شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

وإخوان صدق قد سئمت حديثهم

وأمسكت عنهم ناظرى وجنانى

وما الدهر أسلو عنهم غير أننى

وجدتك مشهودى بكل مكان

فخاطبت موجودا بغير تكلم

ولاحظت معلوما بغير عيان

وإذا قيل : إن معنى المهيمن هو الأمين ، فالأمن فى وصفه يكون بمعنى كونه عدلا فى أفعاله ، ويعود ذلك إلى استحقاقه لصفات جلاله ، إذ كل ما يفعله فهو منه عدل ، ولا يخشى منه حيف ، لأن تقدير وجود القبيح منه محال.

* * *

١٦١

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧ ـ العزيز (١)

جل جلاله

العزيز اسم من أسمائه تعالى ورد به القرآن والأخبار الصحيحة وأجمعت الأمة عليه ، وتكلموا فى معناه فقال بعضهم : معناه : الغالب الّذي لا يغلب ، والقاهر الّذي لا يقهر ، يقال : عز يعز إذا غلب ، بضم العين فى المستقبل ، قال الله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢) أى غلبنى ، وفى المثل : من عز بز (٣) ،

__________________

(١) هو الخطير الّذي يقل وجود مثله ، وتشتد الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه ، فما لم تجتمع له هذه المعانى الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز ، فكم من شيء يقل وجوده ولكن لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا ، وكم من شيء يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولا يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزا ، كالشمس مثلا ، فإنها لا نظير لها ، والأرض كذلك ، والنفع عظيم فى كل واحد منهما والحاجة شديدة إليهما ، ولكن لا يوصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما ، فلا بد من اجتماع المعانى الثلاثة ، ثم لكل واحد من المعانى الثلاثة كمال ونقصان ، فالكمال فى قلة الوجود أن يرجع إلى واحد ، إذ لا أقل من الواحد ، ويكون بحيث يستحيل وجود مثله ، وليس هو إلا الله تعالى ، فإن الشمس وإن كانت واحدة فى الوجود فليست واحدة فى الإمكان ، فيمكن وجود مثلها فى الكمال والنفاسة ، وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء فى كل شيء حتى فى وجوده وبقائه وصفاته ، وليس ذلك على الكمال إلا لله تعالى ، فلا يعرف الله تعالى إلا الله تعالى ، فهو العزيز المطلق الحق لا يوازيه فيه غيره.

(٢) ص : ٢٣.

(٣) بز بمعنى غلب ، ومعنى المثل هنا : من غلب على خصمه فى الحرب سلبه.

١٦٢

بزاى ، من غلب سلب ، وقيل : العزيز الّذي لا مثل له ، يقال : عز الشيء يعز ، بكسر العين فى المستقبل (١) ، أى صار عزيزا ، يقال : عز الطعام فى البلد إذا قل وجود مثله ، فإذا كان من يقل وجوده عزيزا فالذى لا مثل له أولى أن يكون عزيزا ، وقيل : العزيز فى وصفه بمعنى القادر القوى ، يقال : عز يعز ، بفتح العين فى المستقبل ، إذا اشتد ، قال الله عزوجل : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) (يس : ١٤) أى قوّينا ، والأرض الصلبة التى لا تستقل عليها الأقدام تسمى عزازا لقوتها ، وقيل : العزيز الممتنع ، وهو الّذي لا يوصل إليه ، يقال : حصن عزيز إذا تعذر الوصول إليه ، فإذا قيل لما يتعذر الوصول إليه مع جوازه : عزيز ، فالذى يستحيل الوصول إليه أولى أن يكون عزيزا ، إذ لا حد له.

وقيل : العزيز فى وصفه تعالى هو المعز ، والفعيل بمعنى المفعل فى كلام العرب كثير ، كالأليم بمعنى المؤلم ، والوجيع بمعنى الموجع ، وما أشبه ذلك ، فهذا الوجه الواحد فى وصفه من صفات الفعل ، وما ذكرنا قبله من صفات الذات.

هذا طرف مما قاله أهل اللغة وأصحاب الأصول فى معنى اسمه العزيز ، على لسان أهل الظاهر.

