شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

وحسبك تأييدا لهذه الجملة قصة آدم عليه‌السلام وهو أن الله سبحانه قاته ، وصان عن المحن أوقاته ، وكفاه كل شغل ولقاه كل يسر ، ورفع له مناره وأسجد له أبراره وأسكنه جواره وأجزل له مباره ، وقال جل وعلا : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١) فلما نسى وعده ومد إلى شهواته يده لقى ما لقى.

روى مجاهد أن الله سبحانه أوحى إلى الملائكة أن أخرجوا آدم وحواء من جوارى فإنهما عصيانى ، قال : وناداه ربه : أى جار كنت لك يا آدم؟ فقال : يا سيدى ومولاى ، نعم الجار كنت ، قال : فاخرجا من جوارى ، قال : فرفع جبريل التاج عن رأسه وحل ميكائيل الإكليل من جبينه وسقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فالتفت إلى حواء وقال : هذا أول شؤم المعصية ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، فأخذ آدم يفر فتعلق غصن من أغصان الشجرة بشعره وسمع نداء الحق جل جلاله : أمنّا تفر يا آدم؟ فقال: بل أستحيي منك يا رب ، ثم قال : إلهى إن تبت تعيدنى إلى الجنة؟ فقال : نعم ، فذلك معنى قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) (٢).

فصل : اختلاف الأقوات :

فإذا اختلفت الأقوات فمن عباده من جعل قوت نفسه توفيق العبادات ، وقوت قلبه تحقيق المعارف والمكاشفات ، وقوت روحه إدامة المشاهدات والمؤانسات.

__________________

(١) طه : ١١٨ ، ١١٩.

(٢) البقرة : ٣٧.

٢٦١

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٩ ـ الحسيب (١)

جل جلاله

الحسيب اسم من أسمائه قال الله تعالى (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٢) ومعناه شيئان : أحدهما : الكافى ، والثانى : المحاسب.

فإذا قيل : إنه بمعنى الكافى ، فمن قولهم : أعطانى حتى أحسبنى أى أعطانى ما كفانى حتى قلت : حسبى ، فيكون الحسيب بمعنى المحسب ، كالأليم بمعنى المؤلم ، وإذا كان بمعنى المحاسب ، ففعيل بمعنى الفاعل كثير كالأكيل بمعنى المواكل ، والشريب بمعنى المشارب ، والنديم بمعنى المنادم.

فأما إذا كان بمعنى الكافى ، فكفاية الله للعبد أن يكفيه جميع أحواله وأشغاله وأجل الكفايات أن لا يعطيه إرادة شيء ، فإن سلامته عن إرادة الأشياء حتى لا يريد شيئا أتم من قضاء الحاجة وتحقيق المأمول.

__________________

(١) الحسيب : هو الكافى الّذي من كان له كان حسيبه ، والله تعالى حسيب كل أحد وكافيه ، وهذا وصف لا يتصور حقيقته لغيره.

وقيل : هو من يعد عليك أنفاسك ، ويصرف بفضله عنك بأسك.

وقيل : الحسيب الّذي يرجى خيره ويؤمن شره.

وقيل : هو الّذي يكفى بفضله ، ويصرف الآفات بطوله.

وقيل : هو الّذي إذا رفعت إليه الحوائج قضاها وإذا حكم بقضية أبرمها وأمضاها.

(٢) النساء : ٦.

٢٦٢

وإذا علم العبد أن الحق سبحانه كافيه لم يرفع حوائجه إلا إليه فإنه سبحانه لسريع الإجابة لمن انقطع إليه وتوكل فى جميع أحواله عليه ، ولا سيما إذا كانت حاجته متمحضة فى حق الله تعالى لأنه إذا كانت حاجته فى حفظ نفسه فربما يحصل منع وتأخير فى قضاء الحاجة.

