شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٦ ـ الرزاق (١)

جل جلاله

الرزاق اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن وانعقد عليه الإجماع ومعناه المبالغة من الرازق ، وحقيقة الرزق ما كان معه الانتفاع به مهيأ له ، وهو مصدر رزقه رزقا فهو رازق ، فكل ما يمكن أن ينتفع به فهو فى ذاته رزق وينقسم إلى حلال ، وحرام وشبهة فما كان موافقا للإذن فهو حلال ، وما كان بعكسه فهو حرام ، ويبطل قول المخالفين أنه الملك لوجوب القول بأن الله سبحانه رازق الطير والبهائم والسباع ، ولا ملك لها ، ومن عرف أن الله هو الرزاق أفرده بالقصد إليه وتقرب إليه بدوام التوكل عليه ، قال الله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٢).

وقيل لبعضهم : من أين يأكل فلان؟ فقال : مذ عرفت خالقه ما شككت فى رازقه.

وجاء رجل إلى حاتم الأصم فقال : من أين تأكل؟ فقال : من خزائنه ، فقال

__________________

(١) هو الّذي خلق الأرزاق والمرتزقة وأوصلها إليهم وخلق لهم أسباب التمتع بها ، فهو المتكفل بأرزاق المخلوقات ، الّذي يطعم ولا يطعم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات : ٥٨)

(٢) الرعد : ٢٦.

٢٠١

الرجل : يلقى عليك الخبز من السماء ، فقال : لو لم تكن الأرض له لكان يلقى عليّ الخبز من السماء ، فقال الرجل : أنتم تقولون الكلام ، فقال : إنه لم ينزل من السماء إلا الكلام ، فقال : أنا لا أقوى على مجادلتك ، فقال : لأن الباطل لا يقوم مع الحق.

وقيل لبعضهم : من أين تأكل؟ فقال : من خزائن ملك لا تدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس.

ودخل حاتم الأصم على امرأته فقال : إنى أريد أن أسافر ، فكم تحتاجين من النفقة حتى أضعها لك؟ فقالت : بقدر ما نخلف من الحياة ، فقال حاتم وما يدرينى كم تعيشين؟ فقالت له : كله إلى من يعلمه ، فلما خرج حاتم إلى السفر دخل النساء عليها يظهرن الاهتمام لشأنها وأنه تركها بلا نفقة ، فقالت تلك المرأة : إنه كان كيالا للرزق ولم يكن رزاقا.

* * *

٢٠٢

فصل : ما خص به الله تعالى الأغنياء والفقراء :

واعلم أن الله سبحانه خص الأغنياء بوجود الأرزاق ، وخص الفقراء بشهود الرزاق ، وأن من سعد بوجود الرزاق ما ضره ما فاته من وجود الأرزاق ، ومن عرف أنه هو الرزاق رجع إليه فيما يسنح له من جليل خطب ودقيق شغل ، لأنه علم أنه لا شريك له فى رزقه كما لا شريك له فى خلقه.

وقيل : إن موسى ، عليه‌السلام ، قال يوما فى مناجاته : إنه لتعرض لى الحاجة الصغيرة أحيانا أفأسألها منك أم أطلبها من غيرك؟ فأوحى الله تعالى إليه لا تسل غيرى وسلنى حتى ملح عجينك وعلف شاتك.

وسمعت الشيخ أبا على يقول : من علامات المعرفة أن لا تسأل حوائجك ، قلّت أو كثرت ، إلا من الله تعالى ، مثل موسى ، اشتاق إلى الرؤية فقال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١) واحتاج مرة الى رغيف ، فقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢) طلب القليل والكثير من الله.

