شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

وليس المرفوع قدرا ، والمعلى شأنا وأمرا ، والمستحق مجدا وفخرا ، من وضع الطين على الطين ، وتكبر على المساكين ، وافتخر على أشكاله بكثرة ماله واستقامة أحواله ، وإنما المشرف شأنا ، والمعلى رتبة ، ومكانا من رفعه الله بتوفيقه وأيده بتصديقه وهداه إلى طريقه ، صفا مع الله قلبه وخلا له وجهه ولبه ، وصعد إلى السماء أنينه ، وصدق إلى الله شوقه وحنينه.

وروى فى الخبر : «كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله لأبر قسمه».

واعلم أن المخفوض حقا من تنكبه التوفيق والنصرة ، وأدركه الخذلان والفترة ، وأسرته نفسه ، فهو بشهواتها مربوط ، وفى وقته تقصير وتخليط وتفريط ، إن رجع إلى قلبه لم يجد خبرا من ربه وإن رجع إلى ربه لم يجد خطرا لقدره ، فهو بالهجران موسوم ، وبين الفترات والأشغال مقسوم ، يبيت فى فترة ، ويصبح على حسرة.

وفى بعض الحكايات : من أراد ملك الدارين فليدخل فى مذهبنا يومين ، وفى معناه أنشدوا :

لله درهم من فتية بكروا

مثل القضاة وكانوا كالمفاليس

وقيل : إن امرأة كانت تكنس المساجد وكانت تسمى مسكينة ، فماتت فرئيت فى المنام فقيل لها : ما حالك يا مسكينة ، فقالت : هيهات ، ذهبت المسكنة وجاء الغنى الأكبر.

٢٢١

فصل : تذلل فى دنياك ترفع فى عقباك :

واعلم أن من تذلل لله تعالى فى دنياه رفعه الله فى عقباه ، قال الله تعالى : (وَمُلْكاً كَبِيراً) (١) جاء فى التفسير أنه سبحانه يرسل الملك إلى وليه ويقول له : استأذن على عبدى ، فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع ، فيستأذن عليه من سبعين حجابا ، ثم يدخل عليه ومعه كتاب الله مكتوب على عنوانه : من الحى الّذي لا يموت إلى الحى الّذي يموت ، فإذا فتح الكتاب وجد مكتوبا فيه : عبدى ، اشتقت إليك فزرنى ، فيقول : هل جئت بالبراق؟ فيقول : نعم ، فيركبه فيغلب الشوق على قلبه فيحمله شوقه ، ويبقى البراق ، إلى أن يصل إلى بساط اللقاء.

وأما الذين يخفضهم فهم أذل من التراب ، تطؤهم الأقدام ، قال الله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٢).

__________________

(١) الإنسان : ٢٠.

(٢) الكهف : ١٠٥.

٢٢٢

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢٣ ، ٢٤ ـ المعز المذل (١)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى وصفات فعله ، فإعزازه للعبد يكون فى الدنيا والآخرة ، فأما فى الدنيا فيكون بالمال والحال ، فالمال لتجمل الظواهر ، والحال لتزين السرائر ، والمال يتحصل الاستغناء به من الأمثال والأشكال ، والحال يتحصل الافتقار بها إلى من لم يزل ولا يزال ، فالإعزاز بالمال فيما بين الخلق ، والإعزاز بالحال على باب الحق.

واعلم أن الله سبحانه وتعالى يعز الزاهدين بعزوب نفوسهم عن الدنيا ، ويعز العابدين بسلامة نفوسهم عن الرغائب والمنا ، ويعز أصحاب العبادات بسلامتهم عن اتباع الهوى ، ويعز المريدين بزهادتهم فى صحبة الورى وانقطاعهم إلى باب المولى ، ويعز العارفين بتأهيلهم لمقامات النجوى ، ويعز المحبين بالكشف واللقا والفناء عن كل ما هو غير وسوى ، ويعز الموحدين بشهود جلال من له البقاء والبهاء.