وأما على طريق أهل الإشارة فيجىء الكلام فيه على وجوه ، منها : أن معنى العزيز هو الّذي لا يدخر من خدمه عن خدمته شيئا ولا يؤثر من عرفه هواه على رضاه ، فيقضى حقوقه فرضا ، ولا يرى أحد لنفسه عليه حقا ، وفى قريب من هذا المعنى أنشد بعضهم :

ويذكرنها جاراتها فيزرنها

وتقعد عن إتيانهن فتعذر

__________________

(١) يعنى فى صيغة المضارع.

١٦٣

فالعزيز من يمتنع فيشكر ، ويبتلى فلا يشكو من يعرفه ولا يضجر ، يستلذ لحكمته الهوان ، ويستحلى منه الحرمان دون الإحسان ، وفى معناه أنشدوا :

وأهنتنى فأهنت نفسى صاغرا

ما من يهون عليك ممن يكرم

أشبهت أعدائى فصرت أحبهم

إذا كان حظى منك حظى منهم

وكان الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، كثيرا ما يقول : إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى.

واعلم أن القلوب مجبولة على أن تتحمل المشاق من الأكابر والأعزة ، والانقياد إلى أحكام من تجل رتبته بمواطأة القلب حتم مستحسن ، ولهذا قيل : إنما يعرفه عزيزا من أعز أمره وطاعته ، فأما من استهان بأوامره فمن المحال أن يكون متحققا بعزة مولاه.

وفى هذا المعنى حكى أن رجلا قال لبعض العارفين : كيف الطريق إليه؟ فقال : لو عرفته عرفت الطريق إليه ، فقال : أتراني أعبد من لا أعرفه؟ فقال المسئول : أو تعصى من تعرفه.

وقيل لبعضهم : ما علامة أنك تعرفه؟ فقال : لا أهم بمخالفته إلا نادانى من قلبى مناد : أستحي منه.

وقيل لبعضهم : متى عرفته؟ فقال : ما عصيته منذ عرفته.

وقيل : العزيز من لا يرتقى إليه وهم طمعا فى تقديره ولا يسمو إلى صمديته ، فهم قصد إلى تصوير ، وقيل العزيز من ضلت العقول فى بحار عظمته ، وحارت الألباب دون إدراك نعمته ، وكلت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ، ووصف جماله ، وفى معناه أنشدوا :

١٦٤

وكل من أغرق فى نعته

أصبح منسوبا إلى العى

قال سيد الأولين والآخرين وخطيب المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين ، بعد ما بالغ فى ثنائه سبحانه وتعالى ونعت كبريائه : لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك.

فصل : آداب من عرف أنه العزيز جل جلاله :

ومن آداب من عرف أنه العزيز أن لا يعتقد لمخلوق إجلالا (١) ، ولهذا قالوا : المعرفة حقر الأقدار سوى قدره ، ومحو الأذكار سوى ذكره ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تواضع لغنى لأجل غناه ذهب ثلثا دينه».

سمعت الدقاق يقول : إنما قال : «ذهب ثلثا دينه» لأن المرء بثلاثة أشياء : قلبه ، ولسانه ، وبدنه ، فإذا تواضع بلسانه وبدنه ذهب ثلثا دينه ، فلو اعتقد بقلبه ما حصل منه لسانه وبدنه للغنى لأجل غناه من التواضع لذهب دينه كله ، وقيل : إذا عظم الرب فى القلب صغر الخلق فى العين.

__________________

(١) والعزيز من العباد من يحتاج إليه عباد الله تعالى فى أهم أمورهم ، وهى الحياة الأخروية والسعادة الأبدية ، وذلك مما يقل ـ لا محالة ـ وجوده ويصعب إدراكه ، وهذه رتبة الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ويشاركه فى العز من يتفرد بالقرب من درجتهم فى عصره كالخلفاء الراشدين وورثتهم من العلماء ، وعن كل واحد منهم بقدر علو مرتبته عن سهولة النيل والمشاركة ، وبقدر عنائه من إرشاد الخلق.

١٦٥

فصل : العز فى طاعة الله تعالى :

وإذا عرف أنه المعز لم يطلب العز إلا منه ، ولا يكون العز إلا فى طاعته سبحانه.

وقال ذو النون المصرى : لو أراد الخلق أن يثبتوا لأحد عزا فوق ما يثبته اليسير من طاعته لم يقدروا ، ولو اجتمع الخلق على أن يوجبوا لأحد ذلا أكثر مما يوجبه اليسير من ذلته ومخالفته لم يقدروا.

