اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

اللامع الأوّل

في مباحث النظر

وفيه أبحاث :

الأوّل [في تعريف النظر] : النظر (١) في التحقيق يشتمل على حركة من المطالب إلى

__________________

(١) اختلف الناس في أول الواجبات على المكلّف ، قيل : إنّه الشكّ ، لأنّ النظر يجب أن يكون مسبوقا بالشكّ لتوقّف النظر عليه.

وفيه : أنّ الشك غير مقدور ولا مطلوب للعقلاء.

وقيل : إنّه النظر. وقيل : إنّه المعرفة بالله تعالى. وقيل : إنّه القصد إلى النظر.

والحقّ أنّ أول الواجبات هو المعرفة بالله تعالى كما سيصرّح به المصنّف (ره) وما عداها مقدّمة لها ، وسائر الأقوال مردودة بالأدلة المذكورة في مظانّها من كتب الكلام.

ويجب العلم واليقين بأصول الدين الخمسة ولا يجوز التقليد فيها ، لأنّ الإنسان إذا رأى الناس مختلفين في الاعتقادات فإمّا أن يأخذ بالجميع فيلزم جمع المتنافيات ، وهو غير ممكن. وإمّا أن يأخذ بالبعض بلا مرجّح فترجيح بلا مرجّح ، وهو محال ، وإمّا أن يأخذ بالبعض مع المرجّح وليس هو إلّا العلم ، أمّا الظنّ فحاله حال الشكّ هنا ، وإمّا أن لا يعتقد شيئا فهو غير جائز ، لوجوب المعرفة فقد بطل التقليد في الاعتقادات.

فالتقليد في أصول الدين كالشكّ ، والشاكّ في أصول الدين كافر ، بل الظن في أصول الدين كذلك ، فإنّ الظن لا يغني من الحقّ شيئا بل العلم الحاصل عن تقليد أيضا كذلك كما هو المعروف ، بل المشهور عند الامامية والمدّعى عليه الإجماع من الأكابر كالعلامة والشهيد (ره).

٨١

مبادئها ثمّ الرجوع منها إليها ، فتعريف بعضهم له بأنّه ترتيب أمور معلومة لتؤدّي إلى مجهولة مختصّ بالانتقال الثاني وقلّما يتفق مثله ابتداء ، والذي يتفق مثله ابتداء يكون حدسا ، لأنّ الحدس لا يشترط فيه الانتقال من المطالب بل هو انتقال من المبادي إلى المطالب ابتداء.

وتحقيق ما ذكرناه أنّه إذا كان لنا مطلوب كحدوث العالم مثلا ، فإنّا نستحضره ثمّ نرجع إلى خزانة خيالنا فتحصل منها مقدّمات صالحة للاستدلال على المطلوب ، نرتبها ترتيبا مؤدّيا إلى اطّلاع عليه ، فذلك هو النظر (١) وإفادته العلم صحيحة ضرورية فطرية ، فإنّ من علم الملازمة بين أمرين ثمّ علم وجود الملزوم فإنّه يحصل له العلم باللازم حصولا بيّنا.

ودفعه مكابرة فخلاف السمنيّة في ذلك مطلقا والمهندسين في الإلهيات باطل ،

__________________

ولعلّ الوجه فيه أنّ العلم الحاصل من التقليد هو العلم العادي كما هو الغالب في التقاليد ، وهو الظن الاطمئناني ، وهو يحتمل الخلاف ، والذي يحتمل الخلاف واضح البطلان في أصول الدين ، والمطلوب فيها هو العلم القطعي الذي لا يحتمل الخلاف ، وإلّا فالعقل لا يفرق بين أسباب العلم القطعي سواء كان عن تقليد أو نظر ، نعم إن حصل العلم القطعي من التقليد فيكفي في المطلوب كما حقّقه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره ، ولكن الشأن في حصول العلم القطعي من التقليد كما عرفت وجهه.

فالحقّ ما ذهب إليه المشهور من عدم كفاية التقليد في أصول الدين ، نعم لو قلنا بالعجز عن اليقين وإن أحاله بعض فلا مناص لهذا الظانّ عن التديّن بظنّه الحاصل له عن تقليده بعد إعادة النظر ، فيكون كالعلم في حقّه إذا كان عن قصور لا تقصير بحكم العقل.

وهنا إشكال بالنسبة إلى حال المكلّفين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في اعتقاداتهم بأصول الدين ، وقد ذكره المحقق الدواني (ره) في شرح العقائد العضدية وأجاب عنه بجواب كاف شاف ، فراجع والله الموفق.

(١) وقد حثّ الدين الإسلامي المقدّس على النظر في أصول الدين وتحصيل العلم واليقين فيها ، وورد عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام في الحثّ على النظر والتحريض على المعرفة كلمات جامعة.

قال الشيخ الأعظم المفيد قدس‌سره في الإرشاد : إنّ ممّا حفظ عن الإمام الصادق عليه‌السلام في وجوب المعرفة بالله تعالى وبدينه قوله : «وجدت علم الناس كلّهم في أربع : أولهما : أن تعرف ربّك ، والثاني : أن تعرف ما صنع بك ، والثالث : أن تعرف ما أراد منك ، والرابع : أن تعرف ما يخرجك عن دينك».