__________________

(١) المعز الّذي أعز أولياءه بعصمته ، ثم غفر لهم برحمته ، ثم نقلهم إلى دار كرامته ، ثم أكرمهم برؤيته ومشاهدته ، والمذل الّذي أذل أعداءه بحرمان معرفته وركوب مخالفته ، ثم نقلهم إلى دار عقوبته ، وأهانهم بطرده ولعنته.

قال بعضهم : ما أعز الله عبدا بمثل ما يدله على ذل نفسه ، وما أذل الله عبدا بمثل ما يشغله بعز نفسه.

٢٢٣

فصل : بم يكون إعزاز الحق لعباده :

واعلم أن إعزاز الحق لعباده يكون بصحة القناعة فإن الذل كله فى الطمع ، وقيل : إن العقاب يطير فى الهواء فى تصاعده فلا يرتقى طرف إلى سطاره ، ولا تسمو همة إلى الوصول إليه فيرى قطعة لحم معلقة على شبكة فيدليه الطمع من مطاره فتعلق الشبكة بجناحه فيصيده صبى ، ثم يلعب به ، ولو لا الأطماع الكاذبة لما استعبد الأحرار بكل شيء لا خطر له ، وفى معناه أنشدوا :

وخير رداء يرتديه ابن حرة

سلامة عرض لم يدنس بمطمع

وأنشدوا :

طمعت بليلى أن تجود وإنما

تقطع أعناق الرجال المطامع

وأنشدوا :

إذا أظمأتك أكف الليا

لى كفتك القناعة شبعا وريا

فكن رجلا رجله فى الثرى

وهامة همته فى الثريا

أبيا لقاؤك ذا ثروة

تراه بما فى يديه أبيا

فإن إراقة ماء الحيا

ة دون إراقة ماء المحيا

٢٢٤

وأنشدوا :

وإنى عفيف عن مطاعم جمة

إذا زين الفحشاء للنفس جوعها

وقيل : إن فتحا الموصلى كان قاعدا فسئل عمن يتابع الشهوات كيف صفته؟ وكان بقربه صبيان ، مع أحدهما خبز بلا إدام ، ومع الآخر خبز مع كامخ (١) ، فقال الّذي لم يكن له كامخ لصاحبه : أطعمنى مما معك ، فقال : بشرط أن تكون كلبى ، فقال له صاحبه : نعم ، فجعل خيطا فى رقبته وجعل يجره كما يقاد الكلب ، فقال فتح للسائل : أما إنه لو رضى بخبزه ولم يطمع فى كامخه لم يصر كلبا لصاحبه ، وقيل : لو لا الأطماع لما اندقت الأعناق.

فصل : عز العبد وذله منه تعالى :

وإذا أراد الله إعزاز عبد قربه من بساطه وأهّله لمناجاته ، وإذا أراد الله إذلال عبد ربطه بشهواته وحال بينه وبين قربته ومخاطباته.

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عنى محجوبة.

وحكى عن بعضهم أنه دخل على تلميذ له فقدم التلميذ إليه خبزا قفارا ولم يكن له إدام ، فأخذ يتمنى بقلبه أن ليت كان له إدام يقدمه إلى أستاذه ، فقام الأستاذ وقال : تعال معى ، فحمله إلى باب السجن ، فرأى الناس يضرب واحد ويقطع آخر ويعذب كل واحد بنوع من العذاب ، فقال الأستاذ للتلميذ : ترى هؤلاء هم الذين لم يصبروا على الخبز القفار.

وقيل إن رجلا خرج من السجن وفى رجله قيد ويسأل الناس ، فقال لإنسان : أعطنى كسرة ، فقال له : لو قنعت بالكسرة لما وضع القيد فى رجلك.

__________________

(١) الكامخ : ما يؤتدم به ، أى يؤكل به الخبز.

٢٢٥

وحكى أن رجلا خطر بباب أمير فرأى الناس محجوبين عليه إلا خادما كان يدخله بلا حجاب ، فسأل عن حاله ، فقيل : دار الحرام متى شاء بلا حجاب ، فقال : ولم؟ فقالوا : إنه مفقود آلة الشهوة ، فقال : سبحان من وعظنى بعد سبعين سنة بخصى ، فمن أراد الدخول بلا حجاب فعليه بترك الشهوات.

