شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

الشيء إلى مثل تركيبه الأول وتأليفه الأول إعادة ، ومنه قولهم : أعاد فلان بناء داره ، وكذلك يقال : أعاد فلان حديثه إذا تكلم بمثل كلامه الأول ، ويجوز أن تكون الإعادة أيضا جمع الأجزاء المتفرقة من الهالكين ، فإذا بعث الخلق وحشرهم فقد أعادهم ، والله تعالى يبدأ الخلق أى يخلقهم فى الدنيا ، ثم يعيدهم أى يحشرهم فى القيامة.

وما يتعلق بباب الوعظ والتذكير فى معنى هذا الاسم إعادة الله سبحانه للعبد عوائده وألطافه وإحسانه ، وقد أجرى الله سبحانه سنته بأن ينعم على عباده عودا على بدء ، وأن الكريم من بدأ بصنائعه يعود على بدء ، وفى معناه أنشدوا :

بدأت بإحسان وثنيت بالرضا

وثلثت بالنعماء وربعت بالفضل

وفى بعض الحكايات أن بعضهم دخل على بعض الكرام فقال له : عهدك بنا قرب ، فلم أسرعت العود؟ فقال : لقول الشاعر فيك :

فأعطى ثم أعطى ثم عدنا

فأعطى ثم عدت له فعادا

مرارا ما أعود إليه إلا

تبسم ضاحكا وثنى الوسادا

قال : فأضعف له العطية وأكرمه.

وإذا كان مثل هذا يوجد فى صفه المخلوق ففى كرم الحق سبحانه وتعالى أولى أن يؤمل أضعاف هذا ، كيف والمخلوق إنما يحبك إذا أعفيته عن السؤال ، والله تعالى إذا ازددت منه سؤالا ازداد لك حبا ونوالا ، وأنشد بعضهم :

الله يغضب إن تركت سؤاله

وبنى آدم حين يسأل يغضب

٣٢١

ومن حميد سنته وجميل فضله وعادته أنه إذا تغير لعبد وقت أو تلون له حال أو خانه زمان أنس استبدل غيبته بوصال يجدد أيامه الدارسة ويعيد عليه أوقاته الذاهبة ، كما قيل :

لئن درست آثار ما كان بيننا

من الوصل ما شوقى إليك بدارس

وما أنا من يجمع الله بيننا

كأحسن ما كنا عليه بآيس

وأنشدوا :

أؤمل عطف الدهر بعد انصرافه

فيا أملى فى الدهر هل أنت كائن

فصل : هل للأوقات بدل :

وذهب جماعة من المشايخ إلى أن الأوقات ليس لها بدل ، وأن من فاته وقت فلا يكون له إليه وصول ، وأنشدوا :

فخل سبيل العين ويحك للبكا

فليس لأيام الشباب رجوع

سمعت الدقاق يقول : تمادى بكاء داود عليه‌السلام فأوحى الله إليه : إلى كم تبكى؟ إن كان هذا البكاء من خوف النار فقد أمنتك ، وإن كان لطلب الجنة فقد بشرتك ، وإن كان لذنب الخصم فقد أرضيته ، فزاد داود فى البكاء وقال : إنما أبكى لما فاتنى من صفاء ذلك الوقت ، فرد عليّ ذلك الوقت ، فأوحى الله إليه : هيهات يا داود ، لا سبيل إلى ذلك ، فإن شئت فابك ، وإن شئت فاسكت ، فقال داود : الآن طاب البكاء.

٣٢٢

فصل : أوقات تأسف العارفين :

واعلم أنهم وإن لم يصلوا إلى تلك الأوقات فأوقات تأسفهم وتلهفهم أتم من تلك الأوقات ، لأن ذلك حق الحق منهم.

يحكى عن بعض المشايخ أنه رأى شابا بعد الموسم دخل مكة منقطعا منكسرا محزونا ، كما يكون المنقطعون ، فقال له ذلك الشيخ : أنا حججت كذا وكذا فهبنى تلك الحسرة التى أنت فيها وأهب لك تلك الحجات كلها.

