شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

يرد على الأسرار فيختطف العبد ويستبيح منه كل ماله ، حتى لا يؤثر لنفسه شيئا ، والاصطلام محل القهر ونعت الحيرة ووصف الدهشة ، وكان الشبلى كثيرا ما يقول : يا دليل المتحيرين زدنى تحيرا.

وقال ذو النون المصرى : المعرفة أولها التحير ، ثم الاتصال ، ثم الافتقار ، ثم المحبة ، وفى معناه أنشدوا :

حب من أهواه أدهشنى

لا خلوت الدهر من ذاك الدهش

وأنشدوا أيضا :

قد تحيرت فيك خذ بيمينى

يا دليلا لمن تحير فيكا

من قال إن لفظ الله مشتق من (لاه):

ومن الناس من قال : إنه مشتق من قولهم : لاه ، فسروه على وجهين :

أحدهما : أنه بمعنى احتجب واستدلوا عليه بقول الشاعر :

لاهت فما عرفت يوما بخارجة

يا ليتها خرجت حتى رأيناها

ويقول الآخر :

لاه ربى عن الخلائق طرا

خالق الخلق لا يرى ويرانا

وهذا القول خطأ من وجوه ، وإن كان له تعلق باللغة ، منها أن الاحتجاب لا يجوز فى وصفه تعالى لأنه من صفات الأجسام والجواهر لأن المحجوب لا يخلو إما أن يكون مثل الحجاب فى القدر ، أو أصغر منه أو أكبر ، وكل ذلك محال فى وصفه ، ولأنه لم يزل إلها ، والاحتجاب فى الأزل محال ، لأنه لم

١٢١

يكن فى الأزل غيره فيحتجب عنه ، ولأنه إله الجمادات والأعراض ولا يجوز أن يكون المحجوب محجوبا إلا عمن يجوز أن يكون رائيا ، والجماد والعرض لا يكون رائيا ، والبيت الّذي استدلوا به غير معروف.

فإن قال قائل : أردت بالاحتجاب أنه منع المبصرين من إدراكه ورؤيته ، فيكون هذا القول صحيحا فى وصفه ، وإن لم يجز أن يكون حدا له لكونه فى الأزل إلها ولم يكن معه من منعه وحجبه ، فعلى هذا ، من علم أنه منع المبصرين عن إدراكه ورؤيته فشرطه أن يكون متحققا باطلاع الحق سبحانه عليه فيكون مراقبا لربه ، وعلامته أن يكون محاسبا لنفسه ، ومن لم تصح محاسبته لنفسه لم تصح مراقبته لربه.

وسئل بعضهم عما يستعين به العبد على حفظ البصر فقال : يستعين عليه بعلمه بأن رؤية الله تعالى له سابقة لنظره إلى ما ينظر إليه.

وقيل : إن امرأة راودت طاوسا اليمانى عن نفسه ، فقال لها ، وكانا بمكة : تعالى إلى المسجد الحرام ، فلما دخلت معه المسجد قال لها : اقضى ما تريدين ، قالت : فكيف مع رؤية هؤلاء الناس بأسرهم؟ قال : فكيف لا أستحي ولا تستحيين من رؤية الله تعالى ، قال : فتابت تلك الساعة وحسنت حالتها.

وهكذا صفة من كان من أولياء الله تعالى ، لا يكون بينه وبين أحد شيء إلا ويصير سبب نجاته حقا كان أو باطلا ، وفى هذا المعنى حكى عن أبى سعيد الخراز أنه قال : كنت فى بدايتى حدثا حسن الوجه ، فكان رجل من الشطار الجبارين يؤذينى فى بلدى ، فعزمت على السفر وخرجت من البلد ، فبينا أنا أمشى إذ أنا به وقد لحقنى ، وأخذ يؤذينى ، فقلت له : إما أن تنصرف عنى أو أطرح نفسى فى هذه البئر ، فلم ينصرف ، قال : فألقيت نفسى فى بئر كانت هناك ، قال : فأمسكنى الله وسط تلك البئر فى الهواء ، قال : فنظر ذلك الرجل

١٢٢

إلى وتعجب ، وغلبت عليه الدهشة والحيرة ، قال : فخرجت فجاء الرجل وتضرع إلى وبكى وتاب على يدىّ وصار أحد الأكابر ، ولم يتخرج على يدىّ أحد قبله ، وكان أول مريد لى.

فصل : من قال إن معنى لاه : علا ، والرد عليه :

ومنهم من قال : إن معنى لاه : علا ، يقال : لاهت الشمس إذا علت ، والعرب تسمى الشمس إلاهة ، قال الشاعر :

وأجلت الإلاهة أن تغيبا

فهذا الّذي قالوه إن أرادوا به علو المكان والمنزل فمحال فى وصفه سبحانه ، لقيام الدلالة على استحالة كونه فى المكان ، وإن أرادوا به علو الصفة فذلك واجب فى وصفه تعالى.

