شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

فصل : آداب من عرف أنه تعالى المتفرد بالإيجاد :

ومن آداب من عرف أنه الخالق المنفرد بالإيجاد ألا يجحد الكسب ولا يطوى الشرع لأنه ليس بأن يخلق الحق تعالى شيئا ما يجب أن يكون للعبد حجة فيما يطالبه به من مراعاة حقوقه.

ويحكى أن بعض الأكابر قيل له : ما أعجب قول الملائكة حيث تجاسروا على أن قالوا لله سبحانه : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (١) فقال له : وما عليهم؟ هو أنطقهم ، فبلغ قوله يحيى بن معاذ الرازى فقال : هو أنطقهم ، ولكن انظر كيف أخرسهم ، فمن رحمة الله أن وجود الخلق من قبل الحق سبحانه ثم لا يكون عذر للعبيد فى سقوط اللوم عنهم (٢).

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

(٢) (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

١٨١

باب

فى معنى اسميه تعالى

١١ ، ١٢ ـ البارئ (١) المصور (٢)

جل جلاله

اعلم أنه ورد به نص القرآن ، قال الله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (٣) يقال : برأ الله الخلق تبرأهم برءا ، والبرية الخلق ، بغير همز وإن كان أصله الهمز اتفاقا منهم وإجماعا ، كما تركوا الهمزة من الذرية والنبي وما جرى مجراه ، وقد قيل : إن البرية من البراء وهو التراب ، والعرب تقول : بغية البراء ، تعنى التراب ، ويقال : برأت من المرض أبرأ ، وبرئت من المرض أيضا ، وبرئت من فلان من دينه ، وبرئ الرجل من شريكه إذا فارقه ، وبريت القلم بغير همز.

__________________

(١) قيل فى تفسير البارئ هو : الموجد والمبدع ، يقال : برأ الله الخلق يبرؤهم ، والبرية الخلق ، فعيلة بمعنى مفعولة ، وقيل : إن أصل البرء القطع والفصل ، قال الأخفش : يقال : برئت العود وبروته إذا قطعته ونحته ، وقيل : إن البارئ مشتق من البرء وهو التراب ، هكذا قاله ابن دريد ، والعرب تقول : بفيه البرى ، أى التراب ، والبارى يدل على أنه تعالى ركب الإنسان من التراب ، كما قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) (طه : ٥٥).

(٢) قيل فى تفسير المصور : إنه الّذي سوى قامتك ، وعدل خلقتك ، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين : ٤) وقيل : المصور من زين الظواهر عموما ، ونور السرائر خصوصا ، وقيل : المصور الّذي ميز العوام من البهائم بتسوية الخلق ، وميز الخواص من العوام بتصفية الخلق.

(٣) الحشر : ٢٤.

١٨٢

وأما المصور فمن التصوير ، وهو تمييز الشيء على صورة ، يقال : صوّره إذا جعله على صورة ، وصور الأمر أى قدره ، ويقال : صاره يصيره ويصوره إذا أماله هو ، من قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) (١) ورجل صير شير إذا كان ذا صورة وشارة حسنة ، والصور جمع صورة ، وعليه يحمل قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٢) أى فى الصّور على بعض التأويلات ، والصور أيضا هو القرن الّذي ورد به الخبر أنه ينفخ فيه الملك ، والله تعالى مصور الخلق ومقدرهم ومدبر العالم ومعبدهم.

وإذا عرف العبد أن الله تعالى برأه من البر الّذي هو التراب وأنه لم يكن شيئا ولا عينا فجعله شيئا وعينا فبالحرى أن لا يعجب بحاله ولا يدل بأفعاله ، بل لا يبتهج بصفو حاله وقد أشكل عليه حكم مآله.

