شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٠ ـ الخبير (١)

جل جلاله

الخبير : اسم من أسمائه ورد به الكتاب وهو بمعنى العليم ، وخبرت الشيء أخبره فأنا به خبير ، واختبرته أى خبرته ، والخبير فى غير هذا الموضع زبد أفواه الإبل ، والخبير الأكار ، والمخابرة اكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وهو مأخوذ من الخبر ، والخبير أيضا العذق ، ويقال : خبرت خبرا أى علمت ووجدته خبرة إذا تلوته وجربته ، وقد يكون الخبير فى وصفه تعالى بمعنى المخبر ، وفعل بمعنى المفعل كثير فى كلام العرب ، ويكون العليم والخبير من صفات ذاته.

فإذا علم العبد أنه خبير بأحواله فبالحرى أن يكون متصاونا فى أقواله وأفعاله

__________________

(١) الخبير : هو الّذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ، ولا يجرى فى الملك والملكوت شيء ، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبره ، وهو بمعنى العليم ، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمى خبرة ، وسمى صاحبها خبيرا.

أما العبد فلا بد وأن يكون خبيرا بما يجرى فى عالمه الّذي هو قلبه وبدنه ، والخفايا التى يتصف القلب بها من الغش والخيانة ، والتطواف حول العاجلة وإضمار الشر وإظهار الخير ، والتجمل بإظهار الإخلاص مع الإفلاس عنه ، هذه أشياء لا يعرفها إلا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها فحاذرها ، وتشمر لمعاداتها ، وأخذ الحذر منها ، فذلك من العبيد جدير بأن يسمى خبيرا.

٢٤١

واثقا بجميل اختباره سبحانه متحققا بأن ما قسم له لا يفوته ، والّذي لم يحكم له به لا يدركه ، وإنما تنحصر الأحوال على من كان غائبا عن شهود التقدير فيضيف بعض الحادثات إلى الخلق ، ويرى البعض من الحق فأما من رأى الأشياء كلها من الحق سبحانه فإنه تهون عليه الأمور من وجه وتصعب من وجه لأنه يعلم أنه يعد أنفاسه ويعلم ظواهره وحواسه.

حكى عن بعضهم أنه قال : قصدت الخواص فى بعض أوقات أصابتنى فيها فاقة ومجاعة وكان معى جماعة أصابهم من المجاعة ما أصابنى ، فقلت فى نفسى : أباسط الشيخ فى أحوالى وأحوال هؤلاء الفقراء ، قال : فلما وقع بصر الخواص عليّ قال لى : الحاجة التى جئتنى فيها الله عالم بها أم لا؟ فقلت : بل هو عليم ، قال : إذا فادفعها إليه ، قال : فسكت ثم انصرفت ، فلما وافيت المنزل فتح علينا بأرزاق كفتنا ذلك اليوم.

وإذا علم العبد أنه سبحانه مطلع على سره عليم بأمره يكتفى من سؤاله برفع همته إليه وإحضار الحاجة بقلبه لربه من غير أن ينطق بلسانه أو يعرب ببيانه.

حكى أن رجلا جاء إلى أبى يزيد البسطامى وقال : أيها الشيخ ، إن الناس قد احتاجوا إلى المطر فادع الله يرزقهم ذلك ، قال أبو يزيد : يا غلام ، أصلح الميزاب ، فلم يفرغ الغلام من إصلاح الميزاب حتى جاء المطر ولم يتكلم بشيء.

وحكى أن رجلا ولد له مولود ببغداد بالليل ولم يكن له شيء فخرج إلى معروف الكرخى ، وكان فى مسجده ، فذكر له حاله فقال : اقعد هناك ، فظهر له مشغل من الدجلة ، فلم يزل يقرب منه حتى انتهى إلى مسجد معروف ، فإذا بخادم معه صرة فقال : أنا قهرمان من دار الخليفة بعثنى بهذه الدنانير إليك لتصرفها فى أمر من تريد ، فقال : ادفعها إلى ذلك الرجل ، فقال : إنها ثلاثمائة دينار ، كأنه استكثر دفعها إلى رجل واحد ، فقال له معروف : كذا أردنا أن تكون.

٢٤٢

فصل : من علم أن الله تعالى خبير بأحواله :

وإذا علم أنه خبير بأحواله علم أن الله أحصى ما عمله ، وإن كان قد نسيه ، فيحصل له من تذكر علمه من الخجل ما يجشمه ، وربما تذهب روحه فيه فيتلفه.