فعلى هذا التفسير من علم علوه وجلاله فشرطه أن يتصاغر فى عينه ويتواضع لربه فى نفسه ، وعلامة ذلك أن يعظم أمر الله ، عزوجل ، فلا يكون له فى الطاعة تقصير ، ولا منه لأداء حق الله تأخير ، وعلامة صحة ذلك أن يكفيه الله تعالى جميع أحواله ويصونه عن محل الذل فيما يسنح له من أشغاله ، فإن من حفظ أمر الله حفظ الله عليه وقته.

وفى هذا المعنى حكى عن بعضهم أنه قال : رأيت راعيا يرعى الغنم وهو فى الصلاة ، والذئب يحفط أغنامه ، قال : فقلت له : متى صالح الذئب الغنم؟ فقال : لما تصالح رب الغنم مع رب الذئب وقع الصلح بين الذئب والغنم.

وكان الدقاق يقول : إن من له قدر عند الله أو منزلة فلو ظهر منه خلل فى بعض أحواله عاتبه حتى السنور (القط) فى بيته.

وكان يحكى عن بعض المراوزة أنه قال : اجتاز الواسطى يوم الجمعة بباب

١٢٣

حانوتى فانقطع شسع نعله ، فأخرجت إليه شسعا واستأذنته فى إصلاح نعله فأذن لى ، ثم قال : أتدري لم انقطع شسع نعلى؟ فقلت : حتى تقول ، فقال : لأنى ما اغتسلت للجمعة ، فقلت : هاهنا حمام ، أفتدخله؟ فقال : نعم ، ودخل.

من قال إن لفظ الله مشتق من أله ، أى بالمكان والرد عليه :

قول آخر فى معنى اسمه الله : قال بعض الناس : اشتقاقه من قولهم : أله بالمكان إذا أقام به ، وفى معناه أنشدوا :

ألهنا بدار ما تبين رسومها

كأن بقاياها وشام على اليد

فكأنهم قالوا : إنما كان إلها بقدمه ودوام وجوده.

وقال بعض الناس : إن معنى الإله هو القديم ، وهذا القول باطل ، لأنه لو كان كما قالوا لوجب أن يكون كل من كان له إقامة بمكان أو تقدم بزمان أو دوام لوجود كان له قسط من الألوهية ، وهذا باطل.

فأما دوام تقدم الوجود وتقدم الكون فمستحق للقديم سبحانه واجب ، فمن عرف ذلك فى وصفه فشرطه أن لا يساكن المخلوقات ولا يوطن نفسه على شيء من المصنوعات ، ويرتقى بهمته إلى رب الأرضين والسماوات ، وقال الله تعالى (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) فعند ذلك يكون عظيم الهمة شريف الإرادة جليل الحال لا يتعزز بدنياه ، ولا يرضى بدون مولاه فيكفيه الله ما لا بد منه ويجعل الكون بأسره خادما له ، فلا يستوحش من الغربة لما وجده من الإيناس والقربة.

وقد حكى عن بعضهم أنه قال : خرجت مرة إلى الحج فبينما أنا فى البادية إذ تهت ، فلما جن عليّ الليل ، وكان ليلة مقمرة سمعت صوت شخص ضعيف يقول لى : يا أبا إسحاق ، قد انتظرتك من الغداة ، فدنوت منه ، فإذا هو شاب ضعيف نحيف أشرف على الموت ، وحوله رياحين كثيرة ، منها ما أعرف ومنها

١٢٤

ما لا أعرف ، فقلت له : من أين أنت؟ فقال : من مدينة شمساط ، كنت فى عز ورفعة فطالبتنى نفسى بالعزلة فخرجت ، وقد أشرفت على الموت ، فسألت الله تعالى أن يقيض لى وليا من أوليائه ، وأرجو أنك هو ، فقلت : ألك والدان؟ قال : نعم ، وإخوة وأخوات ، فقلت : هل اشتقت إليهم أو إلى ذكرهم؟ فقال : لا ، إلا اليوم أردت أن أشم ريحهم ، فطافت بى السباع والبهائم فبكين معى وحملت إلى هذه الرياحين ، فقال : فبينا أنا معه على تلك الحالة يرق له قلبى إذا بحية أقبلت وفى فمها طاقة نرجس كبيرة ، فقالت : دع شرك عنه ، فإن الله يغار على أوليائه ، قال : فغشى عليّ فما أفقت حتى خرجت نفسه ، ثم وقع عليّ ثبات فانتبهت وأنا على الجادة (١) ، قال : فدخلت مدينة شمساط بعد ما حججت فاستقبلتنى امرأة بيدها ركوة ، فما رأيت أشبه بالشاب منها ، فلما رأتنى قالت : يا أبا إسحاق ، كيف رأيت الشاب؟ فإنى انتظرتك منذ ثلاث ، فذكرت لها القصة إلى أن قلت : قال : أردت أن أشمهم ، فصاحت وقالت : أولا بلغ الشم؟ وخرجت نفسها ، فخرج أتراب لها عليهن المرقعات والفوط وتكفلن أمرها وتولين دفنها فانصرفت عنها.

من قال إن لفظ الله مشتق من أله إذا تحير والرد عليه :

قول آخر : ومنه ، من قال : إن معنى الله من أله إذا تحير ، وهذا أيضا لا يصح من طريق التحديد وإن صح من طريق المعنى ، على معنى أنه تحار العقول فى جلال سلطان الله تعالى ، وذلك من أوصاف التعظيم ، وأن الّذي يرى مخلوقا فيدهش فى رؤيته ويتحير فيما يأخذ عنه من مشاهدته ، وهو مخلوق مثله ذو نقص ، فحقيق به أن يتحير لو حصلت له ذرة من كمال المعرفة.