وفى قريب من هذا المعنى قال موسى : إلهى أين أجدك؟ فقال تعالى : عند المنكسرة قلوبهم من أجلى ، وبالله التوفيق.

* * *

٣٢٣

باب

فى معنى اسميه تعالى

٦١ ، ٦٢ ـ المحيى المميت (١)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) (٢) والإحياء فى وصفه تعالى خلق الحياة فى العبيد والحيوان ، والإماتة خلق الموت فيها ، وليس من شرط الحياة وجود البنية والبلة كما توهمه بعض المعتزلة ، بل كل جوهر يخلقه الله تعالى فلا بد أن تكون فيه حياة أو ضد للحياة ، من مواتية أو جمادية ، وإنما يختلف هذا بالأسماء وإلا فالذى يضاد الحياة جنس واحد ، والله تعالى خلق النطف أمواتا ، ثم خلق فيها الحياة ، ثم يخلق فيها الموت عند قبض الأرواح ، ثم يخلق فيهم الحياة فى القبور للسؤال ، ثم يميتهم ثم يحييهم فى القيامة ، ثم لا موت بعده ، إما خلود فى الجنة أو خلود فى النار.

وخالفت القدرية أهل السنة فى هذه الجملة فى مواضع منها قولهم : إن

__________________

(١) المحيى المميت : يرجع هذا إلى الإيجاد ، ولكن الموجود إذا كان هو الحياة يسمى فعله إحياء ، وإذا كان هو الموت سمى فعله إماتة ، ولا خالق للموت والحياة إلا الله تعالى ، فلا محيى ولا مميت إلا الله تعالى ، وقيل : المحيى من أحياك بذكره ، واستعبدك ببره ، ونصبك لشكره ، والمميت من أمات قلبك بالغفلة ، ونفسك باستيلاء الزلة ، وعقلك بالشهوة.

(٢) غافر : ٦٨.

٣٢٤

الحياة تقتضى بنية وبلة ، ومنها : إنكارهم سؤال القبر وعذاب القبر ، وليس هذا موضع بسط الكلام فى هذه المسألة ، ولهذا أعرضنا عنه.

وليس معنى الإحياء والإماتة أيضا فى وصفه ما ظنه نمرود حيث حاجّ إبراهيم فى قوله: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) (١) فعمد إلى رجل محبوس فى سجنه فأطلقه فقال : هذا كان ميتا فأحييته ، وقتل رجلا برئ الساحة وقال : هذا كان حيا فأمته ، لأنه لم يخلق لأحد لا موتا ولا حياة ، والمحيى والمميت على الحقيقة من يخلق الموت والحياة ، وذلك صفة القديم سبحانه.

ثم إن هذه الطائفة أطلقوا لفظ الإحياء والإماتة لا على هذا الوصف ، ولكن على معنى السرور والفرح والمحن والترح بنوع توسع ، على ما سيجيء ذكر بعضه إن شاء الله تعالى.

من ذلك أنهم قالوا : أجرى فى عادة الناس أن فلانا أحيى فلانا إذ جبر حاله وأصلح أموره ، ويقولون : قد مات حال فلان إذا ساء أمره ، ويقولون : من أقبل عليه الحق أحياه ، ومن أعرض عنه أماته وأفناه ، ومن قرّبه أحياه ومن غيبه أفناه ، وأنشد بعضهم :

أموت إذا ذكرت ثم أحيا

فكم أحيا عليك وكم أموت

قال الله سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢) قيل فى بعض التفاسير : إحياء بذكره سبحانه لهم بالجميل ، ومن المشهور فى ألفاظ الناس : لم يمت من كان له مثل فلان خلف ، قال الشاعر :

فإن يك عتاب مضى إلى سبيله

فما مات من يبقى له مثل خالد

__________________

(١) البقرة : ٢٥٨.

(٢) آل عمران : ١٦٩.

٣٢٥

قالوا : من كان فناؤه فى الله فهو حي وإن هلك ، ومن كانت حياته لحظوظه فهو ميت وإن عاش ، وأنشدوا :

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

وقيل : قد مات قوم وهم فى الناس أحياء.