حكى أن رجلا فكر فى نفسه وقال : كم عمرى؟ ثم عد ذلك ، قال : كم تكون شهورا؟ فعد ذلك ، ثم عد الأيام ، فقال : كم يوما يكون؟ فبلغ ألوفا ، فقال : لو لم أعص فى كل يوم إلا معصية واحدة لكان ذلك كذا وكذا ألف زلة ، فكيف وفى كل يوم اجترحت زلات كثيرة؟! فخنقته العبرة وزهقت نفسه فمات ، رحمة الله عليه.

٢٤٣

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣١ ـ الحليم (١)

جل جلاله

الحليم اسم من أسمائه ورد به القرآن ، واختلف الناس فى معناه فقال بعضهم الحلم تأخير العقوبة عن المستحقين ، فهو حليم على معنى أنه يؤخر العقوبة عن المستحقين ، ويكون هذا من صفات أفعاله يوصف به فيما لا يزال ، وقال بعض أهل الحق : حلمه إرادته لتأخير العقوبة فهو من صفات ذاته ، لم يزل حليما ولا يزال ، ويقال فى اللغة : حلم ، بضم اللام ، يحلم حلما فهو حليم ، وحلم ، بفتح اللام ، يحلم حلما فهو حالم إذا رأى فى المنام شيئا ، وجمع الحلم أحلام ، وكذلك جمع الحلم ، وحلم الأديم ، بكسر اللام ، يحلم حلما فهو حليم إذا وقع فيه دود ، وحلّمت فلانا إذا جعلته حليما وحكمت بحلمه ، وحلم الغلام إذا صار سمينا ، فصرف هذا اللفظ فى اللغة على أوجه.

والله تعالى يريد تأخير العقوبة عن بعض المستحقين ، ثم قد يعذبهم وقد يتجاوز عنهم ، وأنه تعالى يجعل العقوبة لبعضهم ، والأمر فيه على ما سبق عليه

__________________

(١) الحليم : هو الّذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام ، مع غاية الاقتدار ، عجلة وطيشا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (فاطر : ٤٥).

والحلم من محاسن خصال العباد ، وذلك مستغن عن الشرح والإطناب.

٢٤٤

الحكم وتعلقت به الإرادة والعلم ، وأنه تعالى إذا أخر العقوبة عن المستحقين فبفضل منه سبحانه يخصهم به.

حكى أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما رأى ملكوت السماوات والأرض رأى عاصيا يعمل معصية فقال : اللهم أهلكه ، فأهلكه الله ، فرأى إنسانا آخر يعصى فقال: اللهم أهلكه ، فأهلكه الله ، فرأى ثالثا يعصى فقال : اللهم أهلكه ، فأهلكه الله ، فرأى رابعا يعصى فقال مثل ذلك ، فأوحى الله إليه : كف يا إبراهيم ، فلو أهلكنا كل عاص رأيناه لم نبق منهم أحدا ، ولكنا بحلمنا لا نعذبهم ، فإما أن يتوبوا وإما أن يصروا فلا يفوتنا شيء.

وحكى أن رجلا قال لبعض الأنبياء : كم أخالفه وأعصيه ولا يعاقبنى ، فأوحى الله إلى ذلك النبي : قل لفلان : ذلك لتعلم أنى أنا ، وأنت أنت.

وقد يكون من معلوم الله تعالى من أحوال بعض العصاة أنه يتوب ويحسن حاله فيحلم عنه فى الوقت ، لأنه يعلم أنه يصير من جملة أوليائه فى مآله.

وأنشدوا :

إذا فسد الإنسان بعد صلاحه

فرج له عود الصلاح لعله

يحكى عن مالك بن دينار أنه قال : كان لى جار مسرف على نفسه ، وكان يتعاطى الفواحش ، وتبرم به الجيران فأتونى شاكين به متظلمين منه ، فأحضرناه وقلنا له : إن هؤلاء الجيران يشكونك فسبيلك أن تخرج من المحلة ، فقال : أنا فى منزلى لا أخرج ، فقلنا تبيع دارك ، فقال : لا أبيع ملكى ولا يمكنكم أن تخرجونى منه ، فقلت : نشكوك إلى السلطان ، فقال إن السلطان يعرفنى وأنا من أعوانه ، فقلت ندعو الله عليك ، فقال : الله أرحم بى منكم ، فغاظنى ذلك ، فلما

٢٤٥

أمسيت قمت وصليت ، فلما فرغت من الصلاة دعوت عليه ، فهتف بى هاتف : لا تدع عليه فإن الفتى من أولياء الله ، قال : فلما أصبحت جئت باب داره ودققته عليه ، فلما خرج ورآنى ظن أنى جئت لأخرجه من المحلة فقال كالمعتذر ، فقلت : ما جئت لذلك ، ولكن رأيت كذا وكذا ، قال : فوقع عليه البكا وقال : إنى تبت بعد ما كان هذا ، قال : وخرج من البلد ولم أره بعد ذلك ، قال : فاتفق أنى خرجت إلى الحج فرأيت فى المسجد الحرام حلقة فتقدمت إليهم فرأيت ذلك الشاب عليلا مطروحا ، قال : فلم ألبث حتى قالوا : قضى الشاب ، رحمه‌الله.