__________________

(١) الطريق الواضح.

١٢٥

ولقد قال يحيى بن معاذ الرازى : ولو دارت ألسنة العارفين مع الناس كما تدور قلوبهم مع الله لقال الناس : إنهم مجانين ، وعلامة صحة هذه الحالة أن لا يقع فى أحكام الشريعة تقصير فإن من لم تحفظ عليه أوقاته فى أداء ما كلف ، وإن كان مغلوبا فلنقص فى حاله.

وقيل للشبلى : ما علامة صحة ذلك فى حالك هذه؟ فقال : أن لا يجرى عليّ فى أوقات الغلبة ما يخالف الصحو.

من قال إن لفظ الإله أنه المعهود والرد عليه :

قول آخر فى معنى اسمه تعالى الله : ومن الناس من قال : إن معنى الإله أنه المعهود ، ومنهم من عبّر عنه ، فقال : هو المستحق للعبادة ، ومنهم من قال : الّذي لا تجب العبادة إلا له ، قالوا : والدليل على أنه من التأله الّذي هو التعبد ، قول الشاعر :

لله در الغانيات المده

سبحن واسترجعن من تأله

أى من تعبد.

قالوا : ولأن العرب سمت الأصنام آلهة لما عبدوها ، وهذا أيضا لا يصح من وجوه :

منها : أنه لم يزل إلها ، ولا يقال : كان فى الأزل معبودا لأن المعبود من له عابد وله عبادة ، وتقدير ذلك فى الأزل محال ، ولأن العبادة إنما تجب بأمر الله تعالى ، ولو قدرنا أنه لو لم يأمر أحدا بعبادة لكان ذلك سائغا فى وصفه ، ولو كان كذلك لم يكن إلها على قضيتهم ، ولأنه لو كان معنى الإله أنه المعبود لكان العابد بعبادته جعله إلها ، وهذا محال ، ولأنه إله من لا تصح منه العبادة كالجمادات والأعراض (١) وغير ذلك ، وهذا ظاهر ، وأما التأله فهو مشتق من

__________________

(١) مثل البياض أو السواد مثلا فى وجه الإنسان.

١٢٦

الإله والإله مشتق من التأله ، فالتأله هو التقرب إلى الإله ، على أن هذا المعنى صحيح فى وصفه تعالى لا على سبيل التحديد للإله ، فمن علم أنه المعبود سبحانه دون غيره أخلص فى حالته ، وصدق فى طاعته ، وصفى عن الرياء أعماله وزكى عن الإعجاب أحواله ، قال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ).

وقد حكى عن يحيى بن معاذ ، رحمه‌الله تعالى ، أنه قال : لو دخل عليك صبى لتغيرت لأجله وغيرت ظاهرك من قبله ، إن أمر الرياء لدقيق.

وحكى عن بعض المشايخ أنه قال : لو أمر بمراء إلى الجنة لالتفت هل يراه أحد.

وأما الإعجاب الّذي هو رؤية المقام واستكبار القدر والجاه واستكثار الطاعة والفعل فإنه سبب الحجاب ، ولهذا قال الشيوخ : من أعجب بنفسه حجب عن ربه ، ولو لم يكن لترك الإعجاب موجب سوى قصة إبليس حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وقصة قارون فى كثرة المال حيث خرج على قومه فى زينته ، وقصة فرعون حيث قال : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) لكان فى ذلك كفاية فى الزجر والمنع ، وفى بعض الكتب أن السمكة التى عليها الكون أعجبت لما أطاقت حمل الأرضين بثقلها فقيض الله تعالى لها بعوضة حتى لسعت أنفها فأصابها وجع شديد فسكنت والبعوضة بين عينيها لا تجسر أن تتحرك من خوفها (١).

__________________

(١) مثال ، والله أعلم بحقيقة الحال.

١٢٧

فصل

القول الصحيح فى معنى اسمه تعالى (الله) جل جلاله :

فإن قيل : فما الّذي يصح فى معنى هذا الاسم إذا لم يصح ما ذكرتم من الأقاويل؟.

قلت : قد اختلفت أقاويل أهل الحق فى ذلك ، والكل متقارب يرجع إلى معنى واحد ، فمنهم من قال : الإله من له الألوهية ، والألوهية القدرة على الاختراع ، ومنهم من قال : هو المستحق لأوصاف العلو والرفعة ، ومنهم من قال : هو من له الخلق والأمر ، وذلك لأنّا وجدنا أهل اللغة أطلقوا هذه اللفظة على من اعتقدوا فيه معنى استحقاق التعظيم ، فعلمنا بإطلاقهم أنها لفظة موضوعة لمن يستحق ما لأجله يصح أن يعظم ، فكانوا مصيبين فى التسمية مخطئين فى التعيين.

