ومر ، وعثرت الخادم بالجرداب قصبته ، وأكلت الخبز بلا إدام ، فتغير قلبى واستوحشت ، فأصبحت ودخلت على جعفر ، فلما وقع بصره قال : من لم يحفظ قلوب المشايخ سلط الله عليه كلبا يؤذيه.

سمعت الشيخ أحمد بن يحيى ، وكان كبير الشأن يقول : من حفظ حق أستاذه وشيخه لا يكافأ فى حياة الشيخ ، لئلا يسقط تعظيم الشيخ من قلبه ، ومن لم يحفظ حرمة شيخه لا يعاقب فى حياة الشيخ ، لأن لهم بهم رحمة وشفقة ، فتداخلهم الشفقة عليهم ، بل ينتقم الله سبحانه منهم ويكافئهم بعد موت شيوخهم ، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة.

٣٥٥

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧٨ ـ التواب (١)

جل جلاله

التواب اسم من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه : (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٢) والتوبة فى اللغة والتوب : هو الرجوع ، يقال : تاب يتوب توبا وتوبة إذا رجع ، وتاب وآب وأناب بمعنى واحد ، وكذلك ثاب ، بالثاء المعجمة ثلاثا ، يقال : ثاب اللبن فى الضرع إذا رجع إليه ، ومعنى الوصف بأن الله سبحانه تواب أنه يتوب على العبد ، أى يعود عليه بألطافه وييسر التوبة له.

قيل : توبة الله على العبد خلقه التوبة له وقبل قبوله لتوبته قال الله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٣) فعلم أنه إذا لم يتب الله على العبد لا يتوب ، فإذا ابتداء التوبة وأصلها من الله عزوجل ، وكذلك تمامها على الله سبحانه ، ونظامها بالله ، نظامها فى الحال وتمامها فى المآل ، ولو لا أن الله تعالى يتوب على العبد وإلا متى كان للعبد توبة؟ وقوم من أهل الحكمة يقولون : إن العبد

__________________

(١) التواب : هو الّذي يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى بما ظهر لهم من آياته ، ويسوق إليهم من تنبيهاته ، ويطلعهم عليه من تخوفاته وتحذيراته ، حتى إذا اطلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه ، فرجعوا إلى التوبة فرجع إليهم فضل الله تعالى بالقبول.

(٢) النصر : ٣.

(٣) التوبة : ١١٨.

٣٥٦

يزجره العلم عن المعاصى فيتوب لتكلفه ، فربما ينقض توبته ويعيد بطالته ، فأما إذا أراد الله سبحانه لعبد خيرا وحكم بصحة توبته كان ذلك آخر عهده بتلك الزلة ، فلا ينقض تلك التوبة ، وإن من كرم الله سبحانه أن يضيف التوبة على العبد إلى نفسه فالعبد يذنب وهو يتوب عليه وهذا حقيقة الكرم ، قال الله سبحانه (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (١) وقيل : إن الله تعالى أخبر عن سنن من مضى وما عملوا ، ثم أخبر عما عاملهم به مكافأة لهم على ما قدموا وأسلفوا ، قال الله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢) يعنى به صنوف معاصيهم وفنون مخالفتهم ، ثم أخبر عما عاملهم به فقال : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) (٣) فانتظرت هذه الأمة وقالت : ما يعاجلنا به على قبيح ما أسلفنا ، فقال تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أولئك أبلاهم وعذبهم ، وهؤلاء تاب عليهم ورحمهم ، سنة منه كريمة مضت بتخصيص هذه الأمة ، ولهذا أثبت فى اللوح المحفوظ : أمة مذنبة ورب غفور.

وفى خبر مسند أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لأمته عشية عرفة واستغفر الله لهم فأوحى الله إليه إنى قد غفرت لهم ما بينى وبينهم ولم أغفر لهم ظلم بعضهم لبعض ، فزاد فى الاستغفار وقال : إنك قادر أن ترضى خصماءهم ، فلم يجبه تلك الليلة ، فلما

__________________

(١) النساء : ٢٧ ، ٢٨.

(٢) النساء : ٢٦.

(٣) العنكبوت : ٤٠.