فصل : يلذ حلمه لرجاء عفوه :

وإنما يلذ حلمه لرجاء عفوه ، لأنه إذا ستر فى الحال بفضله فالمأمول منه أن يعفو فى المآل بلطفه.

وفى بعض الحكايات أن بعضهم رئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : أعطانى كتابى بيمينى فمررت بزلة استحييت أن أقرأها ، فقال : لا بد من قراءتها ، فقلت : إلهى ، لا تفضحنى ، فقال : حين عملتها ولم تستح لم أفضحك ، أفأفضحك وأنت تستحى.

ومن حلمه أنه لا يستفزه عصيان العاصين ، ولا يحمله على سرعة الانتقام تهتك الخاطئين ، فيحلم حتى يظن الجاهل أنه ليس يعلم ، ويستر حتى يتوهم الغمر (١) أنه ليس يبصر.

__________________

(١) الغمر : هو الّذي ليس له تجارب فى أمور الحياة ، يقصد هنا الجاهل بالله تعالى.

٢٤٦

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٢ ـ العظيم (١)

جل جلاله

العظيم : اسم من أسمائه ورد به نص القرآن ، وانعقد عليه الإجماع ومعناه عند أهل الحق يرجع إلى استحقاقه لصفات العلو والمجد ورفعة القدر ، فهو عظيم القدر رفيع النعت جليل الوصف.

واعلم أن العظيم فى اللغة لا يكون إلا بأحد أمرين :

إما بعظم الذات فى الجرم ويعود ذلك إلى كثرة الأجزاء ، وإما بعظم القدر ، فأما عظم الأجزاء فى وصفه تعالى فمحال ، فوجب أن يكون بمعنى استحقاق علو الوصف ، وأوصاف التعالى كاستحقاق القدم ووجوب الوحدانية والانفراد بالقدرة على الإيجاد وشمول العلم لجميع المعلومات وتعلق القدرة بجميع المقدورات ونفوذ الإرادة فى المتناولات وإدراك السمع والبصر لجميع المسموعات والمرئيات واستغنائه عن الأنصار والأعوان وتقدسه عن الأقطار والأزمان وتنزه ذاته عن قبول الحدثان ، فسبحانه من عزيز لا تصادره عن ، ولا تلاصقه إلى ، ولا تحده كيف ، ولا يقابل بكم ، ولا يخبر عن نفسه بما ، ولا يستخبره عن حقيقته بأين ، ولا يرتقى وهم إلى تصويره ، ولا يطمع فهم فى تقديره ، ولا يلحقه كنه ، ولا يماثله شبه.

__________________

(١) العظيم : هو الّذي لا تكون عظمته بتعظيم الأغيار ، وجل قدره عن الحد والمقدار ، وقيل : هو الّذي ليس لعظمته بداية ، ولا لجلاله نهاية.

٢٤٧

فأما قول المخالفين من الكرامية (١) أن معنى العظيم فى وصفه أنه يلاقى من وجه واحد من المخلوقات أكثر من آخر فهو خطأ ، لأنه غير معقول من قول أهل اللغة ، ولا هو صحيح فى العقول.

وأما من سلك فى وصف عظمته بذكر بعض مقدراته مما نطق به القصص والروايات فإن ذلك شرح النعت الأدنى من عظمته ، وإن كانوا قد قالوا ذلك.

يحكى أن بعض المشايخ سئل عن عظمته فقال : ما تقول فيمن له عبد واحد يسمى جبريل ، له ستمائة جناح ، لو نشر منها جناحين لستر الخافقين.