ثم قال الشيخ المفيد (ره) : وهذه أقسام تحيط بالمفروض من المعارف ، لأنّه أول ما يجب على العبد معرفة ربّه جلّ جلاله ، فإذا علم أنّ له إلها وجب أن يعرف صنعه إليه ، فإذا عرف صنعه إليه عرف به نعمته ، فإذا عرف نعمته وجب عليه شكره ، فإذا أراد تأدية شكره وجب عليه معرفة مراده ليطيعه بفعله ، وإذا وجبت عليه طاعته وجبت عليه معرفة ما يخرجه عن دينه ليجتنبه فيخلص به طاعة ربّه وشكر إنعامه.

٨٢

وحصول العلم عقبه تولّد عند المعتزلي كسائر المتولّدات عن أسبابها ، ومخلوق عند الأشعري بمجرى العادة بناء على قاعدته الفاسدة من استناد سائر الممكنات (١) إليه تعالى ، وعند الحكيم حصول المقدّمتين معدّ لإفاضة العلم على الذهن من المبادي العالية.

ثمّ بسائطه إمّا تصورات فيفيد تصوّرا ، وهو حصول صورة من الشيء عند العقل عاريا عن الحكم أو تصديقات فتفيد تصديقا ، وهو الحكم على الأول بنفي أو إثبات ، ويسمّى كاسب الأول قولا شارحا ، وكاسب الثاني حجّة ، وتفاصيلهما في المنطق.

ويشترط في الإفادة مطابقة المقدمات لما في نفس الأمر ، وأن يكون الترتيب على هيئة منتجة وأن لا يكون المطلوب معلوما من كلّ وجه والّا لزم تحصيل الحاصل ، ولا مجهولا كذلك وإلّا لم يعلم حصوله عند حصوله ، ولا جهلا مركبا ، لأنّه حينئذ يكون مانعا من النظر فيه وهل يفيد فاسده الجهل؟ قيل : نعم مطلقا ، وقيل : إن فسد مادّة أفاد الجهل ، وصورة لا يفيد شيئا.

وينتقض بقولنا : كلّ إنسان حجر ، وكلّ حجر حيوان ، فإنّه فاسد مادّة مع إفادته علما. والحقّ أنّ إفادته الجهل ليس كليا.

الثاني : في وجوبه خلافا للحشويّة.

لنا أنّ المعرفة واجبة (٢) مطلقا ، ولا يتمّ إلّا بالنظر (٣) فيكون واجبا. أمّا الأولى

__________________

(١) إلى الله تعالى ـ نسخة : (آ).

(٢) والحقّ أنّ أول الواجبات المعرفة كما ذكره المصنّف (ره) ، فإنّها أول الدين كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أول الدين معرفته» وما عداها مقدّمة لها ووجوب المعرفة مطلق ، وهي واجبة على كلّ مكلّف ، فيجب المعرفة بالصانع تعالى وصفاته وهي الثبوتيّة والسلبيّة المسمّاة بالكماليّة والجلاليّة ، ويجب المعرفة بالنبوّة وبإمامة الأئمة الاثني عشر المعصومين عليهم‌السلام وبالعدل والمعاد ، كل ذلك بدليل عقلي لا بالتقليد ، فالوجوب لغة هو الثبوت واللزوم ، يقال : هذا واجب ، أي ثابت لازم.

(٣) وللنظر مقدّمات لا يتمّ إلّا بها ، وهي كثيرة ، وضابطها كلّ أمر يتوقّف عليه حصول الدليل القطعي في أصول الدين ، وبيان تفاصيلها لا يسعها المقام ولكن معظمها يتلخّص في ستّة أمور ، ومن لم يكن واجدا لواحد منها لا يتمّ له النظر ولا يصل إلى الحقّ ، وإليك بيانها إجمالا فيما يلي :

الأول : ترك التعصّب ، فإنّ التعصّب للقلب كالصمم للأذن ، فكما أنّ الصمم مانع عن تأثير أعصاب ـ

٨٣

__________________

ـ الأذن باهتزازات الصوت والانتفاع بها وإن كانت موجودة بأجلى مظاهرها ، فكذلك التعصّب مانع عن تأثّر القلب بالحقّ وانتفاعه به.

الثاني : الشجاعة الأدبية ، وضابطها أن يقول الإنسان الحقّ ولو على نفسه ، فيجزم به متى قام الدليل القطعي عليه ، ولا يتردّد فيه ولا يتبع طريقة الآباء إن كانت على خلافه ولا يبالي في إظهار الحقّ من سطوة أيّ صاحب سلطة وبطش صاحب صولة ويعتقد الحقّ ويصدع به رغم كل مشقّة وعقبة وصعوبة ، فإنّ حبّ الحقّ بنفسه وانتظار الفوز العظيم الأبدي والنجاة من الخلود في شديد العذاب يهون في سبيلها كلّ صعب وتعب ومستصعب.

الثالث : مجانبة الهوى ، وضابطه توطين النفس على قبول ما قام الدليل القطعي على حقيقته سواء كان موافقا لميل نفسه أو مخالفا لها فإنّ مجانبة الهوى هي الموصلة إلى سبيل النجاة واتّباعه هو المردي والموقع في الهلكات.

الرابع : ترك الملاذّ والشهوات ، فإنّ الانهماك فيها يصدّ عن الوصول إلى الحقّ ولا سيما ما يضيع الأوقات منها كالملاهي من الغناء والقمار والشطرنج وما شاكلها ، وما يخرج الإنسان عن فطرته التي فطر عليها ويذهب بأشرف ما لديه من النعم ، وهو العقل الذي فضّل به على مشاركاته في الحياة من العجماوات كإدمان المسكرات وما يحرّك بالإنسان القوّة الغضبية والشهوية فيجعله شرّ دوابّ الأرض المؤذية منهمكا بالظلم والعدوان محبّا للاستيلاء والاستئثار بالسطوة والسلطان مولعا بغصب الأملاك وتضييع الحقوق وإزهاق النفوس وترويع النساء والشيوخ والأطفال ، إلى غير ذلك من المنكرات التي تطرد الإنسان عن واضح الحقّ وسنن الهداية ويرتكبها فراعنة الزمان وأبالسة الدوران.