وقد حكى أن رجلا أمر بالمعروف هارون الرشيد فحنق عليه ، وكانت له بغلة سيئة الخلق ، فقال : اربطوه معها تقتله برمحها ، ففعلوا ذلك فلم تضره ، فقالوا : اطرحوه فى بيت وطينوا عليه الباب ففعلوا ، فرئى فى بستان وباب البيت مسدود ، فأخبر هارون بذلك ، فأتى بالرجل وقال : من أخرجك من البيت؟ فقال : الّذي أدخلني البستان ، فقال : ومن أدخلك البستان؟ قال : الّذي أخرجنى من البيت ، فقال : أركبوه دابة وطوفوا به البلد وليقل قائل : ألا إن هارون أراد أن يذل عبدا أعزه الله فلم يقدر.

وحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت رجلا فى الطواف وبين يديه شاكرية ، أى خدم.

قال القاموس : والشاكرى : الأجير ، والمستخدم معرب چاكر. انتهى.

والخدم يطردون الناس عنه ، فبعد ذلك بمدة رأيت إنسانا يتكفف على جسر بغداد ويسأل شيئا ، قال : فكنت أنظر إليه وشبهته بذلك الرجل ، فقال : إيش تنظر؟ فقلت : شبهتك برجل رأيته فى الطواف من شأنه كذا وكذا ، فقال : أنا ذاك الرجل ، إنى تكبرت فى موضع يتواضع الناس فيه فوضعنى الله فى موضع

١٦٦

يرتفع الناس فيه ، قال الله سبحانه : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (١) فليس إعزازه لعلة ولا إذلاله لعلة ، بل هما حاصلان بالقضاء والمشيئة ، صادران عن الإرادة والقضية.

ويليق بهذا الباب أن نذكر طرفا من معنى قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (٢) وقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) وكيف الجمع بينهما.

إن إحدى الآيتين توجب انفراده تعالى بالعزة ، والثانية تشير إلى أن لغيره عزة ، ولا منافاة بينهما بالحقيقة ، لأن العز الّذي للرسول وللمؤمنين فهو لله تعالى ملكا وخلقا ، وعزته سبحانه له وضعا ، فإذا العز كله لله تبارك وتعالى.

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

(٢) فاطر : ١٠.

(٣) المنافقون : ٨.

١٦٧

باب

فى معنى اسمه تعالى

٨ ـ الجبار (١)

جل جلاله

الجبار اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وتكلم الناس فى معناه فمنهم من قال : هو مأخوذ من قولهم : نخلة جبار إذا فاتت الأيدى ، قاله ابن الأنبارى وغيره ، فيكون فى وصفه أنه لا تناله يد جائرة ، ولا تنازعه معارضة ، بل له العظمة والجبروت ، والعزة والملكوت ، فيكون هذا من صفات ذاته لأنه إخبار عن وجوده على وصف السمو والجلال(٢).

وقيل : الجبار هو المتكبر ، والجبروت هو المتكبر ، يقال : جبار بيّن الجبرية ، إلا أن التكبر فى وصف الخلق مذموم ، وفى وصف الله سبحانه

__________________

(١) هو الّذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار فى كل أحد ولا تنفذ فيه مشيئة أحد ، والّذي لا يخرج أحد عن قبضته ، وتقصر الأيدى دون حمى حضرته ، فالجبار المطلق هو الله تعالى ، فإنه يجبر كل أحد ولا يجبره أحد ، ولا مثنوية فى حقه فى الطرفين.

(٢) المتخلق بهذه الصفة من العباد من ارتفع عن الاتباع ونال درجة الاستتباع ، وتفرد بعلو رتبته ، بحيث يجبر الخلق بهيئاته وصورته على الاقتداء به ومتابعته فى سمته وسيرته فيفيد الخلق ولا يستفيد ، ويؤثر ولا يتأثر ويستتبع ولا يتبع ، ولا يشاهده أحد إلا ويفنى عن ملاحظة نفسه ، ويصير متشوقا إليه غير ملتفت إلى ذاته ، ولا يطمع أحد فى استدراجه واستتباعه ، وإنما حظى بهذا الوصف سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى ، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر».

١٦٨

وتعالى محمود ، وهذا أيضا من صفات ذاته لأن تكبره هو استحقاقه لصفات العلو وتقدسه عن النقائص ولوجوده هو كذلك.