وكيف لا يتواضع من يعلم أنه فى الابتداء نطفة وفى الانتهاء جيفة ، وفى الحال صريع جوعه ، وأسير شبعه ، وجماله وحسنه يختلف فى أطواره فى قميص إن أمسك عن الأكل ساعة تغير عليه خلوفه ، وإن عرق فى سعيه سطع بغير المستطاب صنان إبطه ورائحة جلده ، ثم إذا شاهد نقص نفسه عرف جلال ربه ، قال الله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣) وقال تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (٤) وأحد ما قيل فى قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) هو أن تفكر فتعلم كيف زين العضو الّذي لا يزال ظاهرا على مجرى العادة من أعضائك ، وهو وجهك ، وستر الوحشة منك ، وفيه تقوية للأمل والرجاء بأن يديم معك هذه السنة فى إسداء النعم وإكمال الكرم ، فإن

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) الكهف : ٩٩.

(٣) الذاريات : ٢١.

(٤) القيامة : ١٤.

١٨٣

من ستر فى الحال منك المساوئ لحقيق بأن لا يفضحك على رءوس الأشهاد يوم التناد.

وفى بعض الحكايات أن بعضهم رئى فى المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : أقامنى وأعطانى كتابى فمررت بسيئة فخجلت أن أقرأها فقال لى : لا بد من قراءتها فقلت : إلهى لا تفضحنى ، فقال : الوقت الّذي عملتها فيه ولم تستح ما فضحتك ، أفأفضحك الآن وأنت تستحى.

وقال بعضهم : لما قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) نبههم على حسن الخلق بما دلهم على صفة الأرض ، وذلك أنه يلقى عليها كل وحشة فتخرج كل زهرة وخضرة ، وهكذا المؤمن ينبغى أن يكون متآنسا غير متوحش متحملا للجفا غير منتقم ، لا يقابل بالجفا إلا قابل الجافى بالاحتمال وجميل الإغضاء.

يحكى عن بعضهم أنه كان يسىء القول فى رجل ، والرجل يسمع ويسكت فضاق صدر هذا الرجل فقال له : إياك أعنى ، فقال له الرجل : وعنك أحلم.

__________________

(١) الذاريات : ٢٠ ، ٢١.

١٨٤

فصل : خلق الله الإنسان على صورة لم يشاركه فيها غيره :

وقد قال تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (١) لم يقل لشيء من المخلوقات أنه أحسن صورته إلا للإنسان ، تخصيصا له من بين المخلوقين ، وهكذا قال فى آية أخرى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢) وهذا أيضا مما لا يشاركه فيه غيره ، وقد ورد فى القصص والآثار أن الله تعالى خلق لجبريل ستمائة جناح كلها مرصعة بالياقوت والدر والجلاجل الذهب محشوة بالمسك ، لكل جلجل صوت لا يشبه الآخر ، وأن إسرافيل إذا أخذ فى التسبيح عطل على الملائكة تسبيحهم بحسن صوته وطيب نغمته ، وأن نور العرش لو بدا لصار نور الشمس بالإضافة إليه كنور السراج بالإضافة إلى نور الشمس ، إلى غير هذا من أوصاف المخلوقات.

ثم إنه سبحانه لم يقل لشيء منها أحسن صورته ولا قال الشيء إنى خلقته فى أحسن تقويم إلا لهذا الشخص المخلوق من سلالة من طين ثم دع هذا الّذي هو عائد إلى الخلقة وانظر إلى قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٣) هل قال هذا لملك مقرب أو مخلوق على جمال الصورة مركب؟ كلا ، إن هذا لأولاد آدم خاصة خصوصية ، ولهم بها على أمثالهم مزية ، فضلا من الله ونعمة ، وإحسانا بدأهم به ومنة عليهم ورحمة.

__________________

(١) غافر : ٦٤.

(٢) التين : ٤.

(٣) المائدة : ٥٤.

١٨٥

فصل : بين جمال الخلق وحسن الخلق :

واعلم أن حسن التصوير وإن كان فى ظاهر الخلق فإن حقيقة ذلك أتم فى باب الخلق ، فإن الله تعالى أحسن خلق الأكثرين ، وقليل من حسن خلقه ، وإنما يمتاز العوام من البهائم بتسوية الخلق ، ويمتاز الخواص من العوام بتصفية الخلق ، وكما أن الآدمى يفارق البهائم بتركيب القامة وترتيب الأعضاء فالخواص تباين العامة بحسن الخلق وخلوص الصفاء ، ولم يمن الله سبحانه على رسوله بشيء كما منّ عليه بحسن خلقه ، ألا ترى كيف أثنى عليه بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) ، والإنسان مستور بخلقه بين أمثاله ، مشهور بخلقه عن أشكاله.

يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال : أنا واحد من الناس إذا سكتّ ، واحد فيهم إذا نطقت.

هكذا يحسن المرء أن يكون واحدا من الناس من حيث الصورة والخلق ، واحدا فيهم من حيث الخلق ، فسبحان من ركب من قطرة واحدة نسمة ، وأوجد فيها بكمال حكمته وشمول قدرته صورة ، ثم كما لا تشبه صورة صورة لم يشبه خلق خلقا.

ويحكى أن بعض الأمراء سأل ندماه عن شر الأشياء فقال بعضهم : المرأة السوء ، وقال بعضهم : الجار السوء ، وقال بعضهم : الخلق السوء ، فتواضعوا أن يتحاكموا إلى أول من يلقونه إذا خرجوا من البلد ، فخرجوا من البلد فاستقبلهم سوادى (٢) معه حمار عليه جرار من خزف ، فأرادوا أن يمتحنوا

__________________

(١) القلم : ٤.

(٢) ريفى فلاح.

١٨٦

الرجل ، فقالوا : لم لا تسلم علينا؟ فقال لهم الراكب : ينبغى أن يسلّم على الراجل ، فقال بعضهم لبعض : إنه يشبه أن يكون حكيما ، فقالوا له : وقعت لنا مسألة فأردنا أن نتحاكم إليك فيها ، فقال لهم : احفظوا حمارى إذا لئلا يشتغل قلبى ، وقعد ، فذكروا له المسألة فقال : شر الثلاثة الخلق السوء ، لأن المرأة يمكن أن يتخلص منها بالطلاق ، والجار السوء يرجى الخلاص منه بالغيبة والفراق ، والخلق السوء معك أينما كنت ، فاستحسن الأمير ذلك وقال : سل حاجتك ، فقال الرجل : إنى لا أريد أن أتحكم عليك فى خزائنك ، ولكن أسألك حاجة لو قضيتها نفعتنى ولم تضرك ، فقال : وما هى؟ فقال : إن النيروز والمهرجان (١) قريب منا ، والناس يبعثون إليك الهدايا ويتحفونك بها ، فناد فى البلد : إنى لا أقبل من أحد هدية إلا مع جرة من عملى لأبيع ذلك بحكمى.

فاستحسن الأمير ذلك وأجابه إليه ، وأمر حتى نودى فى البلد بما قال ، فكل من طلب منه جرة قال : لا أبيع إلا بدينار واحدة ، فكان الناس يشترون ، وكان للأمير وزير فارسى فقيل له : إن هذا الرجل يبيع جرة بدينار ، فقال : إنها تساوى نصف درهم فليأخذ منا درهما أو درهمين ، فأتاه الرسول وأخبره بقول الوزير ، فقال الرجل : لا تشتر إن لم ترد ، فأعاد عليه الرسول فى اليوم الثانى فقال : تعالى وخذ الدينار ، فقال : لا أبيع إلا بمائة دينار ، فحرد الوزير وقال : بالأمس لا أعطيك دينارا واليوم أعطيك مائة ، فقال : لا تشتر إن لم ترد ، فصبر ذلك اليوم ، فلما كان اليوم الثالث لم يجد بدا من الجرة فأرسل إليه وقال : تعال وخذ الذهب ، فقال : لا أبيع إلا بألف دينار ، فزاد غضبه وأبى أن يشترى ، فلما كان الغد كان ذلك يوم العيد ، وكانت العادة ألا يرسل أحد هدية قبل الوزير ،

__________________

(١) من أعياد الفرس.