وأمثال هذا كثير كإطلاقهم لفظ الحسن والقبح على شيء معلوم فى الجملة ثم أخطئوا فى الحكم لبعض الأشياء بأنها حسنة وأنها قبيحة على التعيين ، ولهذا نظائر كثيرة ، فمن عرف علوه سبحانه وقدره وتحقق رفعته ومجده فأمارة صحته سقوط قدر الأغيار من قلبه ، كما قيل : إذا عظم الرب فى القلب صغر الخلق فى العين ، وقيل : المعرفة حقر الأقدار سوى قدره ، ومحو الأذكار سوى ذكره ، وصفة من كان بهذا الوصف أن لا تأخذه فى الله لومة لائم ، فيكون بحق الله قائما ، وبالحق ناطقا ، وفى دين الله قويا ، وعن الأغيار بتعظيم السر بريا ، فإن أفضل الأعمال كلمة حق عند من يخاف ويرجى (١).

__________________

(١) كلمة حق عند سلطان جائر.

١٢٨

وقد حكى أن فيما مضى من الزمان كانوا يعبدون شجرة ، فخرج رجل من المسلمين من بيته وركب حمارا له وأخذ فأسا بيده وقصد إلى قطع تلك الشجرة ، غيرة فى الدين وحمية ، فتمثل له إبليس فى صورة رجل فقال له : إلى أين تريد يا عبد الله؟ فقال : أقلع تلك الشجرة التى تعبد من دون الله غيرة منى فى الدين ، فقال له : لا تفعل ، بل انصرف وأنا أضع تحت وسادتك كل ليلة درهمين ، فطمع الرجل فيه وانصرف ، فأصبح ولم يجد شيئا ، فلبث اليوم الثانى والثالث فلم يجد شيئا ، ثم بعد أيام خرج مغضبا ، وقد أراد حرده ، فاستقبله إبليس فقال له : إلى أين تريد؟ فقال : الشجرة ، فقال له إبليس : إنك لو درت حولها لو قصت عنقك ، إنك لما فات من حظك حردت ، والمرة الأولى ما كان يقاومك أحد ، فانصرف راشدا.

ثم إن من كان بوصفه التعظيم لربه أورثته تلك الحالة شفقة على خلقه ، فيتحمل الأذى بطيب نفس من الكل ، ولهذا قال سهل ، رحمه‌الله تعالى : الصوفى : من كان دمه هدرا وملكه مباحا والخلق فى الدنيا جيرانك فى السجن ، بل رفقاؤك فى السفر ، فأحسنهم خلقا أشرفهم قدرا.

وقد حكى عن مالك بن دينار أنه استأجر دارا من يهودى ، فحول اليهودى مستحمه فى الدار التى كان فيها إلى بيت كان على البيت الّذي فيه مالك ، وإذا الجدار مهدم تدخل النجاسة إلى بيت مالك فى محرابه ، يقصد بذلك أذاه ، ومالك ينظف البيت كل ليلة ويكنسه ولم يقل شيئا ، حتى أتى على ذلك مدة ، فعرف صبره فدخل عليه ، فقال: ما الّذي صبّرك على مقاساة هذه المشقة دون أن تخبرنى بذلك ، فقال : قول نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظنت أنه سيورّثه» قال : فأسلم اليهودى وحسن إسلامه.

١٢٩

فصل آخر فى معنى اسم الله جل جلاله

أصل هذا اللفظ الشريف عند المدارس اللغوية :

واختلف الناس من وجه آخر فى أصل هذه الكلمة ، أى شيء كان؟ فذهب الكوفيون إلى أنه كان فى الأصل لاه ، ثم أدخل فيه الألف واللام فصار الله.

وقال البصريون : كان فى الأصل إله ثم دخل عليه الألف واللام فصار الإله ، فاجتمع فيه همزتان وبينهما حرف ساكن ، والساكن لا يحجز حجزا حصينا فصار كأنه اجتمع فيه همزتان ، ومن شأن العرب إذا اجتمع همزتان حذفت إحداهما ، ولم يجز حذف الأولى لأنها مجتلبة لسكون اللام ، فحذفت الثانية ، فاجتمعت لامان ، فأدغمت إحداهما فصار الله.

وليس هذا موضع البسط فيه ، فاقتصرنا على اليسير منه.

أقوال شيوخ الصوفية فى معنى الاسم الجليل (الله):

فأما أقاويل شيوخ الصوفية فى معنى هذا الاسم فكثيرة ، وأكثرها يحتاج إلى تفسير وبيان لكونه بوصف الزمن ونحن نذكر منه طرفا على وجه الإيضاح.

فمن ذلك ما حكى عن الشبلى أنه قال : ما قال أحد الله سوى الله ، فإن من قاله قاله بحظ ، وأنى تدرك الحقائق بالحظوظ؟.

والإشكال فى هذه الحكاية فى قوله : قال أحد الله سوى الله ، وتفسير ذلك ما قاله مقترنا به : أن كل من قاله قاله لحظ ، فعلم أنه أراد به أن ذكر الخلق لله لا يشبه ذكر الله لله ، والشيء الّذي يقل قدره يعد لا شيئا بالإضافة إلى ما له قدر.

وقال أبو سعيد الخراز : ومنهم من جاوز حد نسيان حظوظ نفسه ووقع فى نسيان حظه من الله ونسيان حاجاته إلى الله ، فلو تكلمت جوارحه وأعضاؤه ومفاصله لقالت : الله الله.