فصل : الإيمان والإسلام عند القوم :

وعند القوم أن الإسلام ذبح النفوس بسيوف المجاهدة ، والإيمان حياة القلوب بنور الموافقة ، فيكون الموت فناء النفوس والحياة استيلاء القلوب ، ولهذا قالوا : لا يصح السماع إلا لمن كانت نفسه ميتا وقلبه حيا ، فالله تعالى يحيى نفوس العابدين ويحيى قلوب العارفين ، ويحيى قلوب أهل الوصال ، ويميت أحوال أهل الفراق ، قال الله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (١) جاء فى التفسير : كافرا فهديناه.

فصل : علامات من ماتت نفسه :

ومن أمارات من ماتت نفسه زوال آفاته عنه وسقوط شهواته منه وقيامه بحقوق ربه وما فيه رضاه وتباعده عما فيه حظوظ نفسه ومناه ، فيعيش مع الحق بالمروة ، ومع الخلق بالفتوة ، فبمروته لا يخالفه فى أوامره ، وبفتوته لا ينازع الخلق فى مآربه ومطالبه ، فيكون مع الله تعالى بنعت الصدق ، ويصحب الخلق بحسن الخلق ، وحكاياتهم فى الفتوة لا تحصى ، فمن ذلك ما يحكى عن المرتعش أنه قال : دخلت مع أبى حفص النيسابورى على مريض نعوده ، فقال أبو حفص للمريض : تحب أن تبرأ؟ فقال : نعم ، فقال للفقراء : احملوا عنه،

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

٣٢٦

قالوا : نعم ، قال : فخرجنا وخرج المريض معنا ، وأصبحنا كلنا أصحاب فراش نعاد.

وحكى أن النورى مرض فدخل عليه الجنيد يعوده وحمل إليه شيئا من الفواكه والمنثور، فبرئ النورى ومرض الجنيد ، فدخل عليه النورى يعوده فقال للفقراء الذين معه : تحمّلوا عنه، فخرجوا وحموا وبرئ الجنيد من علته ، فقال له النورى : هكذا أعود المرضى.

* * *

٣٢٧

باب

فى معنى اسميه تعالى

٦٣ ، ٦٤ ـ الحى (١) القيوم (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٣) ، فأما الحى فهو الّذي له حياة ، والله تعالى حي ، والدليل على ثبوت الوصف له تعالى أنه عالم قدير مريد ، والحياة شرط فى العلم والقدرة ، وقول من قال : يقال له : محيى ولا يقال له : حي ، لأن غيره يكون حيا فاسد ، لأن الاشتراك فى الاسم لا يقتضي المشابهة فى الذات.

وحياته صفة من صفات ذاته زائدة على بقائه ، والحى فى اللغة فى غير وصفه يقع على معان ، منها : القبيلة ، يقال : حي من العرب ، وجمعه أحياء ،

__________________

(١) الحى : هو الفعال الدراك حتى إن ما لا فعل له أصلا وإدراك فهو ميت ، وأقل درجات الإدراك أن يشعر المدرك بنفسه ، فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت ، فالحى الكامل المطلق هو الّذي يندرج جميع المدركات تحت إدراكه ، وجميع الموجودات تحت فعله ، حتى لا يشذ عن علمه مدرك ، ولا عن فعله مفعول ، وكل ذلك لله تعالى ، فهو الحى المطلق ، وكل حي سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله.

(٢) القيوم : صيغة مبالغة من القائم ، وهو القائم بنفسه مطلقا ، وهو الّذي يقوم به كل موجود ، حتى لا يتصور للأشياء وجود ولا دوام وجود إلا به تعالى ، فهو القيوم لأن قوامه بذاته ، وقوام كل شيء به.

(٣) البقرة : ٢٥٥.

٣٢٨

والحى دعاء الإبل إلى المشرب ، ودعاؤها إلى العلف ، ويقال : حي على الصلاة ، أى : هلم ، والحى فرج المرأة ، ويقال للنبات إذا اخضر الحى ، والحى بالكسر جمع الحياة.

وأما القيوم فهو المبالغة من القائم بالأمور ، يقال : فلان قائم بهذا الأمر وقيم وقيام ، وقيوم فى وصفه تعالى ، قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه الحى القيام ، ونظير قيوم وقيام قولهم : ما فى الدار ديور ولا ديار.