يحكى عن أبى الحسين الديلى ، وكان كبير الشأن ، أنه قال : وصف لى بأنطاكية إنسان أسود يتكلم على القلوب ، قال : فقصدته ، فلما رأيته رأيت معه شيئا من المباحات يريد أن يبيعه فساومته وقلت له : بكم تبيع هذا؟ فنظر إلى ثم قال : اقعد فإنك جائع منذ يومين ، حتى إذا بعنا هذا نعطيك من ثمنه شيئا ، قال فمضيت إلى غيره وتغافلت عنه كأنى لم أسمع ما قال ، وساومت غيره مما كان بين يديه ، ثم عدت إليه وقلت له : بكم تبيع هذا؟ فنظر إلى وقال : اقعد فإنك جائع منذ يومين ، حتى إذا بعنا هذا نعطيك من ثمنه شيئا ، قال: فمضيت إلى غيره ، وتغافلت عنه كأنى لم أسمع ما قال ، وساومت غيره ثم عدت إليه وقلت مثل قولى الأول والثانى فقال : اقعد فإنك جائع منذ يومين حتى إذا بعنا هذا نعطيك من ثمنه شيئا ، قال : فوقع على قلبى منه هيبة ، فلما باع ذلك أعطانى شيئا ومضى ، قال : فمضيت خلفه لعلى أستفيد منه شيئا يقوله لى ، قال : فالتفت إلى وقال : إذا عرضت لك حاجة فأنزلها بالله ، إلا إن يكون لك فيها حظ فتحجب عن الله تعالى إذا.

ومن علم أنه كافيه لا يستوحش من أعراض الخلق ولا يستأنس بقبول غير الحق ، ثقة بأن الّذي قسم له لا يفوته ، وإن أعرضوا ، وأن الّذي لم يقسم له لا يصل إليه ، وإن أقبلوا ، ثم إن العبد إذا اكتفى بحسن توليه سبحانه لأحواله فعن قريب يرضيه بما يختار له مولاه سبحانه ، فعند ذلك يؤثر العدم على الوجود

٢٦٣

والفقر على الغنى ، ويستريح إلى عدم الأسباب بدل ما كان يستأنس أمثاله بالأعراض والأسباب.

وفى معناه يحكى عن عطاء السلمى أنه بقى سبعة أيام لم يذق شيئا من الطعام ولم يقدر على شيء ، فسر قلبه لذلك غاية السرور ، وقال : يا رب إن لم تطعمنى ثلاثة أيام أخر لأصلين لك ألف ركعة.

وقيل : إن فتحا الموصلى رجع ليلة إلى بيته فلم يجد عشاء ولا سراجا ولا حطبا ، فأخذ يحمد الله تعالى ويتضرع إليه ويقول : إلهى ، لأى شيء وبأى وسيلة واستحقاق عاملتنى بما تعامل به أولياءك.

وأما من علم أنه حسيب بمعنى محاسب علم أنه يطالبه عذابا للصغير والكبير ، ويحاسبه على النقير والقطمير ، فعند ذلك يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، ويطالب قلبه بالقيام بحقوقه قبل أن يطالب ، فإن الله تعالى حكم بأنه لا يزول قدم العبد حتى يسأل عن حركاته وسكناته وجميع حالاته.

يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : كنت ببيت المقدس ليلة فبت تحت الصخرة خاليا ، فلما كان بعد هدء من الليل إذا أنا بملكين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه : من هاهنا؟ قال : إبراهيم بن أدهم ، فقال الّذي نقص من درجاته درجة؟ فقال الآخر : ولم؟ قال : لأنه اشترى بالبصرة تمرا فوقع من تمر صاحب الدكان على ما اشتراه تمرة بغير علمه فنقص من درجاته درجة ، قال إبراهيم : فلما أصبحت حولت وجهى إلى البصرة وأتيتها ، واشتريت من صاحب الدكان تمرا ثم ألقيت على تمره تمرة واحدة وانصرفت إلى بيت المقدس ، وبت تحت الصخرة ، فلما كان بعد ساعة من الليل رأيت ملكين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه : من هاهنا؟ قال : إبراهيم بن أدهم ، فقال الآخر : الّذي ردت درجته إلى ما كانت عليه.

٢٦٤

فصل : إذا حاسبك ربك فثق بفضله :

وقد يعلم العبد أنه يحاسبه ربه فيثق بفضله ويرجو أنه يستر عيوبه ، ويغفر ذنوبه ، ويرضى خصومه ويكفيه همومه ، فإن الكريم بالعفو جدير ، وعلى ما يرجى من سعة إحسانه وحسن غفرانه قدير ، والكريم من يطلب لجرائم العصاة عذرا.