الخامس : الصبر والثبات في مقام النظر والتتبع ، ويفتقر ذلك إلى توظيف وقت خاصّ للنظر في الأدلة ، وأن لا يجزع إذا لم يتّضح له الحقّ بسرعة ، فليس من العقل أن يصرف الإنسان حياته فيما استيقن إقلاعه عنه وزواله وسرعة مفارقته من عرض الدنيا الفانية ولا يوظّف شطرا من حياته للنظر في أمر يحتمل أنّه ملاقيه ويخلد فيه ولا ينفكّ عنه فإمّا عذاب أبدي وإمّا نعيم سرمدي.

السادس : أن يجرّد نفسه حين التتبع والنظر في الأدلّة عن كلّ غرض وشبهة ، ويفرغ باله عن كل ما كان يسمعه من آبائه وأهل نحلته بلا بيّنة ولا برهان حتى يكون كأنّه في أول يوم مجيئه إلى الدنيا ، لم ينتسب بعد إلى طريقة ولم ينتحل نحلة ولم ينتم إلى أهل ملّة لا يهمه إلّا معرفة الحقّ ليتبعه.

هذا ما ذكره بعض مما يهمّ ذكره من بعض المقدمات لإكمال النظر الذي يؤمن معه من الضرر ، فإذا لم يكن الإنسان على عدّة منها صار بينه وبين الحقّ حاجب كثيف وعلى بصره غشاوة لا يدرك الحقّ من ورائها وإن كان الانسان على غاية من الكمالات الظاهرية في جميع الفنون والعلوم والصنائع.

وهذا هو السرّ في أنّك ترى كثيرا ممّن توصل بمداركه وتجاربه إلى غرائب الفنون وأتى بعجائب المخترعات وتوصّل إلى استخدام البخار والحديد والنار وتسخير الماء والفضاء والهواء ، ثمّ زاغ عن الحقّ ومرق عن سبيل النجاة ، لتعصب صدّه أو هوى أراده أو ملاذّ وشهوات أهلكته أو شبه لم يجرّد نفسه منها فأوقعته فى ـ

٨٤

فلدفعها الخوف الحاصل من الاختلاف ودفع الخوف واجب ، لأنّه ألم نفساني يستحقّ الذمّ بترك دفعه ، ولوجوب شكر المنعم المتوقّف على المعرفة (١) وإلّا لم يكن شكرا.

وأمّا الثانية فظاهرة ، إذ وجود الاختلاف وعدم المحسوسية هاهنا ينفي ضروريتها ، وقول الباطني (٢) باستفادتها من المعصوم باطل وإلّا دار ، وأمّا الكبرى المضمرة ، فلأنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب ، وإلّا خرج عن كونه واجبا مطلقا أو لزم تكليف المحال ، ووجوبه عقلي وإلّا لزم إفحام الأنبياء عند طلب اتّباعهم المتوقّف على ثبوت صدقهم المتوقّف على ثبوت المرسل المتوقّف على قولهم لو كان سمعيّا ، وإفحامهم باطل. ونفيا لتعذيب قبل البعثة لا يستلزم دفع (٣) الوجوب قبلها ، إذ لازم الوجوب استحقاق التعذيب وذلك ليس بمنفي ، وأول الواجبات بالذات هو المعرفة والنظر بالقصد الثاني.

الثالث [في تعريف الدليل] : الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر (٤) والملزوم

__________________

ـ الضلالة أو بخل بوقته أن يصرف منه شيئا للنظر والتتبع في هذا الأمر العظيم فصار نصيبه الخسران والشقاء ، إلى غير ذلك من الأمور المردية التي يحكم العقل بوجوب اجتنابها دفعا للضرر الذي يحتمل الوقوع فيه ممّن يرتكبها.

وليعلم القارئ العزيز : أنّ الحثّ والترغيب على النظر في الدين وتحصيل العلم واليقين في أصول العقائد وعدم الاكتفاء بالظن والتقليد فيها هو طريق القرآن والإسلام ، خلافا لسائر الأديان ، فإنّ أساسها على التقليد والمنع عن النظر والتنقيب كدين كليسا المسيحي اليوم ، فإنّ بناءه على التقليد للآباء وأساسه يناقض العقل والبرهان كما هو واضح بالعيان ، ويأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

(١) المراد بالمعرفة العلم الخاص ، وهو الاعتقاد الجازم المطابق الثابت. وفرّق بعضهم بين المعرفة والعلم فسمّوا العلم بالتصوّرات معرفة وبالتصديقات علما ، ولكن تحصل المرادفة بالعلم بالدليل ، وهو ترتيب مقدمات يقينية لإنتاج أمر يقيني أو هو ما يلزم من العلم به العلم بأمر آخر أو ما يمكن التوصّل به بصحيح النظر إلى المطلوب الخبري ، وسيجيء اختيار المصنّف (ره) التعريف الثاني وإشكالنا عليه.

(٢) يعنى الباطنية من الفرقة الإسماعيلية.

(٣) نفى ـ خ : (آ).

