شرح أسماء الله الحسنى

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: طه عبدالرؤوف سعد و سعد حسن محمد علي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحرم للتراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

__________________

ـ عليه والتعظيم له إلى حيث صار مجلسه وموضعه مستحقّا لهذا التعظيم والتسليم ، ومعلوم أن هذا أبلغ فى التعظيم مما إذا قيل سلام الله على فلان.

وثالثها : أنه تعالى قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) فجعل لفظ المثل كناية عنه ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يجعل لفظ الاسم هنا أيضا كناية عنه؟.

ورابعها : وهو أحسن من جميع ما تقدم ، أنه لو قال : سبح ربك ، كان هذا أمر بتسبيح ذات الرب ، وتسبيح الشيء فى نفسه لا يمكن إلا بعد معرفته فى نفسه ، ولما امتنع فى العقول البشرية أن تصير عارفة بكنه حقيقته سبحانه وتعالى ، امتنع ورود الأمر بتسبيحه ، أما أسماؤه وصفاته فهى معلومة للخلق ، فلا جرم ورد الأمر بتسبيح أسمائه.

فهذا جملة الكلام فى الجواب عن الحجة الأولى.

وأما الجواب عن الحجة الثانية : فنقول : إن قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) يدل على أن الاسم غير مسمى لوجهين :

الأول : أن قوله : (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) يدل على أن تلك الأسماء إنما حصلت بجعلهم ووضعهم ، ولا شك أن تلك الذوات ما حصلت بجعلهم ووضعهم ، وهذا يقتضي أن الاسم غير المسمى.

الثانى : أن الآية تدل على أن اسم الإله كان حاصلا فى حق الأصنام ، ومسمى الإله ما كان حاصلا فى حقهم ، وهذا يوجب المغايرة بين الاسم والمسمى ، ويدل على أن الاسم غير المسمى.

ثم نقول : المراد بالآية أن تسمية الصنم بالإله كان اسما بلا مسمى ، كمن يسمى نفسه باسم السلطان ، وكان فى غاية القلة والذلة ، فإنه يقال : إنه ليس له من السلطنة إلا الاسم ، فكذا هنا. والجواب عن الحجة الثالثة : أن مرادنا من الاسم الألفاظ الدالة ، وأنتم وافقتم على أنه ما كان لله تعالى فى الأزل بهذا التفسير اسم ، ثم أى محذور يلزم فى ذلك إذا عرفنا بأن مدلولات هذه الأسماء كانت موجودة فى الأزل.

والجواب عن الحجة الرابعة : أنه إذا قال : محمد رسول الله ، فليس المراد أن اللفظ المركب من الحروف المخصوصة موصوف بالرسالة ، بل المراد منه أن الشخص المدلول عليه بلفظ محمد موصوف برسالة الله ، وحينئذ يزول الإشكال.

١٠١

وقال بعض المفسرين فى معنى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) أى صلّ لله ، وإنما جاز ذلك لأن الصلاة محل التسبيح ، ويطلق اسم الشيء على الشيء بمعنى المقارنة ، وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أى نزه ربك من الأوصاف الذميمة ، فيكون الاسم هاهنا صلة ، أو بمعنى المسمى على طريقة من لا يفرق بين الاسم والمسمى.

وتنزيه الله تعالى يكون بالقول والبيان مرة ، وبالاعتقاد وتأمل البرهان ثانيا ، ولا يصح ذلك إلا بعد كمال المعرفة والتحقيق بعلم التوحيد ، فإن التسبيح تقديس الحقيقة عن مشابهة الخليقة ، وإفراد الحق عن أوصاف الخلق ، وإبعاد الله تعالى عن الحدوث وما يقتضيه ، والإخبار عن تقديسه عن موجبات التعطيل والتشبيه ، وإنما يصح ذلك على أصول أهل الحق الذين عرفوه بنعت الجلال ، ولم يسلبوه أوصاف التعالى والجمال ، فسلموا الملك إليه من غير دعوى الربوبية ، وطالبوا أنفسهم باستحقاق العبودية ، فتبرءوا من الحول والمنة ، ورأوا لمولاهم عليهم من خصائص المنة ، عرفوا ما وجب لله من الأوصاف الواجبة ، فلم يقصروا فيما لزمهم من الوظائف الواجبة وعلموا ما اتصف به الحق من نعوته الزاكية ، فلم يجوزوا لأنفسهم مجاوزة حدوده الراتبة ، ووقفوا على ما امتنع فى وصف الله سبحانه وتعالى فامتنعوا من ارتكاب مساخطه اللازبة (اللازمة).

ولا يصح من العبد حقيقة التسبيح الّذي هو التنزيه لله تعالى حتى يتنزه عن أوصافه الذميمة ، فينزه نفسه عن الشهوات ، فإن صاحب الشهوة محجوب عن ربه.

__________________

والجواب عن الحجة الخامسة : أنه تمسك فى إثبات ما علم بطلانه ببديهة العقل بقول واحد من الشعراء والأدباء ، وذلك مما لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ، والله أعلم (عن بعض الكتب المؤلفة فى هذا الموضوع).