وأنشدوا :

إذا شئت أن تدعى كريما معظما

حليما ظريفا ماجدا فطنا حرا

إذا ما بدت من صاحب لك زلة

فكن أنت محتالا لزلته عذرا

* * *

٢٦٥

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٠ ، ٤١ ـ الجليل (١) الجميل (٢)

جل جلاله

الجليل والجميل : اسمان من أسمائه تعالى ورد بهما التوقيف ، ولا خلاف عند أهل الحق أن جلاله استحقاقه لنعوت التعالى ، وهو بمعنى رفعته وعلوه ، وقالوا : جليل بيّن الجلال والجلالة ، وأما الجميل فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال : إنه بمعنى الجليل ، وجماله هو جلاله ، ومنهم من قال : إن معنى الجميل المحسن ، والجميل بمعنى المجمل ، وقد ذكرنا أن الفعيل بمعنى المفعل كثير.

وقد مضى فى هذا الكتاب فصول فى معنى إحسانه ورفعته فى غير موضع ، ونذكر هاهنا منه طرفا.

__________________

(١) الجليل : هو الموصوف بنعوت الجلال ، ونعوت الجلال هى : الغنى والملك والتقديس والعلم والقدرة ، وغيرها من الصفات.

وقالوا : الجليل الّذي جل من قصده ، وذل من طرده.

وقيل الّذي جل قدره فى قلوب العارفين ، وعظم خطره فى نفوس المحبين.

وقيل : الّذي جل فى علو صفاته أن يشرف عليه أحد ، وتعذر بكبريائه أن يعرف كمال جلاله حينئذ.

وقيل : الجليل الّذي كاشف القلوب بوصف جلاله ، وكاشف الأسرار بنعت جماله.

وقيل : الجليل الّذي أجل الأولياء بفضله ، وأذل الأعداء بعدله.

(٢) لم يذكر هذا الاسم غالب من تكلم فى شرح أسمائه الحسنى.

٢٦٦

فاعلم أن الله سبحانه يكاشف القلوب مرة بوصف جلاله ، ومرة بوصف جماله ، فإذا كاشفها بنعت جماله سارت أحواله عطشا فى عطش ، وإذا كاشفها بوصف جلاله صارت أحواله دهشا فى دهش ، ومن كاشفه بجلاله أفناه ، ومن كاشفه بجماله أحياه ، فكشف الجلال يوجب محوا وغيبة ، وكشف الجمال يوجب صحوا وقربة ، وكشف الجلال يوجب اجتياحا وثبورا ، وكشف الجمال يوجب ارتياحا وسرورا ، والعارفون كاشفهم بجلاله فغابوا ، والمحبون كاشفهم بجماله فطابوا ، فمن غاب فهو مهيم ، ومن طاب فهم مقيم.

فصل : اختصاص الله سبحانه وتعالى الأبرار :

واعلم أن الله سبحانه يختص الأبرار بما يسقيهم من شراب محابه ، ويخص الأحباب بما يلقّيهم من روح أنسه وإتحافه.

فطائفة يحضرهم بلطفه ، وطائفة يسكرهم بكشفه ، فمن أحضره بسطه ، ومن أسكره أخذه عما نيط به واستلبه.

والحقائق إذا اصطلحت على القلوب لا تبقى ولا تذر ، والمعانى إذا استولت على الأسرار فلا عين ولا أثر ، وإن للعلوم على القلوب مطالب وللحقائق سلطان يغلب أقسام المراتب ، فالحال تؤذن حتى ليس الأقرب ، والحقائق تبرز نعت الصمدية حتى لا قرب ، وفى معناه أنشدوا :

يا من أشاهده عندى فأحسبه

منى قريبا وقد عزت مطالبه

وأنشدوا :

فقلت لأصحابى هى الشمس ضوؤها

قريب ولكن فى تناولها بعد

٢٦٧

وأنشدوا :

بأى نواحى الأرض أبغى وصالكم

وأنتم ملوك ما لمقصدكم نجد

واعلم أن العابدين شهدوا أفضاله فبدلوا نفوسهم ، والعارفين شهدوا جلاله فبذلوا له قلوبهم ، والمحبين شهدوا جماله فبذلوا له أرواحهم ، بل من كان له علم اليقين وجد أفضاله ، ومن له عين اليقين شهد جلاله ، ومن له حق اليقين شهد جماله.