وقيل : الجبار من قولهم : جبرته على الأمر وأجبرته أى : أكرهته ، وأجبرته فى الإكراء أكثر من قولهم جبرته ، فيكون على هذا أنه يحصل مراده من خلقه ، ولا يجرى فى سلطانه إلا ما يريد ، شاء الخلق أم أبوا ، أو الإكراه من صفات الفعل ، وقيل : إن الجبار من قولهم: جبرت الكسر إذا أصلحته ، يقال : جبرت العظم وأجبرته ، وجبرت أكثر فى الاصطلاح من أجبرت ، قال الشاعر :

قد جبر الدين الإله فجبر

وعلى هذا يكون من صفات فعله ، والاسم إذا احتمل معانى مما يصح فى وصفه فمن دعاه بذلك الاسم فقد أثنى عليه بتلك المعانى ، فهو الجبار على معنى أنه عزيز متكبر محسن إلى عباده ، لا يجرى فى سلطانه شيء يخالف مراده.

آداب من عرف اسمه تعالى الجبار :

فأما آداب من عرف أنه لا تناله الأيدى لعلو قدره فهو أن يتحقق بأنه لا سبيل إليه ، ولا بد له من الوقوف بين يديه ، فلا يصيب العبد منه إلا لطفه وإحسانه ليوم عرفانه ، وغدا غفرانه ، ثم ثوابه وامتنانه وعفوه ورضوانه ، وأنشدوا :

فلا نيل إلا ما تزود ناظر

ولا وصل إلا بالخيال الّذي يسرى

وقلن لنا نحن الأهلة إنما

نضىء لمن يسرى إلينا ولا نقرى

١٦٩

فصل : فوض أمورك إلى الجبار :

وإذا علم أن الجبار بمعنى مصلح الأمور ، فوض أموره إلبه ، وتوكل فى جميع أحواله عليه ، إن كان خيرا علم أنه مسديه ومتحفه ، وإن كان ضرا علم أنه ينجيه منه ويكشفه ، لم يحتشم من اختلال أحواله وقلّة ماله ، وكثرة عياله ، وضعف احتياله ، ثقة بلطفه وأفضاله ، واستكانة إلى جوده وكريم نواله وحسن أفعاله.

وقد حكى أن رجلا كان كثير العيال ، وأنه ضاقت عليه أسباب المعيشة فهمّ أن يهرب عنهم ، فاستقبله شخص فقال له : هل تأجرنى على أن تسقى طيرا لى فى القفص فترويه وتأخذ منى دينارا ، فاسترخص الرجل ذلك ، وأجابه إليه ، فدله على بئر وقال : تستقى من هذا البئر وتروى هذا الطائر ، فلم يزل الرجل يسقى الطائر طول نهاره إلى المساء ، والطائر لم يرو ، فلما أمسى ضاق صدر الرجل ، فقال له ذلك الشخص : إنى لست ببشر ، وإنما أنا ملك بعثنى الله إليك ليريك ضعفك ، إنك لم تقدر أن تروى طائرا ، فكيف ترزق عيالك! ارجع إليهم وانتظر الرزق من الله تعالى ، فإنه هو الرزاق لا أنت.

وحكى عن بعض الصالحين أنه سئل عن سبب توبته فقال : إنى كنت رجلا دهقانا (الدهقان يطلق على رئيس القرية) فاجتمع عليّ أشغال ليلة من الليالى ، كنت أحتاج إلى أن أسقى زرعا لى ، وكنت حملت حنطة إلى الطاحونة فوثب حمارى وضل ، فقلت : إن اشتغلت بطلب الحمار فات سقى الزرع ، وإن اشتغلت بالسقى ضاع الطحين والحمار ، وكان ذلك ليلة الجمعة ، وبين قريتى وبين الجامع مسافة بعيدة ، فقلت : أترك هذه الأمور كلها وأمضى إلى القصبة (١)

__________________

(١) القصبة من البلاد مدينتها.

١٧٠

لأدرك غدا صلاة الجمعة ، فمضيت وصليت ، فلما انصرفت اجتزت بالزرع فإذا هو قد سقى ، فقلت من سقى هذا؟ فقيل : إن جارك أراد أن يسقى زرعه فغلبته عيناه وانفتق السد فدخل الماء زرعك ، فلما وافيت باب الدار إذا أنا بالحمار على المعلف ، فقلت : من ردّ هذا الحمار؟ فقالوا : صال عليه الذئب والتجأ إلى البيت ، فلما دخلت الدار إذا أنا بالدقيق موضوع هناك ، فقلت : كيف سبب هذا؟ فقالوا : إن الطحان طحن هذا بالغلط ، فلما علم أنه لك رده إلى المنزل ، فقلت : ما أصدق ما قيل : من كان لله كان الله له ، ومن أصلح لله أمرا أصلح الله أموره ، فتركت الدنيا وتبت إلى الله تعالى.