ومعنى القيوم فى وصفه تعالى أنه المدبر والمتولى لجميع الأمور التى تجرى فى العالم ، قال الله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١).

وإذا علم العبد أنه سبحانه حي ، وعلم أنه تعالى حي لا يموت وقديم لا يجوز عليه العدم صح توكله عليه ، ولهذا قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (٢) أى إن من اعتمد على مخلوق واتكل عليه ليوم حاجته اختل حاله وقت حاجته إليه ، فيضيع رجاؤه وأمله لديه.

وقيل : إن رجلا كتب إلى آخر : إن صديقى فلانا قد مات ، فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصرى ، فكتب إليه : الذنب لك حيث أحببت الحى الّذي يموت ، هلا أحببت الحى الّذي لا يموت حتى لم تحتج إلى البكاء عليه؟.

فمن علم أنه سبحانه حي أبدا علم أن نفسه لا بد من فنائها وهلاكها ، وإن طالت مدة بقائها وملكها.

حكى أن المأمون لما قربت وفاته فرش الرماد وكان يتمرغ عليه ويقول : يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.

__________________

(١) الرعد : ٣٣.

(٢) الفرقان : ٥٨.

٣٢٩

بل من علم أنه الباقى لا يزال علم أن فيه خلفا من كل تلف ، بل من علم أنه لا يصل إلى مولاه إلا بعد موته اشتاق إلى وفاته.

قيل لبعضهم : إن الدنيا لا تساوى مع الموت شيئا ، فقال : بل الدنيا لو لم يكن الموت ما كانت تساوى شيئا.

وقيل : الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب ، وأنشدوا :

أنت تبقى والفناء لنا

فإذا أفنيتنا فكن

حكى عن على بن أبى الفتح أنه رأى الناس يتقربون بقرابينهم فى يوم عيد : فقال : إلهى الناس يتقربون إليك بقرابينهم وأنا أتقرب إليك بأحزانى ، وغشى عليه ، فلما أفاق قال: إلهى كم ترددنى فى هذه الدنيا؟ قال : فمات من ساعته.

وقيل : من أمارات الاشتياق إلى الله تعالى تمنى الموت على بساط العافية.

وأما من عرف أنه القيوم بالأمور استراح عن كد التدبير وتعب الأشغال وعاش براحة التفويض فلم يضن بكريمة ولم يجعل فى قلبه للدنيا كبير قيمة.

يحكى عن الطرماح أنه قال : كنت عند الحسين بن على بن أبى طالب رضوان الله عليهما إذ جاءه سائل فسأله شيئا فأعطاه نعليه ، فقلت : يا ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الله أولى بعباده ، فقال : اسكت يا طرماح ، فأنا أستحي من الله أن أسأله فيعطينى ثم لا أعطى من يسألنى.

حكى عن بعضهم أنه قال : من اهتم للخبز فليس له عند الله قدر ، وإنما قال ذلك لأنه إذا علم أنه القائم بتدبير الأمور لا ينبغى له أن يهتم للخبز ولا لغيره ، ولهذا قيل : من صح توكله فى نفسه صح توكله فى غيره.

وقال الأكابر : إن جميع كرائم الدنيا والعقبى عند الله أقل من تبنة عند

٣٣٠

سلطان ، ومن سأل من سلطان الوقت أن يهب منه تبنة واحدة فقد صغرت همته.

وفى هذا المعنى ما يحكى عن عمر البسطامى ، تلميذ أبى يزيد ، أنه قال : كنت عند أبى يزيد فقال لى : إن وليا من أولياء الله يأتى فمر معنا حتى نستقبله ، فخرج ، فلما وافى بسطام إذا بإبراهيم بن أنيسة الهروى ، فسلم عليه أبو يزيد فقال له : علمت أنك تحبنى فاستوهبتك فوهبك لى ، فقال له إبراهيم : ولو شفعك فى جميع الخلق ما كان بكبير ، فأية شفاعة فى قطعة طين! قال : فتعجب أبو يزيد من قوله.