فصل : قلوب العابدين وأسرار العارفين :

واعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل تقلب قلوب العابدين بين شهود ثوابه وأفضاله وشهود عذابه وأنكاله ، فإذا فكروا فى أفضاله ازدادت رغبتهم ، وإذا فكروا فى عذابه وأنكاله ازدادت رهبتهم ، وأنه جعل تنزه أسرار العارفين فى شهود جلاله وجماله ، فإذا كوشفوا بنعت الجلال فأحوالهم طمس فى طمس ، وإذا كوشفوا بوصف الجمال ، فأحوالهم أنس فى أنس ، كما قال قائلهم :

جمالك نزهتى ورضاك عيشى

وحبك لى من الأديان دين

٢٦٨

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٢ ـ الكريم (١)

جل جلاله

الكريم اسم من أسمائه تعالى ورد به التوقيف وتكلموا فى معناه ، فقال أهل الحق : إن الوصف له بأنه كريم من صفات ذاته ، ولم يزل الله كريما ولا يزال ، ومعناه نفى الدناءة والنقائص ، والعرب تقول للشىء الخطير الحسن النفيس : إنه كريم ، قال الله سبحانه : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (٢) قالوا : ثوابا حسنا ، وكذلك قوله تعالى : (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٣) قيل : حسن ، ونفى الدناءة فى وصفه يكون بمعنى استحقاق لصفات جلاله ، وقيل : إن الكريم فى وصفه يكون بمعنى المحسن المجمل الكثير العطاء والإحسان ، والعرب تقول للرجل الّذي يكون صفوحا عن الذنوب محسنا إلى من يسىء إليه تاركا للانتقام مسبغا للإنعام : إنه كريم ، ويقال : فلان كريم السجية.

__________________

(١) الكريم : هو الّذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى ، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالى كم أعطى ولمن أعطى ، وإن وقعت حاجة إلى غيره لا يرضى وإذا جفا عاتب وما استقصى ، ولا يضيع من لاذ به والتجأ ، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء ، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكليف فهو الكريم المطلق ، وذلك هو الله تعالى فقط.

(٢) الأحزاب : ٤٤.

(٣) الدخان : ٢٦.

٢٦٩

والله تعالى هو المحسن إلى خلقه من غير استحقاق ، والأخذ بأيديهم عند الضرورة من غير استيجاب ، بل ابتداء فضل وإكمال لطف.

وقال الجنيد : الكريم الّذي لا يحوجك إلى وسيلة ، وقال الحارث المحاسبى : الكريم الذي لا يبالى بما أعطى ولا لمن أعطى ، وقال جعفر بن نصير : الكريم الّذي لن يقبل عطاءه منه على نفسه ، وقيل : الكريم الذي لا يستقصى ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) (١).

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول : الكريم الّذي إذا عفا عن عبد عفا عمن عمل مثل تلك المعصية وعمن كان سميا له.

وفى بعض الكتب : ما أنصفنى عبد أستحي أن أعذبه ولا يستحى أن يعصينى.

وقيل : الكريم الّذي لا يرضى بأن ترفع حاجته إلا إليه.

وروى أن موسى عليه‌السلام قال فى مناجاته : إنه لتعرض لى الحاجة أحيانا فأستحى أن أسألك ، أفأسأل غيرك؟ فأوحى الله إليه أن لا تسأل غيرى وسلنى حتى ملح عجينك وعلف شاتك.

ويقال : الكريم لا يخيب رجاء المؤمنين ، وقيل : الكريم الّذي لا يضيع من توسل به ، ولا يترك من التجأ إليه ، ويحفظ حقوق خدمة الذين ماتوا ، وقيل : الكريم : الّذي إذا أبصر خللا جبره ولم يظهره ، وإذا أولى فضلا أجز له ثم ستره.

ويحكى : أن بعض الأكابر أشرف من قصر له على دار عجوز من جيرته

__________________

(١) التحريم : ٦.

٢٧٠

فرآها تتوضأ من جرة من خزف ، فقال فى نفسه : عجوز فى جيرتى ليس لها قمقمة ، ثم فكر وقال : إن أمرت لها بقمقمة فإنها تخجل وتعلم أنى اطلعت عليها ، فأمر بأن يعطى لكل واحد من جيرانه قمقمة حتى دفع إليها قمقمة ولم تخجل.