* * *

١٧١

فصل : اترك ما تهواه وانقد إلى حكم مولاك :

وإذا علم أنه يجبر الخلق على مراده وعلم أنه لا يجرى فى سلطانه ما يأباه ويكرهه ترك ما يهواه وانقاد لما يحكم به مولاه ، فيستريح من كد الفكرة وتعب التدبير.

وفى بعض الكتب : عبدى تريد وأريد ، فلا يكون إلا ما أريد ، فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد.

وقد قيل :

سيكون الّذي قضى

سخط العبد أم رضى

فدع الهم يا فتى

كل هم سينقضى

وقيل :

ملكت نفسى وكنت عبدا

فزال رقى وطاب عيشى

أصبحت أرضى بحكم ربى

إن لم أكن راضيا فأيش (١)

__________________

(١) فما ذا أفعل؟.

١٧٢

باب

فى معنى اسمه تعالى

٩ ـ المتكبر (١)

جل جلاله

المتكبر اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وتكبره وكبرياؤه ورفعته وعلاه ومجده وسناؤه وعلوه وبهاؤه ، كل ذلك إخبار عن استحقاقه لنعوت الجلال ، وتقدسه عن النقائص والآفات ، وكل ذلك يعود إلى ذاته ووجوده ، على ما وصف.

والتكبر فى صفة الخلق مذموم ، لأن الخلق محل النقص ، فإذا تكبر تكلف أن يتصف بغير ما يليق بنعته ، ومن عرف علوه سبحانه وكبرياءه لازم طريق التواضع ، وسلك سبيل التذلل ، وقد قيل : «هتك ستره من جاوز قدره» (٢).

__________________

(١) هو الّذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه ، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد ، فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا ، وكان صاحبها متكبرا حقا ، ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا لله تعالى ، فإن كان ذلك التكبر والاستعظام ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته كاذبة ونظره باطلا إلا الله تعالى.

(٢) فالمتكبر من العباد هو الزاهد العارف ، ومعنى زهد العارف أن يتنزه عما يشغل سره من الخلق ويتكبر على كل شيء سوى الحق تعالى ، فيكون مستحقرا للدنيا والآخرة جميعا ، مترفعا عن أن يشغله كلاهما عن الحق تعالى ، وزهد غير العارف معاملة ومعاوضة ، إنما يشترى بمتاع الدنيا متاع الآخرة فيترك الشيء عاجلا طمعا فى أضعافه آجلا ، وإنما هو ـ

١٧٣

وفى بعض الحكايات أن أميرا عرضت عليه جارية بمائة ألف درهم ، فأحضر الثمن ، فلما نظر الأمير إليها استكثر الثمن وقال : إن شراء مملوكة بهذا الثمن لغال ، فقالت الجارية : اشترنى يا أمير المؤمنين ، فإن فىّ مائة خصلة ، كل واحدة منها تساوى أكثر من مائة ألف درهم ، فقال : وما ذاك؟ فقالت : أدناها أنك إن اشتريتنى وقدمتنى على جميع عبيدك لم أغلظ فى نفسى وعلمت أنى مملوكة فاشتراها.

وحكى أنه رفع إلى عمر بن عبد العزيز ، رحمة الله عليه ، أن ابنك اتخذ خاتما اشترى له فصا بألف درهم ، فكتب إليه : أما بعد ، فلقد بلغنى أنك اشتريت فصا بألف درهم ، فبعه وأشبع به ألف جائع ، واتخذ خاتما من حديد صينى ، واكتب عليه : رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

وقد قيل : الفقير فى خلقه (١) أحسن منه فى جديد غيره ، ولا شيء أحسن على الخدم من التواضع بحضرة السادة ، وفى معناه أنشدوا :

ويظهر فى الهوى عز الموالى

فيلزمنى له ذل العبيد

__________________

ـ سلم ومبايعة.

والسلم كالسلف لفظا ومعنى ، تدفع مقدارا من المال مقدما لتأخذ البضاعة بعد مدة بشروط معروضة فى كتب الفقه.