ويحكى عن حماد بن مسلمة أنه قال : كان فى جوارى امرأة أرملة لها أيتام ، وكانت ليلة ذات مطر ، فسمعت صوتها تقول : يا رفيق ارفق ، قال : فخطر ببالى أنها أصابتها فاقة ، فصبرت حتى احتبس المطر فحملت معى عشرة دنانير ودققت عليها الباب ، فقالت : حماد بن مسلمة ، فقلت : نعم حماد ، كيف الحال؟ فقالت : خير وعافية ، احتبس المطر ودفى الصبيان ، فقلت : خذى هذه الدنانير وأصلحى بها بعض شأنك ، قالت : فصاحت بنية لها خماسية (٣) : لا نريد يا حماد

__________________

(١) سورة الأعراف الآية : ١٤٣.

(٢) سورة القصص الآية : ٢٤.

(٣) إما سنها خمسة أعوام أو طولها خمسة أشبار.

٢٠٣

أن تكون بيننا وبين ربنا واسطة ، ثم قالت لأمها : لما رفعت صوتك بإظهار السر علمت أن الله يؤدبنا بإظهار الرفق على يد مخلوق.

فصل : من طلب من الله الحوائج العظيمة :

ومن الناس من تسمو هممهم فلا يطلبون منه الحوائج الخسيسة.

ويحكى عن الشبلى أنه أرسل إلى ابن يزدانيال أن ابعث إلينا شيئا من دنياك ، فكتب إليه ابن يزدانيال : سل دنياك من مولاك ، فكتب إليه الشبلى : دنياى حقيرة وأنت حقير ، وإنما أطلب الحقير من الحقير ، ولا أطلب من مولاى غير مولاى.

ويحكى عن امرأة يحيى بن معاذ أنها قالت ليحيى : لقد قضيت العجب من بنيتنا هذه أنها طلبت منى شيئا تأكله مع الخبز ، فقلت لها : سلى من الله ، فقالت : أنا استحى من الله أن أسأل منه ما آكل.

فشتان بين من هى صبية بلغ من حسن أدبها أن تستحى أن تسأل من الله مباحا من الحلال ، وبين من هو شيخ طعن فى السن لا يستحى من الله وهو يراه على محظور عنه نهاه ، لكنه يختص برحمته من يشاء ، ويفعل فى بريته ما يريد ، قال سبحانه : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (١) فمنهم من يرزقه لطائف التوحيد وخصائص التوفيق ، ومنهم من يحرمه ذلك ؛ ويربطه بالخذلان وسوء الحرمان ، فنعوذ بالله من ذلك.

__________________

(١) الرعد : ٢٦.

٢٠٤

فصل : رزق الأرواح والسرائر :

واعلم أنه يرزق الأرواح والسرائر كما يرزق الأشباح والظواهر ، وأرزاق القلوب الكشوفات والمعانى ، كما أن أرزاق الأجساد الغذاء والأحاظى.

يحكى أن رجلا كان يخدم سهل بن عبد الله فأصابه الجوع فقال : يا أستاذ القوت ، فقال سهل : الله الحى الّذي لا يموت ، ثم قال له بعد مدة : يا أستاذ لا بد من القوت فقال سهل : لا بد من الله الحى الّذي لا يموت.

وقيل لبعضهم : أى شيء القوت؟ فقال : ذكر الحى الّذي لا يموت ، وفى معناه أنشدوا :

إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها

فكم تلبث النفس التى أنت قوتها

والحق سبحانه وتعالى يقبض أرزاق الظواهر ويضيقها على قوم ويبسطها على قوم آخرين ، كذلك سنته فى أرزاق القلوب يرددها بين قبض وبسط ، وقبول ورد ، وإنما يعطيهم إذا شاء ما شاء كما شاء ، لا بعلة استحقاق ، ولا بسبب إيجاب.

قيل : إن موسى عليه الصلاة والسلام قال يوما فى مناجاته : إلهى إنى جائع ، فأوحى الله إليه : إنى أعلم ذلك ، فقال : أطعمنى ، فقال سبحانه : إلى أن أريد.