١٣٠

وفى هذا المعنى كان الشيخ أبو على يحكى أن رجلا كان يقول : الله الله دائما ، فأصاب حجر رأسه وشجه فوقع دمه على الأرض فاكتتب الدم على الأرض الله الله.

وحكى أن أبا الحسين النووى بقى فى منزله سبعة أيام لم يأكل ولم يشرب ولم ينم ويقول : الله الله ، فأخبر الجنيد بذلك فقال : انظروا محفوظ عليه أوقاته أم لا؟ فقيل : إنه يصلى الفرائض ، فقال : الحمد لله الّذي لم يجعل للشيطان عليه سبيلا ، ثم قال : قوموا حتى نزوره ، فإما أن نستفيد منه وإما أن نفيده ، فدخل عليه الجنيد فقال : يا أبا الحسن ، ما الّذي دهاك؟ فقال : أقول : الله الله ، زيدوا عليّ ، فقال له الجنيد : انظر هل قولك : الله بالله أم قولك بنفسك ، فإن كنت القائل : الله بالله فلست القائل له ، وإن كنت تقول بنفسك فأنت مع نفسك ، فما معنى الوله؟ فقال : نعم المؤدب أنت ، وسكن ولهه.

وقال بعضهم : إن الألف فى هذا الاسم إشارة إلى الوحدانية ، واللام إشارة إلى محو الإشارة ، واللام الثانية إشارة إلى محو المحو فى تكشف الهاء.

وحكى أن الشبلى قال فى مجلس الجنيد فى ولهه : الله الله ، فقال له الجنيد : يا أبا بكر ، الغيبة حرام.

قيل : معناه إن كنت غائبا فذكر الغائب غيبة ، وإن كنت حاضرا فهو ترك الحرمة.

وحكى عن أبى سعيد الخراز أنه قال : رأيت بعضهم فقلت : ما غاية هذا الأمر؟ قال : الله ، قلت : ما معنى قولك : الله؟ قال : تقول : اللهم ودلنى بك عليك ، وثبتنى عند وجودك ، ولا تجعلنى ممن يرضى بجميع ما هو دونك عوضا منك ، وأقر فؤادى عند لقائك (١).

__________________

(١) ينبغى أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله ، بمعنى أن يكون مستغرق القلب والهمة ـ

١٣١

باب

فى معنى

«لا إله إلا الله» وما يتعلق به (١)

اعلم أن هذا القول «إن كان ابتداؤه النفى فالمراد به غاية الإثبات ونهاية التحقيق ، فإن قول القائل : لا أخ لى سواك ولا معين لى غيرك ، آكد من قوله : أنت أخى وأنت معينى ، وقد روى فى الخبر أن من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة ، وروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة» وروى فى الخير : «مفتاح الجنة لا إله إلا الله» (٢) وإنما يكون

__________________

ـ بالله تعالى ، لا يرى غيره ولا يلتفت إلى سواه ، ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه ، وكيف لا يكون وقد فهم من هذا الاسم أنه الموجود الحقيقى الحق ، وكل ما سواه فان وهالك وباطل إلا به ، فيرى أولا نفسه أول هالك وباطل ، كما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال «أصدق بيت قالته العرب قوله لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

(١) قال ابن عباس : (لا إله إلا الله لا نافع ولا ضار ولا معز ولا مذل ولا معطى ولا مانع إلا الله).

(٢) قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء : ٤٨).

وروى عن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الموجبتين ، أى التى توجب للإنسان الجنة والتى توجب له النار ، عياذا بالله من النار ، فقال : «من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقى الله يشرك به شيئا دخل النار».

وروى ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ، ولا عند النشور ، وكأنى أنظر إلى أهل لا إله إلا الله عند الصيحة ينفضون شعورهم من التراب ويقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)» وروى أبو سعيد الخدرى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من عبد يقول أربع مرات : اللهم أنى أشهدك ،

١٣٢

العبد قائلا فى الحقيقة : لا إله إلا الله ، إذا كان قائلا بقلبه ، لأن الكلام المخلوق محله القلب ، وذلك معلوم من مذهب أهل الحق (١) وكذلك من طريقة أهل اللغة ، قال الأخطل:

إن الكلام لفى الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وإنما يكون قائلا : لا إله إلا الله بقلبه إذا كان عارفا بربه.

وكل الناس يحملون قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله» مخلصا» على أنه أراد أنه إذا مات على الإخلاص ، وأهل الإشارة قالوا إذا كان مخلصا فى مقالته كان داخلا فى الجنة فى حالته ، قال الله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٢) قيل جنة معجلة وهى حلاوة الطاعات ، ولذاذة المناجاة والاستئناس بفنون المكاشفات ، وجنة مؤجلة هى فنون المثوبات وعلو الدرجات.