* * *

٣٣١

باب

فى معنى اسمه تعالى

٦٥ ، الواجد (١)

جل جلاله

ومن أسمائه تعالى الواجد ، وهو بمعنى الغنى فى وصفه ، يقال : فلان يعطى من جدة أى عن سعة وغنى ، وقيل : إنه بمعنى العالم ، قال الله تعالى (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) (٢) أى علمه ، يقال : وجد فلان وجودا ووجدانا إذا أصاب ، ووجد وجدا إذا حزن ، ووجد فلان على فلان موجدة إذا غضب ، ووجد فلان وجدا وجدة إذا استغنى ، والاسم الواجد من الجميع.

فإذا عرف أن الله غنى فمن أمارته أن يستغنى به ، وإذا علم أن الله تعالى عالم فمن أمارته أن يلتجئ إليه ، وقد استعمل على طريقة هذه الطائفة لفظ

__________________

(١) الواجد : هو الّذي لا يعوزه شيء ، وهو فى مقابلة الفاقد ، ولعل من فاته ما لا حاجة به إلى وجوده لا يسمى فاقدا ، والّذي يحضره ما لا تعلق له بذاته ولا بكمال ذاته لا يسمى واجدا ، بل الواجد ما لا يعوزه شيء مما لا بد له منه ، وكل ما لا بد منه فى صفات الإلهية وكمالها فهو موجود لله تعالى ، فهو بهذا الاعتبار واجد ، وهو الواجد المطلق ، ومن عداه إن كان واجدا لشيء من صفات الكمال وأسبابه فهو فاقد لأشياء ، فلا يكون واجدا إلا بالإضافة

ويلاحظ أن المؤلف رحمه‌الله تعالى لم يذكر اسمه تعالى : الماجد وهو : بمعنى الكثير الخير ، صاحب الكمال والعز الكامل ، وهو تأكيد لمعنى الواجد.

(٢) النور : ٣٩.

٣٣٢

الوجد والوجود والتواجد ، ومعناهم يعود إلى الإصابة والحزن ، على ما يجيء فى بعض شرحه ، وذلك أنهم قالوا : الوجد المصادفة ، ومعنى ذلك ما يجدونه ويصيبونه فى قلوبهم من الأحوال من غير تكلف ولا تطلب.

ونحن نذكر طرفا من أقاويلهم وحكاياتهم :

قال الثورى : الوجد لهيب ينشأ فى الأسرار ينتج عن الشوق فتضطرب الجوارح طربا أو حزنا عند ذلك الوارد.

وقيل : تواجد النورى شهرا فقام على رجله فى مسجد الشيرازية ، فكان إذا حضرت الصلاة صلى ثم عاد إلى القيام ، فقال بعض القوم : إنه صاح ، فبلغ ذلك الجنيد فقال : لا ، ولكن أرباب التواجد محفوظون بين يدى الله تعالى ، لا يجرى عليهم لسان ذم.

وسئل أبو على الروذبارى عن الوجد فى السماع ، فقال : مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب.

وقال المرتعش : من تواجد ولم ير فى تواجده زيادة فى دينه فينبغى أن يستحى ويتوب.

وكان الشبلى يقول : اللهم لا تبلنى بفقد ولا بوجد ، وأحينى حياة حتى لا توصف ولا تحد ، وكان يقول : الوجد فقد والفقد فى الوجد وجد.

وقد قيل : الوجد وجود نسيم الحبيب لقوله تعالى : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) (١) ، وقال الجنيد : الوجد انقطاع الأوصاف عند الشهود ، وقال أبو عطا : متى ما ذكرت فالوجد منك بعيد ، وقال النورى :

إن كذبتك ليس لى

وجد يوافق ما لقيت

لو كان لى وجد على

مقدار ما ألقى فنيت

__________________

(١) يوسف : ٩٤.