وكما أن للظواهر طعاما وشرابا كذلك للسرائر طعام وشراب ، قال أهل الإشارة فى قوله تعالى : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (١) لم يشر إلى طعام معهود ولا إلى شراب مألوف ، وإنما أشار إلى طعام المعرفة وشراب المحبة.

__________________

(١) الشعراء : ٧٩.

٢٠٥

وأنشدوا :

شربت الحب كأسا بعد كأس

فلا نفد الشراب ولا رويت

وأنشدوا أيضا :

سقانى شربة أحيا فؤادى

فلا أسلو إلى يوم التناد

وقال بعضهم : دخلت على داود الطائى فرأيته منبسطا ، وكنت إذا دخلت عليه أراه منقبضا ، فقلت : أى شيء حالك؟ فقال : سقانى البارحة شراب أنسه فأردت أن أجعل اليوم يوم عيد ، فقلت : أتأذن لى أن أحمل إليك طعاما حتى تفطر؟ فقال : لست أشير إلى هذا ، وشتان بين شراب يدار على الكف وشراب يكون فى موجب لطف وروية كشف.

وأنشدوا :

فأسكر القوم دور كأس

وكان سكرى من المدير

٢٠٦

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٧ ـ الفتاح (١)

جل جلاله

الفتاح : اسم من أسمائه تعالى ورد به الخبر ونص القرآن ، كقوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ) أى احكم (بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٢) أى الحاكمين ، فيكون ذلك فى وصفه بمعنى القضاء والحكم ، والعرب تسمى الحاكم الفتاح ، لأنه يفتح بقضائه ما انغلق من خصومتهم ، ويكون الفتاح فى وصفه : الّذي يفتح لهم ما انغلق من أبواب الرزق وتقاصرت عنه حيلهم ، ويقال : فتح لهم باب الخير ، وفتح عليهم باب العذاب، قال الله سبحانه (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) (٣) والفتح فى اللغة ضد الغلق ، والمفتاح الآلة التى بها يفتح الغلق ، وجمعه مفاتيح ، وهو المفتح أيضا ، وجمعه المفاتح.

__________________

(١) قال المشايخ : الفتاح الّذي فتح قلوب المؤمنين بمعرفته ، وفتح على العاصين أبواب مغفرته ، وقيل : الفتاح الّذي يعينك على الشدائد ، وينيلك وجوه الزوائد ، وقيل : الفتاح الّذي فتح على النفوس باب توفيقه ، وعلى الأسرار باب تحقيقه ، وقيل : الفتاح الّذي لا يغلق وجوه النعمة بالعصيان ، ولا يترك إيصال الرحمة بالنسيان ، وقيل : الفتاح الّذي حكمه حتم ، وقضاؤه جزم.

(٢) الأعراف : ٨٩.

(٣) الأنعام : ٤٤.

٢٠٧

وإذا علم العبد أنه هو الفتاح والقاضى بين عباده تجنب سبل الظلم وتنكب عن جميع الجور تحققا بأنه يحاسب على الصغير والكبير ، ويطالب بالنقير والقطمير.

يحكى عن بعض الصالحين أنه قال لولده يوما : لى إليك حاجة ، فقال : وما هى؟ قال : أن تقول بالمساء كل ما قلته بالنهار ، فتكلف الابن ذلك اليوم ، وحفظ ما قاله للناس وأعاد إلى أبيه ، فلما أصبح قال له أبوه مثل ذلك ، فقال له الابن : عذبنى بما شئت ولا تكلفنى هذا ، فإنى لا أطيقه ، فقال الأب : يا بنى ، إذا كنت لا تطيق محاسبة أبيك ليوم واحد ، مع هذا اللطف ، فكيف تطيق محاسبة عمرك يوم لا يسمع من الجواب إلا ما كان صادقا.

ويقال : إن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة ينادى : إن الله تعالى يقول : أنا ظالم إن جاوزنى اليوم ظلم ظالم.