ولقد أحسن من قال : لا وحشة مع الله ، ولا راحة مع غير الله ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا راحة للمؤمن من دون لقاء الله» وأن العارف لا جلوة له إلا فى خلوته ولا راحة له إلا فى مناجاته على بساط قربته ، قال قائلهم :

إذا تمنى الناس روحا وراحة

تمنيت أن ألقاك يا عز (٣) خاليا

__________________

ـ وكفى بك شهيدا ، وأشهد حملة عرشك وملائكتك ، وجميع خلقك ، بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك ، لا شريك لك ، وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك إلا كتب الله له به صكا من النار».

(١) قيل : إذا كان آخر الزمان لم يكن لشيء من طاعتهم فضل لفضل لا إله إلا الله ، لأن صلاتهم وصيامهم يشوبها أنواع من الرياء والسمعة ، ولا إخلاص فى شيء منها ، أما كلمة : لا إله إلا الله فهى ذكر الله ، والمؤمن لا يذكرها إلا عن تصميم القلب.

(٢) الرحمن : ٤٦.

(٣) أصلها : يا عزة ، فرخّم بحذف الحرف الأخير من الاسم فى النداء.

١٣٣

قول المشايخ فى كلمة التوحيد : (لا إله إلا الله):

وأما أقاويل المشايخ فى هذه الكلمة فقد قال بعضهم : إنه نفى ما يستحيل كونه وإثبات ما يستحيل فقده ، ومعنى هذا أن يكون الشريك له سبحانه محالا ، وتقدير العدم لوجوده مستحيلا (١).

وقال بعض المشايخ : مجيبا لمن قال له : لم تقول : الله الله ولا تقول : لا إله إلا الله؟ فقال : نفى العيب حيث يستحيل العيب عيب.

وكان الدقاق رحمة الله تعالى يقول : إنما قول : لا إله إلا الله لاستصفاء الأسرار عن الكدورات ، لأنه إذا قال العبد : لا إله إلا الله صفا قلبه وحضر سره ليكون فى ورود قوله الله على قلب منقى وسر مصفى (٢).

وقال رجل للشبلى : يا أبا بكر ، لم تقول : الله الله ولا تقول : لا إله إلا الله؟ فقال : لا أنفى له ضدا ، فصاح وقال : أريد أعلى من ذلك ، فقال : أخشى أن أوخذ فى وحشة الجحد ، فقال الرجل : أريد أعلى من ذلك ، فقال : قال الله تعالى (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٣) فزعق الرجل وخرجت روحه ، فتعلق أولياء الرجل بالشبلى وادعوا عليه دمه وحملوه إلى الخليفة ، فخرجت الرسالة إلى الشبلى من عند الخليفة فسألوه عن دعواهم ، فقال

__________________

(١) لا إله يرجى فضله ، ويخاف عدله ، ويؤمن جوره ، ويؤكل رزقه ، ويترك أمره ، ويسأل غفره ، ويرتكب نهيه ، ولا يحرم فضله إلا الله الّذي هو رب المؤمنين ، وغفار ذنوب المذنبين ، وملجأ التائبين ، وستار المعيبين ، وغاية رجاء الراجين ، ومنتهى مقصد العارفين.

(٢) قول العبد : لا إله إلا الله ، إشارة المعرفة ، والتوحيد بلسان الحمد ، والتسديد إلى الملك الحميد ، فإذا قال العبد : لا إله إلا الله فالمعنى : لا إله إلا والنعماء والقدرة والبقاء والعظمة والسناء والعز والثناء والسخط إلا لله الّذي هو رب العالمين ، وخالق الأولين والآخرين ، وديان يوم الدين.

(٣) الأنعام : ٩١.

١٣٤

الشبلى : روح حنت فرنت فدعيت فأجابت فما ذنبى؟ فصاح الخليفة من وراء الحجاب : خلّوه فلا ذنب له.

لا إله إلا الله مفتاح الجنة :

وقيل : فمعنى قوله : لا إله الله ، مفتاح الجنة أن العبد إذا كان مطيعا كان داره فى الجنة أشد عمارة وأكثر زينة ، وإذا عصى كان لا يعمر داره ولا يزول ملكه ولا يسلب مفتاح الدار ممن لا يعمرها ، فكذلك ما دام العبد مخلصا فى قول : لا إله إلا الله كان من أهل الجنة.

١٣٥

باب

فى معنى «هو» (١)

اعلم أن «هو» اسم موضوع للإشارة ، وهو عند الصوفية إخبار عند نهاية التحقيق ، وهو يحتاج عند أهل الظاهر إلى صلة تعينه ليكون الكلام مفيدا ، لأنك إذا قلت : «هو» ثم سكت فلا يكون الكلام مفيدا حتى تقول : هو قائم أو قاعد ، أو هو حي أو ميت وما أشبه ذلك (٢).