(٤) يؤخذ عليه بأنّ قوله : بشيء آخر يختصّ بالموجود مع أنّ الدليل يعمّ الموجود والمعدوم فلا يكون جامعا ، فلذلك يقال : إنّ الأولى أن يقال بأمر آخر ، لعمومه.

٨٥

إمّا وجود أو عدم ، وكذا اللازم فأقسامه أربعة.

ثمّ بسائطه إمّا علمية فتفيد علما أو ظنّية فتفيد ظنّا بصورة الدليل ، وقيل : لا تفيد شيئا. والمركّبة من العلم والظنّ قد تفيد علما كما في المحكمات وظنّا مع قيام احتمال الاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والنسخ وعدم الوثوق بنقل الإعراب والتصريف واللغة ومع قيام المعارض العقلي ، إذ مع وجوده يجب تأويل غيره وإلّا لزم المحال أو ترجيح الفرع على أصله فيطرحان ، فكلّ ما يتوقّف عليه صحّة النقل كالقدرة والعلم لا يستدلّ عليه به وإلّا دار وما ليس كذلك يجوز كالتوحيد وسلب الرؤية.

ثمّ الاستدلال إمّا بالكلّي على الكلّي ويسمّى قياسا ، أو بالجزئي ويسمّى تمثيلا ، أو بالجزئي على الكلّي ويسمّى استقراء ، والأوّل إمّا أن تكون مقدّماته يقينية فتفيد يقينا ويسمّى برهانا (١) أو ظنية فتفيد استدراجا ويسمّى خطابة ، أو مشهورة ومسلّمة فيفيد إلزاما ويسمّى جدلا ، أو تخييلية فتفيد قبضا (٢) أو بسطا ويسمّى شعرا ، أو يكون شبيهة بالصادقة (٣) يفيد مناقصة وتبكيتا (٤) فإن استعملها المبرهن فمغالطة وإن استعملها المجادل فمشاغبة.

__________________

(١) مثال البرهان كقولك : السقف جزء من البيت ، وكلّ جزء أصغر من الكل ، فيكون السقف أصغر من البيت. ومثال الخطابة كقولك : فلان يطوف بالليل ، وكل من يطوف بالليل فهو سارق فيكون فلان سارقا. وللجدل مثالان : أحدهما ما يكون تركيب قياسه من المسلّمات عند الباحثين كقولك : أكل الميتة عند الاضطرار ارتكاب أمر ضروري ، وارتكاب الأمر الضروري مباح ، فيكون أكل الميتة مباحا. والثاني ما يكون قياسه مركبا من المسلّمات عند الخصم كقولك للمعتزلي : المختار في أفعاله خالق الأفعال ، وكلّ خالق الافعال شريك الباري في أفعاله ، فيكون المختار في أفعاله شريك الباري ـ م ك ر م ـ كذا في هامش نسخة : (د).

(٢) مثاله كقولك : هذا عسل ، وكلّ عسل مرّة مقيئة فيكون هذا مرّة مقيئة ، ومثال القياس الشعري المفيد بسطا كقولك : هذا خمر ، وكلّ ياقوتة سيّالة ، فيكون هذا ياقوتة سيّالا ، مثال المغالطة كقولك : الإنسان وحده كاتب ، وكلّ كاتب حيوان ، فيكون الإنسان وحده حيوانا ـ م ك ر م عفى عنه ـ عن هامش نسخة : (د).

(٣) بالمطابقة ـ خ : (آ).

(٤) تنكيبا ـ خ : (آ).

٨٦

اللامع الثاني

في تقسيم المعلوم

وفيه مقدّمة وأبحاث.

أمّا المقدمة فنقول : كلّ ما نعبر عنه إمّا أن يفرض له تحقّق أو لا ، والأوّل موجود وثابت ، والثاني معدوم ومنفيّ ، والموجود إمّا أن يفرض له تحقّق خارجا أو لا ، والثاني الذهني كجبل من ياقوت وبحر من زئبق ، والأوّل إمّا أن يكون وجوده من ذاته وهو الواجب أو من غيره وهو الممكن ، والمعدوم إمّا أن يمكن وجوده أو لا والثاني هو المستحيل والممتنع ، فقد ظهر أنّه لا واسطة بين الموجود والمعدوم وأنّ الوجود الذهني متحقّق وأنّه لا شيئية للمعدوم خارجا وإن نازع قوم في الثلاثة ، وسيأتي الكلام معهم (١) بعد الفراغ من مباحث الوجود.

البحث الأوّل [في بداهة تصوّر الوجود] : الوجود بديهي التصوّر ، فإنّه لا شيء أظهر عند العاقل من كونه موجودا وأنّه ليس بمعدوم ، وبداهة المقيد تستلزم بداهة

__________________

(١) فيهم ـ خ : (آ).

٨٧

المطلق لمسبوقية المقيد بالمطلق ، لأنّه جزؤه وما يقال في تعريفه يشتمل (١) إمّا على دور ظاهر(٢) كمن قال : إنّه المنقسم إلى الفاعل والمنفعل (٣) أو إلى القديم والحادث (٤) ، أو على أخذ أحد المتساويين في تعريف الآخر كمن عرفه بأنّه ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه ، وكلاهما أغلوطة (٥).

[البحث] الثاني [أنه مشترك معنوى] : أنّه مشترك بالاشتراك المعنوي تشكيكا أمّا الأوّل فلوجوه :

أوّلا : أنّا نجزم بوجود شيء حقيقة ونتردّد بين كونه واجبا أو ممكنا وجوهرا أو عرضا ، والمجزوم به غير المشكوك فيه.