وهذا وإن كان صحيحا فإن من عرف أن مقدوراته لا نهاية لها علم أنه لو أراد أن يخلق فى لحظة ألف ألف عالم لم يكن ذلك عليه بأشد من خلق بقة ، ولا خلق البقة عليه أهون من خلق ألف عالم ، لأنه سبحانه وتعالى منزه عن لحوق المشقة ونيل الراحة ، لأن الراحة والمشقة من نعوت المخلوقات ، ويتعالى عن ذلك خالق الأرضين والسماوات ، وقد جاء فى بعض الأخبار أن ملكا من الملائكة قال : يا رب ، إنى أريد أن أرى العرش ، فخلق الله له ألف جناح وطار ثلاثين ألف سنة ، فقال الله سبحانه : هل بلغت إلى أعلى العرش؟

فقال : يا رب ، لم أقطع بعد قائمة من قوائم العرش ، فاستأذن أن يعود إلى مكانه فأذن له.

وقيل : إن سليمان عليه‌السلام سأل من الله تعالى أن يأذن له أن يضيف يوما جميع الحيوانات فأذن له الله فيه ، فأخذ سليمان فى جمع الطعام مدة طويلة ، فأرسل الله سبحانه حوتا من البحر فأكل جميع ما أعده سليمان حتى أتى على

__________________

(١) فرق من فرق المتكلمين ، وانظرها وانظر مبادئها فى كتاب : «المرشد الأمين إلى اعتقادات فرق المسلمين والمشركين» تأليف طه عبد الرءوف سعد.

٢٤٨

جميع ما أعده فى طول تلك المدة ثم استزاد منه ، فقال سليمان : لم يبق لى شيء ، وقال له: أنت تأكل كل يوم مثل هذا؟ فقال : رزقى كل يوم ثلاثة أضعاف هذا ، ولكن الله تعالى لم يطعمنى اليوم إلا ما أطعمتنى أنت ، فليتك لم تضفنى ، فإنى بقيت اليوم جائعا حيث كنت ضيفك.

وقيل : إن موسى عليه‌السلام أراد أن يرى السمك الّذي عليه العالم فأمره الله أن يأتى شاطئ البحر فأتى موسى شاطئ البحر فصعد سمك من البحر فأخذ يصعد نحو السماء ثلاثة أيام متصلة ، فضاق قلب موسى فقال : إلهى أهو مثل هذا السمك؟ فأوحى الله تعالى إليه إنه يأكل كل يوم ألف سمك أمثال هذا ، قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (١) ثم أعظم بما جرى ذكره من مخلوقاته تعالى همة العارفين التى تتضع وتتلاشى فيها جملة المقدورات فضلا عن المخلوقات سبحانه ما أعظم شأنه.

__________________

(١) المدثر : ٣١.

٢٤٩

باب

فى معنى اسميه تعالى

٣٣ ، ٣٤ ـ الغفور (١) الشكور (٢)

جل جلاله

الغفور اسم من أسمائه تعالى ، مضى ذكره فيما تقدم من معنى الغفار ، وتكلمنا فى معنى المغفرة بما حصل به الإقناع ، وأما الشكور فقد ورد به القرآن فى وصفه تعالى ، قال سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (٣) والشكور مبالغة من الشاكر ، والشاكر من له الشكر ، وتكلم الناس فى معنى الشكر فقال أهل الحق : حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على سبيل الخضوع ، لأن الرجل قد يعترف بنعمة غيره على سبيل الاستهزاء به ، فلا يقال : إنه شكره ، ولهذا قالوا : إن حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على طريق الخضوع ، قالوا : والله سبحانه سمى نفسه شكورا على معنى أنه يجازى

__________________

(١) الغفور : هو بمعنى الغفار لكنه ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه الغفار فإن الغفار مبالغة فى المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة مرة بعد أخرى ، فالفعال ينبئ عن كثرة الفعل ، والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله ، فهو غفور بمعنى أنه تام المغفرة كامله حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة.

(٢) الشكور : هو الّذي يجازى بيسير الطاعات كثير الدرجات ، ويعطى بالعمل فى أيام معدودة نعيما فى الآخرة غير محدود ، وهو من جازى الحسنة بأضعافها ، فهو تام الشكر وكامله حتى يبلغ أقصى الدرجات.

(٣) فاطر : ٣٤.