وقيل : الكريم هو الّذي إذا أذنبت اعتذر عنك ، وإذا هجرت وصلك ، وإذا مرضت عادك ، وإذا وافيت من السفر زارك ، وإذا افتقرت أحسن إليك ببقية ماله ، وقيل : الكريم هو الّذي إذا رفعت إليه حاجة عاتب نفسه كيف لم يبادر إلى قضائها قبل أن تسأله.

حكى عن على رضى الله عنه أنه جاءه إنسان ليلة يسأله حاجة ، فقال : ارفع السراج يا غلام ، فقيل له فى ذلك فقال : لئلا أرى فى وجهه ذل السؤال.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى يقول : كان الأستاذ أبو سهل الصعلوكى ، رحمه‌الله ، لا يناول أحدا شيئا من عطائه بيده ، بل كان يضعه على الأرض ليأخذه المستحق ، ويقول : الدنيا أقل خطرا من أن أرى يدى لأجلها فوق يد أحد.

روى فى بعض الأخبار أنه قال : لا تقولوا لشجرة العنب الكرم ، فإنما الكرم قلب الرجل المسلم ، والعرب كانت تسمى العنب الكرم ، وكان الأصل كرما فلما كثر على لسانهم قالوا : كرم ، يقال : رجل كرم ورجلان كرم ، والذكر والأنثى والجمع والتثنية فيه سواء كما يقال : رجل عدل وصوم وخصم ، ورجلان كذلك ، ورجال كذلك أيضا ، وكذلك كل اسم يسمى باسم المصدر ، وإنما سمت العرب العنب الكرم للطافة شجره وطيب ثمره وتأتى قطافه من غير تجشم مشقة ، وليس له شوك يضر جانيه كما للنخل ، ولا يحتاج قاطفه إلى ارتقاء شجره ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل المؤمن أولى باستحقاق هذه التسمية لما فيه من كرم السجايا».

٢٧١

ويحكى عن أبان بن عياش أنه قال : خرجت يوما من عند أنس بن مالك بالبصرة فرأيت جنازة يحملها أربعة من الزنج ولم يكن معهم رجل آخر ، فقلت : سبحان الله! سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيعها أحد ، فلأكونن خامسهم ، فمضيت معهم ، فلما وضعوها بالمصلى قالوا لى : تقدم ، فقلت : أنتم أولى به ، فقالوا : كلنا سواء ، فتقدمت وصليت عليه وقلت لهم : ما القصة؟ فقالوا : أكبرتنا تلك المرأة ، قال : فقعدت حتى دفنوه ، فلما كان بعد ساعة انصرفت تلك المرأة وهى تضحك ، فدخل قلبى من ذلك شيء ، فقلت لها : لا ينجيك إلا الصدق ، أخبرينى إيش القصة ، فقالت لى : إن هذا ابنى ، ما ترك شيئا من المعاصى إلا فعله ، فمرض منذ ثلاثة أيام فقال لى : يا أماه ، إذا مت فلا تخبرى بوفاتى جيرانى ، فإنهم لا يحضرون جنازتى ويشمتون بموتى ، واكتبي على خاتمى لا إله إلا الله محمد رسول الله ، واجعليه فى كفنى فلعل الله تعالى يرحمنى ، وضعى رجلك على خدى وقولى : هذا جزاء من عصى الله تعالى ، فإذا دفنتينى فارفعى يدك إلى الله تعالى وقولى : إنى رضيت عنه فارض عنه ، فلما مات فعلت جميع ما أوصانى به ، فلما رفعت يدى إلى السماء سمعت صوته بلسان فصيح : انصرفى يا أماه ، فقد قدمت على رب كريم رحيم غير غضبان ، فإنما ضحكت من هذا.

٢٧٢

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٣ ـ الرقيب (١)

جل جلاله

الرقيب : اسم من أسمائه تعالى وهو : بمعنى الحفيظ ، يقال : رقبته أرقبه رقبة ورقوبا إذا راعيته ، قال الله سبحانه : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٢) يريد به الملك الّذي يكتب أعمال العبد ، والله تعالى رقيب لعباده أى حفيظ لهم يعلم أحوالهم ويعد أنفاسهم ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم ، يقال : راقبت الله إذا علمت أنه مطلع عليك فراعيت حقه ، والمراقبة عند هذه الطائفة هو أن يصير الغالب على العبد ذكره بقلبه أن الله مطلع عليه فيرجع إليه فى كل حال ويخاف سطوات عقوبته فى كل نفس ويهابه فى كل وقت.