ثانيا : أنّ العدم أمر واحد ، إذ لا تمايز في الأعدام فيكون نقيضه وهو الوجود واحدا وإلّا لم يتحقّق الحصر في قولنا : هذا الشيء إمّا أن يكون موجودا أو معدوما ، وهو باطل ضرورة وإذا كان واحدا كان مشتركا.

ثالثا : أنّا نقسّمه إلى الواجب والممكن والجوهر والعرض فلو لا اشتراكه لما حسن منّا ذلك كما لا نقسّم الحيوان إلى الإنسان والحجر.

وأمّا الثاني (٦) فلانّه لولاه لكان مقولا بالتواطؤ على ما تحته ، وهو باطل وإلّا لزم من

__________________

(١) مشتمل ـ خ : (آ).

(٢) ظاهر ـ خ : (آ).

(٣) إذ الفاعل هو المفيد الموجود والمنفعل هو المستفيد الموجود فقد توقّف معرفتهما على معرفة الوجود.

(٤) وهم عرّفوا الوجود مما يتوقّف معرفته على معرفة الوجود ، فإنّ القديم هو ما لم يسبق وجوده العدم ، فالوجود جزء مفهوم تعريفهما فيكون متقدّما عليهما ، فلو أخذ في تعريفه لزم تقديمهما عليه.

(٥) كتعريفه بالثابت العين ، أو بالذي يمكن أن يخبر عنه ويعلم ، واشتماله على دور ظاهر ، فإنّه إن قصد كونه تعريفا رسميا فلزوم الدور ظاهر ، إذ لا يعقل معنى الذي ثبت والّذي أمكن ونحو ذلك إلّا بعد تعقّل معنى الحصول في الأعيان أو الأذهان ، ولو سلّم فلا خفاء في أنّ معنى الوجود أوضح عند العقل من معاني هذه العبارات ، وإن قصد كونه تعريفا اسميا فلا خفاء في أنّه ليس أوضح دلالة على المقصود من لفظ الوجود بل أخفى ، فلا يصلح تعريفا اسميا كما لا يصلح رسميا فاتّضح قول المصنّف قدس‌سره ، وكلاهما أغلوطة.

(٦) أي كونه تشكيكا.

٨٨

وجوب بعض أفراده وجوب الكلّ أو (١) من إمكان البعض إمكان الكل ، لأنّ الوجود المطلق إن اقتضى الوجوب لزم الأمر الأول ، وإن اقتضى الإمكان لزم الأمر الثاني ، وإن لم يقتض شيئا منهما كان وجوب الواجب لأمر منفصل عن الوجود (٢) فلا يكون واجبا ، وهذا خلف ، ولأنّه في الواقع كذلك لتفاوت مقوليته على الوجودات (٣) فإنّه في حقّ الواجب أقوى منه في الممكن وفي العلّة أقدم منه في المعلول وفي الجواهر (٤) أشدّ منه في العرض.

[البحث] الثالث (٥) الحقّ أنّه زائد على ماهية الممكن. أمّا أوّلا فلما ثبت من اشتراكه ، فلو لم يكن زائدا لزم اتّحاد الماهيات لو كان نفسها وعدم تناهي أجزائها لو كان جزء منها ، إذ لا بدّ حينئذ من فصول تشارك (٦) الماهية في الوجود ، ويتسلسل.

وأمّا ثانيا : فإنّا نعقل الماهية ونعقل كونها موجودة.

وأمّا ثالثا : فلأنّا نحتاج إلى الاستدلال على وجود الماهية حال تعلّقها فلا يكون نفسها ثمّ هذه الزيادة في التصوّر لا في الخارج ، وهو قائم بالماهية من حيث هي هي لا باعتبار الوجود ولا العدم ، فلا يلزم اشتراط الشيء بنفسه ، أو التسلسل لو قام بها وهي موجودة ، ولا اجتماع الوجود والعدم لو قام بها وهي معدومة. وأمّا في الواجب فهو نفسه ، لما يأتي في خواصّه.

البحث الرابع : في الوجود الذهني ، والحقّ وجوده (٧) فإنّا نحكم على موضوعات

__________________

(١) و ـ خ : (آ).

(٢) كان وجوب الواجب لأمر غير الوجود ـ خ : (آ).

(٣) الموجودات ـ خ : (آ).

(٤) الجوهر ـ خ : (آ).

(٥) البحث الثالث ـ خ : (آ).

(٦) مشاركة ـ خ : (آ).

(٧) ثبوته ـ خ : (آ).

٨٩

معدومة في الخارج بل ممتنعة بأحكام إيجابية ، فلا بدّ من وجود المثبت له ضرورة وليس خارجا فيكون ذهنا ، وذلك هو المطلوب.

واستدلال المانعين له بلزوم كون الذهن حارّا أو باردا أو اجتماع الحرارة والبرودة لو تصوّرا فيجتمع الضدّان ، باطل ، فإنّ الثابت في الذهن ليس عين الحرارة والبرودة بل مثالهما وصورتهما ، وهما لا يوجبان تسخينا وتبريدا وليسا ضدّين.

البحث الخامس : في نفي الحال ذهب قوم غير محقّقين إلى ثبوت واسطة بين الموجود والمعدوم سمّوها بالحال ، وعرّفوها بأنّها صفة لموجود لا يوصف بالوجود ولا بالعدم ، مستدلّين بأنّ الوجود كذلك ، إذ لو كان موجودا لزم التسلسل ، ولو كان معدوما لزم اتّصاف الشيء بنقيضه ، وهو خطأ.