٣٥٧

كان غداة المزدلفة أوحى الله إليه بالإجابة فابتسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : عجبت من فعل إبليس لما أجاب الله تعالى دعائى ، صاح بالويل والثبور ووضع التراب على رأسه.

وفى بعض الحكايات أنه لما تاب الله على آدم ، عليه‌السلام ، قال فى مناجاته : «إلهى لم عاقبتنى وقد علمت أنى إنما أكلت من الشجرة طمعا فى الخلود ، لأبقى معك ، فأوحى الله تعالى إليه : لأنك رأيت الخلود من الشجرة ، فأشركت بى فى سرك ولم تشعر ، وإن من الكرم أن تتوب على من أذنب إليك كما تاب الله عليك والمشهور من قول القائل :

إذا مرضتم أتيناكم نعودكم

وتذنبون فنأتيكم ونعتذر

يحكى عن أبى عمرو بن علوان أنه قال : كنت فى حداثة سنى مولعا بشراء الجوارى ، فكنت ليلة فى صلاتى أفكر فى بعض أحوال ما مضى لى معهن حتى أخطأت فأنزلت فى صلاتى ، قال : فورد كتاب الجنيد على أبى بأن أرسل إلى ابنك أبا عمرو ، قال : فأتيت ، فلما وقع بصره عليّ ، قال : لى أما تستحى تفكر فى مثل تلك الحال وأنت بين يدى الله تعالى ، لو لا أنى تبت عنك وإلا لبقيت فى ذلك إلى الأبد ، لا تصحب إلا من إذا مرضت عادك ، وإذا أذنبت تاب عنك.

وكثير من الناس ينهمكون فى غوايتهم ويتهتكون بسوء جهالتهم حتى إذا أشرفت سفينتهم على الغرق تداركهم الحق سبحانه بجميل لطفه فيغفر قبيح أفعالهم ويصلح سوء أحوالهم.

يحكى أن رجلا كان يتعاطى الفواحش فلم يدع شيئا إلا فعله ، فمرض فلم

٣٥٨

يعده جيرانه فدعا بعضهم وقال له : إن جيرانى فى المقبرة يتأذون بجوارى فادفنونى فى زاوية بيتى ، فلما مات رئى فى المنام على هيئة حسنة فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : قال لى: عبدى ، ضيعوك وأعرضوا عنك ، أما إنى لا أضيعك ولا أعرض عنك برحمتى ، تاب الله علينا بفضله وختم لنا بالسعادة بلطفه.

* * *

٣٥٩

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧٩ ـ المنتقم (١)

جل جلاله

المنتقم اسم من أسمائه تعالى ، ورد به الخبر ، والانتقام افتعال من النقمة ، يقال : نقم ينقم إذا كره منه الشيء غاية الكراهة ، والانتقام غاية العقوبة على الشيء الّذي يكرهه ، قال الله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) (٢) أى ما كرهوا منهم ، وقال تعالى : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) (٣) أى تكرهون ، وانتقام الله تعالى عقوبة للعصاة على ما كره منهم ، وليس كراهيته ككراهة الخلق من نفور النفس ولحوق المشقة ، وإنما معناه ذمه لما كرهه وذم فاعله والحكم بعقوبته ، والله تعالى ينتقم من عباده بعد طول الإعذار والإنذار وكثرة الإمهال وسابق الحكم ، فإذا أبى العبد إلا إصرارا وعتوا وإعراضا من موافقته انتقم منه بعد ذلك ، قال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٤) ثم إن الله تعالى قد يغضب فى حق خلقه بما لا يغضب فى حق نفسه ، وينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه فى خالص حقه.

__________________

(١) المنتقم : هو الّذي يقصم ظهور العتاة وينكل بالجناة ويشدد العقاب على الطغاة ، وذلك بعد الإعذار والإنذار ، وبعد التمكين والإمهال ، وهو أشد للانتقام من المعاجلة بالعقوبة ، فإنه إذا عوجل بالعقوبة لمن يمعن فى المعصية ، فلم يستوجب غاية النكال فى العقوبة.

(٢) البروج : ٨.

(٣) المائدة : ٥٩.

(٤) النحل : ١١٢.

٣٦٠