٣٣٣

وقال آخر :

نطقت ضمائره بكامن سره

عن وجده بالوهم من خطراته

وشكا الضمير إلى الهوى ألم الهوى

وشكا الّذي يلقاه من زفراته

وقيل : الوجد نيران الأنس يثيرها رياح القدس ، وقيل : الوجد : ما لا أركان للعلم عليه ، وقال أبو سعيد الخراز : كل وجد يظهر على الجوارح الظاهرة وفى النفس أدنى حمولة له فهو مذموم ، وقال النصرآباذي : مواجيد القلوب تظهر بركاتها على الأبدان ، ومواجيد الأرواح تظهر بركاتها على الأسرار ، وقال الجنيد : لا يضر نقصان الوجد مع فضل العلم ، وإنما يضر فضل الوجد مع نقصان العلم ، وأنشدوا :

وسكر الوجد فى معناه صحو

وصحو الوجد فى سكر الوصال

وقيل : لما أخرج ابن منصور للصلب قال : حسب الواجد إفراد الواحد ، فما سمع ذلك من المشايخ أحد إلا استحسنه.

وسئل أبو يعقوب النهرجورى عن علامة صحة الوجد فقال : معرفة قلوب الأشكال ، وعلامة فساده إنكار قلوب الأشكال.

وقال الجنيد : ذكر الوجد عند السرى فقال : يبلغ بحيث يضرب وجهه بالسيف ولا يحسه ، قال الجنيد : فكان فى نفسى من ذلك شيء حتى صح عندى.

وكان سهل يتوالى عليه الوجد فلا يأكل فى خمسة وعشرين يوما ، ويكون عليه قميص واحد وهو يعرق فى الشتاء ، وإذا سألوه مسألة قال : لا تسألونى فى هذا الوقت فإنكم لا تنتفعون بكلامى.

وقيل لا يقع على الوجد عبارة لأنه سر بين الله وبين عبده ، وقيل : تقع العبارة على الوجود.

هذا طرف من صفات من تحقق بالوجد ، لا جعل الله نصيبنا منه الذكر دون الوجود.

٣٣٤

باب

فى معنى اسميه تعال

٦٦ ، ٦٧ ـ الواحد (١) الأحد (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه ، قال الله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (٣) ، وقال تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فأما الواحد فهو الّذي لا قسم له ولا استثناء منه ، هذا حقيقته عند أهل التحقيق ، فإذا قيل للجملة الحاملة : إنها واحد فعلى المجاز كما يقال : دار واحدة ودرهم واحد ، لأنه يصح أن يستثنى منه البعض ، واسم واحد له مجاز ، وكان الشيخ أبو بكر بن فورك يقول : الواحد فى وصفه سبحانه له ثلاثة معان ، ولفظ الواحد فى كلها حقيقة :

أحدها : أنه لا قسم لذاته وأنه غير متبعض ولا متجزئ.

والثانى : أنه لا شبيه ، والعرب تقول : فلان واحد فى عصره ، أى لا شبيه له ، قال الشاعر :

يا واحد العرب الّذي

ما فى الأنام له نظير

__________________

(١) الواحد : هو الّذي لا يعد ، وهو الّذي تناهى فى سؤدده ، فلا شبيه يساميه ولا شريك يساويه ، وهو الّذي يكفيك من الكل ، والكل لا يكفيك من الواحد.

(٢) الأحد : هو المنفرد بإيجاد المعدومات ، المتوحد بإظهار الخفيات ، وقيل : الأحد الّذي ليس لوجوده أمد ، ولا يجرى عليه حكم أحد ، ولا يعييه خيل ولا مدد.

(٣) البقرة : ١٦٣.

٣٣٥

لو كان مثلك آخر

ما كان فى الدنيا فقير

والثالث : أنه واحد على معنى أنه لا شريك له فى أفعاله ، يقال : فلان متوحد بهذا الأمر أى ليس يشركه فيه أحد ولا يعاونه أحد.

والأولون قالوا : هذه المعانى الثلاثة مستحقة لله تعالى ، ولفظ التوحيد فيه حقيقة فى نفى القسمة وفى الباقى مجاز.