١٨٧

فبقى الوزير حائرا ، فأرسل إلى الرجل وقال له : تعال وخذ ما تريد ، فقال : لست أبيع الجرة فألح عليه كل الإلحاح فأبى ، فقال : على كل حال إيش تريد؟ فقال : لا أبيع ولا أعطيك الجرة إلا بشرط واحد : تحملنى على رقبتك والجرة بيدى وتمر بى إلى مجلس الأمير ، ففعل ذلك ، إذ لم يجد بدا من إرسال الهدية ، فلما وقع بصر الأمير عليه نادى بالفارسية : يا أمير ، حق الأوتان كواى ، معناه : سوء الخلق الحمل الثقيل ، فاستحسن الأمير ذلك فعزل الوزير ، وولاه الوزارة بدله ، وسلم إليه ماله وملكه.

* * *

١٨٨

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٣ ـ الغفار (١)

جل جلاله

ومن أسمائه : الغافر والغفور والغفار ، فالغفور المبالغة ، والغفار أشد مبالغة من الغفور ، والمصدر منه المغفرة ، يقال : غفر يغفر مغفرة وغفرا وغفرانا فهو غافر وغفور على الكثرة ، وغفّار على المبالغة ، ومعنى الغفر : الستر والتغطية ، ويقال : لجنة الرأس : المغفر لأنه يستر الرأس ، وغفر الثوب زئبره (٢).

__________________

(١) هو الّذي أظهر الجميل وستر القبيح ، والذنوب من جملة القبائح التى سترها بإرسال الستر عليها فى الدنيا ، والتجاوز عن عقوبتها فى الآخرة ، والغفر هو الستر.

وأول ستره على العبد أن جعل مقابح بدنه أى ما تستقبحها الأعين مستورة فى باطنه ، مغطاة فى جمال ظاهره ، وكم بين باطل العبد وظاهره فى النظافة والقذارة وفى القبح والجمال ، فانظر ما الّذي أظهره وما الّذي ستره.

وستره الثانى أن جعل مستقر خواطره المذمومة وإرادته القبيحة ، ستر قلبه حتى لا يطلع أحد على ستره ، ولو انكشف للخلق ما يخطر بباله فى مجارى وساوسه وما ينطوى عليه ضميره من الغش والخيانة وسوء الظن بالناس لمقتوه بل سعوا فى إزهاق روحه وأهلكوه ، فانظر كيف ستر غيره أسراره وعوراته.

وستره الثالث مغفرته ذنوبه التى كان يستحق الافتضاح بها على ملأ الخلق ، وقد وعد أن يبدل سيئاته حسنات ليستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته إذ ما ثبت على الإيمان.

(٢) الزئبر : الوبر والزغب وحظ العبد من هذا الاسم أن يستر من غيره ما يجب أن يستر منه ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة» والمغتاب ـ

١٨٩

ويقال : جاء القوم جما غفير ، وجما الغفير ، أى جماعتهم ، ومغفرة الله تعالى للعبد ذنوبه ستره وعفوه ، فالله تعالى يغفر ذنوب عباده بفضله ورحمته لا باستحقاقهم ذلك باكتسابهم ، التى هى طاعتهم أو توبتهم عن زلاتهم.

وغلط مخالفو أهل الحق [المعتزلة] فى مسألة المغفرة من وجهين :

أحدهما : أنهم قالوا : غفران الكافر والفاسق من غير إيمان وجد منهم غير جائز فى الحكمة.

والثانى : قولهم إن غفران التائب من الذنب فى الحكمة واجب.

وقال أهل الحق : غفران الزلة من الله تعالى جائز لمن شاء كما شاء ، قال الله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) والله تعالى يغفر الذنوب ويستر العيوب ويكشف الكروب ويكفى الخطوب ، كل ذلك فضلا من الله وإنعاما ولطفا وإكراما.

وفى بعض الأخبار ، عبدى ، لو أتيتنى بقراب الأرض ذنوبا لأتيتك بقراب الأرض مغفرة ، ما لم تشرك بى.