٢٥٠

العبد على الشكر فسمى جزاء الشكر شكرا كما سمى جزاء السيئة سيئة فى قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) ويصح أن يقال ، وهو الّذي أختاره وأرتضيه : إن حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه ، ثم العبد يثنى على الرب بذكر إحسانه الّذي هو نعمته ، فيكون ثناؤه عليه شكره له ، فعلى هذا التأويل معنى اسمه الشكور المبالغة فى الوصف له بالثناء على عبده ومدحه له بذكر إحسانه وطاعته ، وقيل : إن الشكور فى وصفه بمعنى أنه يعطى الثواب الكثير على اليسير من الطاعة ، والعرب تقول : دابة شكور ، إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف ، وناقة شكرة وشكرى إذا كانت ممتلئة الضرع ، ونبت شكور إذا كان يجتزئ بيسير من الماء ، ويقال : كثر شكير الرجل أى عياله ، وشكير الشجر القضبان التى تنبت فى أصل الشجر ، فإذا الأصل فيه الزيادة فى اللغة على وصف مخصوص على ما جرى بيانه فى هذه الألفاظ ، والله تعالى يجازى العبد على اليسير من الطاعات بالكثير من الدرجات ، قال تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢) والله سبحانه أنعم على العباد بجميع ملاذ الدنيا وكرائمها ثم عد ذلك قليلا فقال تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) (٣) ويقبل اليسير من طاعة العباد ويثنى عليهم بالكثير ، قال تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) (٤) وترى كم كان عمرهم حتى عد ذكرهم كثيرا؟ وكذلك شكر لصاحب موسى حيث خطا لأجله خطوات فقال عز اسمه : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) (٥) جاء فى التفسير أنه جاء من قرب.

__________________

(١) الشورى : ٤٠.

(٢) الحاقة : ٢٤.

(٣) النساء : ٧٧.

(٤) الأحزاب : ٣٥.

(٥) القصص : ٢٠.

٢٥١

وفى بعض الحكايات أن رجلا رئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال أقامنى بين يديه وقال : لم خفتنى كل ذلك الخوف؟ أما علمت أنى كريم؟.

وحكى أن رجلا رئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : حاسبنى فخفت كفة حسناتى فوقعت فيها صرة فثقلت ، فقلت : ما هذا؟ فقال : كف تراب ألقيتها فى قبر مسلم ، فرجح بذلك المقدار ميزانك.

وحكى أن رجلا من الصالحين كان يصلى الصلوات بالجماعة فى المسجد فضعف عن الحركة فكان يأمر بأن يحمل إلى المسجد ، فمات فرئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال غفر لى وقال : شيخ لم تعنيت كل ذلك العنا.

فصل : من آداب من علم أنه تعالى شكور :

ومن آداب من علم أنه شكور فليجد فى شكره ولا يفتر ويواظب على حمده ولا يقصر.

والشكر على أقسام : فشكر بالبدن ، وهو أن لا تستعمل جوارحك إلا فى طاعته ، وشكر بالقلب ، وهو أن لا تستغله بغير ذكره ومعرفته ، وشكر باللسان وهو أن لا يستعمله فى غير ثنائه ومدحه ، وشكر بالمال وهو أن لا تنفقه فى غير رضاه ومحبته.

وقيل : الشكر هو أن لا تستعين بنعمه على معاصيه ، ومن أمارات الشكر وجود الزيادة فى النعمة ، قال الله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (١) ولهذا قيل : الشكر قرع باب الاستزادة من النعمة ، وقال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) قال بعضهم : هم الأكثرون وإن قلوا ، ومواضع الأنس حيث حلوا ، وقال بعضهم : قليل من عبادى من شهد النعمة منى ، ومن حقيقة الشكر الغيبة عن شهود النعمة لشهود المنعم.

__________________

(١) إبراهيم : ٧.

(٢) سبأ : ١٣

٢٥٢

باب

فى معنى اسميه تعالى

٣٥ ، ٣٦ ـ العلى (١) الكبير (٢)

جل جلاله

هما اسمان لله تعالى ورد بهما القرآن والإجماع ، قال الله تعالى : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (٣) وليس علوه علو جهة ولا اختصاصا ببقعة ولا هو كبير بعظم جثة وكثرة بنية ، بل العلى وصفه وهو استحقاقه لنعوت الجلال والكبرياء نعته ، وهو استجابة لصفات الكمال ، ولم يزل الله تعالى عليا ، ومن

__________________

(١) العلى : هو الّذي لا رتبة فوق رتبته ، وجميع المراتب منحطة عنه ، وهو الّذي علا عن الدرك ذاته ، وكبر عن التصور صفاته ، وقيل : هو الّذي تاهت الألباب فى جلاله ، وعجزت العقول عن وصف كماله.

(٢) هو ذو الكبرياء ، والكبرياء عبارة عن كمال الذات الّذي هو كمال الوجود ، وكمال الوجود ، يرجع إلى شيئين :

أحدهما : دوامه أزلا وأبدا ، وكل وجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص ، ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدة وجوده أنه كبير ، أى كبير السن طويل مدة البقاء ، ولا يقال عظيم السن ، والكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم ، فإن كان ما طال مدة وجوده مع كونه محدود مدة البقاء كبيرا فالدائم الأزلى الأبدى الّذي يستحيل عليه العدم أولى بأن يكون كبيرا.