فإذا علم العبد أنه مسئول عن جميع أفعاله وأقواله استعد لذلك اليوم ، فلا يعمل ما يخاف عليه العتاب ويخشى لأجله العقاب.

وقد روى فى الخبر أنه لا يزول قدم عبد من مكانه (١) حتى يسأل عن ثلاث : يقال : شبابك فيم أبليته ، وعمرك فيم أفنيته ، ومالك من أين جمعته وفيم أنفقته.

وفى هذا المعنى تسلية للمظلومين ، وتفريج لكربة الممتحنين ووعيد شديد على الظالمين.

قال ابن عباس فى معنى قوله سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(٢) ما نزلت هذه الآية إلا وعيدا للظالم وتسلية للمظلوم.

وأما من علم أنه الفتاح للأبواب الميسر للأسباب الكافى للخطوب المصلح

__________________

(١) أى يوم القيامة.

(٢) إبراهيم : ٤٢.

٢٠٨

للأمور فإنه لا يتعلق قلبه بغيره ، ولا يشتغل بدون فكره ، يعيش منه بحسن الانتظار ، ولا يزداد بلاء إلا ويزداد بربه ثقة ورجاء (١) ، كيعقوب عليه‌السلام قال لبنيه بعد ما طال الأمد وتمادت الغيبة ورجعوا غير مرة خائبين : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) (٢).

ويحكى عن بعض الفقراء أنه كان يأتى كل يوم ويقف بحذاء الكعبة بعد ما كان يطوف ما شاء الله ، ويخرج من جيبه رقعة ينظر فيها ، فلما كان بعد أيام فعل مثل ذلك ثم تباعد ومات ، فجاء بعض من كان يرمقه ونظر فى الرقعة فإذا فيها : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (٣) فكان الرجل إذا أصابته الفاقة صبر ولم يظهر حاله لمخلوق حتى مات.

* * *

فصل : ما يفتحه الله تعالى لخلقه :

واعلم أنه يفتح للنفوس بركات التوفيق ، وللقلوب زوائد التحقيق ، فبتوفيقه تتزين النفوس بالمجاهدات ، وبتحقيقه تتزين القلوب بالمشاهدات

* * *

__________________

(١) ينبغى أن يعطش العبد إلى أن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهية ، ويتيسر بمعرفته ما تعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية ليكون له حظ من اسم الفتاح.

(٢) يوسف : ٨٧.

(٣) الطور : ٤٨.

٢٠٩

فصل : من آداب من علم أنه تعالى الفتاح :

ومن آداب من علم أنه الفتاح أن يكون حسن الانتظار لوجود لطفه ، دائم الترقب لحصول فضله ، مستديم التطلع لنيل كرمه ، تاركا للاستعجال عليه ، ساكنا تحت جريان الحكم ، عالما بأنه لا يقدم ما حكم بتأخيره ، ولا يؤخر ما حكم بتقديمه.

ويحكى أن رجلا كان يؤذن لأمير المؤمنين على رضى الله عنه فى مسجده ، وكانت تخرج من دار على رضى الله عنه جارية تستسقى بالغدوات ، فكان المؤذن يقول لها كل يوم : يا فلانة ، إنى أحبك ، فشكت يوما إلى عليّ رضى الله عنه وقالت : إن المؤذن يقول لى كل يوم : إنى أحبك ، فقال على رضى الله عنه : قولى له : وأنا أيضا أحبك ، فإيش بعد هذا؟ فقالت الجارية للمؤذن ذلك ، فقال المؤذن : إذا نصبر حتى يحكم الله بيننا ، فذكرت ذلك لعلى رضى الله عنه فدعا بالمؤذن وسأله عن القصة ، فأخبره بالصدق ، فقال على رضوان الله عليه : خذ بيدها واحملها إلى بيتك ، فقد حكم الله بينكما.