أمّا أوّلا فلقضاء الضرورة بالحصر المذكور ، فإنّ انحصار الشيء بين أن يكون وأن لا يكون من أوّل الأوائل.

وأمّا ثانيا فلأنّ وجود الوجود عينه فلا يتسلسل كضوء الضوء.

البحث السادس : في نفي المعدوم خارجا ، ذهب قوم من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ المعدوم الممكن ثابت خارجا لحكمهم بأنّ الثبوت أعمّ من الوجود ، واستدلوا بأنّ المعدوم متميّز ، وكلّ متميّز ثابت. أمّا الصغرى فلوجوه :

الأوّل : أنّا نعلم الطلوع غدا ، وهو معدوم الآن ، والمعلوم متميّز.

الثاني : أنّا نريد الملازمات حال عدمها ، والمراد متميّز عن غيره.

الثالث : أنّا نقدر على الحركة يمنة ويسرة ولا نقدر على الحركة إلى السماء ، والمقدور متميّز عن غيره.

وأمّا الكبرى فلأنّ التميّز ثبوت صفة للمتميز ، وهو فرع ثبوت الموصوف.

والجواب : الضرورة قاضية بعدم الفرق بين الثبوت والوجود ، فالمنازع مكابر ، فلو

٩٠

كان المعدوم ثابتا لكان موجودا و (١) التميّز المذكور حاصل ذهنا وإلّا لزم ثبوت الممتنعات والمركّبات المذكورة سابقا ، لانصباب الدليل عليها ، وهو باطل اتّفاقا ولهم تفريعات (٢) في هذا الباب شنيعة كقولهم : إنّ الذوات غير متناهية وإنّها متحقّقة في العدم ، وإنّ الفاعل ليس له تأثير فيها ، وغير ذلك من تفريعاتهم (٣) وأشار ولي الله ووصيّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلامه إلى دفع هذا المذهب ومذهب الحكماء بقوله : «لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ولا (٤) أوائل أبدية».

__________________

(١) إذ ـ خ : (آ).

(٢) تعريفات ـ خ : (آ).

(٣) تعريفاتهم ـ خ : (آ).

(٤) من ـ خ : (آ).

٩١
٩٢

اللامع الثالث

في الوجوب والامتناع والإمكان والقدم والحدوث

وفيه أبحاث :

[البحث] الأوّل : [حمل الوجود على الماهية] اعلم أنّه إذا حمل الوجود على الماهية فإمّا أن يجب اتّصافها به أو يمتنع أو يجوز الأمران ، الأوّل وجوب والثاني امتناع والثالث إمكان ، وهو مفهومات ضرورية لا (١) تفتقر إلى تعريف ، ومن عرّفها لزم الدور أو تعريف الشيء بما يساويه ، ثمّ الأوّلان قد يوجدان (٢) بالذات فيسمّى المتّصف بهما (٣) واجبا لذاته وممتنعا لذاته ، وقد يوجدان (٤) باعتبار الغير فيسمّى واجبا لغيره كالمعلول عند وجود علّته وممتنعا لغيره كهو حال عدمها ، فأمّا الممكن فلا يوجد (٥) بالغير وإلّا لكان مفروض (٦) الإمكان بالغير إمّا واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته ، وكل ممكن بالغير ممكن بالذات فيكون ذلك المفروض تارة

__________________

(١) فلا ـ خ : (آ).

(٢) يؤخذان ـ خ : (آ).

(٣) به ـ خ : (آ).

(٤) يؤخذان ـ خ : (آ).

(٥) يؤخذ ـ خ : (آ).

(٦) معروض ـ خ : (آ).

٩٣

واجبا لذاته وتارة ممكنا لذاته فيلزم الانقلاب ، هذا خلف.

البحث الثاني : [هذه الثلاثة [وجوب ، امتناع وامكان] أمور اعتبارية] أنّ هذه الثلاثة أمور اعتبارية لا وجود لها خارجا ، أمّا عموما فلصدقها على المعدوم ، فإنّ الممتنع مستحيل الوجود وواجب العدم ، والممكن قبل وجوده ممكن الوجود وإذا كان كذلك كان (١) عدمية ، لاستحالة اتّصاف العدمي بالثبوتي. وأمّا خصوصا فلأنّ الوجوب لو كان ثبوتيّا لزم إمكان الواجب ، واللازم كالملزوم في البطلان.

بيان الملازمة : أنّه صفة فيكون حينئذ مفتقرا إلى الموصوف ، والمفتقر ممكن ، فيكون الوجوب ممكنا فيجوز زواله حينئذ ، والفرض أنّ الواجب واجب فيزول أيضا ، هذا خلف.

أمّا الامتناع فغنيّ عن الاستدلال ، إذ لو كان ثبوتيّا لزم ثبوت الممتنع ، إذ هو صفة له.

وأمّا الإمكان فلأنّه لو كان ثبوتيّا لكان إمّا واجبا فيكون الممكن واجبا ، لأنّه حينئذ عارض لماهيته والعوارض يشترط فيها تحقّق معروضاتها ، أوّلا فيكون المعروض أولى بالوجوب وإمّا ممكنا فله إمكان ويتسلسل.

البحث الثالث : في خواص الواجب لذاته ، وهي أنواع :

الأوّل : أنّه لا يكون واجبا لذاته ولغيره معا وإلّا لزم ارتفاعه بارتفاع الغير ، فيكون ممكنا ، هذا خلف.