وفى خبر مسند أن رجلا يؤمر به إلى النار فإذا بلغ ثلث الطريق التفت ، وإذا بلغ نصف الطريق التفت ، وإذا بلغ ثلثي الطريق التفت ، فيقول الله تعالى :

__________________

ـ والمتجسس والمنتقم والمكافئ على الإساءة بمعزل من هذا الوصف وإنما المتصف به من لا يفشى من خلق الله تعالى إلا أحسن ما فيه ، ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص ، وعن قبح وحسن ، فمن تغافل عن المقابح وذكر المحاسن فهو ذو نصيب من هذا الاسم ، كما روى عن عيسى عليه‌السلام أنه مر مع الحواريين على كلب ميت قد غلب نتنه فقالوا : ما أنتن هذه الجيفة ، فقال عيسى عليه‌السلام : ما أحسن بياض أسنانه ، تنبيها على أن الّذي ينبغى أن يذكر من كل شيء ما هو أحسن.

(١) النساء : ٤٨.

١٩٠

ردوه ، ثم يسأله ويقول : لم التفتّ؟ فيقول : يا رب ، لما بلغت ثلث الطريق تذكرت قولك : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) (١) فقلت : لعلك أن تغفر لى ، فلما بلغت نصف الطريق تذكرت قولك : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (٢) قلت : لعلك تغفر لى ، فلما بلغت ثلثي الطريق تذكرت قولك : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٣) فازددت طمعا ، فيقول الله تعالى : اذهب فقد غفرت لك.

قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (٤) كأنه قال : من أرخى عمره فى الزلات ، وأفنى حياته فى المخالفات ، وأبلى شبابه فى البطالات ، ثم ندم قبل الممات وجد من الله العفو عن السيئات ، لأن قوله : (ثُمَ) يقتضي التراخى ، كأنه قال : من لم يتب فى الحال ولكن فى آخر العمر.

وقيل : إن رجلا كان يقول : إلهى أبطأت ، إلهى أبطأت ، فهتف به هاتف لم تبطئ، إنما أبطأ من مات ولم يتب.

وقوله تعالى : (يَعْمَلْ سُوءاً) إخبار عن الفعل ، وقوله : (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) إخبار عن القول ، كأنه قال : الذين زلاتهم أفعال ، توبتهم أقوال.

ولقد سهل عليك الأمر من رضى عنك بمقاله وقد عملت ما عملت ، ثم انظر إيش قال فى قوله : (يَجِدِ اللهَ) طلبوا المغفرة فوجدوا الله ، أى نكتة لمن يعقلها ، ليس العجب من السيارة حيث طلبوا الماء ليشربوا فوجدوا يوسف ، إنما العجب من عاص طلب المغفرة فوجد الله تعالى.

__________________

(١) الكهف : ٥٨.

(٢) آل عمران : ١٤٥.

(٣) الزمر : ٥٣.

(٤) النساء : ١١٠.

١٩١

وجاء فى بعض الأخبار أن رجلا فى الزمن الأول قتل تسعة وتسعين رجلا بغير حق ، فجاء إلى بعض العلماء فقال : ما تقول فيمن قتل تسعة وتسعين رجلا بغير حق؟ فقال العالم : إنه فى النار ، فغضب الرجل وقتل العالم ، ثم إنه بعد مدة ندم فجاء إلى عالم آخر ، فقال : ما تقول فيمن قتل مائة رجل بغير حق ثم تاب ، فهل يقبل الله توبته (١)؟ فقال : نعم ، فقال : أنا ذلك الرجل ، فما تأمرنى به؟ فقال له العالم : سبيلك أن تمضى إلى البلد الفلانى ، فإن الله تعالى يقبل توبتك هناك ، ومضى الرجل فمات فى الطريق ، فتخاصم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فى قبض روحه ، فبعث الله ملكا وقال له : امسح الأرض التى قطعها والتى بقيت ، وانظر إلى أى البلدان هو أقرب ، فنظر الملك فوجده أقرب إلى أرض التوبة بشبر ، فأمر الله به إلى الجنة.

__________________

(١) ومن يمنع الله من قبول التوبة ، وهو الّذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، فالبدار البدار ، العجل العجل ، الإسراع الإسراع ، قبل فوات الأوان.