ومن استعبدته شهوة المطعم والمنكح فهو حقير ، وإن كان ذلك دائما ، وإنما المتكبر من يستحقر كل شهوة وحظ يتصور أن يساهمه فيها البهائم.

(١) ثيابه القديمة.

١٧٤

فصل : الصدق فى المحبة :

وإن الله سبحانه يتفضل على عباده ويتعزز على قوم من خواص عباده فيجعل عيش أسرارهم بتكبره أكثر من عيش قلوبهم بتفضله ، وفى معناه أنشدوا :

أعز من مدرك التمنى

ونيل ملك بلا تعنى

قول محب لذى جفاء

يهيم فيه تنح عنى

وسئل يحيى بن معاذ عن المحبة فقال : هى ما لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفا.

ويحكى عن الشبلى أنه جن مرة فحبس فى المارستان فدخل عليه قوم من إخوانه فقال: من أنتم؟ فقالوا : أحبابك ، فأخذ يرميهم بالحجارة ، ففروا ومروا ، فقال : يا كذبة ، لو صدقتم فى هواى ما هربتم من بلاى.

١٧٥

فصل : الإخلاص فى الود والصدق فى الحب :

اعلم أن من أخلص فى وده وصدق فى حبه كان استلذاذه بمنعه أكثر من استلذاذه بعطائه ، فإن كل أحد يذكره وهو بقربه ، وإنما المخلص فى عقده وصدقه من لا يفتر عن أداء حقه ، وإن كان يبتليه ويعذبه.

وحكى أن الشبلى كان فى داره ديك يصيح بالليل ، فأخذه ليلة وشد قوائمه وطرحه فى بيت فلم يصح تلك الليلة ، فلما أصبح قال له : يا مدّع ، إنما كنت تذكره من رأس العافية ، فلما أصابك البلاء سكت ولم تذكره ، وأنشدوا :

يا مدعى الحب لمولاه

من ادعى صحح دعواه

من ادعى دعوى بلا شاهد

يوشك أن تبطل دعواه

١٧٦

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٠ ـ الخالق (١)

جل جلاله

اعلم أن الخالق اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وانعقد عليه الإجماع ، واختلفت الناس فى معناه ، والصحيح أن الخالق هو المخترع للأعيان ، وأن الخلق هو الإبداع والاختراع ، ومن الناس من قال : الخلق هو التقدير ، قالوا : والعرب تسمى الإسكاف خالقا لأنه يقدر الأديم (٢) ، وقال الشاعر :

ولأنت تفرى (٣) ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفرى

ويقال : فرته أيدى الخوالق يعنى الأساكفة ، ومنهم من قال : إن الخلق بمعنى التصوير ، قال الله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) (٤) أى تصور ، ومنهم من قال : الخلق لفظ مشترك فى معان ، فيكون بمعنى التصوير ، ويكون بمعنى التقدير ، ويكون بمعنى الاختراع ، ويكون بمعنى الكذب ، قال الله تعالى :

__________________

(١) الخالق هو الّذي بدأ الخلق بلا مشير ، وأوجده بلا وزير ، وقيل : الخالق الّذي ليس لذاته تأليف ، ولا عليه فى قوله تكليف ، وقيل : الخالق الّذي أظهر الموجودات بقدرته ، وقدر كل واحد منها بمقدار معين بإرادته ، وقيل: الخالق الّذي خلق الخلق بلا سبب وعلة ، وأنشأها من غير جلب نفع ولا دفع مضرة.

(٢) يعنى الجلد.

(٣) يفرى أى يجيد عمله ويأتى فيه بالعجيب.

(٤) المائدة : ١١٠.

١٧٧

(وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (١) وقال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٢) يعنى كذب الأولين.

وزعم الجبائى [المعتزلى] أن الله تعالى يسمى خالقا على المجاز ، وغيره يسمى خالقا على الحقيقة ، وهذا خطأ بيّن من قوله ، والصحيح أن الخلق هو الاختراع وما عداه مجاز ، ولا خالق إلا الله عزوجل ، والّذي يدل على صحة هذا وفساد ما عداه من الأقاويل أنه لو كان الخلق بمعنى التقدير لكان كل مقدر خالقا ، ولما كان الخياط يقدر ، والبنا يقدر ، وغيرهم قد يحصل منه التقدير ثم لا يسمى واحد منهم خالقا علم أنه ليس معنى الخلق معنى التقدير.