والثانى : أن وجوده هو الوجود الذي يصدر عنه وجود كل موجود ، فإن كان الّذي تم وجوده فى نفسه كاملا وكبيرا ، فالذى حصل منه وجود جميع الموجودات أولى بأن يكون كاملا وكبيرا.

(٣) غافر : ١٢.

٢٥٣

الآفات والنقائص بريا ولا يقال فى وصفه كبر يكبر ، ومن علوه وكبريائه أنه لا يصير بتكبير العباد له كبيرا ، أو بإجلالهم له جليلا ، بل من وفقه لإجلاله فبتوفيقه أجلّه ، ومن أيده لتكبيره وتعظيمه فقد رفع محله ، لا يلحقه نقص فينجز ذلك بتعظيم المخلوقين ، ولا ينزل بساحته وهن فينتفى ذلك بتوحيد عبادة العابدين ، فهو العزيز الّذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يتوجه عليه سنة ولا يوم ، ومن حق من عرف عظمته أن يذل لحقه ويتواضع بين خلقه فإن من تذلل لله فى نفسه رفع الله قدره على أبناء جنسه.

وقيل فى بعض القصص : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام فقال له : تدرى لم رزقتك النبوة؟ فقال : يا رب أنت أعلم به ، فقال له : تذكر اليوم الّذي كنت ترعى الغنم بالموضع الفلانى فندت شاة فعدوت خلفها ، فلما لحقتها لم تضربها وقلت : لا يا مسكينة ، أتعبتني وأتعبت نفسك ، فحين رأيت منك تلك الشفقة على ذلك الحيوان رزقتك النبوة (١).

وقيل فى بعض القصص : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام أن يأتى الجبل ليسمعه كلامه عليه ، فتطاول كل جبل طمعا أن يكون محلا لموسى ، وتصاغر طور سينا فى نفسه وقال : متى أستحق أن أكون محلا لقدم موسى فى وقت المناجاة ، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام أن ائت إلى هذا الجبل المتواضع الّذي ليس يرى لنفسه استحقاقا.

وقد قيل : حقيقة الإجلال أن ترى الكل دونه بعين الإقلال ، فكما لا تثبت لنفسك قدرا ، فكذلك لا ترى للمخلوقين مع قدرته بالإضافة إلى علوه خطرا.

__________________

(١) وإن كان الله عالما بما سيكون كما هو عالم بما كان.

٢٥٤

فصل : حقيقة التواضع :

واعلم أن حقيقة التواضع هو قبول الحق ممن قاله ، والتكبر هو جحد الحق ، قال الله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) (١).

فصل : ما تفعل إذا قيل لك : اتق الله :

حكى أن خالد بن مقول قال له رجل : اتق الله فألصق خده بالتراب وقال : حبا وكرامة.

وروى أن بلالا شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا ذر وقال له : عيرنى بالسواد (٢) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى ذر : «ما علمت أنه بقى فى قلبك شرف الجاهلية»؟! فوضع أبو ذر خده على الأرض وحلف أن يضع بلال قدمه على خده.

وحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : ما سررت فى الإسلام إلا مرات معدودة كنت فى مركب يوما وكان فيه رجل يحكى الحكايات المضحكة فضحكت منه الناس ، وكان يقول : رأيت وقتا فى معركة الترك علجا ففعلت به هكذا ، وكان يأخذ بلحيتى ويمر يديه على حلقى ، والناس يضحكون منه ، ولم يكن فى ذلك المركب عنده أحد أصغر ولا أحقر منى فسررت بذلك.

ويوما آخر كنت جالسا فجاء إنسان فبال عليّ ، ويوما آخر كنت جالسا وجاء إنسان فصفعنى من غير سبب.

وإنما كان سروره بأن قلبه لم يستوحش منهم ولم يحرد عليهم ولم يتغير لسوء ما قابلوه به ، لا أنه سر بقبيح أفعالهم ، وفى الخبر : «كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره».

__________________

(١) البقرة : ٢٠٦.

(٢) قال له : يا ابن السوداء.