فأما عند القوم فإذا قلت : هو فلا يسبق إلى قلوبهم غير ذكر الحق ،

__________________

(١) هذا اسم له هيبة عظيمة عند أرباب المكاشفات ، واعلم أن الألفاظ قسمان : مظهرة ومضمرة ، أما المظهرة فهى الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة كالسواد والبياض والحجر والمدر ، وأما المضمرات فهى الألفاظ الدالة على المتكلم أو المخاطب أو الغائب من غير أن تكون دالة على خصوصية ماهية ذلك الشيء ، وهى ثلاثة : أنا وأنت وهو ، وأعرفها أنا ثم أنت ثم هو ، والدليل على صحة هذا الترتيب أن تصورى لنفسى من حيث إنى أنا لا يتطرق إليه الاشتباه ، فإن من المحال أن أصير مشتبها بغيرى فى عقلى أو يشتبه غيرى فى عقلى ، بخلاف هو ، فإنه قد يشتبه بغيره وغيره يشتبه به ، وأما أنت فلا شك أنه أعرف من هو ، لأن الحاضر أعرف من الغائب ، فالحاصل أن أعرف المضمرات هو قولنا : أنا ، وأشدها بعدا عن العرفان هو قولنا هو ، وأما أنت فكالمتوسط بينهما ، والتأمل التام يكشف عن صدق ما ذكرناه ، وهو جل جلاله بعيد بعزته وقدرته وسائر أوصافه التى لا يستطيع القرب منها مخلوق من مخلوقاته تعالى.

(٢) إن الأسماء المشتقة دالة على الصفات ، ولفظ هو دال على الموصوف ، والموصوف أشرف من الصفة ، ولذلك قال المحققون : إن ذاته ما كملت بالصفات ، بل ذاته لغاية الكمال استلزمت صفات الكمال ، فلفظ هو يوصلك إلى ينبوع العزة والرحمة والعلو ، وسائر الألفاظ يوصلك إلى الصفات.

١٣٦

فيكتفون عن كل بيان يتلوه لاستهلاكهم فى حقائق المقرب باستيلاء ذكر الله على أسرارهم وانمحائهم عن شواهدهم فضلا عن إحساسهم بمن سواه ، وكان الإمام أبو بكر بن فورك رضى الله عنه يقول : «هو» حرفان : هاء وواو ، فالهاء تخرج من أقصى الحلق ، وهو آخر المخارج ، والواو تخرج من الشفة ، وهو أول المخارج ، فكأنه يشير إلى ابتداء كل حادث منه ، وانتهاء كل حادث إليه ، وليس له ابتداء ولا انتهاء ، وهو معنى قوله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (١) فقوله : «هو الأول» : إخبار عن قدمه ، وقوله «الآخر» : إخبار عن استحالة عدمه ، وهو الأول بإحسانه إليك بديا ، والآخر بإتاحته لك وإدامته عليك لطفا أبديا ، فكل خير لك به نظامه وعليه تمامه ، قال الله سبحانه : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (٢) وقد حكى عن بعضهم أنه قال : رأيت بعض الوالهين فقلت : ما اسمك؟ فقال : هو ، قلت : من أنت؟ فقال : هو قلت : من أين جئت؟ فقال : هو ، فقلت : من تعنى بقولك هو؟ فقال : هو ، فما سألته عن شيء إلا قال : هو ، فقلت : لعلك تريد الله ، قال : فصاح وخرجت روحه.

الله كاشف كل شيء بأسمائه تعالى :

وقال أهل الإشارة : إن الله تعالى كاشف الأسرار بقوله : هو ، وكاشف القلوب بما عداه من الأسماء ، وقيل كاشف المحبين بقوله : هو ، وكاشف المتيمين بقوله : الله ، وكاشف العلماء بقوله أحد ، وكاشف العقلاء بقوله الصمد ، وكاشف العوام بقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وقيل : كاشف الخواص بإلاهيته ، وكاشف خاصة الخاصة بهويته ، وكاشف العوام بأفعاله الحاصلة بقدرته.

__________________

(١) الحديد : ٣.

(٢) الأنعام : ١٥٤.

١٣٧

باب (٢)

فى معنى اسمه تعالى

٢ ـ الملك (١)

جل جلاله

اعلم أن الله سبحانه وتعالى يوصف بأنه الملك ، قال الله تعالى : (فَتَعالَى

__________________

(٢) لم يذكر المؤلف ، رحمه‌الله تعالى ، اسمه تعالى : الرحمن ، الرحيم ، ونقول كما قال سادتنا من المؤلفين :

هما اسمان مشتقان من الرحمة ، فالرحمن الّذي إذا سئل أعطى ، والرحيم الّذي إذا لم يسأل غضب ، وهو الرحمن بالنعماء ، والرحيم بالآلاء ، فالنعماء ما أعطى وحبى ، والآلاء ما عرف وروى ، وهو الرحمن بالإنقاذ من النيران ، والرحيم بإدخال الجنان ، وهو الرحمن بإزالة الكروب والعيوب ، والرحيم بإنارة القلوب بالغيوب ، وهو الرحمن بكشف الكروب ، والرحيم بغفران الذنوب ، وهو الرحمن بغفران السيئات ، الرحيم بقبول الطاعات ، الرحمن بتعليم القرآن ، الرحيم بتشريف التكريم والتسليم.

وقال بعضهم : الرحمن لأهل الافتقار والرحيم لأهل الافتخار ، إذا شهدوا جلاله طاشوا وافتقروا ، وإذا شهدوا جماله عاشوا وافتخروا.

وقيل : الرحمن بما ستر فى الدنيا ، والرحيم بما غفر فى العقبى.