فصل : من هو العزيز ومن هو الذليل :

ليس العزيز من تطاول على أشكاله بماله ورياشه (١) وانتظام أسباب معاشه ، ويتطاول على أبناء جنسه ويعجب بسلامة نفسه ، وينسى ما كان يقاسى فى أمسه ، إنما العزيز من له ذرة من روح أنسه ، وجنب عن صحبة نفسه ، وأبناء جنسه ، وشهود قدسه.

واعلم أن الذليل من اعتز بالعصيان ، وتعود موجبات النسيان ، واتصف بالكفر والطغيان ، فهو بآفاته موسوم ، وبمخالفاته فى أغلب أوقاته عن وجود توفيقه محروم ، فإن المشايخ قالوا : ما أعز الله عبدا بمثل ما يدله على ذل نفسه ، وما أذل الله عبدا بمثل ما يرده إلى توهم عزه.

وقيل فى معنى قوله تعالى : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (٢) تعز من تشاء بأن يكون لك بك معك بين يديك ، وتذل من تشاء بأن يكون فى أسر نفسه وغطاء شهواته وسجن تمنيه وآفاته ، يصبح عجوبا ويمسى محروما لا بالطاعات توفيق ، ولا بالقلب تصديق ، ولا فى الحال تحقيق ، نعوذ بالله من شر الأقدار وسوء الاختيار ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) الرياش : هو الغنى بالمال ، وذو رياش أى صاحب مال كثير.

(٢) آل عمران : ٢٦.

٢٢٦

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢٥ ، ٢٦ ـ السميع (١) البصير (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ، ورد بهما النص وانعقد عليهما الإجماع.

وسمعه وبصره صفتان له زائدتان على علمه ، بخلاف من خالف فيه من القدرية ، وهما إدراكان له ، فلا يخرج مسموع عن سمعه ، ولا موجود عن بصره ، وحد ما يحدون أن يسمع ويرى على الحقيقة ، فهو الموجود ، وليس من شرط سمعه وبصره حلول فى عضو واختصاص منه بجزء ، لأنه سبحانه أحدىّ

__________________

(١) السميع : هو الّذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفى ، ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء ، يسمع حمد الحامدين فيجازيهم ، ودعاء الداعين فيستجيب لهم ، ويسمع بغير أصمخة وأذن كما يفعل بغير جارحة ، ويتكلم بغير لسان ، وسمعه منزه عن أن يتطرق إليه الحدثان ، ومهما نزهت السمع عن تغيير يعتريه عند حدوث المسموعات ، وقدسته عن أن يسمع بأذن أو آلة أو أداة علمت أن السمع فى حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات ومن لم يحقق نظرا فيه وقع بالضرورة فى محض التشبيه فخذ منه حذرك ودقق فيه نظرك.

(٢) البصير : هو الّذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان فى ذاته كما ينطبع فى حدقة الإنسان ، فإن ذلك من التأثر والتغير المقتضى للحدثان ، وإذا نزه عن ذلك كان البصر فى حقه عبارة عن الصفة التى ينكشف بها كمال تفرق المبصرات ، وذلك أوضح وأجلى مما يفهم من إدراكه البصر القاصر عن ظواهر المرئيات.

٢٢٧

الذات ، فردى الحقيقة ، غير منقسم فى ذاته ، ولا متألف بشيء من أمثاله ، وسمعه وبصره لا يتعلقان بمعدوم لاستحالة أن يكون المعدوم مدركا ، وأنه لا يحجب شيء عن بصره وسمعه ، يسمع السر والنجوى ، ويبصر ما هو تحت أطباق الثرى.

وكل من عرف من عباده أنه هو السميع البصير فمن آدابه دوام المراقبة ومطالبة النفس بدقيق المحاسبة.