وقيل : إن رجلا باع جارية فندم واستحى أن يقول ذلك للناس ، وأن يعود إلى المشترى ، فكتب على كفه حاجته ورفع يده إلى السماء ولم يقل بلسانه شيئا فرأى المشترى فى المنام : أن قلب ولينا مشغول بالجارية ، فردها عليه وأجرك عليّ ، فلما أصبح الرجل حمل الجارية إلى البائع ودق الباب عليه ، فقال : من أنت : فقال : مشترى الجارية ، فقال : اصبر حتى أخرج الثمن ، فقال : أردها بلا ثمن ، فقد رضيت بما يعطينى الله بها من الأجر.

وروى أن رجلا من الفقراء طلب قلبه يوما فخرج فى وجده وطلب بلاد

٢١٠

الروم ، من غير قصد ، فأسر وأقيم للبيع فيمن يزيد ، والرجل فى سكره ، فأفاق ورأى نفسه على تلك الحالة فقال :

أقامنى حبك فيمن يزيد

فى صفة الذل ونعت العبيد

ما ضرنى مبتاع أم مشترى

فى حبكم لأن أمرى رشيد

مولاى ولهى بلغ ما ترى

فكيف نمدح غيركم يا حميد

قد حضر البائع والمشترى

عبدك موقوف فما ذا تريد

قال : فتغافلوا عنه فى تلك الحالة ومضى الرجل على وجهه ، وخرج من بلاد الروم إلى بلاد الإسلام ، ولم يقل له أحد شيئا.

٢١١

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٨ ـ العليم (١)

جل جلاله

العليم اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وهو عالم وعليم وعلام ، والتوقيف فى أسمائه تعالى معتبر ، والإذن فى جوازها منتظر ، فلا يسمى إلا بما ورد به الكتاب والسنة ، وانعقد عليه إجماع الأمة ، ولهذا لا يسمى عارفا ولا فطنا ولا عاقلا ولا داريا ولا ذكيا ولا شاعرا ولا إماما ، وإن كان الجميع بمعنى واحد.

وعلمه سبحانه نعت من نعوته ووصف مختص بذاته ، ليس بمكتسب ولا ضرورى ، دل على ثبوته شهادة أفعاله المحكمة.

فإذا ثبت ذلك فمن شأن من تحققه أن يكون مكتفيا بفعله عند جريان حكمه ، ساكنا عن تدبيره وتقديره ، فارغا عن اختياره واحتياله ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

ولما أن تعرض جبريل للخليل ، صلوات الله تعالى عليهما ، وهو فى الهواء حين رمى من المنجنيق ، قال له : هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، فقال : فسل ربك ، فقال حسبى من سؤالى علمه بحالى.

__________________

(١) العليم : الّذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عن علمه قاصية ولا دانية ، وقيل : من عرف أنه عليم بحاله صبر على بليته ، وشكر على عطيته ، واعتذر عن قبيح خطيئته.

(٢) الأنفال : ٦٤.

٢١٢

وقيل إن رجلا قال لبعض الموفقين : أيطلب الرجل الرزق؟ فقال : إن علم أين هو فليطلب.

فقال : أيسأل الله تعالى؟ فقال : إن علم أنه نسيه فليذكره.

قال : فما الحيلة؟ قال : ترك الحيلة.

آداب من علم أنه تعالى عالم الخفيات :

ومن آداب من علم أن الله تعالى عالم الخفيات ، خبير بما فى الصدور عليم بما فى الضمائر والسرائر من الخطرات ، لا يخفى عليه شيء من الحوادث فى جميع الحالات ، فبالحرى أن يستحى عن موضع اطلاعه ويرعوى (١) عن الاغترار بجميل ستره ، ويخشى بغتات قهره ومعاجلة مكره (٢) ، قال الله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) (٣) الآية.

وفى بعض الكتب : إن لم تعلموا أنى أراكم فالخلل فى إيمانكم ، وإن علمتم أنى أراكم فلم جعلتمونى أهون الناظرين إليكم.