١٠٢

وقد روى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه‌السلام أن حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عنى محجوبة.

وحكى عن إبراهيم بن شيبان أنه قال : كنت بحلب واشتهيت شبعة من الخبز والعدس ، فاتفق ذلك فأكلت حتى شبعت ، فرأيت على باب المسجد حانوت خمار عليه قوارير معلقة تشبه أنموذجات فتوهمتها خلا ، فقال لى قائل : ما لك تنظر إليها! إنها خمر ، فقلت : لزمنى فرض ، فدخلت الحانوت فلم أزل أصب دنانا حتى أتيت على الجميع ، فأخذونى وضربونى مائتى خشبة وطرحونى فى السجن أربعة أشهر ، حتى دخل أستاذى أبو عبد الله المغربى البلد فسمع بحالى فتشفع فىّ ، فلما وقع بصره عليّ قال : ما شأنك؟ قلت : شبعة خبز وعدس وضرب مائتى خشبة وسجن أربعة أشهر ، فقال : نجوت مجانا إذ وردت عقوبة هذه الأكلة على ظاهرك ولم تقدح فيما كنت به من أسر أمرك ، فكان ذلك رفقا من الله بك ونجاة ولطفا.

وما أصدق ما قال ، فإن من أدب فى دنياه فيما يتعاطاه من متابعة هواه فقد خفف عنه فى عقباه ، بل طهر بالتأديب جوهره ومعناه.

وقد حكى عن إبراهيم الخواص : أنه قال : كنت عقدت أن لا آكل شيئا من الشهوات إلا الرمان ، فاجتزت برجل به علة شديدة ، وإذا الزنابير تقع عليه وتأخذ من لحمه، فسلمت عليه فقال : وعليك السلام يا إبراهيم ، وعرفنى من غير تقدمة معرفة ، فقلت له: أرى لك حالا مع الله ، فلو دعوت الله حتى يخلصك من هذه الزنابير ، فقال : وأرى لك حالا مع الله يا إبراهيم ، فلو دعوت الله حتى يخلصك من شهوة الرمان ، فإن لسع الزنابير على النفوس أهون من لدغ الشهوات على القلوب.

١٠٣

وينبغى لمن يريد أن يتحقق بتسبيحه أيضا أن ينزه مطعمه من الحرام والشهوات ، فإنه قد ورد الخبر بأن لحما نبت من حرام فالنار أولى به.

وقال بعض الحكماء : عجبت لمن يترك الحلال مخافة الداء ، ولا يترك الحرام مخافة النار.

وحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت شابا عليه عباءة وبيده ركوة فقال لى : إنى إنسان أقصد الورع فلا آكل إلا ما ألقاه الناس ، فربما أجد قشرة شيء سبقنى إليه النمل فألقيه ولا أتناوله ، فهل عليّ من ذلك شيء؟ قال : فقلت فى نفسى : بقى على وجه الأرض من يتورع فى مثل هذا؟ كالمنكر له غير المصدق بمقامه ، قال : فنظرت فإذا الرجل واقف على أرض من فضة صافية ، فقال لى : الغيبة حرام ، وغاب عن بصرى.

ومعنى الحكاية أنه لما ترك ما حجب الخلق عن الله أكرمه الله بنور الإشراق ، حتى نطق عما خطر بقلبه من الإنكار ، ثم أخفاه الله تعالى عنه بشؤم الاعتراض ، وهكذا سنة الله فى أوليائه أن يسترهم عمن لا يبلغ مرتبتهم.

فصل

تقديس الأعمال عن الرياء

وينبغى له أن يقدس أعماله عن الرياء والمصانعات والتزين للمخلوقين بإظهار الطاعات ، فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمال ، إلا ما كان بوصف الإخلاص لله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة : ٥).

وحكى عن بعضهم عن سهل بن عبد الله أنه قال : هل لك أن تحضر الجمعة؟ قال: فقلت : وكيف وبيننا وبين الجامع مسيرة يوم وليلة ، قال فأخذ بيدى ، فلم يكن إلا قليلا حتى رأيت الجامع ، فدخلنا وصلينا ، فلما خرجنا نظر إلى الناس يجرون فقال : أهل لا إله إلا الله كثير والمخلصون منهم قليل.

وفى الخبر : «أخلص العمل يكفك القليل منه».

١٠٤

فصل

من أراد أن يصفو تسبيحه

وأولى الأشياء لمن يريد أن يصفو تسبيحه أن يجرد قلبه من الأغيار ، ويصون سره عن التدنس بالآثار ، ومساكنة الأشكال والأمثال ، عند هجوم الأشغال ، فإن قيمة توحيد الرجل وقدر معرفته تتبين عند الصدمة الأولى فيما يحل به من البلاء ، فإن فزع إلى الأغيار بقلبه وعلق بالأجناس خواطر لبه ورأى من المخلوقين كشف طوارق كربه ولم يرجع إلا بعد اليأس من الخلائق إلى ربه ، علم تقاصر رتبته ، وخساسة منزلته ، وبعده من الله فى خصائص حفظه وعصمته.