سئل بعضهم : بم يستعين الرجل على حفظ بصره من المحظورات؟ قال : بعلمه بأن رؤية الحق سبحانه سابقة على نظره إلى تلك المحظورات.

__________________

(١) الرقيب : هو العليم الحفيظ ، وقالوا : الّذي هو من الأسرار قريب وعند الاضطرار مجيب.

وقيل : هو المطلع على الضمائر ، الشاهد على السرائر.

وقيل : الّذي يعلم ويرى ولا يخفى عليه السر والنجوى.

وقيل : الّذي يسبق علمه جميع المحدثات ، وتتقدم رؤيته جميع المكونات.

وقيل : هو الحاضر الّذي لا يغيب.

(٢) ق : ١٨.

٢٧٣

حكى أن ابن عمر مر بغلام يرعى غنما فقال : بعنى شاة ، فقال : إنها ليست لى ، فقال ابن عمر : قل أكلها الذئب ، فقال الغلام : فأين الله فاشتراه ابن عمر واشترى تلك الغنم وأعتقه ووهبه تلك الغنم ، وكان ابن عمر يقول مدة طويلة : قال ذلك العبد : فأين الله.

فصاحب المراقبة يدع من المخالفات استحياء منه وهيبة له أكثر مما يتركه من يدع المعاصى لخوف عقوبة ، قال الله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١) وأن من راعى قلبه عد مع الله أنفاسه ولا يضيع مع الله نفسا ، ولا يخلو عن طاعته لحظة ، كيف وقد علم أن الله سبحانه يحاسبه على ما قلّ وجلّ.

وحكى عن بعضهم أنه كان يشترى فى كل سنة من الشعير بيسير من الفلوس وكان يتقوت به طول سنة ، فلما مات رفعت جنازته بالغداة فلم يفرغوا من دفنه إلا قبل العشاء لكثرة الزحام ، فرئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لى وأحسن إلى كثيرا ، إلا أنه حاسبنى حتى طالبنى بيوم كنت صائما فكنت قاعدا على حانوت صديق لى حناط ، فلما كان وقت الإفطار أخذت حنطة من حانوته فكسرتها نصفين ، ثم ذكرت أنها ليست لى فألقيتها على حنطته ، فأخذ من حسناتى قيمة ما نقص من تلك الحنطة بالكسر.

وأن من تحقق ذلك لم يرخ عنانه فى البطالة ، ولا يضيع عمره فى الجهالة ، ولم يمحق فى الغفلات وقته ، ولكن يصل بالطاعات ليله بنهاره ويبذل غاية جهده وكنه استطاعته فى أوقاته.

ويحكى عن سلمان الفارسى أنه كان إذا جن عليه الليل أخذ يصلى ، فإذا عيى ذكر الله بلسانه بفنون التسبيح ، فإذا عيي أخذ يبكى ، فإذا عيى فكر فى

__________________

(١) العلق : ١٤.

٢٧٤

جلاله وعظمته ثم يقول لنفسه : استرحت فقومى فصلى ، فإذا صلى زمانا قال للسانه : استرحت ، فأخذ فى التسبيح ، فإذا ذكر زمانا قال لعينه : استرحت ، فأخذ فى البكاء ، على هذا الوصف كان يقطع طول ليله.

وقيل للحسن البصرى : إن بالبصرة شابا لا يحضر مجلسك ، فقال له الحسن : لم لا تحضر مجلسى؟ فقال : أنا أنوي كل ليلة أن أحضر مجلسك ، فإذا أصبحت استقبلنى قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١) فأفكر فى ذلك كيف يكون حالى ، ثم يستقبلنى قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢) فأفكر فى ضيق القبر كيف يكون فيه حالى ، ثم يستقبلنى قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٣) فأفكر فى القيامة كيف يكون حالى ، ثم يستقبلنى قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (٤) فأفكر فى أى الفريقين أكون ، فيفوتنى حضور مجلسك ، فصاح الحسن صيحة ثم قال : إن الحسن يحتاج أن يحضر مجلسك.