وقيل : إن رجلا من الملوك كان له عبد وكان يقبل عليه أكثر مما يقبل على أمثاله ، ولم يكن أحسن منهم صورة ولا أكثر قيمة فتعجبوا منه ، وكان قد ركب الأمير يوما فى صحراء ومعه ندماؤه وغلمانه ، فنظر إلى جبل من بعيد وعليه قطعه ثلج ، فنظر الملك نظرة واحدة وأطرق ، فركض هذا الغلام دابته من غير أن ينظر الأمير إليه أو أشار بشيء عليه ، ولم يعلم الناس لم يركض ، فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء الغلام ومعه شيء من ذلك الثلج ، فسئل بم عرفت أنه أراد الثلج؟ فقال : لأنه نظر إليه ، ونظر الملوك إلى شيء لا يكون إلا على أصل ، فقال الأمير : إنما أقبل على هذا أكثر من إقبالى على غيره بهذا الّذي رأيتم ، لأن الكل مشتغلون بأنفسهم وهذا مشتغل بمراعاة أحوالى.

وإن من علامات من يعلم أنه السميع البصير أن يكون مستحييا من اطلاعه عليه وسمعه لما يقول.

روى عن الصديق رضوان الله عليه أنه قال : إنى لأغتسل فى الليلة الظلماء فأحنى صلبى حياء من ربى.

ويقال : إن عصيت مولاك فاعص فى موضع لا يراك.

٢٢٨

فصل : من ألطاف الله تعالى على عبده الّذي يحفظ سمعه وبصره :

ومن ألطاف الله سبحانه بعباده الذين يحفظون له سمعهم وبصرهم أن يكفيهم مئونة أنفسهم ويصونهم فى أحوالهم ، فتكون أسماعهم مصونة عن سماع كل لغو ، وأبصارهم محفوظة عن شهود كل كبيرة ولهو.

روى فى الخبر أن الله تعالى يقول : «ما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى يحبنى وأحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ، فبى يسمع وبى يرى» وهذا هو محل الحفظ ووصف التخصيص فى العناية.

روى عن سهل بن عبد الله أنه قال : مذ كذا سنة وأنا أخاطب الحق سبحانه والناس يتوهمون أنى أكلمهم ، وفى معناه أنشدوا :

وظنونى مدحتهم قديما

وأنت بما مدحتهم مرادى

وهذا هو صفة الجمع الّذي أشار إليه القوم أن لا يكون العبد لنفسه بنفسه بل يكون لربه بربه ، وإذا علم أن مولاه يسمع ما يقول ويرى ما يختلف به من الأحوال فإنه يكتفى بسمعه وبصره عن انتقامه وانتصاره ، فإن نصرة الحق سبحانه أتم له من نصرته لنفسه ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (١) ثم انظر بما ذا سلاه وكيف خفف عنه تحمل أثقال بلواهم بما شغلهم به فأمره به حيث قال عز ذكره : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٢) أى اتصف أنت بمدحنا

__________________

(١) الحجر : ٩٧.

(٢) الحجر : ٩٨ ، ٩٩.

٢٢٩

وثنائنا إذا تأذيت بسماع السوء فيك ، فاستروح بروح ثنائك علينا ، ثم إنه سبحانه لما قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه مجنون ، تولى نفى ذلك عنه ورد عليهم فقال تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ(١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (١) فنفى ذلك عنه بما أقسم عليه تحقيقا لتنزيهه ، وتطهيرا لنعمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عاب قائله بعشر خصال من الذم حيث قال : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) إلى قوله : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (٢) فإن رد الحق سبحانه الّذي رد به عنه عليه الصلاة والسلام أتم من رده ذلك لنفسه.

* * *

__________________

(١) القلم : ١ ، ٢.

(٢) القلم : ١٠ ـ ١٣.

٢٣٠

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢٧ ، ٢٨ ـ الحكم (١) العدل (٢)

جل جلاله

الحكم : هو الحاكم وحكمه خبره عن الشيء على وصف ، فيكون ذلك من صفات ذاته ، ويكون حكمه أيضا بين عباده بشيء وهو أن يخلق ذلك الشيء على الوجه الّذي يريد ، يقال : حكم لفلان بالنعمة ، أى أنعم عليه ، وحكم على فلان بالمصيبة : إذا خلق الله له البلاء ، فيكون هذا من صفات الفعل.