ومن أعرض عن الأسباب ، ولم يعرج على الاستعانة بالأحباب ، ولم ينثن بقلبه فى اعتقاده واستناده إلى الأصحاب ، كفى المهمات ، وخيرت له الخيرات ، وتنكبته الآفات ، ومن صح بالله توسله ، وحق على الله توكله ، كفته كفاية ربه وتفضله.

وقد حكى عن بعض المشايخ أنه قال : كنت أخدم شيخا بطرسوس ، فولدت له بنية فى آخر عمره ، فلما قربت وفاته استوصيته فيها ، فقال لى : تحملها إلى مكة فى الموسم وتدعها فى الحجر وتنصرف ، فلما توفى الشيخ امتثلت أمره ، وكنت أنظر من بعيد أرقب حالها كيف يصير؟ فمر بها خادم للخليفة فاستحسنها وأخذها ، فدخلت بغداد بعد ذلك بمدة طويلة فرأيت البلد قد زين ، فسألت عن السبب فقيل : إن خادما للخليفة رجع بصبية من الحج التقطها فاستظرفتها أم الخليفة فتبنتها ، فلما كبرت زوجتها من ابن الوزير وجهزتها بعشرين ألف دينار ، فعلمت عند ذلك صدق إشارة ذلك الشيخ (١).

__________________

(١) واقرأ تفسير قوله تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) من سورة الكهف.

١٠٥

وتقديس الأفعال عن الآثام وصف كل غاية ، وتنزيه الأموال عن الحرام شرط كل زهد، وتصفية الأحوال عن مشاهدة الآثار حق كل واحد ، فمن قدس أفعاله نجا من عقوبته ، ومن طهر أمواله وصل إلى مثوبته : ومن قدس أحواله فاز بقربته ، والأمان من العقوبة لمن طلب النجاة ، والظفر بالمثوبة لمن ابتغى الدرجات ، والتحقق بالقربة لمن أخلص مع الله المناجاة.

فصل

أنواع من التسبيح

وبعض أهل التحقيق قال : إن التسبيح تفعيل من السبح ، والسبح فى اللغة : العوم ، فكأن المسبح يسبح بقلبه فى بحار ملكوته ، فعلى هذا القول أصحاب التسبيح مختلفون ، فالطالب يسبح بقلبه فى بحار الفكرة ، فإن تلاطمت به أمواج الشبهة وقع فى الإنكار والبدعة ، وإن سلمت سباحته عن الآفات فلم يقطع عليه الطريق داعى الكسل والفشل ، وخاطر العجز والملل ولم تسلمه هوءة سلف ، ولا محنة خلف ، ولم يسبق إلى قلبه سابق تقليد ، وأيده الله تعالى بخصائص توفيق وتسديد ، أدرك بسباحته جواهر العوم ولطائف الفهوم ، فالعالم يسبح بروحه فى بحار التعظيم وطلب أوصاف التشريف والتقديم ، فإن هبت عليه رياح الفتنة غرق فى أوشال الحظوظ ، وبقى فى أوحال النفوس ، وإن ساعدته السعادة عبر قناطر الشهوات الخفية ، وجاوز جسور الهمم الدنية وسقط عنه كل نصيب له وهجره كل قريب له ، وعجز عنه كل نسيب له ، كما قال قائلهم :

فريد عن الخلان فى كل بلدة

إذا عظم المطلوب قل المساعد

فإذا كان كذلك وصل إلى جواهر المعرفة ، والواصل منهم يسبح بسره فى

١٠٦

بحار ملكوته ، فإن ملكته حيرة البديهة وصدمته دهشه الغيبة ، قطع عليه الطرق فحيل بينه وبين المقصود ، بمساكنة مع حال ، واستئناس بخواطر ترد عليه ولذيذ مقال ، فهو عند أهل الحقيقة ممكور ، وبما يظنه من الوصلة مهجور ، وبالتلبيس مربوط ، وبخفى خطره منوط ، وإن كان عند الخلق أنه مغبوط.

وفى معناه أنشدوا :

وقد حسدونى قرب دارى منهم

وكم من قريب الدار وهو بعيد

وإن أمد الله عزوجل هذا السابح بعونه عبر منازل المكنونات ، وجاوز قناطر المرسومات، فأدرك جواهر التوحيد ، وتحقق بخصائص التفريد ، فهذا الّذي يسلم له أن يقول: سبحان الله.

ثم إن التسبيح وما يتعلق به من الرغائب فسنفرد له موضعا ، إن شاء الله تعالى.