١٩٢

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٤ ـ القهار (١)

جل جلاله

القهار : اسم من أسمائه تعالى ، ورد به نص القرآن بأنه قاهر وأنه قهار ، قال الله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (٢) وقال سبحانه وتعالى : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٣) واختلف أهل الحق فى معنى القهار ، هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل؟ فقال قوم : إنه من صفات الذات ، وهو بمعنى المبالغة من القاهر ، ومنهم من قال : إنه من صفات الفعل ومعناه : الجبار الّذي يحصل مراده من خلقه ، شاءوا أو أبوا ، رضوا أم كرهوا.

وأما الإشارة فيه فمن علم أنه القهار خشى بغتة مكره ، وخاف فجأة قهره ، فيكون وجلا بقلبه ، منفردا عن قومه مستديما لخدمة ربه ، مفارقا لخلطائه وصحبه (٤) كما قيل :

فريد عن الخلان فى كل موطن

إذا عظم المطلوب قل المساعد

__________________

(١) هو الّذي يقصم ظهور الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالإماتة والإذلال ، فما أذل الجبابرة إلا الموت ، بل لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز فى قبضته.

(٢) الأنعام : ١٨.

(٣) الزمر : ٤.

(٤) وحظ العبد من هذا الاسم هو : أن القهار من العباد من قهر أعداءه ، وأعدى عدوه نفسه التى ـ

١٩٣

فصل : قهر نفوس العابدين وقلوب العارفين وأرواح المحبين :

واعلم أن الله سبحانه قهر نفوس العابدين (١) وقهر قلوب العارفين وقهر أرواح المحبين ، فنفس العابد مقهورة بخوف عقوبته ، وقلب العارف مقهور بسطوة قربته ، وروح المحب مقهورة بكشف حقيقته ، فالعابد بلا نفس ، لاستيلاء سلطان أفعاله عليه ، والعارف بلا قلب لاستيلاء سلطان إقبال عليه ، والمحب بلا روح لاستيلاء كشف جلاله وجماله عليه.

* * *

فصل : الفرق بين العابد والعارف :

واعلم أنه لا بقاء للمنى والرغبات مع شهود الجنان ببصر الإيمان ، ولا بقاء للهوى والشبهات مع شهود النيران ببصر البرهان ، ولا بقاء للحظوظ والقلاقات مع شهود السلطان ببصر العرفان ، فمتى أراد العابد فرجة عن قيد مجاهدته قهرته سطوة العتاب فردته إلى بذل المهجة ، ومتى أراد العارف فرجة عن مطالبات القربة قهرته بوادر الهيبة فردته إلى توديع المهجة ، فشتان بين عبد مقهور بأفعاله ، وبين عبد مقهور بجلاله وجماله.

* * *

__________________

ـ بين جنبيه ، فإذا قهر شهوته وغضبه ، وحرصه ووهمه ، وخياله ، فقد قهر أعداءه ، ولم يبق لأحد سبيل عليه ، إذ غاية أعدائه أن يسعوا فى هلاك بدنه ، وذلك إحياء لروحه ، فإن من مات وقت الحياة الجسمانية عاش عند الموت الجسمانى ، كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران : ١٦٩).

(١) وذلك بحبسها على طاعته ، وقهر قلوب الطالبين فآنسها بلطف مشاهدته.

١٩٤

فصل : من أنواع القهر :

واعلم أن قهر الحق سبحانه وتعالى للأغيار بتنغيص أحوال الدنيا ، وأن قهره الأحباب باختطاف الأسرار عما سوى المولى ، فليس لهم مع مخلوق قرار ، ولا للأغيار عندهم مقدار ، طلعت شواهدهم عند شهوده ، وبادت سرائرهم عند ظهوره ، فهم محو فيما هنالك ، الأشباح موجودة ، والأرواح مفقودة ، وفى معناه أنشدوا :

محوت اسمى ورسم جسمى

وغبت عنى ودمت أنتا

وفى فنائى فنى فنائى

ففى فنائى وجدت أنتا

فأنت منى خيال عينى

وحيث ما كنت كنت أنتا

* * *

١٩٥

فصل : قهر العباد بالموت :