أما الوصف له بأنه العدل فيكون من صفات الذات ، على أن له أن يفعل فى ملكه ما يريد ، فيشير إلى استحقاقه لصفات العلو ، لأن حقيقة العدل أن يكون فعلا حسنا صوابا ، وإنما يكون حسنا صوابا إذا كان لفاعله أن يفعله ، فهو عادل وأفعاله عدل وله أن يفعل بحق ملكه ما يريد فى خلقه.

حكى أن رجلا جاء إلى سمنون وقال له : ما معنى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٣)؟ فأنشد سمنون :

ويقبح من سواك الفعل عندى

فتفعله فيحسن منك ذاكا

__________________

(١) الحكم : الّذي لا يقع فى وعده ريب ، ولا فى فعله عيب ، وقيل : الحكم الّذي حكم على القبول بالرضا والقناعة ، وعلى النفوس بالانقياد والطاعة.

(٢) العدل : هو مصدر عدل يعدل عدلا فهو عادل ، وهو الّذي له أن يفعل ما يريد ، وحكمه ماض فى العبيد ، وأنه لا يظلم ولا يجوز.

(٣) آل عمران : ٥٤.

٢٣١

فقال الرجل : نسألك عن آية من كتاب الله تعالى فتجيبنى ببيت شعر؟ فقال له سمنون : من أى بلد أنت؟ فقال : من الجبل ، فقال له : من الذين هم فى الناس كالكرات فى البقل؟ لم أجبك ببيت لقصورى فى الجواب ، ولكن أردت أن أبين لك أن فى أقل القليل أدل دليل على ما سألت بخليته إياهم مع مكرهم مكره بهم.

فمن علم أنه العدل لم يستقبح منه موجودا ، ولم يستثقل منه حكما ، بل يستقبل حكمه بالرضا ويصبر تحت بلاياه بغير شكوى ، ولم يضق بتحمل بلاياه قلبا ، ووسع بمقاساة مفاجآت تقديره صدرا.

يحكى عن أبى عثمان المغربى أنه قال : قلوب العارفين أفواهها فاغرة لمفاجأة القدر.

فصل : لا تبديل لحكم الله تعالى :

واعلم أن الله تعالى حكم فى الأزل لعباده بما شاء ، فمنهم شقى وسعيد ، وقريب وبعيد ، فمن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبدا ، ومن حكم له بالسعادة لا يشقى أبدا ، ولذا قالوا : من أقصته السوابق لم يدنه الوسائل ، وقالوا : من قعد به جده لم ينهض به جده ، وقيل : إذا كان الرضا والغضب صفة أزلية فما تنفع الأكمام المقصرة والأقدام المورمة والوجوه المصفرة ، وقيل : إن بعض الأكابر كان قاعدا فمر به تابوت يهودى أوصى بأن يدفن فى بيت المقدس ، فقال ذلك الشيخ : أيكابرون الأزل ، أما علم هؤلاء أنهم لو دفنوا هذا فى فراديس العلاء لجاءت لظى بأنكالها وحملته إلى نفسها.

وكان الدقاق ، رحمه‌الله ، كثيرا ما ينشد :

ما حيلتى تفعل الأقدار ما أمرت

والناس من بين ذى غى وذى رشد

٢٣٢

واعلم أن الناس على أربعة أقسام : أصحاب السوابق ، فتكون فكرتهم أبدا فيما سبق لهم من الله سبحانه ، يعلمون أن الحكم الأزلى لا يتغير باكتساب العبد.

سمعت الدقاق يقول : سمعت بعضهم يقول : كان الواسطى ، رحمه‌الله ، يصيح ليلة إلى الصباح ، فلما أصبح قيل له : ما أصابك؟ فقال : سمعت البارحة رجلا يقول : أيا راهبى نجران ما فعلت هند؟ فقلت فى نفسى : ما الّذي سبق لك من الله تعالى فى الأزل؟.