١٠٧

باب

فى معنى قوله تعالى

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)

هذه السورة مكية بإجماع ، ويقال : إنها أول سورة نزلت ، وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما رأى من تباشير المعجزات أنه كان ينقل الحجارة مع عمه أبى طالب والناس لرمة البيت الحرام ولزمزم ، فغشى عليه ، وكان متجردا عن ثيابه ، فلما أفاق سأله عمه أبو طالب عن حاله فقال : رأيت شخصا أشار إلى أن استتر ، فما رئيت عورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ، ثم أوحى الله إليه بعد ذلك بسنين كثيرة.

وكان يرى فى الابتداء الرؤيا فيصدق جميعها كفلق الصبح ، ثم حببت إليه الخلوة ، فكان يتحنث فى حراء كل سنة شهرا ، على عادة العرب ، إلى سنة الوحى فتعرض له الملك وقال : أنت رسول الله ، فذعر منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل بيت خديجة وقال : زملونى زملونى ، ثم إنه بدا له الملك ثانيا فكاد يلقى نفسه من حالق جبل ، وهمّ بذلك ، فظهر له جبريل ، عليه‌السلام ، قاعدا على كرسى فى الهواء ، فى رواية ، وقال له : أنا جبريل ، رسول الله إليك ، ثم قال له : اقرأ ، فقال : ما أنا بقارئ! فقال : اقرأ ، ففى الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : فغتنى جبريل ، عليه‌السلام ، أى ضغطنى ، ويشبه أن يكون مثل غطنى ، وفى الحديث فى صفة أهل النار أن يغتهم غتا ، أى يغمسهم غمسا ، ثم قال جبريل ، عليه‌السلام : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى قوله : (ما لَمْ يَعْلَمْ).

١٠٨

فمن شأن الواعظ إن تكلم فى هذه الآية أن يذكر شيئا من مبادئ الوحى ثم يقرنه بشيء من البيانات ثم يذكر طرفا من بدايات المشايخ ويورد فى كل فن ما يليق به من الحكايات والنكت.

ونحن نذكر طرفا فى هذا الباب من هذا الجنس إن شاء الله تعالى.

واعلم أن تفكير العبد فى ابتداء أمره يحمله على خالص الشكر لربه من قلبه ، قال الله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (إبراهيم : ٥) الآية ، أى بنعم الله ، وكل الأحوال والأوقات ، وقال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (مريم : ٦٧) وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون : ١٢) ذكره الله تعالى نفسه لئلا يعجب بحالته وجرده عن كل فضيلة ، ولهذا قال المشايخ : عرفهم مقدارهم لئلا يتعدوا أطوراهم ، وقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ثم قال : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) ثم قال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النحل : ٥٣) جردك أولا وعرّاك ثم أخبرك بما عرّفك من العلوم والفهوم ، وأعطاك ثم ذكّرك عظيم ما أنعم به عليك وأولاك ، وفى معناه يقول المنشى :

سقيا لمعهدك الّذي لو لم يكن

ما كان قلبى للصبابة معهدا

فمن أين كان لك العرفان والإسلام والإيمان والطاعة والإحسان والاستدلال والبرهان، لو لا ما ألبسك من التوفيق وأخلص لك من التحقيق ، وأهلك له من التصديق ، قال الله سبحانه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) (الفتح : ٢٦) ثم اعلم أن سنة الله تعالى مع عباده فى بدء أحوالهم تختلف ، فمنهم

١٠٩

من يكون من الابتداء إلى الانتهاء على وصف الوفاق محروسا من التدنس والزلات ، محفوظا عن التلبس بالمخالفات ، غذتهم الرحمة وربتهم الرعاية وكنفتهم القربة ، وشملتهم الوصلة ، غار الحق سبحانه وتعالى على أحوالهم وأوقاتهم أن تضيع ، أو يكون لغير الله تعالى فيها نصيب.

فمن هؤلاء : أبو زيد البسطامى فإنه دخل على والدته فى حال صباه يوما ، وقال : إنى أجد فى قلبى حزازة لست أدرى ما سببها ، وقد حاسبت نفسى فلم أقف على ما يوجبها ، فهل أطعمتنى فى حال صباى شيئا من غير وجهه؟ ففكرت فتذكرت أنها سرحته يوما بدهن لبعض الجيران بغير علمهم ولا طيب نفوسهم ، واحتاجت أن تطلب عليهم ، فاستحلت منهم ، فزال عن قلبه ما كان يجده.

وقيل : إن رجلا جاءه فسأله عن بداية أمره ليستن بهداه ويسلك مثل طريقته ، فقال : هو أن تكون فى بطن أمك بحيث لو أرادت أن تتناول شيئا من المحظورات انقبضت يدها.

وهكذا سهل بن عبد الله ، فإنه قال : لما أسلمونى إلى الكتّاب كنت إذا اشتغلت بتعلم القرآن ذهل قلبى ، وإذا اشتغلت بمراعاة القلب ذهب حظى ، قال : فدعوت الله عزوجل حتى سهّل على الجمع بين التعلم ومراعاة القلب.