واعلم أن الله تعالى قهر جميع عباده بالموت الذي ليس لأحد عنه محيد ، لم ينج منه نبى مرسل ولا صفى مفضل : ولا ينجو منه ملك مقرب ، ضاقت عند ذلك صولة المخلوقين وبادت عند سطوته قوى الخلائق أجمعين ، ويقال : إن الله تعالى يذيق ملك الموت طعم الموت فيقول عند الفزع : وعزتك لو علمت أن طعم الموت يكون مثل هذا ما قبضت روح أحد ، وناهيك من قهره للعباد أنه يقبض أرواح جميع المخلوقين ، ثم يقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيرد على نفسه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١) فأين سلطان الجبابرة عند ذلك؟ وأين ولاية الأكاسرة فيما هنالك؟ وأين الأنبياء والمرسلون؟ وأين الملائكة المقربون؟ وأين السفرة الكاتبون؟ وأين آدم وذريته؟ وأين أهل الجحد والإلحاد؟ وأين أهل التوحيد والزهاد؟ زهقت النفوس وبليت الأرواح ، وبقى الّذي لم يزل ولا يزال.

وفى بعض الحكايات أن بعض خلفاء بنى العباس كان له غلام صاحب جيش له ، وأنه تملك خمسة آلاف غلام ، فقربت وفاة هذا الخليفة فأحضر أركان الدولة لأخذ البيعة لبعض أولاده ، وكان هذا صاحب الجيش قائما على رأسه ، وكانوا على بهو ، فنظر هذا الخليفة إليه فخاف صاحب الجيش أنه نظر سخطا فرجع القهقرى ، فسقط من ذاك البهو واندقت عنقه من هيبة نظر الخليفة ، فتوفى الخليفة فى ذلك الوقت والساعة ، فوضعوه فى بيت وتشاغلوا عن دفنه بأخذ البيعة لولى عهده ، فلما رجعوا إليه وجدوا الفأرة قد فقأت عينه التى نظر بها إلى ذلك الغلام.

فسبحان من قهر عباده بما شاء من خلقه.

__________________

(١) غافر : ١٦.

١٩٦

وفى القصص أن نمرودا خرج بعسكره ، وكان معسكره أربعة فراسخ فى أربعة فراسخ ، فقال لإبراهيم عليه‌السلام : قل لهذا الرب الّذي تدعوه حتى يخرج لمحاربتى ، فقال إبراهيم : إلهى تسمع ما يقول هذا الكلب ، فقال الله تعالى لجبريل عليه‌السلام : أرسل عليه أضعف بعوضة خلقتها ، فعرض جبريل جيش البعوض فوجد بعوضة عرجاء شلاء فسلطها الله عليه وقال لها : أمهليه ثلاثة أيام ، كل ذلك إبلاء للعذر وإبقاء للشكر ، فكانت البعوضة تتنقل على وجهه من جانب إلى جانب ، فلم يقلع عن غيه ، فصعدت البعوضة إلى دماغه ، وكانت تأكل دماغه ، حتى وضع عند رأسه مرزبة ، وكان كل من يدخل عليه يأمره أن يضرب بها على دماغه عشر مرات ، وكان يجد فى ذلك راحة حتى هلك ، قال الله سبحانه : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١).

__________________

(١) الصافات : ١٧٣.

١٩٧

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٥ ـ الوهاب (١)

جل جلاله

اعلم أن الواهب والوهاب من أسمائه تعالى ، ورد به نص القرآن فى قوله : (الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٢) وانعقد عليه الإجماع ، يقال : وهب يهب وهبا وهبة فهو واهب ووهاب ، على الكثرة ، ومعناه : المعطى ، وهو من صفات الفعل ، والله تعالى جزيل العطاء جميل الهبة والحباء ، كثير اللطف والإقبال ، عظيم المن والنوال ، يعطى قبل السؤال ، ويسمع خصائص الأفضال.

وجاء فى القصة أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لله سبحانه : إنى أرى فى التوراة أمة أناجيلهم فى صدورهم ، من هم؟ قال : تلك أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزل يعدد الخصال الجميلة ويقول الله : تلك أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى اشتاق موسى إلى لقائهم ، فقال : إنك لا تراهم ، ولكن إن شئت أسمعتك أصواتهم ، فنادى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم فى أصلاب آبائهم ، فقالوا : لبيك ربنا ، فقال تعالى : يا أمة محمد ، أعطيتكم قبل أن تسألونى ، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى.