الثاني : أن لا يكون صادقا على المركّب ، لأنّ المركّب مفتقر إلى جزئه المغاير له ، والمفتقر إلى غيره ممكن ، فيكون الواجب ممكنا ، هذا خلف.

الثالث : أن لا يكون جزء من ماهية بين أجزائها فعل وانفعال ، وإلّا لكان منفعلا

__________________

(١) يكون ـ خ : (آ).

٩٤

فيكون متغيّرا ، هذا خلف.

الرابع : أن لا يكون وجوده زائدا عليه وإلّا لكان (١) صفة له فيفتقر إلى موصوفه ، فيكون ممكنا ، فالمؤثر فيه إمّا الذات حال عدمها فيؤثّر المعدوم أوّل (٢) وجودها به ، فيلزم اشتراط الشيء بنفسه أو بغيره فيتسلسل ، أو غير الذات فيفتقر الواجب إلى الغير ، هذا خلف.

الخامس : أن لا يكون وجوبه زائدا عليه ، ودليله ما تقدّم.

السادس : أن يكون نوعه منحصرا في شخصه ، أي لا يوجد منه في الخارج إلّا شخص واحد ، لأنّ طبيعة واجب الوجود لو لم تقتض لذاتها تعيّنه وتشخّصه لزم أن يكون محتاجا إلى غيره في تعيّنه وتشخّصه ، وكلّ محتاج إلى غيره ممكن ، فالواجب ممكن ، هذا خلف.

وإذا كانت طبيعة واجب الوجود مقتضية لتعيّنه فكيف ما تصوّر تلك الطبيعة تصوّرا معها تعيّنها ، فلا يكون الواجب لذاته إلّا شخصا واحدا ، وهو المطلوب وفي آية الشهادة إشارة إلى هذه الخاصّة (٣).

البحث الرابع : في أحكام الممكن ، وهي أنواع :

الأوّل : أنّه لا يترجّح (٤) أحد طرفي وجوده وعدمه إلّا بأمر منفصل ، إذ لو لا ذلك لكان إمّا أن يوجد أو يعدم بذاته أو بلا سبب ، والأوّل يستلزم أن لا يكون ممكنا بل إمّا واجبا أو ممتنعا ، والثاني محال بالضرورة.

الثاني : أنّه ليس أحد طرفيه أولى بالنسبة إليه قبل وجوده ، لأنّ غير الأولى إمّا أن يمكن وقوعه أولا ، فمع الأوّل نفرضه واقعا فإمّا لا لسبب وهو محال ، لأنّ

__________________

(١) وجوده ـ خ : (آ).

(٢) حال ـ خ : (آ).

(٣) قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ). آل عمران ٣ : ١٨.

(٤) يرجّح ـ خ : (آ).

٩٥

المساوي (١) يمتنع وقوعه لا بسبب فالمرجوح أولى ، أو بسبب (٢) وهو محال أيضا ، لأنّ ذلك الراجح حينئذ يتوقّف على عدم ذلك السبب فلا تكون الأولويّة كافية ، ومع الثاني (٣) أن لا يمكن وقوع غير الأولى لا يكون الممكن ممكنا بل إمّا واجبا أو ممتنعا ، وليس كلامنا فيهما.

الثالث : أنّ الإمكان إنّما يعرض لماهية من حيث هي هي لا باعتبار وجودها ولا باعتبار عدمها ولا باعتبار وجود علّتها ولا باعتبار عدمها ، لأنّ مع اعتبار الماهية مع أحد هذه الأمور تكون واجبة ، أعني حال اعتبار وجودها أو وجود علّتها أو ممتنعة ، أعني حال اعتبار عدمها أو عدم علّتها ، ومع هذين الاعتبارين لا إمكان.

الرابع : أنّ الممكن محفوف بوجوبين : سابق ولاحق.

أمّا السابق فلأنّ الممكن ما لم يتعيّن صدوره عن مؤثّره لم يوجد ، إذ فرض إمكانه حينئذ لا يحصل المقابل ، وقد بيّنا أنّ الأولويّة ليست كافية فلا بدّ من الانتهاء إلى الوجوب ، أي التعيّن المشار إليه.

وامّا اللاحق فلأنّه حال وجوده لا يقبل العدم وإلّا لزم الجمع بين النقيضين ، فإنّا إذا حكمنا بوجود المشي للإنسان اقتضى ذلك أن يكون واجبا له ما دام المشي موجودا له وهذا الوجوب يسمّى ضرورة بحسب المحمول.

الخامس : أنّه يحتاج إلى المؤثّر ، وهو حكم ضروري ، فإنّ كلّ من تصوّر تساوي طرفي الممكن جزم بالضرورة أنّ أحدهما لا يترجّح من حيث هو مساو ، بل من حيث وجود المرجّح ، وضرورية هذا ممّا لا يشكّ فيها.

وقيل : هو حكم استدلالي وإلّا لعلمناه كعلمنا بأنّ الواحد نصف الاثنين ، وهو (٤) باطل.

__________________

(١) المتساوي ـ خ : (آ).

(٢) لسبب ـ خ : (آ).

(٣) أي ـ خ : (آ).

(٤) وهذا ـ خ : (آ).

٩٦

قلنا : الفرق حصل من حيث الإلف.

وخالف بعض الناس وقال : علّة الحاجة هي الحدوث ، وهو باطل ، فإنّ الحدوث هو كون الوجود مسبوقا بالعدم فهو كيفية الوجود الموصوف به ، والصفة متأخرة بالطبع عن موصوفها ، والوجود الموصوف به متأخّر عن تأثير موجده بالذات تأخّر المعلول عن علّته ، وتأثير الموجود متأخّر عن احتياج الأثر عليه في الوجود تأخّرا بالطبع واحتياج الأثر إليه (١) متأخّر عن علّته بالذات ، فلو كان الحدوث علّة للاحتياج لتأخّر عن نفسه بأربع مراتب ، هذا خلف.