وطائفة ثانية هم أصحاب العواقب يتفكرون فيما يختم به أمرهم ، فإن الأمور بخواتيمها ، والعاقبة مستورة ، ولهذا قيل : لا يغرنكم صفاء الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات ، وقيل : ظلال الأسنة تلوح من خلال المنة.

فكم من ربيع تتورد أشجاره وتظهر ثماره وأزهاره ووطن عليه أهله قلوبهم قلم يلبثوا أن أصابته جائحة سماوية فطاح واضمحل ، قال الله سبحانه : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) (١) وكم من مريد لاحت عليه أنوار الإرادة وظهرت عليه آثار السعادة وانتشر صيته فى الآفاق وعقدت عليه الخناصر بالأطباق وظنوا أنه من جملة أوليائه وأهل صفائه ، فأبدل بالوحشة صفاؤه وبالغيبة ضياؤه ، وأنشدوا :

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

ولم تخف سوء ما يأتى به القدر

وسالمتك الليالى فاغتررت بها

وعند صفو الليالى يحدث الكدر

__________________

(١) يونس : ٢٤.

٢٣٣

وقيل أيضا فى معناه :

يا سائلى كيف كنت بورى

لقيت ما ساءنى وسره

ما زلت أحتال فى رضاه

حتى أمنت الزمان مكره

صال على الصدود حتى

لم يبق مما شهدت ذره

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول : كان بعض المشايخ له حالة مع الله جميلة ، فلم ير مدة ، فلما رئى بعد زمان لم يكن على ما عهد عليه قبله من صفاء الوقت ، فقيل له : يا أبا فلان ، إيش أصابك؟ فقال : آه ، حجاب وقع.

والطائفة الثالثة : هم أصحاب الوقت ، لا يشتغلون بالفكر فى السوابق والعواقب ، بل يشتغلون بمراعاة الوقت ، وأداء ما كلفوا من أحكام الوقت فيكون الغالب عليهم هذا.

وقد قيل : العارف ابن وقته ، وقيل لبعضهم : تكلم ، فقال : حتى أجد إنسانا ، فقيل له : ومن تريد؟ فقال : من لا يهمه ماضى وقته ولا آتيه ، بل يهمه وقته الّذي هو فيه ، وقيل : الصوفى من لا ماضى له ولا مستقبل ، وسمعت الشيخ منصور المغربى يقول : رأى بعض الفقراء أبا بكر الصديق فقال : أوصنى ، فقال : كن ابن وقتك.

وأما الطائفة الرابعة فالغالب عليهم ذكر الحق سبحانه ، فهم مأخوذون بشهود الحق عن مراعاة الأوقات ، لا يتفرغون إلى مراعاة وقت وزمان ، ولا يتطلعون لشهود حين وأوان.

٢٣٤

قال عبد الله بن يوسف : دخلت على بعض المشايخ بهراة فأردت أن أقوم من عنده فقال لى : تخرج؟ فقلت : لا أشغل فى وقت الشيخ أكثر من هذا ، فقال : يا بنى ، أنا لست للوقت ، الوقت ما شغلنى به ربى ، وفى معناه أنشدوا :

لست أدرى أطال ليلى أم لا

كيف يدرى بذاك من يتقلى

لو تفرغت لاستطالة ليل

ولرعى النجوم كنت مخلا

إن للعاشقين عن قصر الليل

وعن طوله من الهجر شغلا

ويحكى عن الجنيد أنه قال : دخلت على السرى يوما وقلت له : كيف أصبحت؟ فأنشأ يقول :

ما فى النهار ولا فى الليل لى فرج

ولا أبالى أطال الليل أم قصرا

ثم قال : ليس عند ربكم صباح ولا مساء ، أشار بهذا إلى أنه غير متطلع للأوقات ، بل هو مستغرق بشهود الموقف عن الحالات والشارات.

وفى معناه أنشد :

لا كنت إن كنت أدرى كيف كنت ولا

أكون إن كنت أدرى كيف لم أكن

كن لى كما كنت لى فى حين لم أكن

يا من به صرت بين الرزء والحزن

وربما يزبد المعنى ويغلب على صاحب هذا النعت حتى يصير فانيا عن كل

٢٣٥

إحساس وحتى يفنى عن فنائه ، قال الله سبحانه : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (١) ، وحكى أن رجلا دق الباب على أبى يزيد فقال : إيش تريد؟ فقال : أبا يزيد ، فقال : ليس فى الدار أبو يزيد ، وحكى أن رجلا قال للشبلى : أين الشبلى؟ فقال : مات ، لا رحمه‌الله.