__________________

(١) هو الّذي يعطى كل محتاج ما يحتاج إليه لا لعوض ولا لغرض عاجل أو آجل ، لأن من وهب وله فى هبته غرض يناله عاجلا أو آجلا من ثناء أو مدح أو مودة أو تخلص من مذمة أو اكتساب شرف وذكر فهو معتاض وليس بوهاب ولا جواد ، وحاشا لله من كل ذلك.

(٢) ص : ٩.

١٩٨

ومن تحقق بأنه الوهاب لم يحتشم من الفقر مقاساة الضر ويرجع إليه فى كل وقت بحسن القصد.

ويحكى أن الشبلى سأل بعض أصحاب أبى على الثقفى : أى اسم من أسمائه يجرى على لسانه أكثر؟ فقال الرجل : اسمه الوهاب ، فقال الشبلى : لذلك كثر ماله.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : كنت جالسا فى جماعة فوقف علينا سائل وسأل شيئا فلم يعطه أحد شيئا ، فبكى ذلك الرجل بكاء شديدا فرق له قلبى فقلت له : تعال حتى أعطيك شيئا ، فقال : إنى لم أبك لما توهمت ، ولكن ذكرت ذل من يفتقر من رحمة الله كيف حاله ، ومضى.

فلما كان بعد أيام إذا نحن بإنسان عليه ثياب حسنة وقف علينا وسلم وقال : تعرفونى؟ فقالوا : ولا ننكرك ، فمن أنت؟ فقال : أنا السائل الّذي رددتمونى فى ذلك اليوم ، فرجعت إلى ربى فسألته النعماء فأغنانى وأعطانى وأحسن إنعامى ، ومن الّذي يحتاج منكم إلى شيء؟ قلنا : لا يخلو منا واحد إلا وله شيء ، لك الفضل.

وحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت شيخا عريانا فى الطواف وهو يقول :

أما تستحى يا خالق الخلق كلهم

أناجيك عريانا وأنت كريم

وترزق أبناء الخنازير والزنى

وتترك شيخا من سراة تميم

فقلت له : ألا تعلم أنه لا يخاطب بمثل هذا (١) فقال : إليك عنى ، فإنى أعلم

__________________

(١) نعم لا يخاطب بمثل هذا بل قبل الدعاء يجب الاستغفار من الذنوب والثناء عليه والصلاة على نبيه وهكذا.

١٩٩

به منك ، ومضى ، فلم ألبث أن جاء وعليه جبة خز ، وهو يتبختر ، فلما رآنى قال : ألم أقل لك : أنا أعلم به منك ، قبضت منه جبة خز.

فصل : ما يجب على من تحقق أنه تعالى الوهاب :

ومن تحقق أنه الوهاب لم يرفع حوائجه إلا إليه ، ولم يتوكل على أحد إلا عليه ، فربما يسأل بحكم الخشوع والتذلل ، وربما يسأل بحكم البسط والتذلل.

حكى عن بعضهم أنه قال : كنت فى بيت المقدس فى المسجد فرأيت إنسانا ملتفا بعباءة قائما فسمعته يقول : إن أطعمتنى الخبز والطعام الفلانى والعصيدة وإلا كسرت قناديلك ، قال : فقلت : إنا لله ، إما مجنون ، وإما ولى مدل ، قال : وعاد إلى حالته ونام ، وإذا أنا بحمال معه ما أشار إليه ، فوضعه بين يديه فاستوى الرجل فأكل منه شيئا وحمل الرجل الباقى ومضى ، قال : فقفوت أثره وسألته عن القصة فقال : إنى رجل حمال ، تشهّى عليّ صبيانى هذا منذ زمان فأصلحته اليوم فأغفيت إغفاءة فرأيت كأن قائلا يقول : لى ولى من أوليائنا فى المسجد اشتهى هذا فاحمله إليه ثم احمل ما فضل إلى صبيانك.

واعلم أن من صح توكله عليه لم يرفع حوائجه إلا إليه.

٢٠٠