وأما الأحد فأصله فى اللغة وحد ، يقال : وحد يوحد فهو وحد ، كما يقال : حسن يحسن فهو حسن ، ويقال : رجل وحد ووحيد ووحد ، بسكون الحاء ، كما يقال : فرد فهو فرد وفريد ، ويقال : هو وحيد فريد أحيد بمعنى ، والأصل فى أحد وحد ثم أبدلت الواو همزة فقالوا : أحد والواو المضمومة تنقلب همزة كقولهم أفيت ووفيت ، الواو المكسورة تنقلب همزة كقولهم : أشاح ووشاح وإكاف ووكاف ، والواو المفتوحة تنقلب أيضا همزة كقولهم امرأة اسما يعنون وسما من الوسامة وهو الحسن.

فصل : الفرق بين الواحد والأحد وتعريف التوحيد :

وأما الفصل بين الواحد والأحد فمن الناس من لم يفرق بينهما ، ومنهم من فرق فقال : الواحد اسم لمفتتح العدد ، لأنه يقال : واحد واثنان ، والأحد اسم ينفى ما يذكر معه من العدد ، ويقال : الأحد يذكر مع الجحود ، ويقال : لم يأت أحد معناه أنه لم يأته الواحد ولا الاثنان ولا ما فوقه ، وتقول : قد جاءنى واحد ولا يقال : قد جاءنى أحد ، وقيل : الأحد إنما يذكر فى وصفه تعالى على جهة التخصيص ، يقال : هو الله الأحد ، ولا يقال : رجل أحد ، ويقال فى وصف غيره : وحيد وواحد ، ولا يقال ذلك فى وصفه تعالى لعدم التوقيف، وأما قوله

٣٣٦

تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقال الفراء : هو عماد ، ومعناه الله أحد ، وهذا ضعيف لأن العماد لا يكون إلا بعد إن وأخواتها ، وأما التوحيد فهو الحكم بأن الواحد واحد ولا يكون ذلك الحكم إلا بالقول وبالعلم ، وقد يكون بالإشارة إذا عقد على إصبع واحد.

والتوحيد ثلاثة : توحيد الحق سبحانه لنفسه ، وهو علمه بأنه وإخباره عنه بأنه واحد واحد ، وتوحيد العبد للحق بهذا المعنى ، وتوحيد الحق للعبد هو إعطاؤه له التوحيد وتوفيقه ذلك.

وقال الشبلى : التوحيد للحق توحيد وللخلق تطفيل ، وقال الجنيد : التوحيد إفراد القدم عن الحدث ، وقال ذو النون المصرى : التوحيد أن تعرف أن قدرة الله تعالى فى الأشياء بلا علاج ، وصنعه للأشياء بلا مزاح ، وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وقيل : التوحيد : إسقاط الياءات ، أى لا تقول لا متى ولا إلى ، وقيل : التوحيد فناء الرسم لظهور الاسم ، وقيل انمحاء الرسوم لظهور الحقائق ، وقيل : دثور الخلق لظهور الحق ، وقيل : التوحيد أن تعلم أن كل ما يخطر ببالك مما ترتقى إليه كيفية أو تنتهى إليه كمية أو تنتمى إليه ماهية أو تليق بوصفه أينية فالله جل جلاله بخلافه ، وقال بعضهم : تدرى لم لا يصح لك توحيدك؟ لأنك توحده بك وتطلبه لك ، بمعنى الواجب أن تعرف أن طلبك له به ووجودك إياه منه ، فهو المبتدئ بالفضل بل هو المجرى والمبدئ للصنع ، تبارك الله رب العالمين.

* * *

٣٣٧

باب

فى معنى اسمه تعالى

٦٨ ـ الصمد (١)

جل جلاله

الصمد اسم من أسمائه تعالى ، ومعناه الباقى الّذي لا يزول ، وقيل : الدائم وقيل : هو الّذي لا يطعم ، وقيل : هو الّذي لا جوف له.