__________________

(١) ارعوى : رجع وارتدع.

(٢) فإن معلومات العبد وإن اتسعت فهى محصورة فى قلة ، فأنى يناسب ما لا نهاية له.

(٣) النساء : ١٠٨.

٢١٣

فصل : ومن آداب من علمه تعالى عليما :

ومن آدابه أن لا يعارض مخلوقا فيما يحتاج إليه من مطالبة اكتفاء بعلمه ، فإنه إن ساكن بقلبه مخلوقا عوقب فى الوقت ، إن كان له عند الله قدر.

يحكى عن إبراهيم الخواص أنه قال : كنت فى البادية ، وكنت قد تهت ، فسمعت نباح كلب من بعيد ، فأصغيت إليه ، وأخذت نحو ذلك الصوت ، وقلت فى نفسى : أمشى نحو نباحه لأوافى العمارة ، فإنه لا يكون إلا فى عمارة ، فلم ألبث أن صفعنى شخص من ورائى ، ولم أره ، فوقع عليّ البكاء ، وقلت : إلهى ، هذا جزاء من توكل عليك ، قال : فهتف بى هاتف : ما دمت فى خفارتنا كنت عزيزا ، وإنما صفعت لأنك دخلت فى خفارة كلب ، وهذا رأس من صفعك ، فنظرت فإذا برأس مقطوع بين يدى.

ويحكى عن الخواص أيضا أنه قال : كنت بائعا فى الطريق فوافيت الرى ، فخطر ببالى أن لى بها معارف ، فإذا دخلتها أضافونى وأطعمونى ، قال : فلما دخلت البلد رأيت منكرا احتجت أن آمر فيه بالمعروف ، فأمرت بالمعروف فأخذونى وضربونى ، فقلت فى نفسى : من أين أصابنى هذا الضرب على جوعى؟ فنوديت فى سرى : إنما أصابك ذلك لأنك سكنت إلى معارفك بقلبك وقلت : إنهم يطعموننى إذا دخلت البلد.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : كنت جائعا فقلت لبعض معارفى : إنى جائع ، فلم يفتح لى من قبله بشيء ، فمضيت فوجدت درهما ملقى على الطريق ، فرفعته فإذا فيه مكتوب : أما كان الله عالما بجوعك حتى قلت لضعيف : إنى جائع.

٢١٤

ويحكى عن أبى سعيد الخراز أنه قال : خرجت وقتا فى البادية ، وكنت جائعا ، فدخلت الكوفة ، وكان لى بها صديق يقال له : الحوارى ، وكان يضيفنى إذا دخلت الكوفة ، فأتيت حانوته فوجدته غائبا ، فدخلت مسجدا بقرب حانوته أنتظر رجوعه ، وقلت : بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين ، وسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين المتوكلين ، وقعدت مستندا إلى اسطوانة أنتظر الحوارى ، قال : فدخل داخل فقال : الحمد لله رب العالمين ، وسبحان من أخلى الأرض من المتوكلين ، وسلام علينا وعلى جميع الكذابين ، يا أبا سعيد ، يا مدعى التوكل فى الصحارى والبرارى ، ليس التوكل الجلوس على البوارى ، تنتظر الحوارى ، قال فالتفت فلم أجد أحدا.

وهكذا سنة الله مع خواص عباده ، لا يسامحهم فى خطرة ولا يتجاوز عنهم فى لحظة ، يطالبهم بالكبير والصغير ، ويضايقهم بالنفير والقطير ، وأما الذين خست رتبتهم وقلّت قيمتهم فيذرهم بإمهاله يغترون وفى غفلاتهم ينهمكون ، حتى إذا أخذهم بغتة أهلكهم مرة ، نعوذ بالله من ذلك.