وإن من أيقن أن آخر عمره دخول اللحد لم يشتغل بتزيين المهد ، بل عمر قبره ، ولم يشيد قصره ، وعلم أنه يركب الأعناق والأجياد (٥) ولم يبتهج بأن يركب العتاق والجياد ، واستيقن أن ماله إن لم يزل عنه بحادث زال عنه إلى وارث.

وأنشدوا :

يا غافلا أدركه الموت

إن لم تبادر فهو الفوت

__________________

(١) السجدة : ١١.

(٢) المؤمنون : ١٠٠.

(٣) ق : ٤١.

(٤) هود : ١٠٥.

(٥) عند حمله إلى قبره.

٢٧٥

من لم تزل نعمته قبله

زال عن النعمة بالموت

وإن أحسن الناس من كان كما قال الأول :

منازل دنياك شيدتها

وخربت دارك فى الآخرة

لا جعل الله نصيبنا من هذه الكلمات سردها وذكرها دون منازلتها ومعاملتها بمنه وسعة فضله.

* * *

٢٧٦

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٤ ـ المجيب (١)

جل جلاله

المجيب اسم من أسمائه تعالى ، قال جل ذكره : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (٢) ومعنى المجيب فى وصفه أن يجيب دعوة الداعين ويكشف ضرورة المتوسلين ، قال الله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٣) ، ومن خصائص لطفه أنه يعطى قبل السؤال ، ويحقق مراد عبده بعد سؤاله بجميل النوال ، وفى الخبر : «أن الله تعالى يستحى أن يرد يد عبده صفرا» وأنه سبحانه إذا أحضر لأوليائه حاجتهم ببالهم يحقق لهم مرادهم قبل أن يذكروا بألسنتهم ، وربما يضيق عليهم الحال حتى إذا يئسوا وظنوا أنه لا يجيبهم تداركهم بحسن إيجاده وجميل إمداده.

يحكى عن عطاء الأزرق أنه دفع إليه أهله درهمين وقالوا له : اشتر لنا دقيقا

__________________

(١) المجيب : هو الّذي يقابل مسألة السائلين بالإسعاف ، ودعاء الداعين بالإجابة ، وضرورة المضطرين بالكفاية ، بل ينعم قبل النداء ، ويتفضل قبل الدعاء ، وليس ذلك إلا لله تعالى ، فإنه يعلم حاجة المحتاجين قبل سؤالهم ، وقد علمها فى الأزل فدبر أسباب كفاية الحاجات بخلق الأطعمة والأقوات ، وتيسير الأسباب والآلات الموصلة إلى جميع المهمات.

(٢) البقرة : ١٨٦.

(٣) غافر : ٦٠.

٢٧٧

فرأى مملوكا يبكى فسأله عن حاله فقال : إن مولاى دفع إلى درهمين لأشترى له شيئا فسقطا منى ، فدفع إليه عطاء الدرهمين ومضى يصلى إلى قرب المساء ، ينتظر شيئا يفتح له فلم يفتح له بشيء ، فقعد على حانوت صديق له نشار وذكر له حاله ، وكان الرجل فقيرا فقال : خذ من هذه النشارة شيئا لعلكم تحتاجون إليها تسجرون بها التنور ، إذ ليس لى شيء أواسيك به ، فأخذ ذلك فى جرابه ورجع إلى بيته ، وفتح الباب وطرح الجراب فى الدار ومضى إلى المسجد ، حتى صلى العشاء الأخيرة ومضى صدر من الليل ، رجاء أن يكون أهله قد ناموا لئلا يخاصموه ، فلما دخل الدار رآهم يخبزون الخبز فقال : من أين لكم الدقيق؟ قالوا : من الّذي حملته فى الجراب ، ولا تشترى لنا الدقيق إلا من عند هذا الرجل.

فصل : الله سبحانه هو الكافى عبيده :

وربما يجتهد الرجل فى تحصيل شيء لبعض الأولياء فلا يتفق ذلك ثم يكفى الله تعالى ذلك من وجه آخر ليعرف أنه تولى أمور أوليائه بنفسه ، ولا يكل ذلك إلى غيره ليعلم أنه لا يذل أولياءه.