وأما أهل اللغة فإنهم قالوا : الصمد الّذي يصمد إليه فى الحوائج ، يقال : صمدت صمده ، أى قصدت قصده ، وهذا هو الصحيح ، وقيل : هو السيد الّذي ينتهى إليه السؤدد ، وهو يؤول إلى ما ذكرناه أنه الّذي يصمد إليه فى الحوائج لأن القصود والرغائب تتوجه إلى ذوى السؤدد والأكابر ، قال الشاعر :

لقد بكر الناعى بخبر بنى أسعد

بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

فإذا قيل : إنه بمعنى الباقى الدائم الّذي لا يزول فمن حق من عرفه بهذا الوصف أن يعرف نفسه بالفناء والزوال ووشك الارتحال ، ويلاحظ السكون بعين الفناء فيزهد فى حطامها ولا يرغب فى حلالها فضلا عن حرامها ، ولهذا

__________________

(١) الصمد : هو الّذي يصمد إليه فى الحوائج ، ويقصد إليه فى الرغائب ، إذ ينتهى إليه منتهى السؤدد ، ومن جعله الله تعالى مقصد عباده فى مهمات دينهم ودنياهم وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه فقد أنعم عليه بحظ من معنى هذا الوصف ، ولكن الصمد المطلق هو الّذي يصمد إليه فى جميع الحوائج هو الله تعالى.

٣٣٨

قال أهل الحكمة : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لوجب على العاقل أن يزهد فى الذهب الفانى ويرغب فى الخزف الباقى ، فكيف والدنيا مذرة (١) ومآلها إلى الفناء.

قال الشبلى : الدنيا مذرة ، ولك منها عبرة.

وحكى عن رجل أنه اشترى دارا فحفر موضعا فوجد جرة فيها دنانير فمضى إلى البائع وقال : إنى اشتريت الدار ولم أشتر الدنانير فخذ مالك ، فقال البائع : أنا بعت الدار بما فيها لا آخذها ، فتحاكما إلى القاضى فقال الحاكم : ألكما أولاد فقال أحدهما : لى ابن ، وقال الآخر : لى بنت ، فقال : زوّجا أحدهما من الآخر وأنفقا الدنانير عليهما.

فهذا من صفات من لم يجعل للدنيا عنده خطرا.

وحكى أن رجلين تنازعا فى أرض فأنطق الله تعالى لبنة من جدار تلك الأرض حتى قال : إنى كنت ملكا من الملوك ، ملكت الدنيا ألف سنة ثم مت وصرت رميما ألف سنة فأخذنى خزاف واتخذ منى خزفا ، ثم أخذنى رجل وضرب منى لبنا ، وأنا فى هذا الجدار منذ كذا سنة ، فلم تتنازعا فى هذه الأرض.

وأما من علم أنه الصمد بمعنى أنه لا يطعم علم أنه يطعم ، قال الله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٢) فتتوجه رعايته عند مآربه إليه ويصدق توكله فى جميع حالاته عليه فلا يتهمه فى رزقه ، كما أنه لا يستعين بأحد من خلقه عليه ، فإن الّذي يحتاج إلى ملبوس ومأكول لا تصدق الرغبة إليه فى مأمول ولا يرجى منه النجح لمسئول ، وإذا عرف أنه الّذي يصمد إليه فى الحوائج شكا إليه فاقته ورفع إليه حاجته وتملق بجميع تضرعه وتقرّب بصنوف توسله.

__________________

(١) أى فاسدة.

(٢) الأنعام : ١٤.

٣٣٩

يحكى عن بعضهم أنه زار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إلهى إن غفرت لى سررت وليك هذا ، وإن رددتنى أشمت عدوك الشيطان ، وأنا لا أتوقع منك أن تؤثر شماتة عدوك على سرور وليك ، فإن الكريم من يرفع قدر من يقصده ويحقق ظن من يعتمده ، وإذا كان قصد المسلم لزيارته وقضاء حقه حسنا محمودا فقصد الحق أولى أن يكون محمودا.

روى فى بعض الأخبار أن رجلا خرج يوم عاشوراء إلى زيارة أخ له فأتاه ملك وقال له: من أين يا عبيد الله؟ فقال : من بيتى ، فقال : وإلى أين؟ فقال : إلى زيارة أخ لى ، فقال : أرحما تصل؟ فقال : لا ، فقال : أدينا تقضى؟ قال : لا ، قال : فإنى ملك خلقنى الله يوم استوى على عرشه فلم أزل راكعا وساجدا منذ خلقنى ، أرسلنى الله إليك أبشرك بأنه غفر لك ولأخيك بحق زيارتك له.

* * *

٣٤٠