٢١٥

باب

فى معنى اسميه تعالى

١٩ ، ٢٠ ـ القابض الباسط (١)

جل جلاله

اعلم أنهما اسمان لله تعالى ورد بهما الخير ونطق بهما لفظ الكتاب ، وهما من صفات فعله ، قيل : معناه قابض الأرواح والأشباح عند الممات ، وباسط الأرواح فى الأجساد عند الحياة ، وقيل : معناه أنه يقبل الصدقات عن الأغنياء ، يعنى يقبلها ، ويبسط الأرزاق للفقراء ، يعنى يعطيها ويهبها ، وقيل : يقبض القلوب أى يضيقها ويوحشها (٢) ويبسط القلوب أى يبهجها ويؤنسها (٣) ، وقيل : يقبض الرزق أى يضيقه ، ويبسطه أى يوسعه.

واعلم أن القبض والبسط على اصطلاح أهل المعرفة فى تخاطبهم نعتان يتعاقبان على القلوب ، فإذا غلب على قلب عبد الخوف كان بعين القبض ، وإذا غلب على قلبه الرجاء صار من أهل البسط.

يحكى عن الجنيد أنه قال : الخوف يقبضنى والرجاء يبسطنى والحق يجمعنى والحقيقة تغرقنى ، وهو فى ذلك كله موحشى غير مؤنسى بحضورى بذوق طعم وجودى فليته غيبنى عنى وأفنانى منى.

__________________

(١) معناهما فى اللغة : القبض فى اللغة الأخذ ، والبسط التوسيع والنشر ، وهذان الأمران يعمان جميع الأشياء ، فكل أمر ضيقه فقد قبضه ، وكل أمر وسعه فقد بسطه.

(٢) وذلك بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله.

(٣) وذلك بما يتقرب إليها من بره ولطفه وجماله.

٢١٦

فصل : كيف يكون البسط والقبض :

فإذا كاشف الحق سبحانه عبدا بنعت جماله بسطه ، وإذا كاشفه بوصف جلاله قبضه ، فالقبض يوجب إيحاشه والبسط يوجب إيناسه ، واعلم أنه يرد العبد إلى أحوال بشريته فيقبضه حتى لا يطيق رده ويأخذه مرة عن نعوته فيجد لتحمل ما يرد عليه قوة وطاقة (١).

يحكى عن أبى عثمان الحيرى أنه كان عند أبى حفص أستاذه فمد يده إلى زبيب ، فأخذ أبو حفص على حلقه واسترده منه ، فلما سكن أبو حفص قال له أبو عثمان : يا أستاذ أنا أعلم أنه ليس للدنيا عندك حظ فكيف ضايقتنى فى زبيبة؟ فقال أبو حفص : من ذا يثق بقلب لا يملكه صاحبه.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : كنت مع الخواص فى سفر فنزلنا تحت شجرة فجاء أسد فربض بقربنا ، ففزعت فزعا شديدا وعلوت الشجرة وقعدت على غصن إلى الصباح ، من خوف الأسد ، ونام الخواص ولم يحفل به ، فلما كان الليلة الثانية نزلنا فى مسجد فنام الخواص فوقع على وجهه بقة فضج ،

__________________

(١) القابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم ، وأوتى جوامع الكلم ، فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء الله ونعمائه ، وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال الله وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من أعدائه ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قبض قلوب الصحابة عن الحرص على العبادة ، حيث ذكر لهم أن الله تعالى يقول لآدم يوم القيامة : ابعث بعث النار ، فيقول : كم؟ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، فانكسرت قلوبهم حتى فتروا عن العبادة ، فلما أصبح ورآهم على ما هم عليه من القبض والفتور روّح قلوبهم وبسطهم ، فذكر أنهم فى سائر الأمم قبلهم كشامة سوداء فى ثور أبيض.

٢١٧

فقلت : إن هذا عجب ، لم تحتشم البارحة من الأسد وفزعت الليلة من البقة! فقال : إن البارحة كنت مأخوذا عنى ، والليلة أنا مردود عليّ ، فلهذا جزعت.