وحكى عنه خاله معروف أنه كان يسهر لصلاة الليل قال : وكان سهل لا ينام فنظر إليه ، وهو ابن ثلاث سنين ، وكان يقول خاله : يا سهل نم ولا تشغلنى ، فكان لا يأخذه النوم حتى يلقنه ذكر الله عزوجل ، إلى أن قال لخاله : ما تقول فيمن كشف لقلبه شيء فسجد قلبه له؟ فقال : إلى متى؟ قال : للأبد ، قال له خاله : أنا لا أعرف هذه المسألة ، وحالتى لا تبلغ هذه الرتبة.

وحكى أن يحيى بن معاذ الرازى كانت له بنية فطلبت من أمها شيئا تأكله ،

١١٠

فقالت لها : سلى الله يعطيكيه ، فقالت : أنا أستحي من الله أن أطلب منه شيئا يؤكل.

وطائفة من الأولياء كانت لهم بدايات متشوشة وأحوال فى الظاهر مختلفة فتداركهم الله تعالى بتوفيق التوبة بعد مدة ، وعاد بهم إلى الورع وأحوال السعادة بعد شدة ، مثل إبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض وحبيب العجمى والسرى السقطى وبنان الجمال وغيرهم من المشايخ ، فإن هؤلاء حسنت أحوالهم من بعد ، فما زالت خجلة الابتداء مصحوبة لهم ، وحشمة ما سلف عاصمة لهم عن محل الإعجاب ، ولهذا قال بعض المشايخ : من لم يحسن أن يتفتى لم يحسن أن يقرأ ، وهذا أبو بكر الشبلى سيد عصره فى وقته كان حاجب الموفق إلى أن تاب على يد بعض الشيوخ.

والفضيل بن عياض كان يقطع الطريق بين مرو وتبوك إلى أن تاب لما سمع قارئا يقرأ : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) (الحديد : ١٦) وكان قد قصد إلى دار ليفجر بامرأة ، ثم إنه وقعت التوبة فى قلبه فكف عما قصد ، فرأى رفقة تزلوا فى موضع فقال لهم : ما بالكم لا ترحلون؟ فقالوا : نخشى الفضيل ، فإنه على الطريق ، فقال : لا عليكم ، فأنا الفضيل ، وقد تبت وأنتم فى أمان.

وقد ذكر عن بعضهم أنه قال : كنت فى بعض الطريق فظهرت اللصوص وخاف الناس ، وكان معى صرة دنانير ، فرأيت على البعد رجلا يصلى فقصدته فاستودعته الصرة ، فقال : لا تودعنها فإنى رئيس اللصوص ، فقلت : ولم لم تغلبنى عليها؟ قال : لا أخون الوديعة ، فقلت : وما بالك تقطع الطريق وتصلى النافلة؟ قال : يا أخى ، أدع للصلح موضعا ، قال : فرأيته بعد ذلك بمدة متعلقا بأستار الكعبة يدعو ويتضرع ، وقد زال عما كان عليه ، فقلت : ما حالك؟ فقال : قد حان أوان الصلح.

١١١

فصل

بين البدايات والنهايات

وثمّ من كان من الناس فى بداية أمره صاحب جهد وعنا ، وجد وشقا ومعاملات طويلة ، ومنازلات كثيرة ، يقطعون الطريق منزلا بعد منزل ، ومنهلا بعد منهل ، كما قال قائلهم :

ما زلت أنزل من ودادك منزلا

تتحير الألباب دون نزوله

إلى أن يلوح لهم علم الوجود ، وتتبين لهم تباشير الوصول ، فيستريح القلب من تعب الطلب وكد الثقلة ، وإن طولب بأضعاف ما كان مطالبا به قبله من أعباء القربة ، فتطلع الشموس ، وتحسن النفوس ، ويسطع علم الإصباح ، وتلمع أنوار الفلاح كما قال قائلهم :

فلما استبان الصبح أدرج ضوءه

بأسفاره أنوار ضوء الكواكب

وهذا الشبلى قال : طلبت العلوم إلى أن طلعت الشمس فقلت : أريد فقه الله ، فقالوا : لسنا نعرف ما تقول ، يشير إلى هذه الجملة التى ذكرتها.

ومن الناس من يكون موفقا فى بدايته مرزوقا من غير كثير جد ولا كبير سعى وجد ، روح وصلته ، فالأول مريد والثانى مراد ، لكن هذا الوصف قل ما يدوم ، وما أسرع العين إلى هذه الحالة ، وأنشد بعضهم :

عين أصابتك إن العين صائبة

والعين تسرع أحيانا إلى الحسن

١١٢

وقلما ترى محبا إلا وهو يندب أطلالا ، ويبكى أحوالا ، ويشكو نوى وارتحالا.