٢٥٥

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٧ ـ الحفيظ (١)

جل جلاله

الحفيظ : اسم من أسمائه ورد به الخبر ، وهو فعيل مبالغة من الفاعل ، وهو الحافظ لعباده فى جميع الأحوال ، والحافظ للسماوات والأرضين ، قال الله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (٢) وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (٣) فهو رافع السماوات بلا عمد وحافظها بعد رفعها بلا استعانة بأحد ولا اعتضاد بمدد ، بل هو الوتر الفرد الصمد ، وأن الله تعالى حافظ دينه ، قال الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٤) أنزل التوراة على موسى ، عليه‌السلام ، فوكل حفظها إلى أمته ، قال الله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) (٥) فحرفوا وبدلوا ، وأنزل الله تعالى الفرقان

__________________

(١) الحفيظ : هو الّذي صانك فى حال المحنة عن الشكوى ، وفى حال النعمة عن البلوى ، وقيل : الحفيظ : من هداك إلى التوحيد وخصك فى الخدمة بأنواع الحفظ والتسديد ، وقيل : هو الّذي حفظ سرك عن ملاحظة الأغيار ، وصان ظاهرك عن موافقة الفجار.

قال بعضهم : ما من عبد حفظ جوارحه إلا حفظ الله عليه قلبه ، وما من عبد حفظ الله عليه قلبه إلا جعله حجة على عباده.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

(٣) فاطر : ٤١.

(٤) الحجر : ٩.

(٥) المائدة : ٤٤.

٢٥٦

على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضمن حفظه على أمته بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، فلا جرم عصم الله الأمة عن تبديل الكتاب حتى لو أخطأ مخطئ فى حركة من حركات حروف القرآن أو سكون لنادى ألف ألف صبى بتخطئته ، فضلا عن القراء ، فشتان بين أمة استحفظهم الله كتابه فحرفوا وبدلوا ، وبين أمة حفظ عليهم الكتاب فبقوا مع الحق ووصلوا.

ومن حفظه سبحانه لأوليائه صيانة عقائدهم فى التوحيد عن اكتفائهم بالتقليد وتحقيق العرفان فى أسرارهم بجميل التأييد ، وليس كل الحفظ أن يحفظ عبدا بين الملاء عن البلاء ، وإنما الحفظ أن يحفظ قلبا عن خلوص المعرفة بين الأهواء حتى لا يزال عن الطريقة المثلى ولا يجد إلى البدع والهوى.

قال الله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٢) وأن الله تعالى قيض الملائكة ووكلهم بحفظ بنى آدم من البلاء والآفات حتى إذا قعدوا وقاموا أو انتبهوا وناموا تقلبوا فى حفظه وحراسته وتصرفوا على حكم رعايته.

قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) (٣) فهو الّذي يحفظ نفسك ومالك ودينك وحالك وقوتك وعيالك ، إذ لو رفع كل رعايته عن أسبابك لهلكت.

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول : ورث بعض الصالحين عن مورث له عشرة آلاف درهم فقال : إلهى إنى محتاج إلى هذه الدراهم ، ولكن لست أحسن حفظها فأدفعها إليك لتردها عليّ وقت حاجتى ، فتصدق بتلك الدراهم

__________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) إبراهيم : ٢٧.

(٣) الأنبياء : ٤٢.

٢٥٧

ولزم الفقر ، قال : فما احتاج ذلك الرجل فى دنياه قط إلى شيء ، وكان إذا أراد شيئا فتح له فى الوقت.

وقيل : من حفظ الله فى جوارحه حفظ الله تعالى عليه قلبه ، لا ، بل من حفظ لله حقه فقد حفظ الله حظه.

حكى عن بعض الصالحين أنه وقع بصره يوما على محظور فقال : إلهى ، إنما أريد بصرى هذا لأجلك ، فإذا صار سببا لمخالفة أمرك فاسلبنيه ، قال : فعمى الرجل ، وكان يقوم بالليل ويصلى ، فغاب ليلة من الليالى من كان يعينه علي الطهارة ، فقال : إلهى إنما قلت : خذ بصرى لأجلك ، فالليلة أحتاج إليه لأجلك فرده عليّ قال : فعاد إليه بصره ، فكان يبصر بعد العمى.

وحكى أن اللص دخل حجرة رابعة العدوية ، وكان النوم أخذها فأخذ اللص ملاءتها فخفى عليه باب الحجرة ، فوضع الملاءة فأبصر الباب ، فرفع الملاءة ثانية فخفى عليه الباب ، فلم يزل يفعل ذلك مرات ، فهتف به هاتف : ضع الملاءة فإنا نحفظها لها ولا ندعك تحملها ، وإن كانت هى نائمة.