حكى عن الخواص أنه قال : كنت فى مسجد فرأيت فقيرا ساكنا ثلاثة أيام لم يتحرك ، لم يطعم ولم يشرب ، وكنت أرقبه وأصبر معه ، قال : فعجبت منه فتقدمت إليه وقلت له : ما تشتهى؟ فقال : خبزا حارا ومصلية ، قال : فخرجت وتكلفت طول نهارى كى أحصّل ما قال فلم يتفق ، قال : فعدت إلى المسجد فأغلقت الباب ، فلما كان بعد زمان من الليل دق علينا الباب ، ففتحت الباب فإذا أنا بإنسان معه خبز حار ومصلية ، فسألته عن السبب فقال : اشتهاها عليّ صبيانى فتخاصمنا وحلفنا أن لا يأكل هذا إلا أهل المسجد الفلانى ، قال : فقلت : إلهى ، إذا كنت تريد أن تطعمه فلم عنيتنى طول نهارى.

٢٧٨

فصل : اجعل قصدك الأصلي إلى الله تعالى :

وربما يحصل من بعض أوليائه قصد إليه وإشارته فى الظاهر إلى الخلق ويكون القصد بالتحقيق إلى الحق ، كما يحكى عن حذيفة المرعشى أنه قال : كنت مع إبراهيم بن أدهم فى بعض الأسفار فدخلنا الكوفة فآوينا إلى مسجد خراب فنظر إلى وقال : يا حذيفة ، إنى أرى بك الجوع ، فقلت : هو ما يراه الشيخ ، فقال عليّ بالدواة والقرطاس ، فجئته به فكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم أنت المقصود إليه بكل حال ، والمشار إليه بكل معنى :

أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر

أنا جائع أنا ظامئ أنا عارى

هى ستة وأنا الضمين لنصفها

فكن الضمين لنصفها يا بارى

مدحى لغيرك لهب نار خضتها

فأجر عبيدك من دخول النار

ثم دفع إلى الرقعة وقال : ادفعها إلى أول من تلقاه ، قال : فرأيت شابا حسن الوجه نظيف الثياب راكبا على بغلة ، قال : فناولته الرقعة فنظر فيها وبكى وقال : أين صاحب الرقعة؟ فقلت : فى المسجد الفلانى ، فناولنى صرة فيها ستمائة دينار وقال : احملها إليه ، قال : فسألت إنسانا : من صاحب هذه البغلة؟ قال : نصرانى ، قال : فعجبت منه ، وحملت الصرة إلى إبراهيم وأعلمته بالقصة ، فقال : ضعها فإنه يجيء الساعة ، فما لبثنا أن جاء الرجل وقبّل رأس الشيخ وقال : نعم ما أرشدتنى ، اعرض عليّ الإسلام فأسلم ، فلما كانت إشارته صحيحة حصل منه ما حصل.

٢٧٩

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٥ ـ الواسع (١)

جل جلاله

اختلف الناس فى معناه فقال بعضهم : معنى الواسع فى وصفه أنه العالم ، قال الله تعالى : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) (٢) وقال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (٣) قيل : أراد به : أحاط بكل شيء علما ، وقيل : إنه بمعنى الغنى ، قال الله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (٤) قيل : ذو غنى من غناه ، وقيل : إنه واسع العطاء كثير الخير ، حكى هذا عن ابن الأنبارى ، وهو الأقوى ، لأن العرب تقول : فلان موسع إذا كان غنيا ، قال الله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (٥) ولا يقال للغنى : واسع ، فإذا كان بمعنى العالم فقد جرى القول فى معنى العالم والعليم فى صفاته سبحانه فيما تقدم ، وإذا قيل : إنه بمعنى كثير العطاء فكثرة

__________________

(١) الواسع : الّذي لا نهاية لبرهانه ، ولا غاية لسلطانه ، وقيل : واسع فى علمه فلا يجهل ، واسع فى قدرته فلا يعجل ، وقيل : الواسع الّذي لا يعزب عنه أثر فى الضمائر ، وقيل : الواسع الّذي لا يحد غناه ، ولا تعد عطاياه ، وقيل : الواسع الّذي فضله شامل ، ونواله كامل.

(٢) غافر : ٧.

(٣) البقرة : ٢٥٥.

(٤) الطلاق : ٧.

(٥) البقرة : ٢٣٦.

٢٨٠