وقد حكى عن بعضهم أنه قال : كنت عند الجريرى فجاء رجل وقال : كنت على بساط الأنس ففتح عليّ باب من البسط فزللت زلة فحجبت عن مكانى ، فكيف لى بالسبيل إليه ، دلنى على الوصول إلى ما كنت عليه ، قال : فبكى أبو محمد الجريرى وقال : الكل فى قهر هذه الخطة ، لكن أنشدك أبياتا تجد فيها جوابك ، إن شاء الله تعالى ، ثم أنشأ يقول :

قف بالديار فهذه آثارهم

تبكى الأحبة حسرة وتشوقا

كم قد وقفت بربعها مستخبرا

عن أهلها أو صادقا أو مشفقا

فأجابنى داعى الهوى لى مسرعا

فارقت من تهوى فعز الملتقى

وحكى عن بعضهم أنه قال : كنت مع الجنيد فسمع مغنيا يغنى :

منازل كنت تهواها وتألفها

أيام كنت على الأيام منصورا

فبكى الجنيد وقال : ما أطيب الألفة والمؤانسة وأوحش مقامات المخالفة ، لا أزال أحن إلى بدء إرادتى وجدة سعيى وركوبى الأهوال طمعا فى الوصال ، فها أنا ذا فى أوقات الفترة أتأسف على الأيام الماضية.

١١٣

فصل

شرط وفاء ملازمة الربع بعد الفراق

وإن من عدم الأحباب وترك الأصحاب ، قطع الأسباب ولازم الاكتئاب وحالف الشجو والانتحاب ، فواصل الليل والنهار وساءل أحجار الديار وتتبع آثار المزار ، كما قيل:

أهوى الديار لمن قد كان ساكنها

وليس فى الدار لى همّ ولا شغل

وقال الآخر :

وإنى لأهوى الدار ما يستفزنى

لها الود إلا أنها من دياركا

وأنشدوا :

خليلى هل بالشام عين حزينة

تبكى على نجد فإنى أعينها

قد أسلمها الباكون إلا حمامة

مطوقة ورقاء بان (١) قرينها (٢)

هذا والله شرط الوفاء ملازمة الربع بعد الارتحال ومساءلة المنزل بعد الانتقال ، والتسلى بالأثر عند عدم النظر والتنغص بالعيش بعد الفرقة ، لا أبلانا الله بفرقة الأحباب ، إنه الكريم الوهاب.

* * *

__________________

(١) أى : فارق.

(٢) أمر على الديار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدارا وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبى

ولكن حب من سكن الديارا

١١٤

باب

فى اسمه تعالى

١ ـ الله (١)

جل جلاله

القول فى اشتقاق هذه التسمية :

الكلام فى هذا الباب من وجوه : منها : القول فى اشتقاق هذه التسمية هل هى مشتقة من معنى أو لا؟ وإن كانت مشتقة من معنى فما هو؟ وقد اختلف فى ذلك ، فمنهم من قال : إن هذا الاسم غير مشتق من معنى ، وهو اسم انفرد به الله تعالى ، فهو له اسم خالص كما يكون لغيره أسماء الأعلام والألقاب (٢) ، إلا أنه لم يطلق فى وصفه تعالى اسم اللقب والعلم لعدم التوقيف ، وهذا أحد قولى الخليل بن أحمد.

ويحكى عن الشافعى ، رحمه‌الله تعالى ، أنه قال بهذا القول ، وإليه ذهب الشيخ الحسين بن الفضيل ، وكثير من أهل الحق ممن سلك هذه الطريقة قال : لم نر أهل اللغة تصرفوا فى اشتقاق هذا الاسم وما كانوا يستعملونه فى غير الله ، بل قلّ ما يوجد فى كلامهم استعمال لفظ الله قبل الشرع فى صفته تعالى

__________________

(١) هو اسم للموجود المستحق لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقى ، فإن كل موجود سواه غير مستحق للوجود بذاته ، وأن ما استفاد الوجود منه فهو من حيث ذاته هنالك ومن جهته التى تليه كل موجود هالك إلا وجهه.

(٢) واللقب ما أشعر بمدح أو ذم كمحمد سعد ، وفلان ذيل الحمار ، وأنف الناقة مثلا.

١١٥

فضلا عن صفة غيره ، فكانوا يكتبون باسمك اللهم ، وقد قال الله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم : ٦٥).

جاء فى التفسير : هل تعلم أحدا تسمّى الله غير الله ، وهذا أحد معجزات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم التى تدل على صدقه فى هذا الخبر ، حيث أخبر أنه لا سمىّ له ، فقبض الله سبحانه القلوب عن التجاسر على إطلاق هذه التسمية فى صفة غيره مع كثرة أعداء الدين وشدة حرصهم ، وتوفر دواعيهم على تكذيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أخباره ، ولهذا قال بعض المشايخ : كل اسم من أسمائه تعالى يصلح التخلق به إلا هذا الاسم فإنه للتعلق دون التخلق (١).

من قال إن لفظ الله مشتق من أله :

ومنهم من قال : إنه مشتق من معنى ، ثم اختلفوا فيما اشتق منه هذا الاسم ، فمنهم من قال : الأصل فيه أله ، والإله من يوله إليه فى الحوائج ، أى يفزع إليه فى النوائب ، كالكاف اسم لما يكتفى به ، والحاف لما يلتحف به ، وفى معناه أنشدوا :

ألهت إليكم فى بلايا تنوبنى

فألفيتكم كلا كريما ممجدا

وهذا القول ذهب إليه الحارث بن أسد المحاسبى فى جماعة من أهل العلم والمفسرين ، وهذا عند أهل العلم لا يصح على وجه التحديد ، على معنى أنه لم يكن إلها إلا بعد الوصف.