ولا يجوز أن يكون الخلق بمعنى التصوير لأن المصور على الحقيقة هو الله ، لأن القول بالتولد باطل ، فما يجعل فى العين من الصور ليس بكسب للمخلوق ولا بفعل له ، وإنما يسمى الكذب خلقا على المجاز تشبيها بالإبداع ، لأن الكاذب يخبر عما لا أصل له ، كما أن المخترع يوجد ما لم يكن عينا فيجعله عينا ، ومن قال : إن الله تعالى يسمى خالقا على المجاز وغيره يسمى خالقا على الحقيقة فكفاه خزيا بهذا القول ، وإجماع المسلمين يكفى فى الدليل على فساد قولهم ، وقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٣) أى تصور ، فإنما أطلق هذا اللفظ على التوسع ، وكذلك قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(٤).

__________________

(١) العنكبوت : ١٧.

(٢) الشعراء : ١٣٧.

(٣) المائدة : ١١٠.

(٤) المؤمنون : ١٤.

١٧٨

فصل : من شرط الاعتقاد الجزم بأن الله تعالى

خالق كل شيء وأثر ذلك :

ومن شرط الاعتقاد أن يتحقق العبد أنه سبحانه خالق الأعيان والآثار والجواهر والأعراض لا يخرج حادث عن أن يكون مخلوقا له فيقتضى هذا تبرأ العبد عن حوله وقوته ورجوعه إلى الله تعالى بصدق الاستعانة ودوام الاستكانة فى سكونه وحركاته ، فإن من صحت بالله استعانته وجب من الله تعالى معونته.

ومن آداب من عرف أنه الخالق أن يمعن النظر فى إتقان خلقه لتلوح لقلبه دلائل حكمته فى صنعه ، فيعلم أنه خلق من نطفة بشرا ركب أعضاءه ورتب أجزاءه (١).

وقسم تلك القطرة فجعل بعضها مخا وجعل بعضها عظما وبعضها عروقا وبعضها أعصابا وبعضها شحما وبعضها لحما وبعضها جلدا وبعضها شعرا ، ثم ركب كل عضو على ترتيب يخالف صاحبه ، وخص كل جزء بتركيب لا يشبه صاحبه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢) قال الله سبحانه : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٣) ثم إنه يقسم الطعام الّذي يأكله والشراب الّذي يتناوله على هذه الأجزاء ، ويوصله إلى هذه الأعضاء ، فيجعل لكل عضو مما يتناوله نصيبا مقدرا.

فسبحان من يعلم هذا الّذي يخلقه كيف يخلقه.

__________________

(١) (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

(٢) المؤمنون : ١٤.

(٣) لقمان : ١٣.

١٧٩

وحكى عن بعضهم أنه قال : كنت مع الشبلى ففتح عليه بمنديل حسن ، فمر بكلب ميت ملقى على الطريق ، فقال لى : احمل ذلك الكلب الميت وكفّنه فى هذا المنديل وادفنه وسر ، قال : فجعلت الكلب فى ذلك المنديل وطرحته فى موضع وغسلت المنديل وعدت إليه ، فقال لى : قد فعلت ما أمرتك به؟ فقلت : لا ، فلم يقل لى شيئا ، فقلت : أيها الشيخ ، إيش السبب؟ فما كان السبب فيما أمرتنى؟ فقال : لما مررت بتلك الجيفة استقذرته واستقبحته فنوديت فى سرى : أليس قد خلقناه ، فقلت لك ما قلت.

وفى خبر مسند أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله أخى نوحا ، كان اسمه يشكر ، ولكن لكثرة بكائه على خطيئته أوحى الله إليه : يا نوح كم تنوح؟ فسمى نوحا» فقيل : يا رسول الله ، أى شيء كانت خطيئته؟ فقال : «إنه مر بكلب فقال فى نفسه : ما أقبحه ، فأوحى الله إليه : يا نوح ، اخلق أنت أحسن من هذا».

ويحكى أن سنيا كان يناظر معتزليا فى مسألة القدر ، فقطف المعتزلى تفاحة من شجرة ، فقال : أليس أنا فعلت هذا؟ فقال السنى له : إن كنت أنت فعلته فرده إلى ما كان عليه ، فأفحم المعتزلى وانقطع.

وإنما لزمه ذلك لأن المقدرة التى يحصل بها الإيجاد لا بد من أن تكون صالحة للضدين ، فلو كان تفريق الأجزاء من جهته (١) لكان قادرا على وصلها.

__________________

(١) أى من جهة العبد.

١٨٠