ويحكى عن الشبلى أنه قال : من عرف الله حمل السماوات والأرضين على شعرة من جفن عينيه ، ومن لم يعرف الله لو تعلق به جناح بعوضة لضج.

فحمل هذا منه على حالتى القبض والبسط.

وقال بعض أهل المعرفة : إذا قبض قبض حتى لا طاقة ، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة.

* * *

٢١٨

فصل : الكل لله ومن الله :

واعلم أن الله يقبض الصدقات من الأغنياء ويقبلها لئلا يمن الغنى على الفقير ، ويبسط الرزق للفقراء لئلا تلحقهم منة من الأغنياء ليكون دفع الغنى إلى الله ، وقبض الفقير من الله ، فلا يبتغى الفقير غير الله ولا يبتغى الغنى غير الله ، وكأن الإشارة إلى الجملتين إفراد القلب لله عن غير الله وتصفية السر عما سوى الله ، فالغنى ينبغى أن لا يدل على الفقراء بل يذل لله ، والفقير يجب أن لا يذل لغير الله بل يشتغل بالله تعالى.

* * *

فصل : بين القبض والبسط :

وكان الدقاق ، رحمه‌الله تعالى يقول : القبض حق الحق منك ، والبسط حظ العبد منه ، ولأن تكون بحقه منك أتم من أن تكون بحظك منه.

وينبغى أن يتجنب الضجر فى وقت قبضه ويتجنب ترك الأدب فى حال بسطه.

وفى بعض الحكايات أن بعضهم قال : فتح على باب من البسط فزللت زلة فحجبت عن مكانى ، وسئل بعض المشايخ عن تلك الزلة إيش كانت؟ فقال : انبساط مع الحق بغير إذن ، ومن هذا خشى الأكابر والسادة.

٢١٩

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢١ ، ٢٢ ـ الخافض الرافع (١)

جل جلاله

اعلم أنهما اسمان من أسمائه تعالى ورد بهما الخبر ، وهما من صفات فعله ، يرفع من يشاء بإنعامه ، ويخفض من يشاء بانتقامه ، وعلى هذا يحمل تصريفه لعباده فى حالتى عزهم وذلهم وغناهم وفقرهم ، وكذا رفع الحق وحزبه ، وخفض الباطل وصحبه ، ورفع الدين وشعاره ، وخفض الكفر وآثاره ، ورفع التوحيد ودليله ، وخفض الإلحاد وسبيله ، ورفع الإسلام وأنواره ، وخفض الأصنام ومن رضى تعظيمها واختاره ، ورفع القلوب بتقريبه وخفض النفوس بحكم تعذيبه ، ورفع أولياءه بحفظ عهده وحسن رده وجميل رفده وصدق وعده ، وخفض الأعداء بصده ورده ، وطرده وبعده ورفع من اتبع رضاه ، وخفض من اتبع هواه ، وقيل من رضى بدون قدره رفعه الله فوق غايته.

وقيل فى بعض الحكايات : إن رجلا رئى واقفا فى الهواء فقيل له : بم بلغت هذه المنزلة؟ فقال : أنا رجل جعلت هواى تحت قدمى فسخر الله لى الهواء.

__________________

(١) هو الّذي يخفض الكفار بالإشقاء ، ويرفع المؤمنين بالإسعاد ، يرفع أولياءه بالتقريب ويخفض أعداءه بالإبعاد ، ومن يرفع مشاهدته عن المحسوسات والمتخيلات ، وإرادته عن ذميم الشهوات فقد رفعه الله تعالى إلى أفق الملائكة المقربين ، ومن قصر مشاهدته على المحسوسات وهمته على ما يشاركه فيه البهائم من الشهوات فقد خفضه إلى أسفل السافلين ، ولا يفعل ذلك إلا الله تعالى ، فهو الخافض الرافع جل جلاله.

٢٢٠