وهذا تحقيق الحفظ ، ومن هذا الباب قصة أم موسى عليه‌السلام لما رجعت إلى الله بصدق التوكل انظر كيف ألقى فى قلبها وكيف ألهمها حيث قال عز ذكره : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) إلى قوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١) انظر كيف ربط على قلبها وكيف حفظ لها ولدها وكيف رده إليها.

وفى بعض الحكايات أن امرأة تصدقت برغيف فأخذ السبع ولدها ونوديت : لقمة بلقمة ، إنك تصدقت لأجلنا برغيف فرددنا ولدك ، فإنه حافظ ما استودع وراحم من استرحم وبالله التوفيق.

__________________

(١) القصص : ٧.

٢٥٨

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٨ ـ المقيت (١)

جل جلاله

قال الله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٢) فالمقيت بمعنى المقتدر ، وقيل : إنه بمعنى الحفيظ ، هذا قول أصحاب المعانى ، وقيل : المقيت الاسم من أقاته يقيته ، يقال : قاته وأقاته إذا أعطاه قوته ، وفى الحديث : «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» وروى : «من يقيت» والقوت ما به استقلال النفس ، ويكون قواما لها وسبب بقائها ، وأن الله سبحانه جعل أقوات العباد والحيوانات من المخلوقين والمخلوقات مختلفة ، فمنهم من جعل قوته المأكولات والمشروبات ، على حسب اختلافهما فى الأجناس والأصناف المطعومات ، ومنهم من جعل قوته فى التسبيح والطاعات كالملائكة الذين هم سكان الأرضين والسماوات ، وأنه خص بنى آدم بأن جعل قوتهم أطيب الأشياء

__________________

(١) المقيت : خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان ، وهى الأطعمة ، وإلى القلوب ، وهى المعرفة ، فيكون بمعنى الرزاق ، إلا أنه أخص منه ، إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت ، والقوت ما يكتفى به فى قوام البدن ، وإما أن يكون بمعنى المستولى على الشيء القادر عليه والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم ، وعليه يدل قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أى مطلعا قادرا ، فيكون معناه راجعا إلى القدرة والعلم ، ويكون بهذا المعنى وصفه بالمقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعلم وحده ، لأنه دال على اجتماع المعنيين ، وبهذا يخرج هذا الاسم على الترادف.

(٢) النساء : ٨٥.

٢٥٩

وألذها ، قال الله تعالى : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) (١) ، ثم إنه جعل قوت الأشباح الطعام والشراب وجعل قوت الأرواح المعانى التى لها قدرها ورتبتها ، وبها يحصل تفاوت درجاتها ، فمن أقوات القلوب والأرواح العقل الّذي به نظام جميع المحاسن ، فمن رزقه الله العقل أكرمه وأزانه ، ومن حرمه ذلك فقد أذله وأهانه ، قيل : إن جبريل عليه‌السلام جاء إلى آدم عليه‌السلام وقال : إنى أتيتك بثلاثة أشياء ، فاختر منها واحدا ، فقال : وما هى : فقال : العقل والدين والحياء ، فقال آدم : اخترت العقل ، فخرج جبريل وقال : إنه اختار العقل ، فانصرفا أنتما ، فقال الدين والحياء : إنما أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان.

ولهذا قيل : ما خلق الله تعالى شيئا أحسن من العقل ، وسئل بعضهم عن معنى العقل فقال : لم يعط أحد كماله فيوصف ، وأن الله تعالى إذ شغل العبد بطاعته أقام لأجله من يقوم بشغله ، فإذا اشتغل العبد بطاعة ربه جعل الحق سبحانه من يقوم بخدمة عبده ، وإذا رجع إلى متابعة شهوته وتحصيل أمنيته وكله إلى حوله وقوته ورفع عنه ظل عنايته.

سمعت منصور المغربى يقول : كان الكتانى بمكة ، وكان له خادم يخدمه ، وكان فى المسجد شاب حسن الجلسة ، فكان الكتانى إذا فتح عليه بشيء قال لخادمه : ابدأ بذلك الشاب ، فقال الخادم له يوما : كنت تأمرنى أن أبدأ بذلك الشاب ولم تقل لى ذلك منذ أيام ، فقال : إنى رأيته فى الحذائين يطلب شعسا ، ومن أمكنه أن يحتال لنفسه شعسا قد سقط منا فرضه.

أشار بهذا أنه إنما كان ذلك الشيخ منصوبا لمراعاة حقه وتقديمه على أشكاله لما لم يكن الشاب محترفا لنفسه ، فحيث اتصف باحتياله فى بعض أحواله رد إلى أفعاله واختياره.

__________________

(١) يونس : ٩٣.

٢٦٠