وقيل : إن ذا النون المصرى بعث رجلا يتعرف له أحوال أبى يزيد البسطامى ويصفها له ، لما تناهى إليه أخباره ، فحضر الرجل بسطام واستدل على أبى يزيد فدل عليه وهو فى مسجده ، فدخل عليه وسلم ، فقال : إيش تريد؟ فقال : أريد أبا يزيد ، فقال أبو يزيد : أين أبو يزيد؟ أنا فى طلب أبى يزيد ، فقال الرجل فى نفسه : هذا مجنون ، لقد ضاع سفرى ، فرجع إلى ذى النون ووصف له ما رأى وسمع ، فبكى ذو النون وقال : أخى أبو يزيد ذهب فى الذاهبين فى الله.

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول فى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٢) قال : كان ذاهبا فى الله فلهذا صار ذاهبا إلى الله ، فذهابه فى الله أوجب ذهابه إلى الله تعالى.

واعلم أن هذه الألفاظ توهم ظواهرها ، وإنما يقف على معانيها ومرمى القوم فيها من جمع بين حقائق الأصول وبين شيء من علوم هذه الطائفة ، وتحقق ولو بشظية من معانيه ، وإلا وقع فى الاعتراض على السادة ، ونعوذ بالله من تلك العقوبة.

__________________

(١) الكهف : ١٨.

(٢) الصافات : ٩٩.

٢٣٦

باب

فى معنى اسمه تعالى

٢٩ ـ اللطيف (١)

جل جلاله

اعلم أن اللطيف اسم من أسمائه نطق به القرآن ، قال الله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) (٢) واللطيف فى اللغة له ثلاثة معان :

أحدها : أن يكون عالما بدقائق العلوم وغوامضها ومشكلاتها ، يقال : فلان لطيف الكف إذا كان حاذقا فى صنعته ماهرا بما يشكل على غيره.

واللطيف هو الشيء الصغير الدقيق وهو ضد الكثيف ، يقال : لطف يلطف فهو لطيف إذا صغر ودق ، ويقال : لطف يلطف إذ رفق به وأوصل إليه منافعه من حيث لا يعلم هو ولا يقدر عليه برفق منه ، فاللطيف هو الدقيق ضد الكثيف ، وهذا المعنى فى وصفه مستحيل.

واللطيف هو العليم بدقائق الأمور ومشكلاتها ، وهذا فى وصفه واجب.

واللطيف المحسن الموصل للمنافع برفق ، وهذا فى نعته مستحق ، وهذا من صفات فعله ، وقوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يحتمل المعنيين جميعا : أن يكون عالما بهم وبمواضع حوائجهم ، يرزق من يشاء كما يشاء ، ولطيف بهم يحسن إليهم ويتفضل عليهم ويرفق بهم.

__________________

(١) اللطيف : من وفق للعمل فى الابتداء ، وختمه بالقبول فى الانتهاء ، وقيل : اللطيف من ولى فستر ، وأعطى فأغنى ، وأنعم فأجزل ، وعلم فأجمل.

(٢) الشورى : ١٩.

٢٣٧

فصل : من معانى اللطف :

وإذا حمل قوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) على صفات الذات وأنه بمعنى العالم بخفايا أمورهم ، فالآية تشير إلى تخويف ما لأنه العليم بخفيات الالتفاتات ، ودقائق اللحظات ، قال الله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١) فيوجب قبض العبد ويذكره لوصف الاطلاع ، وإن كثيرا من الناس يتوهمون أن لهم طاعات يستحقون عليها درجات وكرامات ، فإذا حصل ذلك ظهرت الآفات ، قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٢) وقال تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٣) قال المشايخ : لكم من الآفات فى الطاعات ما يمنعكم عن ارتكاب المخالفات ، وأن المفلس حقا من ظن أنه موسر ثم بان له إفلاسه عند تصفح ديوانه.