__________________

(١) اعلم أن هذا الاسم أعظم الأسماء التسعة والتسعين ، لأنه دال على الذات الجامع لصفات الإلهية كلها حتى لا تشهد منها شيء ، وسائر الأسماء لا تدل آحادها إلا على آحاد المعانى من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ، ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره ، لا حقيقة ولا مجازا ، وسائر الأسماء قد يتسمى بها غيره ، كالقادر والعليم والرحيم وغيره ، فلهذين الوجهين يشبه أن يكون هذا الاسم أعظم هذه الأسماء.

١١٦

فإن صح هذا المعنى فى نعته فهذه العبارة تصلح للتفسير دون التحديد ، وإنما قلنا ذلك لحصول الإجماع على أنه لم يزل إلها ، وإن هذا الوصف ليس مما استحقه لفعل أظهره ولا لمعنى حصل فيما لا يزال ، كوصفنا له بأنه خالق ومعبود (١) ، ولم يكن فى الأزل من صح منه الفزع إليه ، ولأنه إله من يصح منه الفزع ومن لا يصح ، كالجمادات والأعراض ، ومن لا عقل له ولا تمييز ، فيصح منه القصد إليه بالفزع.

ومن أخذ بهذا القول على الوجه الّذي بينا أنه يصح ، فمن عرف معبوده سبحانه بأنه هو الّذي يفزع إليه فى الحوائج أعرض عمن سواه ، ولم يأخذ من دونه فى دنياه وعقباه ، وعلامة صحة ذلك أن يؤثر رضاه على هواه ، ثم يعرف بأنه وإن جد واجتهد فالعجز والتقصير قصاراه ، فإن تداركته الرحمة فالجنة مأواه ، وإن حق بالعذاب الكلمة عليه فالنار مثواه.

فالعبد إذا التجأ إلى ربه بقلبه دون أن يستبد بتدبيره ولبه ، أو يستعين بأقرانه وصحبه، تعجلت له الكفاية فى عاجله وتحققت له من الله الولاية فى آجله ، وفى بعض الحكايات : لو رجعت إليه فى أول الشدائد ، لأمدك بفنون الفوائد ، لكنك رجعت إلى أشكالك فزدت فى أشغالك.

__________________

(١) معانى سائر الأسماء يتصور أن يتصف العبد بثبوت منها حتى ينطلق عليه الاسم كالرحيم والعليم والحليم والصبور والشكور وغيره ، وإن كان إطلاق الاسم عليه على وجه آخر تباين إطلاقه على الله ، وأما معنى هذا الاسم فخاص خصوصا لا يتصور فيه مشارك لا بالمجاز ولا بالحقيقة ، ولأجل هذا الخصوص توصف سائر الأسماء بأنها اسم الله ، ويعرف بالإضافة إليه فيقال الصبور والشكور والجبار والملك من أسماء الله ، ولا يقال الله من أسماء الصبور والشكور ، لأن ذلك من حيث هو أدل على كنه المعانى الإلهية وأخص بها فكان أشهر وأظهر ، فاستغنى عن التعريف بغيره وعرف غيره بالإضافة إليه.

١١٧

وقد قال بعض المشايخ : إنما يعرف توحيد الرجل عند الصدمة الأولى من المحنة ، يعنى بذلك إقباله على الله بقلبه فى أول الوهلة.

وقد حكى عن أحمد بن أبى الحوارى أنه قال : كنت مع أبى سليمان الدارانى فى طريق مكة فسقطت منى السطيحة ، فأخبرت أبا سليمان بذلك قال : يا راد الضالة ، يا هادى من الضلالة ، اردد علينا الضالة ، قال : فلم ألبث حتى أتى رجل يقول : من سقطت منه سطيحة ، فإذا هى سطيحتى ، قال : فأخذتها ، قال أبو سليمان : حسبت أنه يتركنا بلا ماء فمضينا قليلا ، وكان برد شديد ، وعلينا الفرا ، فرأينا رجلا عليه طمران رثان وهو يترشح عرقا ، فقال أبو سليمان : نواسيك من فضل ما معنا ، فقال : الحر والبرد خلقان من خلق الله ، إن أمرهما غشيانى ، وإن أمرهما تركانى ، فأنا أسير فى هذه البادية منذ ثلاثين سنة ما ارتعدت ولا انتفضت ، يلبسنى فى البرد فيحا من محبته ، ويلبسنى فى الحر برد رحمته ، يا دارانى ، تشير إلى الزهد وتجد البرد ، يا دارانى تبكى وتصيح وتستريح إلى الترويح ، قال : فمضى أبو سليمان وهو يقول : لم يعرفنى غيره.