(١) الملك : هو الّذي يستغنى فى ذاته وصفاته عن كل موجود ، ويحتاج إليه كل موجود ، بل لا يستغنى عنه شيء ، لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى وجوده ولا فى بقائه ، بل كل شيء فوجوده منه ، أو مما هو منه ، وكل شيء سواه فهو له مملوك فى ذاته وصفاته ، وهو مستغن عن كل شيء ، فهذا هو الملك المطلق.

١٣٨

اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) (١) ويوصف بأنه الملك ، قال الله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٢) ويوصف بأنه مالك الملك ، قال الله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٣) ويوصف بأنه المليك ، قال الله تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٤) فالمالك مشتق من الملك ، والملك مشتق من الملك ، والمليك مبالغة من المالك كالعليم مبالغة من العالم ، والملك مبالغة من المالك ، وأصل الملك فى اللغة الشد والربط ، ومنه قولهم : ملكت العجين إذا بالغت فى عجنه.

ووجه ثان أنه مشتق من القدرة ، قال الشاعر :

ملكت بها كفى فأنهزت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

ويقال : ملكت كفى بالطعن إذا بالغ فيه ، ويقال لعقد المصاهرة : الإملاك لأنه يرتبط بعقد التزويج وصلة ما بين الزوجين.

وأما حقيقة الملك عنه أهل التحقيق فهو القدرة على الإبداع والإنشاء ، وعلى هذا فلا مالك على الحقيقة إلا الله ، والعبد إذا وصف بالملك فلفظ الملك فى وصفه مجاز (٥) وإن كان أحكام الملك فى مسائل الشرع تكون على

__________________

(١) المؤمنون : ١٦.

(٢) الفاتحة : ٤ ، وراجع شرح اللفظ فى تفسير «روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى» للآلوسى، من تحقيقنا.

(٣) آل عمران : ٢٦.

(٤) القمر : ٥٥.

(٥) العبد لا يتصور أن يكون ملكا مطلقا ، فإنه لا يستغنى عن كل شيء ، فإنه أبدا فقير إلى الله تعالى ، وإن استغنى عمن سواه ، ولا يتصور أن يحتاج إليه كل شيء ، بل يستغنى عنه أكثر الموجودات ، ولكن لما تصور أن يستغنى عن بعض الأشياء ولا يستغنى عن بعض الأشياء كان له شوب فى الملك ، فالملك من العباد هو الّذي يملك إلا الله ، بل يستغنى عن كل شيء سوى الله ، وهو مع ذلك يملك مملكته بحيث يطيعه فيها جنوده ورعاياها ، وإنما مملكته الخاصة به قلبه وقالبه ، وجنده شهوته وغضبه وهواه ، ورعيته لسانه وعيناه ويداه ـ

١٣٩

الحقيقة ، فإن كون اللفظ فى الشيء توسعا ومجازا لا يمنع أن تكون أحكام ذلك المسمى فى الشريعة على الحقيقة ، كلفظ الاستنجاء فى الاستنظاف توسع ، ثم لا يمنع أن تكون أحكام الاستنجاء فى الشريعة على الحقيقة.

وقول المخالفين فى حد الملك أنه القدرة على الإطلاق لا يصح لأنه يجب على قضيتهم أن يكون الغاصب مالكا للمغصوب لكونه قاهرا على الغصب ، وهذا محال ، وقول من قال : حقيقة الملك جواز التصرف فى الشيء على الإطلاق احترازا من الولى والوصى والوكيل لأنهم لا يتصرفون على الإطلاق بل يتصرفون بالإذن لا يصح ، لأن الصبى مالك على الحقيقة والمجنون والمحجور عليه مالكان على الحقيقة ، ولا يصح منهم التصرف فبطل ما قالوه.

هذا طرف من الكلام فى معنى الملك والمالك مما يتعلق باللغة ومسائل الأصول ، فأما ما يتعلق من الكلام فيه بطرائق التذكير فعلى أقسام :

منها : أن يقال إن العبد إذا تحقق أن الملك لله تعالى تنكب عن وصف الادعاء وتبرأ من الحول والقوة فى تسليم الأمر لمالكه ولم يعول على اختياره ، ولم يفزع إلى احتياله عند طلب الخلاص من مهالكه ، فلا يقول : بى ، ولا يقول : لى ، ولا يقول : منى.

__________________

ـ وسائر أعضائه ، فإذا ملكها ولم تملكه ، وأطاعته ولم يطعها ، فقد نال درجة الملك فى عالمه ، فإن انضم إليه استغناؤه عن كل الناس واحتاج الناس كلهم إليه فى حياتهم العاجلة والآجلة فهو الملك فى العالم الأرضى ، وتلك رتبة الأنبياء عليهم‌السلام ، فإنهم استغنوا فى الهداية إلى الحياة الآخرة عن كل أحد إلا عن الله ، واحتاج إليهم كل أحد ، يليهم فى هذا الملك العلماء ، وهم ورثة الأنبياء ، وإنما ملكهم بقدر قدرتهم على إرشاد العباد واستغنائهم عن الاسترشاد ، وبهذه الصفات يقرب العبد من الملائكة فى الصفات ، ويتقرب إلى الله تعالى بها ، وهذا الملك عطية للعبد من الملك الحق الّذي لا مثنوية فى ملكه.

١٤٠