فصل : من لطفه تعالى بعباده :

وقد قيل من لطفه سبحانه وتعالى بعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة ، قال الله سبحانه وتعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٤) والإسباغ ما يفضل عن قدر الحاجة ، وقال فى صفة التكليف : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥) ، وقال عز ذكره : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٦) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وأنه تعالى لما أوجب على

__________________

(١) غافر : ١٩.

(٢) الزمر : ٤٧.

(٣) الكهف : ١٠٤.

(٤) لقمان : ٢٠.

(٥) الحج : ٧٨.

(٦) الأعراف : ١٥٧.

٢٣٨

العبد فى اليوم والليلة خمس صلوات لم يكلفه أن يؤديها دفعة واحدة ، بل جعلها عليه منجمة [مفرقة] فصلاة يومك لم يقبضها منك دفعة واحدة ، وأعطاك من الرزق يكفيك لسنين كثيرة ، وأنت تشكو وتتهم.

حكى أن رجلا جاء إلى بعض الصالحين وقال : إلى كم تقولون إنه يوسع الرزق ومذ كذا يوم لم يكن فى دارى شيء ولم يطعم عيالى شيئا ، حتى بعت شيئا ورثته عن أبى وورثه أبى عن جدى ، فقال الرجل الصالح : يا ضعيف اليقين والنظر ، ويا قليل الفتوة والعبر ، مذ كذا وكذا سنة قبضت منه هذا الرزق وأنت تشكوه وتتهمه.

ومن لطفه بعباده أن يوصل إليهم ما يحتاجون إليه من غير تجشم كلفة ، فإن الرجل إذا أكل لقمة ، فلو فكر فيها لعلم كم عين سهرت فى تلك الليلة حتى صلحت لتناوله ، من عامل أصلح الأرض لزراعتها ثم لإلقاء البذر فيها ثم لحصادها ثم لتنقيتها ثم لطحنها ثم لخبزها ، وهكذا كل شيء يرتفق به من ملبوس ومشروب ومطعوم ، فلو احتاج إلى ممارسة تلك الأشياء للحقه من المشقة ما لا طاقة له به ، ومن لطفه بعباده توفيق الطاعات وتسهيل العبادات وتيسير الموافقات ، إذ لو لا ذلك لكان للمخالفات مرتكبا وفى الزلات منهمكا ، ثم من لطفه بالعباد حفظ التوحيد فى القلوب وصيانة العقائد عن الارتياب وسلامة القلوب عن الاضطراب ، قال الله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (١) فإن بقاء المعرفة بين وحشة الزلة أعجب من إخراج اللبن من بين الفرث والدم ، ولكن جرت سنته سبحانه وتعالى يحفظ كل لطيفة بين كل كثيفة ، بل أجرى سنته بإخفاء الودائع فى

__________________

(١) إبراهيم : ٢٧.

٢٣٩

مواضع مجهولة ، وكما أنه جعل الحجر الصلد معدن الذهب والفضة وكثيرا من الجواهر كذلك جعل القلوب معادن العقائد الصافية والمعارف الصحيحة ، وكما جعل الغار للمصطفى والصّدّيق مأوى ، والجب ليوسف مثوى ، والصدف للدر دربا ، والنحل للعسل مكانا ، والدود للإبريسم محلا ، كذلك جعل قلب العبد لمحبته ومعرفته مستقرا.

حكى عن ذى النون أنه قال : رأيت رجلا شهد له قلبى بالولاية وتقذرته نفسى ، فبقيت بين قلبى ونفسى ، فنظر إلى وقال : يا ذا النون الدر وراء الصدف.

ومن لطفه بالعباد أنه يوفقهم لذكره والرجوع إليه ومناجاته ورفع الحوائج بحضرته ودوام المناجاة معه متى شاءوا مع كثير ما يتعاطونه من مخالفة أمره ، فسبحانه ما أحلمه على العاصين وأكرمه للمؤمنين.

٢٤٠