قال الأستاذ : هذه الحكاية تدل على أن أبا سليمان صدق فى فزعه إلى الله تعالى والتجائه إلى الله عند فقد السطيحة فحقق الله ظنه لما وصل إليه مفقوده ، ثم صانه عن محل الإعجاب بما أراه من محل من زاد عليه فى معناه ، ثم صغر فى عينه حال نفسه بما اطلع عليه من مزية غيره عليه فى مقامه ، وتلك سنة الله مع أوليائه أن يصونهم عن ملاحظة الأعمال ويصغر فى أعينهم ما يصفو لهم من الأحوال.

وكان الشيخ أبو عليّ الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، يقول : علامة من كان صادقا فيما ظهر عليه من التواجد ، أن تكون خجلته بعد صحوه من تلك الغلبة أكثر من خجلة من قارف كبيرة ، وكان كثيرا ما ينشد فى معناه :

يتجنب الآثام ثم يخافها

فكأنما حسناته آثام

١١٨

وسئل الشبلى عن أفضل الطاعات فأنشأ يقول :

إذا محاسنى اللاتى أدل بها

كانت ذنوبى فقل لى كيف أعتذر

هكذا وصف من يعتقد فى معنى اسم الله تعالى أنه الّذي يفزع إليه فى النوائب لا يساكن المخلوقين ولا يستعين بغير رب العالمين ، يغتنم خلوته ثم يصفى دعوته ويظهر سرا بين يديه غصته ، وبرفع إليه بإخلاص القلب قصته ، فإن وافق دعوته سابق القضاء فاز بالنجح والظفر بجزيل العطاء وإن كانت القسمة بخلاف ما طلب من البغية ألبسه الله لباس الرضا ، فهو بحسن أدبه بل بكمال وده ومحبته بعد المنع عطاء ومنحة والرد إجابة وقربة ، وفى معناه أنشدوا :

أريد عطاءه ويريد منعى

فأترك ما أريد لما يريد

وأنشد آخر :

حين أسلمتنى إلى الذال واللام [الذل]

تلقيتنى بعين وزاى [العز]

وقل من يوفق للدعاء ثم لا يستجاب له ، فإن من لا يكون أهلا للإجابة قل ما ينطق لسانه بالمسألة.

وقد حكى عن بعضهم أنه باع جارية له فندم على بيعها فاستحيا من الناس أن يظهر حالته ، فكتب حاجته على كفه ورفعها إلى السماء ، فلما أصبح قرع عليه الباب فقال : من أنت؟ فقال : مشترى الجارية مع الجارية ، فقال : اصبر حتى آتيك بالثمن ، فقال : لست أريد الثمن ، فإنى أخذت خيرا من ذلك ، إنى رأيت فى المنام رب العزة يقول لى : إن البائع ولىّ من أوليائنا وقلبه معلق بها ، فإن رددتها إليه بلا ثمن أدخلناك الجنة بلا عمل ، فأنا آثرت الثواب على الثمن.

١١٩

من قال إن اشتقاق اسم الله من الوله والرد عليه :

قول آخر فى اشتقاق هذا الاسم : ومن الناس من قال : إن اشتقاق هذا الاسم من الوله ، قالوا : والوله هو الطرب وهو خفة تصيب الرجل لسرور أو حزن ، وفى معناه أنشدوا :

ولهت نفس الطروب إليكم

ولها حال دون طعم الطعام

قال الأستاذ : وكان الدقاق يقول : سماع اسم الله يوجب الوله ، لأن المسمى به لا شبه له.

وهذا القول أيضا لا يصح على طريق التحديد لاستحالة وجود الطرب فى الأزل ، ولكونه إلها لمن لا يصح منه الطرب ، كما ذكرنا فى الجمادات والأعراض ، لكنه يصح فى وصفه لا على وجه التحديد كما ذكرنا ، فإن من عرف الله كان بإحدى وقتين : وقت قبض ووقت بسط ، فالقبض يوجب هيبته ، والبسط يقتضي قربته ، وفى حال الهيبة يلحقه طرب هو دهشة ، وفى حال القربة يصحبه طرب هو فرحة.

وقد حكى عن أبى حفص الصفار ، وكان كبيرا فى شأنه ، أنه قال : تهت فى البادية أياما فعطشت مرة وضعفت ، فرأيت رجلا فاتحا فاه ينظر إلى السماء ، فقلت له : ما هذه الوقفة؟ فقال : ما لك وللدخول بين المولى والعبيد ، ثم أشار بيده وقال : هو ذا الطريق ، فنحوت نحو إشارته فما مشيت إلا قليلا حتى رأيت رغيفين ، على أحدهما قطعة لحم حار ، وهناك كوز ماء ، قال : فأكلت حتى شبعت ، وشربت حتى رويت ، ثم رأيت الطريق فرجعت إليه وقلت : ما التصوف؟ فتبسم ثم قال : لائح لاح ، فاصطلم واستباح ، يعنى بذلك أنه كشف

١٢٠