السادس : أنّه حال بقائه محتاج ، لأنّا بيّنا أنّ علّة الحاجة هي الإمكان ، والإمكان لازم للماهية وإلّا لزم انقلابها إلى الوجوب أو الامتناع ، فالاحتياج لازم ، إذ لازم اللازم لازم.

إن قلت : لو احتاج حال بقائه لزم تحصيل الحاصل ، لأنّ (٢) أثر الفاعل في الوجود الحاصل وإن أثّر في غير الحاصل كان في أمر جديد لا في الباقي.

قلت : معنى احتياجه كون بقائه ليس بذاته بل بالفاعل ، وفي التحقيق الفاعل يفيد البقاء بعد الإحداث فهو يفيد أمرا جديدا.

البحث الخامس : في القدم والحدوث ، الموجود إمّا أن يكون غير مسبوق بالغير أو بالعدم أو يكون مسبوقا بأحدهما ، والأوّل من الأوّل قديم ذاتي والثاني منه قديم زماني ، والأوّل من الثاني حادث ذاتي والثاني منه حادث زماني ، وحيث تعرّضنا لذكر [أقسام السبق وهي خمسة] السبق فحقيق (٣) بنا ذكر أقسامه وهي خمسة :

الأوّل : السبق بالعلية كحركة الإصبع على حركة الخاتم.

الثاني : بالطبع كتقدّم الواحد على الاثنين ، وفرق بينه وبين الأوّل أنّه علّة تامة في

__________________

(١) إليه ـ خ : (د).

(٢) إذ ـ خ : (آ).

(٣) فحليق ـ كذا في نسختى (د) و (آ) ولم يعلم وجهه.

٩٧

متأخّرة بخلاف هذا.

الثالث : بالزمان وهو كون السابق في زمان (١) متقدّم على زمان المتأخّر كالأب والابن.

الرابع : بالرتبة إمّا عقلا كالجنس على نوعه إن جعل المبدأ الأعمّ أو حسّا كالإمام على المأموم.

الخامس : بالشرف كالعالم على متعلّمه.

وزاد المتكلمون سادسا سمّوه تقدّما ذاتيا كتقدم أمس على اليوم ، فإنّه ليس بالثلاثة الأوّل ولا لآخرين ، وهو ظاهر ، ولا بالزمان وإلّا لافتقر إلى زمان وتسلسل.

ولا يخفى عليك أنّ حصره فيما ذكر ليس يقينيّا بل هو استقرائي ، ومقوليّته على اقسامه بالتشكيك فليس بجنس لها ، لامتناع التفاوت في جزء الماهية بل هو عرض عامّ لها.

البحث السادس : في أحكام القدم والحدوث ، وهي مسائل :

الاولى : القدم والحدوث اعتباران عقليان ليس لهما تحقّق في الخارج وإلّا لزم التسلسل أو اتّصاف الشيء بنقيضه ، لأنّ كلّ موجود خارجي إمّا قديم أو حادث لما ذكرناه من الحصر العقلي ، فلو كان أحدهما موجودا في الخارج لزم ما ذكرناه ، وهو ظاهر.

الثانية : أنّ القديم لا يجوز أن يكون أثر المختار ، لأنّ أثر المختار مسبوق بالداعي ، وهو لا يتوجه إلّا إلى معدوم وإلّا لزم تحصيل الحاصل وهو محال. فإذن أثر المختار يسبقه العدم ولا شيء من القديم يسبقه العدم ، ينتج من الثاني لا شيء من أثر المختار بقديم وينعكس بالمستوي إلى المطلوب.

__________________

(١) زمانه ـ خ : (آ).

٩٨

الثالثة : أنّ القديم لا يجوز عليه العدم ، لأنّه إمّا واجب أو (١) ممكن ، لأنّ كلّ موجود كذلك ، فإن كان واجبا ثبت المطلوب ، وإن كان ممكنا كان له علة واجبة ، لاستحالة التسلسل كما يجيء ويكون موجبة ، لاستحالة كون القديم أثر المختار كما تقدّم ، فيلزم من دوام علّته دوامه فلا يعدم.

الرابعة : القديم عندنا هو الله تعالى لا غير ، لما يأتي من دليل إثبات الحدوث لكلّ ما عداه ، وعند الأشاعرة هو الله تعالى وصفاته ، وعند الحكماء هو الله تعالى والعالم ، وعند الحرنانيّين (٢) القدماء خمسة : اثنان حيّان فاعلان هما الله والنفس ، وواحد منفعل غير حيّ هو المادة ، واثنان لا حيّان ولا فاعلان ولا منفعلان وهما الدهر والخلاء ، والحادث ما عدا ذلك.

__________________

(١) وإمّا ـ خ : (آ).

(٢) هم جماعة من صائبة الكلدانيين ، وهم مع اعتقادهم بوجود الله تعالى يقولون : «وما يهلكنا إلّا الدهر» ولا دار سوى هذه الدار ، وما يميتنا إلّا الأيام والليالي ومرور الزمان وطول العمر ، ويسندون الحوادث إلى الدهر ، ولهم مقالات واهية سخيفة من هذا القبيل مذكورة في كتب الملل والنحل وغيرها.

٩٩
١٠٠